نشأة المسألة اليهودية

نشأة المسألة اليهودية

بدأ‭ ‬تعبير‭ ‬‮«‬المسألة‭ ‬اليهودية‮»‬‭ ‬يظهر‭ ‬في‭ ‬الأدبيات‭ ‬الأوربية‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر،‭ ‬وكان‭ ‬المقصود‭ ‬بها‭ ‬الأوضاع‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬المتردية‭ ‬لليهود‭ ‬في‭ ‬روسيا‭ ‬القيصرية،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬اليهود‭ ‬الروس‭ ‬يقطنون‭ ‬المناطق‭ ‬الجنوبية‭ ‬والغربية‭ ‬من‭ ‬روسيا،‭ ‬وكان‭ ‬عددهم‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬يبلغ‭ ‬حوالي‭ ‬4.5‭ ‬ملايين‭ ‬من‭ ‬أصل‭ ‬7.5‭ ‬ملايين‭ ‬يهودي‭ ‬منتشرين‭ ‬في‭ ‬شتى‭ ‬أنحاء‭ ‬العالم‭. ‬

ويعود‭ ‬السبب‭ ‬في‭ ‬ارتفاع‭ ‬نسبة‭ ‬عدد‭ ‬اليهود‭ ‬في‭ ‬روسيا‭ ‬إلى‭ ‬وصول‭ ‬أعداد‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬اليهود‭ ‬البولنديين‭ ‬إليها‭ ‬في‭ ‬أعقاب‭ ‬التقسيم‭ ‬الثالث‭ ‬لبولندا‭ ‬عام‭ ‬1795‭ ‬إبان‭ ‬حكم‭ ‬كاترين‭ ‬الثانية،‭ ‬الذي‭ ‬حصلت‭ ‬روسيا‭ ‬بموجبه‭ ‬على‭ ‬دوقية‭ ‬وارسو‭ ‬وما‭ ‬جاورها‭ ‬من‭ ‬مناطق‭ ‬في‭ ‬أوكرانيا‭ ‬وبيلورسيا‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تضم‭ ‬حوالي‭ ‬1‭.‬4‭ ‬مليون‭ ‬يهودي‭ ‬كان‭ ‬غالبيتهم‭ ‬يعملون‭ ‬في‭ ‬التجارة‭ ‬والوساطة‭.‬

وكان‭ ‬اليهود‭ ‬الروس‭ ‬يقيمون‭ ‬ضمن‭ ‬تجمعات‭ ‬خاصة‭ ‬بهم‭ ‬أشبه‭ ‬بالمستوطنات‭ ‬الحالية‭ ‬في‭ ‬فلسطين،‭ ‬وكانت‭ ‬تقام‭ ‬كل‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬التجمعات‭ ‬خارج‭ ‬حدود‭ ‬المدن‭ ‬والقرى‭ ‬الروسية،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬يتم‭ ‬اختيار‭ ‬موقع‭ ‬استراتيجي‭ ‬لها،‭ ‬يضمن‭ ‬لقاطنيها‭ ‬سهولة‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬أماكن‭ ‬عملهم‭ ‬في‭ ‬المناطق‭ ‬المأهولة‭ ‬بالسكان‭ ‬من‭ ‬ناحية،‭ ‬والعزلة‭ ‬وعدم‭ ‬الاختلاط‭ ‬بجيرانهم‭ ‬الروس‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى‭. ‬

وكان‭ ‬لكل‭ ‬تجمع‭ ‬مجلس‭ ‬إداري‭ ‬خاص‭ ‬يتولى‭ ‬تسيير‭ ‬الأمور‭ ‬الداخلية‭ ‬وتنظيم‭ ‬علاقاته‭ ‬مع‭ ‬التجمعات‭ ‬اليهودية‭ ‬الأخرى،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬تنظيم‭ ‬علاقاته‭ ‬مع‭ ‬بقية‭ ‬التجمعات‭ ‬اليهودية‭ ‬على‭ ‬جميع‭  ‬مستوياتهما‭. ‬وقد‭ ‬أطلق‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬النظام‭ ‬الإداري‭ ‬اسم‭ ‬كهال‭ (‬أو‭ ‬قهال‭) ‬Kahal،‭ ‬بينما‭ ‬عرفت‭ ‬التجمعات‭ ‬اليهودية‭ ‬في‭ ‬روسيا‭ ‬الغربية‭ ‬باسم‭ ‬‮«‬حظيرة‭ ‬التوطن‭ ‬اليهودية‮»‬‭ ‬Pale‭ ‬of‭ ‬Settlement،‭ ‬وهي‭ ‬تسمية‭ ‬بولندية‭ ‬الأصل‭. ‬كما‭ ‬صدر‭ ‬في‭ ‬أعقاب‭ ‬التقسيم‭ ‬الثالث‭ ‬لبولندا‭ ‬قانون‭ ‬روسي‭ ‬حدد‭ ‬إقامة‭ ‬اليهود‭ ‬في‭ ‬مناطق‭ ‬معينة‭ ‬من‭ ‬البلاد‭ ‬ومنعهم‭ ‬من‭ ‬مغادرتها‭ ‬والسكن‭ ‬خارجها‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬حالات‭ ‬استثنائية‭ ‬وبموجب‭ ‬إذن‭ ‬خاص‭ ‬من‭ ‬الجهات‭ ‬الرسمية‭. ‬

