العرب لم يستعمروا إسبانيا فتح الأندلس ... حقيقة أم أسطورة؟

العرب لم يستعمروا إسبانيا فتح الأندلس ... حقيقة أم أسطورة؟

يعكس‭ ‬عنوان‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬‮«‬العرب‭ ‬لم‭ ‬يستعمروا‭ ‬إسبانيا‮»‬،‭ ‬أو‭ ‬لم‭ ‬يغزوا‭ ‬إسبانيا،‭ ‬وهي‭ ‬الترجمة‭ ‬الأدقّ‭ ‬التي‭ ‬تعبّر‭ ‬عن‭ ‬أطروحة‭ ‬الكتاب،‭ ‬وجهة‭ ‬نظر‭ ‬الباحث‭ ‬الإسباني‭ ‬إغناسيو‭ ‬أولاغوي،‭ ‬حول‭ ‬الوجود‭ ‬العربي‭ ‬الذي‭ ‬استمرّ‭ ‬ثمانمئة‭ ‬سنة‭ ‬في‭ ‬إسبانيا‭.‬

فعنده‭ ‬أنّ‭ ‬هذا‭ ‬الوجود‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬نتيجة‭ ‬غزو‭ ‬عسكري،‭ ‬وإنّما‭ ‬نتيجة‭ ‬غزو‭ ‬ثقافي‭ ‬كما‭ ‬نقول‭ ‬بلغتنا‭ ‬المعاصرة‭. ‬ينفي‭ ‬الباحث‭ ‬حصول‭ ‬الحادثة‭ ‬التاريخيّة‭ ‬المشهورة‭ ‬عن‭ ‬دخول‭ ‬طارق‭ ‬بن‭ ‬زياد‭ ‬وجيشه‭ ‬بحرًا‭ ‬إلى‭ ‬الشاطئ‭ ‬الإسباني‭ ‬المقابل‭ ‬للمغرب،‭ ‬واحتلال‭ ‬المسلمين‭ ‬بالتالي‭ ‬لشبه‭ ‬الجزيرة‭ ‬الإيبيريّة،‭ ‬ويعتبرها‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬الأساطير‭ ‬الشائعة‭. ‬

أمّا‭ ‬كيف‭ ‬بدأ‭ ‬الوجود‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬إسبانيا‭ ‬واستمّر‭ ‬طوال‭ ‬هذه‭ ‬المدّة‭ ‬الطويلة،‭ ‬فبسبب‭ ‬تقبّل‭ ‬الإسبان‭ ‬للإسلام‭ ‬كدين‭ ‬منسجم‭ ‬مع‭ ‬تصوّرهم‭ ‬الاعتقادي‭.‬

فقد‭ ‬كان‭ ‬قسم‭ ‬كبير‭ ‬منهم‭ ‬على‭ ‬المذهب‭ ‬الأريوسي‭ ‬الذي‭ ‬يتّفق‭ ‬في‭ ‬تصوّره‭ ‬لشخصيّة‭ ‬المسيح‭ ‬مع‭ ‬تصوّر‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬الذي‭ ‬يقول‭ ‬بوحدانيّة‭ ‬الله‭ ‬ويرفض‭ ‬التثليث‭.‬

هذا‭ ‬التصوّر‭ ‬المشترك‭ ‬بين‭ ‬وجهتي‭ ‬النظر‭ ‬الإسلاميّة‭ ‬والمسيحيّة‭ ‬ساعد‭ ‬في‭ ‬فتح‭ ‬الباب‭ ‬أمام‭ ‬المسلمين‭ ‬للدّخول‭ ‬إلى‭ ‬إسبانيا،‭ ‬ولكن‭ ‬هذا‭ ‬الدّخول،‭ ‬وهذا‭ ‬المهمّ‭ ‬في‭ ‬الكتاب،‭ ‬تمّ‭ ‬سلمًا‭ ‬لا‭ ‬حربًا،‭ ‬فلا‭ ‬فتح‭ ‬ولا‭ ‬جيوش‭ ‬ولا‭ ‬حروب‭.‬

يناقض‭ ‬هذا‭ ‬التصوّر‭ ‬رواية‭ ‬المؤرّخين‭ ‬العرب‭ ‬عن‭ ‬فتح‭ ‬الأندلس،‭ ‬بل‭ ‬رواية‭ ‬كل‭ ‬المؤرّخين‭ ‬الإسبان‭ ‬والأوربيين‭ ‬عن‭ ‬بكرة‭ ‬أبيهم،‭ ‬ولا‭ ‬يشذّ‭ ‬عن‭ ‬هؤلاء‭ ‬جميعًا‭ ‬سوى‭ ‬الباحث‭ ‬الإسباني‭ ‬أولاغوي،‭ ‬الذي‭ ‬يصف‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬بأنّه‭ ‬ارجل‭ ‬آدابب‭.‬

ومن‭ ‬هؤلاء‭ ‬المؤرّخين‭ ‬الإسبان‭ ‬المعاصرين‭ ‬إميريكو‭ ‬كاسترو،‭ ‬الذي‭ ‬يتحدّث‭ ‬في‭ ‬كتبه‭ ‬عن‭ ‬الفتح‭ ‬العربي‭ ‬لبلاده‭ ‬كحدث‭ ‬من‭ ‬أحداث‭ ‬التاريخ،‭ ‬ويشيد‭ ‬بنتائج‭ ‬هذا‭ ‬الحدث‭ ‬على‭ ‬صعيد‭ ‬تشكّل‭ ‬شخصيّة‭ ‬إسبانيا‭ ‬الوطنيّة‭. ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬فعله‭ ‬المؤرّخون‭ ‬الإسبان‭ ‬والأوربيون‭ ‬الآخرون،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬ظهر‭ ‬كتاب‭ ‬أولاغوي‭ ‬في‭ ‬الربع‭ ‬الأخير‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬فقابله‭ ‬المؤرّخون‭ ‬بالسخرية‭ ‬المرّة،‭ ‬ومنهم‭ ‬المؤرّخ‭ ‬الفرنسي‭ ‬بيار‭ ‬غيشار،‭ ‬الذي‭ ‬ردّ‭ ‬على‭ ‬أولاغوي،‭ ‬بمقال‭ ‬جاء‭ ‬عنوانه‭ ‬تهكّمًا‭: ‬االعرب‭ ‬فتحوا‭ ‬بالفعل‭ ‬إسبانياب،‭ ‬ردًاّ‭ ‬مفصّلًا‭ ‬دقيقًا‭.‬

