نشأة المسألة اليهودية

بدأ تعبير «المسألة اليهودية» يظهر في الأدبيات الأوربية في منتصف القرن التاسع عشر، وكان المقصود بها الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردية لليهود في روسيا القيصرية، فقد كان اليهود الروس يقطنون المناطق الجنوبية والغربية من روسيا، وكان عددهم في تلك الفترة يبلغ حوالي 4.5 ملايين من أصل 7.5 ملايين يهودي منتشرين في شتى أنحاء العالم.
ويعود السبب في ارتفاع نسبة عدد اليهود في روسيا إلى وصول أعداد كبيرة من اليهود البولنديين إليها في أعقاب التقسيم الثالث لبولندا عام 1795 إبان حكم كاترين الثانية، الذي حصلت روسيا بموجبه على دوقية وارسو وما جاورها من مناطق في أوكرانيا وبيلورسيا التي كانت تضم حوالي 1.4 مليون يهودي كان غالبيتهم يعملون في التجارة والوساطة.
وكان اليهود الروس يقيمون ضمن تجمعات خاصة بهم أشبه بالمستوطنات الحالية في فلسطين، وكانت تقام كل واحدة من هذه التجمعات خارج حدود المدن والقرى الروسية، حيث كان يتم اختيار موقع استراتيجي لها، يضمن لقاطنيها سهولة الوصول إلى أماكن عملهم في المناطق المأهولة بالسكان من ناحية، والعزلة وعدم الاختلاط بجيرانهم الروس من ناحية أخرى.
وكان لكل تجمع مجلس إداري خاص يتولى تسيير الأمور الداخلية وتنظيم علاقاته مع التجمعات اليهودية الأخرى، إضافة إلى تنظيم علاقاته مع بقية التجمعات اليهودية على جميع مستوياتهما. وقد أطلق على هذا النظام الإداري اسم كهال (أو قهال) Kahal، بينما عرفت التجمعات اليهودية في روسيا الغربية باسم «حظيرة التوطن اليهودية» Pale of Settlement، وهي تسمية بولندية الأصل. كما صدر في أعقاب التقسيم الثالث لبولندا قانون روسي حدد إقامة اليهود في مناطق معينة من البلاد ومنعهم من مغادرتها والسكن خارجها إلا في حالات استثنائية وبموجب إذن خاص من الجهات الرسمية.
ويلاحظ أن هذا النموذج من التجمعات اليهودية في روسيا لم يكن معروفاً على هذا النحو في أوربا الغربية، نظراً لأن المدن الغربية كانت مدناً كبيرة ومزدهرة وتمتلك إمكانات اقتصادية واسعة، وقد وجد اليهود أن بإمكانهم الاستقرار داخل حدود هذه المدن، ولكن ضمن أحياء خاصة بهم اصطلح على تسميتها بالجيتو Ghetto أو حارة اليهود Judengasse كما عرفت في الألمانية.
بروز الطبقة الوسطى
وقد تعرضت أوضاع اليهود الاقتصادية والاجتماعية لهزات كبيرة في أعقاب التطورات التي شهدتها روسيا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، إذ أخذت الطبقة الوسطى تبرز تدريجياً إلى حيّز الوجود في أعقاب إلغاء القنانة الروسية عام 1861. وكانت هذه الطبقة في أوربا الغربية هي التي تولت قيادة ثوراتها الشعبية ضد الطبقات الأرستقراطية والإقطاعية واستطاعت أن تحقق الانتصار تلو الآخر، كما نجحت عام 1848 في الوصول إلى دفة الحكم في غالبية دول أوربا الغربية.
وفي هذا الوقت بالذات كانت الطبقة الوسطى الروسية غائبة إلى حد كبير عن مسرح الأحداث، إذ كان النظام الإقطاعي لايزال سائداً في روسيا، وكانت غالبية فئات الشعب ترزح تحت قيود القنانة.
وعلى الرغم من ظهور الفئات المستنيرة (الانتلجنسيا) Intelligentsia ومشاركتها في ثورة الديسمبريين التي قام بها عام 1825 مجموعة من النبلاء المتأثرين بالأفكار الليبرالية الغربية، فإن دور هذه المجموعة ظل محدوداً، ولم تستطع أن تكون بديلاً للطبقة الوسطى وتقوم بتأدية دورها، ويمكن اعتبار عام 1861 حين صدر الإسكندر الثاني فرمان تحرير الأقنان مؤشر البداية لظهور الطبقة الوسطى الروسية.