ويلاحظ‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬النموذج‭ ‬من‭ ‬التجمعات‭ ‬اليهودية‭ ‬في‭ ‬روسيا‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬معروفاً‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬النحو‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬الغربية،‭ ‬نظراً‭ ‬لأن‭ ‬المدن‭ ‬الغربية‭ ‬كانت‭ ‬مدناً‭ ‬كبيرة‭ ‬ومزدهرة‭ ‬وتمتلك‭ ‬إمكانات‭ ‬اقتصادية‭ ‬واسعة،‭ ‬وقد‭ ‬وجد‭ ‬اليهود‭ ‬أن‭ ‬بإمكانهم‭ ‬الاستقرار‭ ‬داخل‭ ‬حدود‭ ‬هذه‭ ‬المدن،‭ ‬ولكن‭ ‬ضمن‭ ‬أحياء‭ ‬خاصة‭ ‬بهم‭ ‬اصطلح‭ ‬على‭ ‬تسميتها‭ ‬بالجيتو‭ ‬Ghetto‭ ‬أو‭ ‬حارة‭ ‬اليهود‭ ‬Judengasse‭ ‬كما‭ ‬عرفت‭ ‬في‭ ‬الألمانية‭.‬

 

بروز‭ ‬الطبقة‭ ‬الوسطى

وقد‭ ‬تعرضت‭ ‬أوضاع‭ ‬اليهود‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬لهزات‭ ‬كبيرة‭ ‬في‭ ‬أعقاب‭ ‬التطورات‭ ‬التي‭ ‬شهدتها‭ ‬روسيا‭ ‬في‭ ‬النصف‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر،‭ ‬إذ‭ ‬أخذت‭ ‬الطبقة‭ ‬الوسطى‭ ‬تبرز‭ ‬تدريجياً‭ ‬إلى‭ ‬حيّز‭ ‬الوجود‭ ‬في‭ ‬أعقاب‭ ‬إلغاء‭ ‬القنانة‭ ‬الروسية‭ ‬عام‭ ‬1861‭. ‬وكانت‭ ‬هذه‭ ‬الطبقة‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬الغربية‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تولت‭ ‬قيادة‭ ‬ثوراتها‭ ‬الشعبية‭ ‬ضد‭ ‬الطبقات‭ ‬الأرستقراطية‭ ‬والإقطاعية‭ ‬واستطاعت‭ ‬أن‭ ‬تحقق‭ ‬الانتصار‭ ‬تلو‭ ‬الآخر،‭ ‬كما‭ ‬نجحت‭ ‬عام‭ ‬1848‭ ‬في‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬دفة‭ ‬الحكم‭ ‬في‭ ‬غالبية‭ ‬دول‭ ‬أوربا‭ ‬الغربية‭. ‬

وفي‭ ‬هذا‭ ‬الوقت‭ ‬بالذات‭ ‬كانت‭ ‬الطبقة‭ ‬الوسطى‭ ‬الروسية‭ ‬غائبة‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬كبير‭ ‬عن‭ ‬مسرح‭ ‬الأحداث،‭ ‬إذ‭ ‬كان‭ ‬النظام‭ ‬الإقطاعي‭ ‬لايزال‭ ‬سائداً‭ ‬في‭ ‬روسيا،‭ ‬وكانت‭ ‬غالبية‭ ‬فئات‭ ‬الشعب‭ ‬ترزح‭ ‬تحت‭ ‬قيود‭ ‬القنانة‭. ‬

وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬ظهور‭ ‬الفئات‭ ‬المستنيرة‭ (‬الانتلجنسيا‭) ‬Intelligentsia‭ ‬ومشاركتها‭ ‬في‭ ‬ثورة‭ ‬الديسمبريين‭ ‬التي‭ ‬قام‭ ‬بها‭ ‬عام‭ ‬1825‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬النبلاء‭ ‬المتأثرين‭ ‬بالأفكار‭ ‬الليبرالية‭ ‬الغربية،‭ ‬فإن‭ ‬دور‭ ‬هذه‭ ‬المجموعة‭ ‬ظل‭ ‬محدوداً،‭ ‬ولم‭ ‬تستطع‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬بديلاً‭ ‬للطبقة‭ ‬الوسطى‭ ‬وتقوم‭ ‬بتأدية‭ ‬دورها،‭ ‬ويمكن‭ ‬اعتبار‭ ‬عام‭ ‬1861‭ ‬حين‭ ‬صدر‭ ‬الإسكندر‭ ‬الثاني‭ ‬فرمان‭ ‬تحرير‭ ‬الأقنان‭ ‬مؤشر‭ ‬البداية‭ ‬لظهور‭ ‬الطبقة‭ ‬الوسطى‭ ‬الروسية‭.‬

لقد‭ ‬أدى‭ ‬الظهور‭ ‬التدريجي‭ ‬للطبقة‭ ‬الوسطى‭ ‬الروسية‭ ‬إلى‭ ‬قيام‭ ‬حركة‭ ‬تنافس‭ ‬شديدة‭ ‬بينها‭ ‬وبين‭ ‬التجار‭ ‬اليهود‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬تضييق‭ ‬سبل‭ ‬العيش‭ ‬أمام‭ ‬الحرفيين‭ ‬اليهود‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭. ‬ومما‭ ‬قوى‭ ‬شوكة‭ ‬هذه‭ ‬الطبقة‭ ‬الروسية‭ ‬تدفق‭ ‬رؤوس‭ ‬الأموال‭ ‬الأوربية‭ ‬الغربية‭ ‬على‭ ‬روسيا،‭ ‬حيث‭ ‬فتحت‭ ‬آفاق‭ ‬استثمار‭ ‬صناعي‭ ‬واسع‭ ‬أدى‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬إلى‭ ‬اندثار‭ ‬الحرف‭ ‬الصغيرة‭ ‬والتجارة‭ ‬المحدودة‭ ‬وعمليات‭ ‬الربا‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬غالبية‭ ‬يهود‭ ‬روسيا‭ ‬يعتمدون‭ ‬عليها‭ ‬في‭ ‬معيشتهم‭. ‬

وقد‭ ‬عبّر‭ ‬أحد‭ ‬كبار‭ ‬دارسي‭ ‬النظام‭ ‬الرأسمالي‭ ‬وهو‭ ‬فيرنر‭ ‬سومبارت‭ ‬F‭. ‬Sombart‭ ‬مشخصاً‭ ‬هذه‭ ‬الظاهرة‭ ‬بقوله‭: ‬‮«‬يعود‭ ‬بؤس‭ ‬اليهود‭ ‬في‭ ‬روسيا‭ ‬إلى‭ ‬فترة‭ ‬إلغاء‭ ‬القنانة‭ ‬والنظام‭ ‬الإقطاعي‭ ‬بمجمله‭. ‬لقد‭ ‬وجد‭ ‬اليهود‭ ‬فرصاً‭ ‬واسعة‭ ‬للاستثمار‭ ‬كتجار‭ ‬ووسطاء‭ ‬طوال‭ ‬فترة‭ ‬وجود‭ ‬الإقطاع‭ ‬والقنانة‮»‬‭.‬

وهكذا‭ ‬وجد‭ ‬غالبية‭ ‬اليهود‭ ‬الروس‭ ‬أنفسهم‭ ‬أمام‭ ‬تحدٍ‭ ‬اقتصادي‭ ‬كبير‭ ‬يقتلعهم‭ ‬من‭ ‬مواقعهم‭ ‬التجارية‭ ‬والحرفية‭ ‬التقليدية‭ ‬ويضطرهم‭ ‬إلى‭ ‬هجر‭ ‬مستوطناتهم‭ ‬والتدفق‭ ‬في‭ ‬هجرات‭ ‬واسعة‭ ‬صوب‭ ‬المدن‭ ‬الروسية‭ ‬التي‭ ‬أخذت‭ ‬تنمو‭ ‬بسرعة‭ ‬وتنتشر‭ ‬فيها‭ ‬الورش‭ ‬والصناعات‭ ‬الثقيلة‭. ‬