ويحسُن‭ ‬قبل‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬ورد‭ ‬في‭ ‬المقدّمتين‭ ‬العربيتين‭ ‬للكتاب،‭ ‬وفيهما‭ ‬ما‭ ‬يجدر‭ ‬التوقّف‭ ‬عنده،‭ ‬نقل‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬اعتباره‭ ‬الأسباب‭ ‬الموجبة‭ ‬الأساسيّة‭ ‬التي‭ ‬بنى‭ ‬عليها‭ ‬أولاغوي‭ ‬أطروحته،‭ ‬فهو‭ ‬يسأل‭: ‬كيف‭ ‬يراد‭ ‬منّا‭ ‬أن‭ ‬نقتنع‭ ‬بأن‭ ‬موسى‭ ‬بن‭ ‬نصير‭ ‬تمكّن‭ ‬من‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬إقليم‭ ‬شمال‭ ‬إفريقيا‭ ‬في‭ ‬غضون‭ ‬سنوات‭ ‬قليلة،‭ ‬وهو‭ ‬إقليم‭ ‬يتّسم‭ ‬بتضاريس‭ ‬جبليّة‭ ‬شديدة‭ ‬التعقيد،‭ ‬كما‭ ‬أنّه‭ ‬مأهول‭ ‬بسلالة‭ ‬محاربين‭ ‬أثبتت‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬التاريخ‭ ‬قدرتها‭ ‬وفاعليتها؟‭ ‬وهل‭ ‬كان‭ ‬العرب‭ ‬في‭ ‬وضع‭ ‬جيد‭ ‬لغزو‭ ‬إسبانيا‭ ‬عام‭ ‬711‭ ‬ميلاديّة،‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬كانوا‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬قرن‭ ‬لتأمين‭ ‬قواعدهم‭ ‬في‭ ‬الشّمال‭ ‬الإفريقي؟

 

معجزة‭ ‬رائعة

يجيب‭ ‬أولاغوي‭: ‬لم‭ ‬يهتمّ‭ ‬المؤرخون‭ ‬بالتأكد‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬فقد‭ ‬وجدوا‭ ‬أنّ‭ ‬من‭ ‬الطبيعي‭ ‬للغاية‭ ‬أنّهم‭ ‬عبّروا‭ ‬مضيق‭ ‬جبل‭ ‬طارق‭ ‬واحتلّوا‭ ‬شبه‭ ‬جزيرة‭ ‬إيبيريا‭ ‬بصلاتهم‭ ‬على‭ ‬طريقة‭ ‬اأبانا‭ ‬الذي‭ ‬في‭ ‬السّماواتب،‭ ‬أي‭ ‬أنّهم‭ ‬سيطروا‭ ‬على‭ ‬192584‭ ‬كيلومترًا‭ ‬مربعًا،‭ ‬أي‭ ‬على‭ ‬الإقليم‭ ‬الجبلي‭ ‬الأكثر‭ ‬وعورة‭ ‬في‭ ‬أوربا،‭ ‬في‭ ‬غضون‭ ‬ثلاث‭ ‬سنوات‭. ‬اكانت‭ ‬المعجزة‭ ‬رائعة،‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬كتاب‭ ‬الحوليّات‭ ‬المسلمين‭ ‬يقدّمون‭ ‬لنا‭ ‬بالتفصيل‭ ‬عدد‭ ‬الغزاة،‭ ‬فقد‭ ‬اكتفى‭ ‬طارق‭ ‬بن‭ ‬زياد‭ ‬بسبعة‭ ‬آلاف‭ ‬رجل‭ ‬للقضاء‭ ‬على‭ ‬لذريق‭ ‬في‭ ‬معركة‭ ‬وادي‭ ‬لكّة‭. ‬وبعد‭ ‬ذلك‭ ‬أتى‭ ‬موسى‭ ‬بن‭ ‬نصير‭ ‬بثمانية‭ ‬عشر‭ ‬ألف‭ ‬رجل،‭ ‬وكان‭ ‬يشعر‭ ‬بالغيرة‭ ‬من‭ ‬النجاح‭ ‬الذي‭ ‬حقّقه‭ ‬أحد‭ ‬قادة‭ ‬جيشه‭. ‬وإذا‭ ‬لم‭ ‬يخدعنا‭ ‬علم‭ ‬الرياضيّات‭ ‬فإنّ‭ ‬كلّ‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬العدد‭ ‬الإجمالي‭ ‬المكوّن‭ ‬من‭ ‬خمسة‭ ‬وعشرين‭ ‬ألف‭ ‬عربي‭ ‬كان‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يسيطر‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يزيد‭ ‬قليلًا‭ ‬على‭ ‬ثلاثة‭ ‬وعشرين‭ ‬كيلومترًا‭ ‬مربّعًا‭. ‬ولمّا‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ذلك‭ ‬كافيًا‭ ‬لهؤلاء‭ ‬الأبطال‭ ‬العمالقة‭ ‬سارعوا‭ ‬بعبور‭ ‬جبال‭ ‬البرانس‭ ‬للسيطرة‭ ‬على‭ ‬فرنسا‭.‬

ويتابع‭ ‬أولاغوي‭ ‬روايته‭ ‬السّاخرة‭ ‬للأحداث‭ ‬على‭ ‬النحو‭ ‬التّالي‭:‬

أدّى‭ ‬انتصار‭ ‬طارق‭ (‬المزعوم‭ ‬برأيه‭) ‬إلى‭ ‬فتح‭ ‬باب‭ ‬شبه‭ ‬جزيرة‭ ‬إيبيريا‭ ‬على‭ ‬مصراعيه‭ ‬أمام‭ ‬الآسيويين‭ ‬الذين‭ ‬احتلّوها‭ ‬دونما‭ ‬كثير‭ ‬عناء‭.‬