لقد أدى الظهور التدريجي للطبقة الوسطى الروسية إلى قيام حركة تنافس شديدة بينها وبين التجار اليهود من جهة، إضافة إلى تضييق سبل العيش أمام الحرفيين اليهود من جهة أخرى. ومما قوى شوكة هذه الطبقة الروسية تدفق رؤوس الأموال الأوربية الغربية على روسيا، حيث فتحت آفاق استثمار صناعي واسع أدى في النهاية إلى اندثار الحرف الصغيرة والتجارة المحدودة وعمليات الربا التي كان غالبية يهود روسيا يعتمدون عليها في معيشتهم.
وقد عبّر أحد كبار دارسي النظام الرأسمالي وهو فيرنر سومبارت F. Sombart مشخصاً هذه الظاهرة بقوله: «يعود بؤس اليهود في روسيا إلى فترة إلغاء القنانة والنظام الإقطاعي بمجمله. لقد وجد اليهود فرصاً واسعة للاستثمار كتجار ووسطاء طوال فترة وجود الإقطاع والقنانة».
وهكذا وجد غالبية اليهود الروس أنفسهم أمام تحدٍ اقتصادي كبير يقتلعهم من مواقعهم التجارية والحرفية التقليدية ويضطرهم إلى هجر مستوطناتهم والتدفق في هجرات واسعة صوب المدن الروسية التي أخذت تنمو بسرعة وتنتشر فيها الورش والصناعات الثقيلة.
غير أنه لم يكن بمقدور الحرفي اليهودي في المدينة الروسية النامية الصمود أمام هجرات الفلاحين الروس الوافدة من الريف في أعقاب تحررها من السلطة الإقطاعية. وكان بوسع هؤلاء الفلاحين الذين اعتادوا منذ زمن بعيد على المستوى المعيشي المنخفض والعمل الجسدي الشاق أن يتحولوا إلى طبقة عاملة تتحمل صعوبة الحياة وشظفها.
أما الحرفي اليهودي، ففي الوقت الذي لم يكن بمقدوره منافسة المصانع الضخمة، نجده يواجه صعوبة كبيرة في التحول إلى صفوف الطبقة العاملة.
ويلاحظ أنه بالرغم من انخراط عدد من يهود روسيا في سلك العمل بالمنشآت والمشاريع الصناعية، إلا أنهم تعرضوا لضغوط شديدة في شتى المجتمعات اليهودية في روسيا وخارجها لإبقائهم بعيداً عن التنظيمات العمالية الروسية، خوفاً من أن تنتقل إليهم عدوى الأفكار الثورية، وإن كان لابد من انخراطهم في تنظيمات عمالية فلتكن تنظيمات عمالية يهودية صرفة كحركة البوند أو المنظمة الصهيونية العالمية.
هجرة ثانية
وقد اضطرت هذه الظروف الصعبة الحرفي اليهودي إلى التفكير ثانية في الهجرة، ولكنه بدل أن يلجأ هذه المرة إلى مناطق أخرى داخل روسيا، أخذ يتجه نحو الهجرة إلى الخارج. ولعل ما أجبره على ذلك هو موقف الطبقة الوسطى الآخذة آنذاك في الصعود المتزايد، والتي دفعتها تطلعاتها المادية صوب مزيد من توسيع أعمالها ونشاطاتها لتستحوذ على السوق المحلية وتتخلص من أي منافسة من جانب القوى الاقتصادية التقليدية.
وكانت هذه القوى تتضمن أعداداً كبيرة من اليهود ممن كانوا يسيطرون على الحرف الصغيرة والمواد الاستهلاكية. ويلاحظ أن الفئات الحرفية اليهودية كانت تلجأ باستمرار في المراحل الأولى لنمو الرأسمالية وصعودها في بلد معين، إلى الهجرة من ذلك البلد، والبحث عن تجمعات إقطاعية أخرى كي تعيش متطفلة عليها، كما كانت عليه الحال حينما كانت تعيش في كنف الأنظمة الإقطاعية التي كان يطلق عليها البويارز Boyars، والتي كانت تعتبر القوة المتنفذة في روسيا في القرنين السادس عشر والسابع عشر، حيث كانت تتجه إليها الهجرات اليهودية من أوربا الغربية بشكل متواصل.