غير‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬بمقدور‭ ‬الحرفي‭ ‬اليهودي‭ ‬في‭ ‬المدينة‭ ‬الروسية‭ ‬النامية‭ ‬الصمود‭ ‬أمام‭ ‬هجرات‭ ‬الفلاحين‭ ‬الروس‭ ‬الوافدة‭ ‬من‭ ‬الريف‭ ‬في‭ ‬أعقاب‭ ‬تحررها‭ ‬من‭ ‬السلطة‭ ‬الإقطاعية‭. ‬وكان‭ ‬بوسع‭ ‬هؤلاء‭ ‬الفلاحين‭ ‬الذين‭ ‬اعتادوا‭ ‬منذ‭ ‬زمن‭ ‬بعيد‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬المعيشي‭ ‬المنخفض‭ ‬والعمل‭ ‬الجسدي‭ ‬الشاق‭ ‬أن‭ ‬يتحولوا‭ ‬إلى‭ ‬طبقة‭ ‬عاملة‭ ‬تتحمل‭ ‬صعوبة‭ ‬الحياة‭ ‬وشظفها‭. ‬

أما‭ ‬الحرفي‭ ‬اليهودي،‭ ‬ففي‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬بمقدوره‭ ‬منافسة‭ ‬المصانع‭ ‬الضخمة،‭ ‬نجده‭ ‬يواجه‭ ‬صعوبة‭ ‬كبيرة‭ ‬في‭ ‬التحول‭ ‬إلى‭ ‬صفوف‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة‭. ‬

ويلاحظ‭ ‬أنه‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬انخراط‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬يهود‭ ‬روسيا‭ ‬في‭ ‬سلك‭ ‬العمل‭ ‬بالمنشآت‭ ‬والمشاريع‭ ‬الصناعية،‭ ‬إلا‭ ‬أنهم‭ ‬تعرضوا‭ ‬لضغوط‭ ‬شديدة‭ ‬في‭ ‬شتى‭ ‬المجتمعات‭ ‬اليهودية‭ ‬في‭ ‬روسيا‭ ‬وخارجها‭ ‬لإبقائهم‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬التنظيمات‭ ‬العمالية‭ ‬الروسية،‭ ‬خوفاً‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تنتقل‭ ‬إليهم‭ ‬عدوى‭ ‬الأفكار‭ ‬الثورية،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬انخراطهم‭ ‬في‭ ‬تنظيمات‭ ‬عمالية‭ ‬فلتكن‭ ‬تنظيمات‭ ‬عمالية‭ ‬يهودية‭ ‬صرفة‭ ‬كحركة‭ ‬البوند‭ ‬أو‭ ‬المنظمة‭ ‬الصهيونية‭ ‬العالمية‭. ‬

 

هجرة‭ ‬ثانية

وقد‭ ‬اضطرت‭ ‬هذه‭ ‬الظروف‭ ‬الصعبة‭ ‬الحرفي‭ ‬اليهودي‭ ‬إلى‭ ‬التفكير‭ ‬ثانية‭ ‬في‭ ‬الهجرة،‭ ‬ولكنه‭ ‬بدل‭ ‬أن‭ ‬يلجأ‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬إلى‭ ‬مناطق‭ ‬أخرى‭ ‬داخل‭ ‬روسيا،‭ ‬أخذ‭ ‬يتجه‭ ‬نحو‭ ‬الهجرة‭ ‬إلى‭ ‬الخارج‭. ‬ولعل‭ ‬ما‭ ‬أجبره‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬هو‭ ‬موقف‭ ‬الطبقة‭ ‬الوسطى‭ ‬الآخذة‭ ‬آنذاك‭ ‬في‭ ‬الصعود‭ ‬المتزايد،‭ ‬والتي‭ ‬دفعتها‭ ‬تطلعاتها‭ ‬المادية‭ ‬صوب‭ ‬مزيد‭ ‬من‭ ‬توسيع‭ ‬أعمالها‭ ‬ونشاطاتها‭ ‬لتستحوذ‭ ‬على‭ ‬السوق‭ ‬المحلية‭ ‬وتتخلص‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬منافسة‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬القوى‭ ‬الاقتصادية‭ ‬التقليدية‭. ‬

