إبرة أغسطس

إبرة أغسطس

على‭ ‬غير‭ ‬عادتها،‭ ‬بدت‭ ‬لي‭ ‬مضطربة‭ ‬منزعجة‭ ‬وقلقة،‭ ‬ملامح‭ ‬وجهها‭ ‬نطقت‭ ‬بذلك‭ ‬قبل‭ ‬لسانها‭. ‬كانت‭ ‬تتمعّن‭ ‬بكل‭ ‬كلمة‭ ‬تنطلق‭ ‬من‭ ‬مذيع‭ ‬الأخبار،‭ ‬وما‭ ‬إن‭ ‬ينتهي‭ ‬الخبر‭ ‬الذي‭ ‬يشد‭ ‬انتباهها‭ ‬حتى‭ ‬تعيد‭ ‬تحليله‭ ‬وتفسيره‭ ‬مع‭ ‬من‭ ‬حولها‭. ‬كنت‭ ‬صغيرة‭ ‬لكني‭ ‬علمت‭ ‬بأن‭ ‬الحدث‭ ‬أمر‭ ‬جلل،‭ ‬وعطلتنا‭ ‬الصيفية‭ ‬ستطول‭ ‬خارج‭ ‬الوطن‭. ‬

أغسطس‭ ‬1990،‭ ‬الجميع‭ ‬يتتبّع‭ ‬الأخبار‭ ‬على‭ ‬الراديو‭ ‬والتلفاز‭ ‬ومن‭ ‬صفحات‭ ‬الجرائد‭ ‬العربية‭ ‬والعالمية،‭ ‬أما‭ ‬أمي،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬تقرأ‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬السطور‭ ‬وتسمع‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يُقَل،‭ ‬لقد‭ ‬كانت‭ ‬تتنبأ‭. ‬ورغم‭ ‬الفوضى‭ ‬والغموض‭ ‬الذي‭ ‬غلّف‭ ‬أيام‭ ‬أغسطس،‭ ‬والحيرة‭ ‬والتعجب‭ ‬التي‭ ‬ملأت‭ ‬نفوس‭ ‬الكبار،‭ ‬كانت‭ ‬أمي‭ ‬متفائلة‭ ‬أمامي،‭ ‬لا‭ ‬تنطق‭ ‬إلا‭ ‬بالخير‭ ‬ولا‭ ‬تحادثني‭ ‬إلا‭ ‬بالغد‭ ‬الجميل‭. ‬مارست‭ ‬دورها‭ ‬خلال‭ ‬7‭ ‬أشهر‭ ‬على‭ ‬أكمل‭ ‬وجه،‭ ‬تعتني‭ ‬بأسرتها‭ ‬وتطمئن‭ ‬صغارها‭ ‬وتقتصد‭ ‬بمصاريفها،‭ ‬والأهم‭ ‬كانت‭ ‬تبتسم‭. ‬

ولأن‭ ‬الأخبار‭ ‬السيئة‭ ‬تصل‭ ‬مهما‭ ‬تعثّر‭ ‬الواصل،‭ ‬كنت‭ ‬ألمح‭ ‬حزنها‭ ‬في‭ ‬تنهداتها،‭ ‬في‭ ‬سرحانها،‭ ‬وفي‭ ‬صلواتها‭ ‬التي‭ ‬تطول‭. ‬سعيت‭ ‬دومًا‭ ‬لأرى‭ ‬وجهها‭ ‬الحقيقي،‭ ‬اختلست‭ ‬لحظات‭ ‬خلوتها‭ ‬لعلي‭ ‬أستطيع‭ ‬تهدئتها‭ ‬وطمأنتها‭ ‬كما‭ ‬تفعل‭ ‬معنا،‭ ‬وكان‭ ‬لي‭ ‬ما‭ ‬تمنيت‭ ‬وهي‭ ‬تثبّت‭ ‬زرًا‭ ‬على‭ ‬قميص‭ ‬أخي،‭ ‬إنها‭ ‬تبكي،‭ ‬وتسمع‭ ‬وابلًا‭ ‬من‭ ‬الأخبار‭ ‬المفجعة‭: ‬افجّرت‭ ‬القوات‭... ‬دهم‭ ‬الجيش‭... ‬استشهد‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬المقاومةب‭. ‬لم‭ ‬أفلح‭ ‬بإسكاتها،‭ ‬فخطواتي‭ ‬القريبة‭ ‬منها‭ ‬لا‭ ‬ثقل‭ ‬لها‭ ‬ولا‭ ‬صوت‭ ‬وسط‭ ‬ضجيج‭ ‬ما‭ ‬بلغ‭ ‬مسامعها‭. ‬اقتربت‭ ‬منها‭ ‬وسألتها‭: ‬لماذا‭ ‬تبكين؟‭ ‬هل‭ ‬حدث‭ ‬أمر‭ ‬سيئ؟‭ ‬