وعندئذٍ‭ ‬حدثت‭ ‬عمليّة‭ ‬تحوّل‭ ‬هائلة‭ ‬وكأنّنا‭ ‬في‭ ‬مسرح‭ ‬نقوم‭ ‬بتغيير‭ ‬ديكوراته‭. ‬كانت‭ ‬إسبانيا‭ ‬لاتينيّة‭ ‬فتحوّلت‭ ‬إلى‭ ‬العربيّة،‭ ‬وكانت‭ ‬مسيحيّة‭ ‬فاعتنقت‭ ‬الإسلام،‭ ‬وكانت‭ ‬تسير‭ ‬على‭ ‬أنّ‭ ‬لكلّ‭ ‬رجل‭ ‬زوجة‭ ‬واحدة‭ ‬فتحوّلت‭ ‬إلى‭ ‬تعدّد‭ ‬الزوجات،‭ ‬وكأنّنا‭ ‬أمام‭ ‬الروح‭ ‬القدس‭ ‬وهو‭ ‬يكرّر‭ ‬عيد‭ ‬العنصرة،‭ ‬وبالتالي‭ ‬استيقظ‭ ‬الإسبان‭ ‬فوجدوا‭ ‬أنفسهم‭ ‬يتحدّثون‭ ‬لغة‭ ‬الحجاز،‭ ‬كما‭ ‬وجدوا‭ ‬أنفسهم‭ ‬يرتدون‭ ‬ملابس‭ ‬مختلفة،‭ ‬ويمارسون‭ ‬عادات‭ ‬أخرى،‭ ‬وكذلك‭ ‬أسلحة‭ ‬من‭ ‬صنف‭ ‬آخر‭.‬

 

مهمة‭ ‬ضخمة

ولكي‭ ‬يتمّ‭ ‬توزيع‭ ‬الغنائم‭ ‬الناجمة‭ ‬عن‭ ‬الغزو،‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬الغربيين‭ ‬أن‭ ‬يتصارعوا‭ ‬فيما‭ ‬بينهم‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬سبعين‭ ‬عامًا‭. ‬كانت‭ ‬شبه‭ ‬الجزيرة‭ ‬الإيبيريّة‭ ‬مأهولة‭ ‬جيّدًا‭ ‬بالسكّان‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الآونة،‭ ‬وكان‭ ‬سكّانها‭ ‬موزّعين‭ ‬توزيعًا‭ ‬جيّدًا‭ ‬في‭ ‬الهضبة‭ ‬الوسطى‭ ‬خلال‭ ‬عصور‭ ‬مضت‭. ‬وبصفة‭ ‬عامة‭ ‬يمكن‭ ‬تقدير‭ ‬تعداد‭ ‬سكّانها‭ ‬في‭ ‬رقم‭ ‬يتراوح‭ ‬بين‭ ‬خمسة‭ ‬عشر‭ ‬وعشرين‭ ‬مليون‭ ‬نسمة‭. ‬وعندما‭ ‬نعرف‭ ‬العدد‭ ‬القليل‭ ‬للغزاة،‭ ‬يصبح‭ ‬من‭ ‬العجيب‭ ‬ألّا‭ ‬ينتهي‭ ‬الأمر‭ ‬بهؤلاء‭ ‬المحاربين‭ ‬القادمين‭ ‬من‭ ‬خضمّ‭ ‬صراعاتهم‭ ‬الداخليّة‭ ‬وتقاتلهم‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭. ‬وهنا‭ ‬نتساءل‭: ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يفعله‭ ‬كلّ‭ ‬هؤلاء‭ ‬الملايين‭ ‬من‭ ‬المشاهدين‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الآونة؟

ويضيف‭ ‬الأديب‭ ‬الساخر‭: ‬وفقًا‭ ‬للروايات‭ ‬التاريخيّة‭ ‬التي‭ ‬نجدها‭ ‬في‭ ‬الكتب‭ ‬المدرسيّة،‭ ‬أو‭ ‬وفقًا‭ ‬للتحليلات‭ ‬التي‭ ‬قام‭ ‬بها‭ ‬الباحثون‭ ‬المحدثون،‭ ‬فإنّ‭ ‬الإسبان‭ ‬قد‭ ‬اختفوا،‭ ‬وليس‭ ‬هنالك‭ ‬إلّا‭ ‬العرب‭. ‬ويتساءل‭: ‬هل‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يختفي‭ ‬بين‭ ‬عشيّة‭ ‬وضحاها‭ ‬كلّ‭ ‬هذا‭ ‬العدد‭ ‬المكوّن‭ ‬من‭ ‬ملايين‭ ‬البشر‭ ‬وكأنّهم‭ ‬اورق‭ ‬كوتشينةب‭ ‬أو‭ ‬قطعة‭ ‬عملة‭ ‬في‭ ‬يد‭ ‬حاذقة؟

لذلك،‭ ‬فإنّ‭ ‬مهمّة‭ ‬الغزاة‭ ‬برأيه‭ ‬ستكون‭ ‬ضخمة‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬عليهم‭ ‬أن‭ ‬يذبحوا‭ ‬سكّان‭ ‬البلاد‭ ‬واحدًا‭ ‬واحدًا‭ ‬مثلما‭ ‬يؤكّد‭ ‬لنا‭ ‬ذلك‭ ‬مؤلّفو‭ ‬الحوليّات‭ ‬اللاتينيّة‭. ‬ففي‭ ‬ذلك‭ ‬العصر‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬هنالك‭ ‬إجراءات‭ ‬سريعة‭ ‬للقيام‭ ‬بمذابح‭ ‬جماعيّة‭. ‬وكانت‭ ‬الوديان‭ ‬الضيّقة‭ ‬في‭ ‬إقليم‭ ‬أستورياس‭ ‬غير‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬تلقّي‭ ‬أعداد‭ ‬هائلة‭ ‬من‭ ‬اللاجئين‭. ‬اوحقيقة‭ ‬الأمر‭ ‬نجد‭ ‬أنفسنا‭ ‬أمام‭ ‬مشكلة‭ ‬مختلفة‭ ‬للغاية،‭ ‬إذ‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الضّروري‭ ‬الصّمت‭ ‬عنها،‭ ‬لأنّها‭ ‬غير‭ ‬مريحة،‭ ‬ذلك‭ ‬أنّها‭ ‬معضلة‭ ‬لا‭ ‬تجد‭ ‬حلًاّ‭ ‬حتى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا‭. ‬فإذا‭ ‬كان‭ ‬غزو‭ ‬إسبانيا‭ ‬أمرًا‭ ‬لا‭ ‬يحتمل‭ ‬التصديق،‭ ‬فكيف‭ ‬يمكن‭ ‬تحوّل‭ ‬الإسبان‭ ‬إلى‭ ‬الإسلام‭ ‬واضعين‭ ‬في‭ ‬الحسبان‭ ‬وجود‭ ‬الإسبان‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬وتمثّلهم‭ ‬للحضارة‭ ‬العربيّة؟ب‭.‬