وكانت‭ ‬هذه‭ ‬القوى‭ ‬تتضمن‭ ‬أعداداً‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬اليهود‭ ‬ممن‭ ‬كانوا‭ ‬يسيطرون‭ ‬على‭ ‬الحرف‭ ‬الصغيرة‭ ‬والمواد‭ ‬الاستهلاكية‭. ‬ويلاحظ‭ ‬أن‭ ‬الفئات‭ ‬الحرفية‭ ‬اليهودية‭ ‬كانت‭ ‬تلجأ‭ ‬باستمرار‭ ‬في‭ ‬المراحل‭ ‬الأولى‭ ‬لنمو‭ ‬الرأسمالية‭ ‬وصعودها‭ ‬في‭ ‬بلد‭ ‬معين،‭ ‬إلى‭ ‬الهجرة‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬البلد،‭ ‬والبحث‭ ‬عن‭ ‬تجمعات‭ ‬إقطاعية‭ ‬أخرى‭ ‬كي‭ ‬تعيش‭ ‬متطفلة‭ ‬عليها،‭ ‬كما‭ ‬كانت‭ ‬عليه‭ ‬الحال‭ ‬حينما‭ ‬كانت‭ ‬تعيش‭ ‬في‭ ‬كنف‭ ‬الأنظمة‭ ‬الإقطاعية‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يطلق‭ ‬عليها‭ ‬البويارز‭ ‬Boyars،‭ ‬والتي‭ ‬كانت‭ ‬تعتبر‭ ‬القوة‭ ‬المتنفذة‭ ‬في‭ ‬روسيا‭ ‬في‭ ‬القرنين‭ ‬السادس‭ ‬عشر‭ ‬والسابع‭ ‬عشر،‭ ‬حيث‭ ‬كانت‭ ‬تتجه‭ ‬إليها‭ ‬الهجرات‭ ‬اليهودية‭ ‬من‭ ‬أوربا‭ ‬الغربية‭ ‬بشكل‭ ‬متواصل‭.‬

ولعل‭ ‬من‭ ‬المناسب‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭ ‬التوقف‭ ‬قليلاً‭ ‬لتفسير‭ ‬الظاهرة‭ ‬التي‭ ‬يتناولها‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬الباحثين‭ ‬الغربيين‭ ‬حول‭ ‬المعاناة‭ ‬والاضطهاد،‭ ‬التي‭ ‬قيل‭ ‬إن‭ ‬اليهود‭ ‬كانوا‭ ‬يتعرضون‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬روسيا‭ ‬خلال‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭. ‬فالسلوك‭ ‬الاقتصادي‭ ‬اليهودي‭ ‬وارتباطه‭ ‬بخدمة‭ ‬الإقطاعي‭ ‬الروسي‭ ‬في‭ ‬استغلاله‭ ‬للفلاحين‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬شعبه‭ ‬لم‭ ‬يؤديا‭ ‬إلى‭ ‬كراهية‭ ‬هؤلاء‭ ‬الفلاحين‭ ‬للإقطاعيين‭ ‬الروس‭ ‬وحدهم،‭ ‬وإنما‭ ‬تجاوز‭ ‬ذلك‭ ‬ليشمل‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬أشد‭ ‬اليهود‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬يقومون‭ ‬بدور‭ ‬الوسيط‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬استغلال‭ ‬الفلاح‭ ‬الروسي‭ ‬لمصلحة‭ ‬الاقطاعيين‭ ‬والمتنفذين‭. ‬

ومما‭ ‬زاد‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الكراهية،‭ ‬العزلة‭ ‬التي‭ ‬التزمها‭ ‬اليهود‭ ‬بعدم‭ ‬اختلاطهم‭ ‬بغيرهم‭ ‬من‭ ‬سكان‭ ‬البلاد،‭ ‬ما‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬بقائهم‭ ‬في‭ ‬نظر‭ ‬هؤلاء‭ ‬عنصراً‭ ‬غريباً‭ ‬لا‭ ‬يهمه‭ ‬سوى‭ ‬الانتفاع‭ ‬بخيراتهم‭ ‬ومزاحمتهم‭ ‬في‭ ‬أرزاقهم‭.‬

‭ ‬وقد‭ ‬انتهزت‭ ‬الطبقة‭ ‬الوسطى‭ ‬الروسية‭ ‬الفرصة،‭ ‬وأخذت‭ ‬تنظم‭ ‬حركة‭ ‬مناهضة‭ ‬لليهود‭ ‬كي‭ ‬تستفيد‭ ‬منها‭ ‬في‭ ‬تحويل‭ ‬الأنظار‭ ‬عن‭ ‬المشكلات‭ ‬والتناقضات‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تعاني‭ ‬منها‭. ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬تعرض‭ ‬بعض‭ ‬الفئات‭ ‬اليهودية‭ ‬من‭ ‬جراء‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬اضطهادات‭ ‬متلاحقة‭ ‬عرفت‭ ‬باسمها‭ ‬الروسي‭ ‬بوجروم‭ ‬Pogrom،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الاضطهادات‭ ‬لم‭ ‬تبلغ‭ ‬من‭ ‬القسوة‭ ‬حداً‭ ‬لم‭ ‬تتعرض‭ ‬له‭ ‬فئات‭ ‬أو‭ ‬أقليات‭ ‬روسية‭ ‬أخرى‭.‬

