وسائط الاتصال بين القديم والجديد

ما الذي يميز الوسائط التي تنعت بـ «الجديدة» عما غدا يوصف بالوسائط التقليدية؟ نعلم أن الوسائط التقليدية «ذات الاتجاه الوحيد»، مثل المذياع والتلفاز والصحف، هي وسائط تحقق تواصلاً ممركزاً، يصدر عن منبع ويتوجه صوب جمهور، أما الوسائط «ذات الفعالية المتبادلة»، شأن الهاتف، الذي مكّن لأول مرة من «المواجهة عن بُعد»، أو الإنترنت التي توفر تواصلاً متبادلاً مباشراً، وتتيح للمؤسسات والأفراد أن يتفاعلوا فيما بينهم في الزمن الفعلي، فهي لا تحتاج إلى هذا التمركز، وهي لا تصدر من منبع بعينه، فتتوجه نحو متلقين مرصودين.
تتناسب الوسائط التقليدية مع مفاهيم الدعوات الإيديولوجية ونشر الأفكار. أما الجديدة، فبما أنها تقوم على مفهوم التبادل، فهي تتيح للأفراد، ليس تلَقِي الأفكار وتشرّب الآراء، وإنما «إبداعها»، أو على الأقل المساهمة في ذلك «الإبداع».
بعبارة أخرى، إن كانت الوسائط التقليدية تسهم في صناعة الرأي العام، فإن الوسائط الجديدة تعطي السبق للخاص على العام، للفرد على الجماعة، ولتداول الآراء بدل تلقيها. إنها تكون، مبدئياً، في خدمة خطاب العقل أكثر مما هي في خدمة خطاب الرأي. صحيح أنه ليس العقل النقدي، وهو أقرب إلى عقل قولبه الكمبيوتر، وحدد قدرته على الربط والتذكر وإعمال المخيلة، وصحيح أيضاً أن الأفراد ليسوا جميعهم مؤهلين للإسهام في عملية التبادل بشكل متكافئ، إلا أن لكل واحد منهم، إن لم يكن فرصة الابتكار، فعلى الأقل مجال الاستنكار والتحفّظ، أو خلق الحماس وتأجيج العواطف، والمساهمة في البث والذيوع والنشر.
تعمل تقنيات التواصل الجديدة على تكريس علاقة جديدة بين الفرد وبين نفسه، بينه وبين الزمن، بينه وبين اللغة، لكن أيضاً بينه وبين الآخرين.
هذا ما جعل البعض يمتنع عن وصف ما يتولد من علائق عبر المواقع التي يقال عنها إنها مواقع «اجتماعية»، بأنها بالفعل علائق اجتماعية، وبالأحرى أن تكون روابط وصداقات. فالفضاء الرقمي فضاء تواصل شبكي، وهو ككل الشبكات نسيج، إلا أنه نسيج مبعثر، أو على الأقل كثير الخيوط متشعّبُها. يعود هذا إلى طبيعته، وبالأخص لانفتاحه اللامتناهي.
لن نتمثل أهمية هذا الانفتاح اللامتناهي وتأثيره على التواصل والتلقي ما لم نستذكر العلاقة التي ترسخت لدينا مع الوسائط التي كنا نقتصر عليها حتى وقت قريب، والمنابر التي كنا إلى وقت قريب نتخذها حوامل لكتاباتنا.
فقبل أن يظهر النشر الإلكتروني، كانت لنا، لا أقول معايير ثابتة، وإنما أعراف متّبعة تسمح بالتّمييز بين ما يصلح للنّشر على صفحات المجلات، وما يصلح للجرائد.
وحتى إن كان النّشر في الجريدة، فهناك ما ينشر على الصفحة الأولى، وما يظهر على الأخيرة، بل هناك ما لا يمكن أن يظهر إلا في ملحق أسبوعي.
لكن الأهم من ذلك، أن حوامل الكتابة كانت دوماً ملونة مسيسة مؤدلجة. كانت تنقسم مثلنا أحزاباً وشيعاً. فيها اليميني وفيها اليساري، فيها التقليدي وفيها الحديث، فيها المتحجر وفيها الطلائعي... الخلاصة أنّ ما كنّا نكتبه كان يُحدِّد، ويَتحدد بـ أين نكتبه، وأنّ منبر الكتابة كان يحدّد قيمتها، بله شكلها وحتى مضمونها وانضواءها، بل إن دور النشر ذاتها كانت تتوزع وقتها جهات غير متكافئة.