 

معركة‭ ‬وادي‭ ‬لكّة

حول‭ ‬معركة‭ ‬وادي‭ ‬لكّة،‭ ‬وهي‭ ‬التي‭ ‬فتحت‭ ‬الباب‭ ‬واسعًا‭ ‬أمام‭ ‬الفتح‭ ‬والفاتحين،‭ ‬يثير‭ ‬أولاغوي‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الغبار‭: ‬اعدد‭ ‬الغزاة‭ ‬كان‭ ‬ضئيلًا،‭ ‬وما‭ ‬من‭ ‬وسائل‭ ‬نقل‭ ‬فعّالة،‭ ‬ومن‭ ‬ثمّ‭ ‬لم‭ ‬يجد‭ ‬الجنرالات‭ ‬العرب‭ ‬أنّ‭ ‬تكتيكاتهم‭ ‬ستعيقها‭ ‬عمليّات‭ ‬الإمداد،‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬هناك‭ ‬مؤن‭ ‬مع‭ ‬المحاربين،‭ ‬لذلك‭ ‬كانوا‭ ‬معرّضين‭ ‬للموت‭ ‬جوعًا‭. ‬وفي‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الظروف‭ ‬جرت‭ ‬معركة‭ ‬وادي‭ ‬لكّة‭ ‬بعددٍ‭ ‬قليلٍ‭ ‬من‭ ‬الرجال،‭ ‬اللّهمّ‭ ‬إلّا‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬قصّة‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ ‬الأساطير‭ (‬وهي‭ ‬عنده‭ ‬كذلك‭)... ‬كما‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬نفهم‭ ‬كيف‭ ‬تحوّلت‭ ‬المقاطعات‭ ‬الثابتة‭ ‬التي‭ ‬تشكّل‭ ‬جماع‭ ‬الأقاليم‭ ‬الطبيعيّة‭ ‬في‭ ‬شبه‭ ‬الجزيرة‭ ‬الإيبيريّة‭ ‬على‭ ‬يدّ‭ ‬هذا‭ ‬العدد‭ ‬القليل‭ ‬من‭ ‬السحرة،‭ ‬وفي‭ ‬غضون‭ ‬زمن‭ ‬قصير‭ ‬للغايةب‭.‬

ولكن‭ ‬ومع‭ ‬الأسف،‭ ‬انتصر‭ ‬هذا‭ ‬العدد‭ ‬القليل‭ ‬من‭ ‬السحرة‭ ‬كما‭ ‬يجمع‭ ‬المؤرّخون‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬ولكن‭ ‬أولاغوي‭ ‬لم‭ ‬يفرغ‭ ‬بعد‭ ‬من‭ ‬سرد‭ ‬حججه،‭ ‬فهو‭ ‬يقول‭: ‬اهناك‭ ‬الصعوبة‭ ‬الأكبر،‭ ‬لِم‭ ‬لَم‭ ‬يقولوا‭ ‬لنا‭: ‬إنّ‭ ‬هؤلاء‭ ‬كانوا‭ ‬من‭ ‬جنسيّات‭ ‬مختلفة؟‭ ‬فوفقًا‭ ‬للحوليّات‭ ‬العربيّة‭ ‬كان‭ ‬تعداد‭ ‬العرب‭ ‬ضئيلًا،‭ ‬أمّا‭ ‬الباقون‭ ‬فهم‭ ‬مغامرون‭ ‬من‭ ‬سلالات‭ ‬وأوطان‭ ‬مختلفة‭: ‬من‭ ‬السوريين‭ ‬والبيزنطيين‭ ‬والأقباط،‭ ‬وكذلك‭ ‬من‭ ‬البربر‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الخصوص‭.‬

وهنا‭ ‬نرى‭ ‬خلاصة‭ ‬عمل‭ ‬لا‭ ‬معقول‭ ‬تقول‭ ‬إن‭ ‬إسبانيا‭ ‬جرى‭ ‬غزوها‭ ‬وتعريبها‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬أناس‭ ‬لا‭ ‬يتحدّثون‭ ‬العربيّة‭. ‬فأهل‭ ‬إقليم‭ ‬المغرب‭ ‬لم‭ ‬يُتح‭ ‬لهم‭ ‬وقت‭ ‬لتعلّم‭ ‬العربيّة،‭ ‬وإسبانيا‭ ‬تمّت‭ ‬أسلمتها‭ ‬على‭ ‬يدّ‭ ‬وعّاظ‭ ‬كانوا‭ ‬لا‭ ‬يعرفون‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬للسبب‭ ‬نفسهب‭.‬

 

حرب‭ ‬عصابات

وإذا‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬الموقف،‭ ‬فالأمر‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬شكّ‭ ‬فيه،‭ ‬كما‭ ‬يقول،‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الجيش‭ ‬سيذوب‭ ‬وفقًا‭ ‬لعلم‭ ‬الرياضيّات‭ ‬وكأنّه‭ ‬السكّر‭ ‬في‭ ‬كوب‭ ‬ماء،‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬انتشر‭ ‬في‭ ‬ربوع‭ ‬البلاد،‭ ‬ولو‭ ‬حدث‭ ‬غير‭ ‬ذلك‭ ‬فكيف‭ ‬يمكن‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬الأرض؟‭ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يحدث‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬بدأ‭ ‬الإسبان‭ ‬عمليّات‭ ‬حرب‭ ‬العصابات‭ ‬في‭ ‬أقلّ‭ ‬معدّلاتها؟‭ ‬اسوف‭ ‬يُفهم‭ ‬الآن‭ ‬أنّه‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الملائم‭ ‬ألّا‭ ‬يضع‭ ‬المرء‭ ‬إصبعه‭ ‬على‭ ‬الجرح،‭ ‬أي‭ ‬أنّ‭ ‬التجاهل‭ ‬وعدم‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬التفاصيل،‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬اتّفاق‭ ‬عام‭ ‬غير‭ ‬معلن‭ ‬كان‭ ‬هو‭ ‬الخطّ‭ ‬الذي‭ ‬فضّله‭ ‬المؤرّخون،‭ ‬وهو‭ ‬أن‭ ‬يتركوا‭ ‬الإسبان‭ ‬نائمين‭ ‬طوال‭ ‬عدّة‭ ‬قرون‭.‬