ولعل من المناسب في هذا المجال التوقف قليلاً لتفسير الظاهرة التي يتناولها عديد من الباحثين الغربيين حول المعاناة والاضطهاد، التي قيل إن اليهود كانوا يتعرضون لها في روسيا خلال القرن التاسع عشر. فالسلوك الاقتصادي اليهودي وارتباطه بخدمة الإقطاعي الروسي في استغلاله للفلاحين من أبناء شعبه لم يؤديا إلى كراهية هؤلاء الفلاحين للإقطاعيين الروس وحدهم، وإنما تجاوز ذلك ليشمل على نحو أشد اليهود الذين كانوا يقومون بدور الوسيط في عملية استغلال الفلاح الروسي لمصلحة الاقطاعيين والمتنفذين.
ومما زاد من هذه الكراهية، العزلة التي التزمها اليهود بعدم اختلاطهم بغيرهم من سكان البلاد، ما أدى إلى بقائهم في نظر هؤلاء عنصراً غريباً لا يهمه سوى الانتفاع بخيراتهم ومزاحمتهم في أرزاقهم.
وقد انتهزت الطبقة الوسطى الروسية الفرصة، وأخذت تنظم حركة مناهضة لليهود كي تستفيد منها في تحويل الأنظار عن المشكلات والتناقضات التي كانت تعاني منها. وعلى الرغم من تعرض بعض الفئات اليهودية من جراء ذلك إلى اضطهادات متلاحقة عرفت باسمها الروسي بوجروم Pogrom، إلا أن هذه الاضطهادات لم تبلغ من القسوة حداً لم تتعرض له فئات أو أقليات روسية أخرى.
غير أن المعاناة اليهودية على مر العصور وجدت من يصورها بحجم مبالغ فيه، وبطريقة يسهل استغلالها لتعميق عقدة الاضطهاد والمعاناة لدى الأفراد اليهود، مما جعلهم يلجأون إلى مزيد من العزلة والتكاتف والتآلف فيما بينهم ليتسنى لهم تأمين مصالحهم وتطلعاتهم الذاتية بشكل أحسن وأفضل، بالإضافة إلى سعيهم الدائم إلى استدرار عطف وشفقة شعوب العالم لمؤازرتهم والوقوف إلى جانبهم ورفع أي ضيم يلحق بهم. وقد أدى تردي أحوالهم الاقتصادية والاجتماعية إلى البدء بالهجرة صوب الدول الغربية، بيد أن هجرات اليهود الروس شكلت عبئاً ثقيلاً على البرجوازية اليهودية في أوربا الغربية، حيث أدركت هذه الفئة من اليهود الأثرياء أنه ليس من السهل على هؤلاء الوافدين الجدد الاندماج السريع في مجتمعات أوربا الغربية وتخطي الحواجز اللغوية والثقافية التي كانت تفصلهم عن هذه الشعوب. وخشيت أن يؤدي ذلك إلى نمو حركات معادية لليهود تنعكس آثارها السلبية لتشملهم وتشمل جميع الفئات اليهودية الأخرى على شتى مستوياتها.
ومما زاد من تخوف البرجوازية اليهودية إمكان انضمام الشرائح الفقيرة من اليهود الروس – كما ذكرنا - إلى الحركات الثورية والأحزاب اليسارية المناهضة للأنظمة الرأسمالية، ومن ضمنها النظام الروسي الذي أخذ يتبنى هذا النهج منذ أواخر القرن التاسع عشر. وبدت هذه الظاهرة تلقي ظلالاً من الشك والريبة على انتماء وإخلاص اليهود للبلاد التي كانوا يعيشون فيها. وبالإضافة إلى ذلك فإنه نظراً للاستثمارات الواسعة التي كان يحتكرها عديد من البرجوازيين اليهود الغربيين في روسيا، فقد أدرك هؤلاء أن الخسارة ستحيق بهم إذا ما حدثت اضطرابات أو ثورات فيها. وأدى هذا إلى دفع البرجوازية اليهودية للبحث عن مكان خارج القارة الأوربية يوجهون إليه هجرات هذا الفائض البشري من عامة اليهود.