لقد كان اسم دار النشر على الغلاف يكاد يدخل ضمن المحدّدات الفكرية للكتَاب ويعيّن توجّهه فيحدّد قرّاءه. لنتذكر ماذا كان يعني لنا الكتاب عندما نقرأ على غلافه نشر دار المعارف، أو دار الطليعة، أو المنشورات الجامعية الفرنسية، أو ف. ماسبيرو، أو المنشورات الاجتماعية.
حتى وقت قريب إذاً، كان منبر القراءة معروفاً محدداً يمكن الإحالة إليه وإلى مكان نشره وتاريخ ظهوره، مثلما كان اختيار منبر الكتابة جزءاً من انضواء الكاتب والناشر معاً، ولم تكن منابر القراءة قط عائمة في «اللامكان»، ولا منابر النّشر وحوامل الكتابة مسألة عَرَضية على الإطلاق، وإنما كانت تدخل في وسم الكتابة وتحديد شكلها، بل ربما حتى معانيها ووظائفها.
أما اليوم فإن «أرواح» الكتابة أصبحت تعرف «تناسخاً» لا ينقطع. وليس من قبيل الغرابة أن يتبين الكاتب أن مقاله الذي أرسله إلى موقع بعينه يتنقل من منبر إلى آخر، ويوجد جنباً إلى جنب بجوار مقالات وكُتّاب ما كان يخطر بباله أنه سيظهر إلى جنبهم. باستطاعة الكتابة اليوم ألا تكف عن التنقل و«التناسخ»، ليس فقط من هذا الجسد نحو ذاك، من الورقي نحو الإلكتروني، ومن الصحف السيارة نحو المصنّفات القارة، بل في مقدورها أن تقفز من اليمين إلى اليسار، هذا إن كان هناك معنى لهذه «الاتجاهات» داخل الشبكة التي يبدو أنه لا مكان لها، لا مكان يُقسَّم حسب وجهات متباينة.
الشبكة لا يمين لها ولا يسار، وهي لا تتوزع حسب اتجاهات جغرافية أو توجُّهات عقائدية،
ما دام في مقدورها أن «تصطاد» كل شيء، بحيث تُشكل خيوطُها الحامل النهائي لكل ما يُكتَب من غير أن يتلوّن بلون، ولا أن يتوجه نحو متلقّ مقصود.
هذه العلاقة الجديدة مع الحوامل توازيها علاقة جديدة بين المرسل والمتلقي، الكاتب والقارئ، بين المؤلف والناقد. وهذه إحدى المميزات الأساسية لهذه الكتابة، وهي أنها غالباً ما تدخل في مسلسل التعليق والتعليق المضاد، بمجرد أن «تلعقها» الشبكة.
هناك «سيولة نقدية» مخالفة لما كان معهوداً في الكتابة الورقية. ذلك أن هاته الأخيرة، نظراً لما تعرفه من بطء النشر والانتشار، تحتاج إلى كبير روية كي تُتلقى وتُهضم حتى يتم انتقادها. أما الكتابة الإلكترونية فهي تكاد تظهر مع حواشيها دفعة واحدة، بل غالباً ما يغدو حجم التعليقات والحواشي أضخم بكثير من النص ذاته. وهي تعليقات تتمتع بقدر كبير من «الحرية»، خصوصاً أنها معفاة من الرقابات المتنوعة التي يفترضها النشر الورقي عادة.
لعل ذلك هو ما يبرّر «غزارة» الإنتاج التي أخذنا نلحظها عند الكتّاب الذين ينشرون على الشبكة. فربما كانت سهولة التلقي وسرعة «الاستهلاك» والتعليق هي التي تجرّ الكاتب لأن يواصل حواره مع قرائه بمجرد أن يتلقى ردودهم. لنقل إن التفاعل بين الكاتب والناقد يغدو بفضل النشر الإلكتروني أكثر اتساعاً، وأكبر سرعة، وربما أشد إرغاماً. الخلاصة أن الكتابة عبر الوسائط الحديثة ترسخ علاقة مغايرة بالزمن: زمن الإرسال والكتابة، وزمن التلقي والقراءة، وزمن التفاعل مع النصوص ■