ويتحدّث‭ ‬عن‭ ‬موسى‭ ‬بن‭ ‬نصير،‭ ‬فيصفه‭ ‬بأنّه‭ ‬مجرّد‭ ‬امغامرب‭ ‬وهي‭ ‬الصفة‭ ‬نفسها‭ ‬التي‭ ‬يلحقها‭ ‬بعقبة‭ ‬بن‭ ‬نافع،‭ ‬وهما‭ ‬من‭ ‬هما‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الفتوح‭ ‬الإسلاميّة‭. ‬ويصوّر‭ ‬عقبة‭ ‬بن‭ ‬نافع‭ ‬على‭ ‬النحو‭ ‬التالي‭:‬

افي‭ ‬حوالي‭ ‬670‭ ‬ميلاديّة‭ ‬ظهر‭ ‬سيّدي‭ ‬عقبة،‭ ‬الذي‭ ‬يتمّ‭ ‬تقديمه‭ ‬بصفة‭ ‬عامة‭ ‬على‭ ‬أنّه‭ ‬من‭ ‬غزا‭ ‬الشمال‭ ‬الإفريقي‭. ‬وهذا‭ ‬ليس‭ ‬بصحيح،‭ ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬إلّا‭ ‬مغامرًا‭ ‬بدأ‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬الرزايا‭ ‬في‭ ‬الشمال‭ ‬الإفريقي،‭ ‬ولم‭ ‬يحالفه‭ ‬الحظّ،‭ ‬إذ‭ ‬مات‭ ‬في‭ ‬المعركةب‭.‬

أمّا‭ ‬اصقر‭ ‬قريشب،‭ ‬أو‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬الداخل،‭ ‬وهو‭ ‬من‭ ‬أكرم‭ ‬الوجوه‭ ‬التاريخيّة‭ ‬التي‭ ‬عرفها‭ ‬تاريخ‭ ‬الأندلس‭ ‬والعرب‭ ‬معًا،‭ ‬فهذه‭ ‬صورته‭ ‬كما‭ ‬يرسمها‭ ‬أولاغوي‭:‬

في‭ ‬نهاية‭ ‬المطاف‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬شواطئ‭ ‬الأندلس‭ ‬أحد‭ ‬الأمويين،‭ ‬وهو‭ ‬سليل‭ ‬العائلة‭ ‬الأكثر‭ ‬شهرة‭ ‬في‭ ‬مكّة،‭ ‬حكم‭ ‬آباؤه‭ ‬الإمبراطوريّة‭ ‬الإسلاميّة‭. ‬هو‭ ‬ساميّ‭ ‬قحّ،‭ ‬لكنّهم‭ ‬يصفونه‭ ‬لنا‭ ‬على‭ ‬النحو‭ ‬التالي‭: ‬طويل‭ ‬القامة‭ ‬ذو‭ ‬عينين‭ ‬زرقاوين،‭ ‬وشعره‭ ‬كستنائي،‭ ‬وبشرته‭ ‬بيضاء،‭ ‬أي‭ ‬أنّه‭ ‬على‭ ‬النمط‭ ‬الجرماني‭. ‬ونظرًا‭ ‬إلى‭ ‬نسبه‭ ‬الملكي‭ ‬والعربي‭ ‬لم‭ ‬يستجب‭ ‬أحد‭ ‬لنواياه،‭ ‬ومن‭ ‬ثمّ‭ ‬كان‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يُسهم‭ ‬بروحه‭ ‬وجسده،‭ ‬ويضع‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬أتون‭ ‬الحرب‭ ‬الأهليّة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬سائدة‭ ‬منذ‭ ‬حوالي‭ ‬أربعين‭ ‬عامًا‭.‬

وهنا‭ ‬تعرّض‭ ‬للأذى‭ ‬الجسدي‭ ‬والمعنوي‭. ‬ولما‭ ‬كان‭ ‬ذا‭ ‬ألمعيّة‭ ‬عسكريّة‭ ‬لا‭ ‬جدال‭ ‬فيها،‭ ‬فقد‭ ‬تمكّن‭ ‬من‭ ‬تحقيق‭ ‬بعض‭ ‬النجاحات‭ ‬التي‭ ‬هيّأت‭ ‬له‭ ‬توّليه‭ ‬منصب‭ ‬الأمير‭ ‬في‭ ‬جامع‭ ‬قرطبة‭ (‬756م‭)‬،‭ ‬ورغم‭ ‬هذه‭ ‬الجرأة‭ ‬نجد‭ ‬أنّه‭ ‬كان‭ ‬مجبرًا‭ ‬على‭ ‬الدخول‭ ‬في‭ ‬أتون‭ ‬الحرب‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬حياته،‭ ‬ولم‭ ‬يرتح‭ ‬من‭ ‬الموقف‭ ‬إلّا‭ ‬بالموت‭ (‬788م‭)‬ب‭.‬

 

مخاض‭ ‬عسير

الكتاب‭ ‬المنقول‭ ‬حديثًا‭ ‬إلى‭ ‬العربيّة‭ ‬عن‭ ‬امكتبة‭ ‬الإسكندريّةب‭ ‬وامركز‭ ‬نهوض‭ ‬للدراسات‭ ‬والنشرب،‭ ‬والذي‭ ‬مرّ‭ ‬أصله‭ ‬بمخاض‭ ‬عسير‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يصدر‭ ‬بالفرنسيّة‭ ‬أوّلًا،‭ ‬والإسبانيّة‭ ‬لغة‭ ‬أولاغوي‭ ‬ثانيًا،‭ ‬مرفق‭ ‬في‭ ‬ترجمته‭ ‬العربيّة‭ ‬بمقدّمتين‭: ‬الأولى‭ ‬لمدير‭ ‬مكتبة‭ ‬الإسكندريّة‭ ‬د‭. ‬مصطفى‭ ‬الفقي،‭ ‬والثانية‭ ‬لرئيس‭ ‬مجلس‭ ‬أعضاء‭ ‬وقف‭ ‬انهوض‭ ‬لدراسات‭ ‬التنميةب‭ ‬
د‭. ‬علي‭ ‬الزميع‭. ‬