الصهاينة الأغيار
وعلى الرغم من اهتمام البرجوازية اليهودية الغربية بإيجاد حل لمشكلة المهاجرين اليهود الروس، إلا أن أولئك الذين اهتدوا لـ «الحل الصهيوني» لم يكونوا من البرجوازيين اليهود وحدهم، وإنما كانوا أيضاً من بين من أطلق عليهم لقب «الصهاينة الأغيار»، ومعظمهم كان من الطبقات البرجوازية المسيحية الحاكمة في الدول الأوربية، إذ أخذ هؤلاء يجرون دولهم منذ مطلع القرن التاسع عشر إلى التنافس في طرح المشاريع الخاصة بتوطين اليهود في فلسطين أو عند الضرورة في أي منطقة أخرى ضمن المناطق التي كانت تسعى هذه الدول إلى مد سيطرتها ونفوذها عليها.
ولم يكن الهدف من وراء ذلك التخلص من عبء هذه الهجرات اليهودية الوافدة إلى دولهم فقط، وإنما أيضاً لما يمكن أن يقدمه هؤلاء المهاجرون اليهود في المناطق التي كانوا سيستقرون فيها من خدمات جمّة للمصالح الاستعمارية لهذه الدول الغربية.
أرض الميعاد
ومن ناحية أخرى، أخذت البرجوازية اليهودية من جانبها تسعى في أعقاب تبنيها الحل الصهيوني إلى تنظيم مشاريع لتهجير اليهود الروس وتوطينهم في مستعمرات زراعية في مناطق مختلفة من العالم بما فيها فلسطين، وذلك لإبعادهم قدر الإمكان عن أوربا الغربية، وإيجاد حل لما كان يسمى بـ «المسألة اليهودية»، مستغلين في ذلك الذرائع الغيبية المتداولة حول موضوع الصلة التاريخية بين يهود العالم و«أرض الميعاد» في فلسطين.
وقام البرجوازيون اليهود باستخدام عديد من المفكرين ورجال الدين الـــــيهود للترويج لهذه الذرائع الغيبية من أجل كسب أكبر قطاع ممكن من عامة اليهــــــود لدعم الأهداف التي كان هؤلاء البرجوازيــون يسعون إلى تحقيقها من وراء تبنيهم للحل الصهيوني.
وقد تمكن هؤلاء المفكرون من توفير «إطار أيديولوجي» ينطوي على مفاهيم وأساطير دينية مستمدة من التراث اليهودي تحفزهم لقبول مبدأ الهجرة ومغادرة مواطنهم الأصلية والانتقال إلى فلسطين، بهدف إجلاء سكانها العرب والاستيلاء على أراضيهم وحرمانهم من حقهم في وطنهم معتمدين في ذلك على أساطير دينية مستمدة من التراث اليهودي كأسطورة «أرض الميعاد» التي لعبت دور الجاذب الأكبر لليهود إلى فلسطين.
وعلى الرغم من كل ما سبق، فإن فلسطين لم تشهد طوال قرون طويلة هجرات يهودية واسعة، واقتصر الأمر في تلك الفترة الواقعة في أواسط القرن التاسع عشر على مجيء جماعات صغيرة من المتدينين اليهود الذين كانوا يستقرون في الأرض المقدسة ويكرسون حياتهم للصلاة والدراسات، معتمدين في معاشهم على الصدقات التي كانت تصلهم من يهود الشتات. وقد بلغ عدد اليهود في فلسطين في مطلع القرن التاسع عشر حوالي 6 آلاف شخص، معظمهم من اليهود الشرقيين (السفارديم)، وكان يعيش ثلثهم في القدس والثلث الثاني في صفد، أما الثلث الأخير فكان يعيش في طبريا والخليل.
وقد ارتفع هذا العدد في منتصف القرن ليصل إلى حوالي 7800 شخص. ولم تشهد فلسطين هجرات يهودية منظمة بشكل متصاعد ومتزايد إلا في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، حيث بدأت مرحلة جديدة من مراحل المسألة اليهودية ■