الي‭ ‬مع‭ ‬الحجاج‭ ‬إبرةب،‭ ‬أجابتني‭ ‬ودموعها‭ ‬تنهمل‭ ‬دون‭ ‬توقف‭. ‬جوابها‭ ‬لي‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الموقف‭ ‬أشعرني‭ ‬بأهميتي،‭ ‬فلم‭ ‬أبحث‭ ‬عن‭ ‬مقصدها،‭ ‬مسحت‭ ‬دموعها،‭ ‬وطبعت‭ ‬قبلة‭ ‬على‭ ‬عينيها‭ ‬لتتوقف‭ ‬عن‭ ‬البكاء‭ ‬كما‭ ‬علمتني‭.‬‭ ‬تركت‭ ‬كلمة‭ ‬إبرة‭ ‬أثرها‭ ‬في‭ ‬نفسي‭ ‬وفسّرتها‭ ‬بشكة‭ ‬قاسية‭ ‬من‭ ‬الإبرة‭ ‬الحادة‭ ‬اختلقت‭ ‬أناملها‭ ‬فآلمتها‭ ‬ودفعتها‭ ‬للبكاء‭. ‬انقضت‭ ‬شهور‭ ‬عصيبة،‭ ‬وعدنا‭ ‬لوطننا،‭ ‬وعادت‭ ‬الجملة‭ ‬تبحث‭ ‬عن‭ ‬تفسير‭.‬‭ ‬قالت‭: ‬إننا‭ ‬مجتمع‭ ‬مترابط،‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬أسرتنا‭ ‬بأمان،‭ ‬فهناك‭ ‬من‭ ‬يفتقده،‭ ‬صديقة‭ ‬مخلصة‭ ‬أو‭ ‬جارة‭ ‬وفيّة،‭ ‬وهؤلاء‭ ‬كالإبرة‭ ‬حجمها‭ ‬صغير‭ ‬يكاد‭ ‬لا‭ ‬يرى‭ ‬وسط‭ ‬الحجيج،‭ ‬لكن‭ ‬غيابها‭ ‬عن‭ ‬أحبائها‭ ‬مؤلم‭ ‬كشكتها‭ ‬في‭ ‬الجلدب‭.‬

أغسطس‭ ‬2019،‭ ‬يتدفق‭ ‬وفود‭ ‬الرحمن‭ ‬من‭ ‬أقصى‭ ‬المعمورة‭ ‬إلى‭ ‬بيت‭ ‬الله‭ ‬الحرام،‭ ‬ولي‭ ‬معهم‭ ‬إبرة‭ ‬آمل‭ ‬أن‭ ‬تعود‭ ‬لي‭ ‬سالمة،‭ ‬حجّها‭ ‬مقبول‭ ‬وذنبها‭ ‬مغفور،‭ ‬كما‭ ‬سلّم‭ ‬الله‭ ‬لأمي‭ ‬إبرتها‭ ‬وجمعها‭ ‬بها‭ .