يرى‭ ‬د‭. ‬الفقي‭ ‬اأنّ‭ ‬قصّة‭ ‬المسلمين‭ ‬في‭ ‬الأندلس‭ ‬يحوطها‭ ‬الغموض‭ ‬بدايةً‭ ‬ونهاية،‭ ‬وأنّه‭ ‬لم‭ ‬يُحتكم‭ ‬إلى‭ ‬العقل‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬تاريخها،‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬الحقيقة‭ ‬هي‭ ‬غاية‭ ‬من‭ ‬قلّبوا‭ ‬صفحاتها،‭ ‬وتأمّلوا‭ ‬ممالكها‭ ‬ومسالكها،‭ ‬وتحيّزوا‭ ‬ما‭ ‬شاء‭ ‬لهم‭ ‬يمنةً‭ ‬ويسرة‭ ‬في‭ ‬قراءة‭ ‬أحداث‭ ‬لم‭ ‬يكونوا‭ ‬من‭ ‬صنعها‭ ‬ولم‭ ‬يعاصروا‭ ‬أهمّ‭ ‬فصولها‭. ‬وعندما‭ ‬جاء‭ ‬مؤرّخ‭ ‬استفاء‭ ‬بنور‭ ‬الحقيقة‭ ‬معتمدًا‭ ‬على‭ ‬أدقّ‭ ‬الوثائق،‭ ‬مسلّحًا‭ ‬برؤية‭ ‬تاريخيّة‭ ‬صادقة،‭ ‬وقوائم‭ ‬لا‭ ‬حصر‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬الوثائق‭ ‬والمؤلّفات،‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬تاريخي‭ ‬يقلُّ‭ ‬نظيره،‭ ‬وتوثيق‭ ‬القوائم‭ ‬من‭ ‬الكتب‭ ‬والمراسلات‭ ‬والتوثيقات،‭ ‬وبمنهجيّة‭ ‬معرفيّة‭ ‬صارمة‭... ‬عندما‭ ‬يفعل‭ ‬المؤرّخ‭ ‬الإسباني‭ ‬الكبير‭ ‬إغناسيو‭ ‬أولاغوي‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬ولا‭ ‬يجد‭ ‬أُذنًا‭ ‬صاغيةً،‭ ‬ولا‭ ‬دار‭ ‬نشر‭ ‬كبيرة‭ ‬أو‭ ‬صغيرة‭ ‬ترغب‭ ‬في‭ ‬طبع‭ ‬كتابه،‭ ‬أو‭ ‬الترويج‭ ‬لمضمونه،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬إصدار‭ ‬صغير‭ ‬محايد‭ ‬يترك‭ ‬للقرّاء‭ ‬مهمّة‭ ‬التقويم‭ ‬وردود‭ ‬الأفعال،‭ ‬فإنّه‭ ‬لأمر‭ ‬يعجب‭ ‬له‭ ‬أي‭ ‬عاقل‭ ‬محايدب‭.‬

 

عنوان‭ ‬مثير

أمّا‭ ‬د‭. ‬الزميع‭ ‬فيرى‭ ‬أن‭ ‬عنوان‭ ‬الكتاب‭ ‬االعرب‭ ‬لم‭ ‬يستعمروا‭ ‬إسبانياب‭ ‬كان‭ ‬عنوانًا‭ ‬مثيرًا‭ ‬لأطروحة‭ ‬مستفزّة‭ ‬للوجدان‭ ‬اليميني‭ ‬المحافظ‭ ‬في‭ ‬إسبانيا،‭ ‬وأنّ‭ ‬أولاغوي‭ ‬أراد‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬أطروحته‭ ‬انقلابًا‭ ‬جذريًّا‭ ‬على‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المسلّمات‭ ‬التي‭ ‬ركزها‭ ‬التوجّه‭ ‬الكلاسيكي‭ ‬في‭ ‬التأريخ‭ ‬لإسبانيا‭ ‬العصر‭ ‬الوسيط،‭ ‬حيث‭ ‬ينتقده‭ ‬بشدّة،‭ ‬معتبرًا‭ ‬إيّاه‭ ‬قائمًا‭ ‬على‭ ‬تصوّر‭ ‬مؤدلج‭ ‬وقاصر‭ ‬عن‭ ‬تأسيس‭ ‬رؤية‭ ‬واعية‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬إعادة‭ ‬قراءة‭ ‬التاريخ‭ ‬الإسباني‭ ‬وتشكيل‭ ‬هويّة‭ ‬إسبانيّة‭ ‬متسامحة‭ ‬مع‭ ‬ماضيها،‭ ‬لا‭ ‬تشوبها‭ ‬الضغائن‭ ‬العرقيّة‭ ‬والدينيّة‭.‬

‭ ‬إذ‭ ‬يوضّح‭ ‬أولاغوي‭ ‬أنّ‭ ‬استماتة‭ ‬كاثوليكيي‭ ‬ويمينيي‭ ‬إسبانيا‭ ‬بتوهيم‭ ‬الناس‭ ‬بأنّ‭ ‬ما‭ ‬حصل‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬الميلادي‭ ‬هو‭ ‬استعمار‭ ‬إسلامي‭ ‬للأراضي‭ ‬الإسبانيّة‭ ‬الكاثوليكيّة‭ ‬الرومانيّة،‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬قصد‭ ‬ضمني‭ ‬هو‭ ‬تبرير‭ ‬طرد‭ ‬مسلمي‭ ‬الأندلس‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬القرن‭ ‬السادس‭ ‬عشر‭ ‬الميلادي‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬الملكين‭ ‬الكاثوليكيين‭ ‬فرديناند‭ ‬وإيزابيلّا‭. ‬فيصير‭ ‬تأكيد‭ ‬وقوع‭ ‬غزو‭ ‬إسلامي‭ ‬لإسبانيا‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الثامن،‭ ‬واقعة‭ ‬تضفي‭ ‬الشّرعية‭ ‬التاريخيّة‭ ‬على‭ ‬فعل‭ ‬الطرد‭ ‬ذاك‭. ‬وبذلك‭ ‬يكون‭ ‬ما‭ ‬حصل‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬السادس‭ ‬عشر‭ ‬مجرّد‭ ‬استرداد‭ ‬مشروع‭ ‬لأراضي‭ ‬استعمرت‭ ‬من‭ ‬قبل‭. ‬وهكذا‭ ‬يتجنّب‭ ‬الوعي‭ ‬الكلاسيكي‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الأسئلة‭ ‬المحرجة‭ ‬حول‭ ‬مدى‭ ‬شرعيّة‭ ‬طرد‭ ‬الموريسكيين‭ ‬من‭ ‬الأندلس‭.‬