غير‭ ‬أن‭ ‬المعاناة‭ ‬اليهودية‭ ‬على‭ ‬مر‭ ‬العصور‭ ‬وجدت‭ ‬من‭ ‬يصورها‭ ‬بحجم‭ ‬مبالغ‭ ‬فيه،‭ ‬وبطريقة‭ ‬يسهل‭ ‬استغلالها‭ ‬لتعميق‭ ‬عقدة‭ ‬الاضطهاد‭ ‬والمعاناة‭ ‬لدى‭ ‬الأفراد‭ ‬اليهود،‭ ‬مما‭ ‬جعلهم‭ ‬يلجأون‭ ‬إلى‭ ‬مزيد‭ ‬من‭ ‬العزلة‭ ‬والتكاتف‭ ‬والتآلف‭ ‬فيما‭ ‬بينهم‭ ‬ليتسنى‭ ‬لهم‭ ‬تأمين‭ ‬مصالحهم‭ ‬وتطلعاتهم‭ ‬الذاتية‭ ‬بشكل‭ ‬أحسن‭ ‬وأفضل،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬سعيهم‭ ‬الدائم‭ ‬إلى‭ ‬استدرار‭ ‬عطف‭ ‬وشفقة‭ ‬شعوب‭ ‬العالم‭ ‬لمؤازرتهم‭ ‬والوقوف‭ ‬إلى‭ ‬جانبهم‭ ‬ورفع‭ ‬أي‭ ‬ضيم‭ ‬يلحق‭ ‬بهم‭. ‬وقد‭ ‬أدى‭ ‬تردي‭ ‬أحوالهم‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬إلى‭ ‬البدء‭ ‬بالهجرة‭ ‬صوب‭ ‬الدول‭ ‬الغربية،‭ ‬بيد‭ ‬أن‭ ‬هجرات‭ ‬اليهود‭ ‬الروس‭ ‬شكلت‭ ‬عبئاً‭ ‬ثقيلاً‭ ‬على‭ ‬البرجوازية‭ ‬اليهودية‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬الغربية،‭ ‬حيث‭ ‬أدركت‭ ‬هذه‭ ‬الفئة‭ ‬من‭ ‬اليهود‭ ‬الأثرياء‭ ‬أنه‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬السهل‭ ‬على‭ ‬هؤلاء‭ ‬الوافدين‭ ‬الجدد‭ ‬الاندماج‭ ‬السريع‭ ‬في‭ ‬مجتمعات‭ ‬أوربا‭ ‬الغربية‭ ‬وتخطي‭ ‬الحواجز‭ ‬اللغوية‭ ‬والثقافية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تفصلهم‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬الشعوب‭. ‬وخشيت‭ ‬أن‭ ‬يؤدي‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬نمو‭ ‬حركات‭ ‬معادية‭ ‬لليهود‭ ‬تنعكس‭ ‬آثارها‭ ‬السلبية‭ ‬لتشملهم‭ ‬وتشمل‭ ‬جميع‭ ‬الفئات‭ ‬اليهودية‭ ‬الأخرى‭ ‬على‭ ‬شتى‭ ‬مستوياتها‭.‬

ومما‭ ‬زاد‭ ‬من‭ ‬تخوف‭ ‬البرجوازية‭ ‬اليهودية‭ ‬إمكان‭ ‬انضمام‭ ‬الشرائح‭ ‬الفقيرة‭ ‬من‭ ‬اليهود‭ ‬الروس‭ ‬–‭ ‬كما‭ ‬ذكرنا‭ - ‬إلى‭ ‬الحركات‭ ‬الثورية‭ ‬والأحزاب‭ ‬اليسارية‭ ‬المناهضة‭ ‬للأنظمة‭ ‬الرأسمالية،‭ ‬ومن‭ ‬ضمنها‭ ‬النظام‭ ‬الروسي‭ ‬الذي‭ ‬أخذ‭ ‬يتبنى‭ ‬هذا‭ ‬النهج‭ ‬منذ‭ ‬أواخر‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭. ‬وبدت‭ ‬هذه‭ ‬الظاهرة‭ ‬تلقي‭ ‬ظلالاً‭ ‬من‭ ‬الشك‭ ‬والريبة‭ ‬على‭ ‬انتماء‭ ‬وإخلاص‭ ‬اليهود‭ ‬للبلاد‭ ‬التي‭ ‬كانوا‭ ‬يعيشون‭ ‬فيها‭. ‬وبالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬فإنه‭ ‬نظراً‭ ‬للاستثمارات‭ ‬الواسعة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يحتكرها‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬البرجوازيين‭ ‬اليهود‭ ‬الغربيين‭ ‬في‭ ‬روسيا،‭ ‬فقد‭ ‬أدرك‭ ‬هؤلاء‭ ‬أن‭ ‬الخسارة‭ ‬ستحيق‭ ‬بهم‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬حدثت‭ ‬اضطرابات‭ ‬أو‭ ‬ثورات‭ ‬فيها‭. ‬وأدى‭ ‬هذا‭ ‬إلى‭ ‬دفع‭ ‬البرجوازية‭ ‬اليهودية‭ ‬للبحث‭ ‬عن‭ ‬مكان‭ ‬خارج‭ ‬القارة‭ ‬الأوربية‭ ‬يوجهون‭ ‬إليه‭ ‬هجرات‭ ‬هذا‭ ‬الفائض‭ ‬البشري‭ ‬من‭ ‬عامة‭ ‬اليهود‭.‬