 

ملاحظات

وحول‭ ‬ما‭ ‬ورد‭ ‬في‭ ‬هاتين‭ ‬المقدّمتين،‭ ‬يمكن‭ ‬إبداء‭ ‬الملاحظات‭ ‬التالية‭:‬

‭- ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬ثمّة‭ ‬غموض‭ ‬يحيط‭ ‬بقصّة‭ ‬المسلمين‭ ‬في‭ ‬الأندلس‭ ‬في‭ ‬بدايتها،‭ ‬فهذا‭ ‬الغموض‭ ‬لا‭ ‬يحيط‭ ‬بعمليّة‭ ‬فتح‭ ‬الأندلس‭ ‬بحدّ‭ ‬ذاتها،‭ ‬بل‭ ‬بتفاصيل‭ ‬هذه‭ ‬العمليّة‭ ‬لا‭ ‬غير،‭ ‬وهي‭ ‬تفاصيل‭ ‬يغيب‭ ‬مثلها‭ ‬في‭ ‬أكثر‭ ‬الأحيان‭ ‬عن‭ ‬مؤرّخ‭ ‬يتصدّى‭ ‬للتأريخ‭ ‬لأحداث‭ ‬معاصرة‭ ‬له،‭ ‬ولا‭ ‬يرى‭ ‬ما‭ ‬يمنعه‭ ‬من‭ ‬تناول‭ ‬هذه‭ ‬الأحداث،‭ ‬رغم‭ ‬هذا‭ ‬الغياب‭ ‬مادام‭ ‬يلمّ‭ ‬إلمامًا‭ ‬جيدًا‭ ‬بجوانبها‭ ‬الأساسيّة،‭ ‬وبإمكانه‭ ‬إصدار‭ ‬أحكام‭ ‬بصددها‭. ‬

أمّا‭ ‬اتّهام‭ ‬كلّ‭ ‬من‭ ‬كتب‭ ‬عن‭ ‬الأندلس‭ ‬بأنّه‭ ‬لم‭ ‬يحتكم‭ ‬إلى‭ ‬العقل‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬تاريخها،‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬الحقيقة‭ ‬هي‭ ‬غاية‭ ‬من‭ ‬قلّبوا‭ ‬صفحاتها،‭ ‬وأنّهم‭ ‬تحيّزوا‭ ‬في‭ ‬رواياتهم،‭ ‬ودون‭ ‬أي‭ ‬تحديد،‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬أحكام‭ ‬عامة‭ ‬تظلم‭ ‬الكثيرين‭ ‬من‭ ‬المؤرخين‭ ‬ممن‭ ‬استوفت‭ ‬كتاباتهم‭ ‬شروط‭ ‬الكتابة‭ ‬التاريخيّة‭ ‬من‭ ‬عرب‭ ‬وأجانب‭.‬

‭- ‬ولا‭ ‬غموض‭ ‬بصورة‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬الأندلس،‭ ‬فقد‭ ‬حصلت‭ ‬هذه‭ ‬النهاية‭ ‬في‭ ‬وضح‭ ‬التاريخ‭ ‬إن‭ ‬جاز‭ ‬التعبير،‭ ‬أي‭ ‬في‭ ‬الأمس‭ ‬القريب‭ ‬نسبيًاّ،‭ ‬في‭ ‬سنة‭ ‬1492‭ ‬ميلاديّة‭ ‬بسقوط‭ ‬آخر‭ ‬مملكة‭ ‬عربيّة‭ ‬في‭ ‬الأندلس،‭ ‬وهي‭ ‬غرناطة،‭ ‬ولدى‭ ‬العرب‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يُحصى‭ ‬من‭ ‬الوثائق‭ ‬حولها‭ ‬وحول‭ ‬سقوط‭ ‬الأندلس‭ ‬بوجه‭ ‬عام‭.‬

 

مكتبة‭ ‬متخصصة

لدى‭ ‬الإسبان‭ ‬وثائق‭ ‬أكثر،‭ ‬ثمّة‭ ‬مكتبة‭ ‬إسبانيّة‭ ‬ضخمة‭ ‬متخصصّة‭ ‬بالأندلس،‭ ‬وبخاصة‭ ‬بنهايتها،‭ ‬هي‭ ‬مكتبة‭ ‬الإسكوريال‭. ‬فلا‭ ‬غموض‭ ‬إذن‭ ‬ولا‭ ‬غياب‭ ‬حتى‭ ‬للتفاصيل،‭ ‬وعندما‭ ‬لا‭ ‬يُحتكم‭ ‬إلى‭ ‬العقل‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬التاريخ،‭ ‬فهناك‭ ‬باحثون‭ ‬آخرون‭ ‬يقفون‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬العقل‭ ‬ويردّون‭ ‬له‭ ‬اعتباره‭. ‬ومن‭ ‬غير‭ ‬الإنصاف‭ ‬اتّهام‭ ‬جميع‭ ‬الباحثين‭ ‬والمؤرّخين‭ ‬بأنّهم‭ ‬تحيّزوا‭ ‬في‭ ‬قراءة‭ ‬تاريخ‭ ‬الأندلس،‭ ‬وأنّ‭ ‬هذا‭ ‬التاريخ‭ ‬ظلّ‭ ‬ينتظر‭ ‬حتى‭ ‬جاء‭ ‬الباحث‭ ‬الإسباني‭ ‬أولاغوي‭ ‬مستفيئًا‭ ‬بنور‭ ‬الحقيقة‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يستفئ‭ ‬به‭ ‬سواه‭ ‬ليقول‭ ‬الكلمة‭ ‬الفاصلة‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬تاريخي‭ ‬قلّ‭ ‬نظيره،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أنّ‭ ‬أحدًا‭ ‬حتى‭ ‬من‭ ‬المؤرّخين‭ ‬الإسبان‭ ‬لم‭ ‬يتعامل‭ ‬معه‭ ‬تعاملًا‭ ‬جدّيًا‭.‬