 

الصهاينة‭ ‬الأغيار

وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬اهتمام‭ ‬البرجوازية‭ ‬اليهودية‭ ‬الغربية‭ ‬بإيجاد‭ ‬حل‭ ‬لمشكلة‭ ‬المهاجرين‭ ‬اليهود‭ ‬الروس،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬أولئك‭ ‬الذين‭ ‬اهتدوا‭ ‬لـ‭ ‬‮«‬الحل‭ ‬الصهيوني‮»‬‭ ‬لم‭ ‬يكونوا‭ ‬من‭ ‬البرجوازيين‭ ‬اليهود‭ ‬وحدهم،‭ ‬وإنما‭ ‬كانوا‭ ‬أيضاً‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬من‭ ‬أطلق‭ ‬عليهم‭ ‬لقب‭ ‬‮«‬الصهاينة‭ ‬الأغيار‮»‬،‭ ‬ومعظمهم‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الطبقات‭ ‬البرجوازية‭ ‬المسيحية‭ ‬الحاكمة‭ ‬في‭ ‬الدول‭ ‬الأوربية،‭ ‬إذ‭ ‬أخذ‭ ‬هؤلاء‭ ‬يجرون‭ ‬دولهم‭ ‬منذ‭ ‬مطلع‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬إلى‭ ‬التنافس‭ ‬في‭ ‬طرح‭ ‬المشاريع‭ ‬الخاصة‭ ‬بتوطين‭ ‬اليهود‭ ‬في‭ ‬فلسطين‭ ‬أو‭ ‬عند‭ ‬الضرورة‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬منطقة‭ ‬أخرى‭ ‬ضمن‭ ‬المناطق‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تسعى‭ ‬هذه‭ ‬الدول‭ ‬إلى‭ ‬مد‭ ‬سيطرتها‭ ‬ونفوذها‭ ‬عليها‭. ‬

ولم‭ ‬يكن‭ ‬الهدف‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬ذلك‭ ‬التخلص‭ ‬من‭ ‬عبء‭ ‬هذه‭ ‬الهجرات‭ ‬اليهودية‭ ‬الوافدة‭ ‬إلى‭ ‬دولهم‭ ‬فقط،‭ ‬وإنما‭ ‬أيضاً‭ ‬لما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يقدمه‭ ‬هؤلاء‭ ‬المهاجرون‭ ‬اليهود‭ ‬في‭ ‬المناطق‭ ‬التي‭ ‬كانوا‭ ‬سيستقرون‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬خدمات‭ ‬جمّة‭ ‬للمصالح‭ ‬الاستعمارية‭ ‬لهذه‭ ‬الدول‭ ‬الغربية‭. ‬

 

أرض‭ ‬الميعاد

ومن‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى،‭ ‬أخذت‭ ‬البرجوازية‭ ‬اليهودية‭ ‬من‭ ‬جانبها‭ ‬تسعى‭ ‬في‭ ‬أعقاب‭ ‬تبنيها‭ ‬الحل‭ ‬الصهيوني‭ ‬إلى‭ ‬تنظيم‭ ‬مشاريع‭ ‬لتهجير‭ ‬اليهود‭ ‬الروس‭ ‬وتوطينهم‭ ‬في‭ ‬مستعمرات‭ ‬زراعية‭ ‬في‭ ‬مناطق‭ ‬مختلفة‭ ‬من‭ ‬العالم‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬فلسطين،‭ ‬وذلك‭ ‬لإبعادهم‭ ‬قدر‭ ‬الإمكان‭ ‬عن‭ ‬أوربا‭ ‬الغربية،‭ ‬وإيجاد‭ ‬حل‭ ‬لما‭ ‬كان‭ ‬يسمى‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬المسألة‭ ‬اليهودية‮»‬،‭ ‬مستغلين‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الذرائع‭ ‬الغيبية‭ ‬المتداولة‭ ‬حول‭ ‬موضوع‭ ‬الصلة‭ ‬التاريخية‭ ‬بين‭ ‬يهود‭ ‬العالم‭ ‬و«أرض‭ ‬الميعاد‮»‬‭ ‬في‭ ‬فلسطين‭. ‬

وقام‭ ‬البرجوازيون‭ ‬اليهود‭ ‬باستخدام‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬المفكرين‭ ‬ورجال‭ ‬الدين‭ ‬الـــــيهود‭ ‬للترويج‭ ‬لهذه‭ ‬الذرائع‭ ‬الغيبية‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬كسب‭ ‬أكبر‭ ‬قطاع‭ ‬ممكن‭ ‬من‭ ‬عامة‭ ‬اليهــــــود‭ ‬لدعم‭ ‬الأهداف‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬هؤلاء‭ ‬البرجوازيــون‭ ‬يسعون‭ ‬إلى‭ ‬تحقيقها‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬تبنيهم‭ ‬للحل‭ ‬الصهيوني‭.‬

وقد‭ ‬تمكن‭ ‬هؤلاء‭ ‬المفكرون‭ ‬من‭ ‬توفير‭ ‬‮«‬إطار‭ ‬أيديولوجي‮»‬‭ ‬ينطوي‭ ‬على‭ ‬مفاهيم‭ ‬وأساطير‭ ‬دينية‭ ‬مستمدة‭ ‬من‭ ‬التراث‭ ‬اليهودي‭ ‬تحفزهم‭ ‬لقبول‭ ‬مبدأ‭ ‬الهجرة‭ ‬ومغادرة‭ ‬مواطنهم‭ ‬الأصلية‭ ‬والانتقال‭ ‬إلى‭ ‬فلسطين،‭ ‬بهدف‭ ‬إجلاء‭ ‬سكانها‭ ‬العرب‭ ‬والاستيلاء‭ ‬على‭ ‬أراضيهم‭ ‬وحرمانهم‭ ‬من‭ ‬حقهم‭ ‬في‭ ‬وطنهم‭ ‬معتمدين‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬أساطير‭ ‬دينية‭ ‬مستمدة‭ ‬من‭ ‬التراث‭ ‬اليهودي‭ ‬كأسطورة‭ ‬‮«‬أرض‭ ‬الميعاد‮»‬‭ ‬التي‭ ‬لعبت‭ ‬دور‭ ‬الجاذب‭ ‬الأكبر‭ ‬لليهود‭ ‬إلى‭ ‬فلسطين‭.‬

وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬سبق،‭ ‬فإن‭ ‬فلسطين‭ ‬لم‭ ‬تشهد‭ ‬طوال‭ ‬قرون‭ ‬طويلة‭ ‬هجرات‭ ‬يهودية‭ ‬واسعة،‭ ‬واقتصر‭ ‬الأمر‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬الواقعة‭ ‬في‭ ‬أواسط‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬على‭ ‬مجيء‭ ‬جماعات‭ ‬صغيرة‭ ‬من‭ ‬المتدينين‭ ‬اليهود‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬يستقرون‭ ‬في‭ ‬الأرض‭ ‬المقدسة‭ ‬ويكرسون‭ ‬حياتهم‭ ‬للصلاة‭ ‬والدراسات،‭ ‬معتمدين‭ ‬في‭ ‬معاشهم‭ ‬على‭ ‬الصدقات‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تصلهم‭ ‬من‭ ‬يهود‭ ‬الشتات‭. ‬وقد‭ ‬بلغ‭ ‬عدد‭ ‬اليهود‭ ‬في‭ ‬فلسطين‭ ‬في‭ ‬مطلع‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬حوالي‭ ‬6‭ ‬آلاف‭ ‬شخص،‭ ‬معظمهم‭ ‬من‭ ‬اليهود‭ ‬الشرقيين‭ (‬السفارديم‭)‬،‭ ‬وكان‭ ‬يعيش‭ ‬ثلثهم‭ ‬في‭ ‬القدس‭ ‬والثلث‭ ‬الثاني‭ ‬في‭ ‬صفد،‭ ‬أما‭ ‬الثلث‭ ‬الأخير‭ ‬فكان‭ ‬يعيش‭ ‬في‭ ‬طبريا‭ ‬والخليل‭. ‬

وقد‭ ‬ارتفع‭ ‬هذا‭ ‬العدد‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬القرن‭ ‬ليصل‭ ‬إلى‭ ‬حوالي‭ ‬7800‭ ‬شخص‭. ‬ولم‭ ‬تشهد‭ ‬فلسطين‭ ‬هجرات‭ ‬يهودية‭ ‬منظمة‭ ‬بشكل‭ ‬متصاعد‭ ‬ومتزايد‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬ومطلع‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬حيث‭ ‬بدأت‭ ‬مرحلة‭ ‬جديدة‭ ‬من‭ ‬مراحل‭ ‬المسألة‭ ‬اليهودية ‭  ■