أمّا‭ ‬لماذا‭ ‬أهمل‭ ‬الإسبان‭ ‬كتاب‭ ‬أولاغوي‭ ‬سنوات‭ ‬طويلة،‭ ‬ولم‭ ‬يهتمّوا‭ ‬بنشره‭ ‬حتى‭ ‬صدر‭ ‬في‭ ‬فرنسا‭ ‬وبالفرنسيّة‭ ‬أوّلًا،‭ ‬قبل‭ ‬صدوره‭ ‬في‭ ‬مدريد‭ ‬لاحقًا،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬الإثارة‭ ‬التي‭ ‬يتضمّنها،‭ ‬فمن‭ ‬الممكن‭ ‬الإدلاء‭ ‬بعدة‭ ‬افتراضات،‭ ‬منها‭ ‬أنّ‭ ‬دور‭ ‬النشر‭ ‬الإسبانيّة‭ ‬لم‭ ‬تقتنع‭ ‬بالأطروحة‭ ‬التي‭ ‬يدافع‭ ‬عنها‭ ‬الكتاب،‭ ‬والتي‭ ‬لم‭ ‬يُشر‭ ‬إليها‭ ‬مؤرّخ‭ ‬قبله،‭ ‬واعتبرتها‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬االصرعةب‭ ‬منها‭ ‬إلى‭ ‬النظريّة‭ ‬الجادة‭ ‬الرصينة‭. ‬لذلك‭ ‬خافت‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬طباعة‭ ‬الكتاب‭ ‬مغامرة،‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬تجوز‭ ‬المغامرات،‭ ‬فرفضت‭ ‬جميعها‭ ‬طباعة‭ ‬الكتاب‭. ‬وقد‭ ‬يكون‭ ‬الخوف‭ ‬من‭ ‬طباعته‭ ‬متأتيًا‭ ‬من‭ ‬كون‭ ‬مؤلّفه‭ ‬غير‭ ‬مصنّف‭ ‬في‭ ‬عداد‭ ‬المؤرّخين،‭ ‬ولم‭ ‬يسبق‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬زاول‭ ‬مهنة‭ ‬تدريس‭ ‬التاريخ،‭ ‬وهما‭ ‬صفتان‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬منهما،‭ ‬وبخاصة‭ ‬الأولى،‭ ‬لمن‭ ‬يتصدّى‭ ‬لكتابة‭ ‬التاريخ‭. ‬فالتاريخ‭ ‬لا‭ ‬يكتبه‭ ‬عادةً‭ ‬إلّا‭ ‬المؤرّخون‭.‬

 

تفسير‭ ‬غير‭ ‬مقبول

لكنّ‭ ‬للدكتور‭ ‬الزميع‭ ‬تفسيره‭ ‬لإهمال‭ ‬دور‭ ‬النشر‭ ‬الإسبانيّة‭ ‬للكتاب‭. ‬فهو‭ ‬يقول‭ ‬إنّ‭ ‬اليمين‭ ‬الإسباني‭ ‬لم‭ ‬يرحّب‭ ‬بالأطروحة‭ ‬المبني‭ ‬عليها‭ ‬الكتاب،‭ ‬لأنّها‭ ‬تنفي‭ ‬صفة‭ ‬المستعمرين‭ ‬عن‭ ‬العرب‭ ‬وتدين،‭ ‬ضمنًا،‭ ‬عمليّة‭ ‬طرد‭ ‬الموريسكيين‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬السادس‭ ‬عشر‭. ‬وهو‭ ‬تفسير‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬يصحّ‭ ‬لأنّ‭ ‬دور‭ ‬النشر‭ ‬الإسبانيّة‭ ‬ليست‭ ‬كلّها‭ ‬يمينيّة،‭ ‬وهناك‭ ‬دور‭ ‬النشر‭ ‬التجاريّة‭ ‬غير‭ ‬المؤدلجة،‭ ‬فضلًا‭ ‬عن‭ ‬أنّ‭ ‬اليمين‭ ‬الإسباني‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬لينزعج‭ ‬من‭ ‬أطروحة‭ ‬تقول‭ ‬إنّ‭ ‬إسبانيا‭ ‬لم‭ ‬تخضع‭ ‬عنوةً‭ ‬لاستعمار‭ ‬االجراد‭ ‬الإفريقيب،‭ ‬كما‭ ‬يصف‭ ‬أولاغوي‭ ‬العرب،‭ ‬وبالتالي‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬أبدًا‭ ‬مستعمرة‭ ‬عربيّة‭ ‬بالفعل،‭ ‬وهو‭ ‬وصف‭ ‬لواقع‭ ‬حصل،‭ ‬ولواقع‭ ‬آخر‭ ‬منفصل‭ ‬عنه‭ ‬هو‭ ‬طرد‭ ‬الموريسكيين‭ ‬بعد‭ ‬ثمانية‭ ‬قرون‭ ‬من‭ ‬وقوع‭ ‬الأوّل‭. ‬ردّ‭ ‬بعض‭ ‬المؤرخين‭ ‬العرب‭ ‬على‭ ‬أولاغوي،‭ ‬منهم‭ ‬المؤرّخ‭ ‬المغربي‭ ‬د‭. ‬طارق‭ ‬مراني،‭ ‬ومما‭ ‬ذكره‭ ‬في‭ ‬بحثٍ‭ ‬له‭: ‬اعلى‭ ‬عكس‭ ‬ما‭ ‬يدّعيه‭ ‬أولاغوي،‭ ‬فإنّ‭ ‬الحوادث‭ ‬العامة‭ ‬للفتوحات‭ ‬الإسلاميّة،‭ ‬ومنها‭ ‬فتح‭ ‬الأندلس،‭ ‬لا‭ ‬تترك‭ ‬مجالًا‭ ‬للشك‭. ‬

لكن‭ ‬الاختلاف‭ ‬يبقى‭ ‬فقط‭ ‬في‭ ‬جزئيّات‭ ‬هذا‭ ‬الحادث‭ ‬وفي‭ ‬كرونولوجيّته‭ ‬ومراحله،‭ ‬فهذا‭ ‬الأمر‭ ‬ثابت‭ ‬تاريخيًّا‭ ‬حتى‭ ‬بالنصوص‭ ‬اللاتينيّة‭ ‬القديمة‭ ‬وببقايا‭ ‬النقود‭ ‬العربيّة‭ ‬التي‭ ‬أصدرها‭ ‬موسى‭ ‬بن‭ ‬نصير‭.‬

إنّ‭ ‬التحوّلات‭ ‬السياسيّة‭ ‬والدينيّة‭ ‬التي‭ ‬طرأت‭ ‬في‭ ‬شبه‭ ‬الجزيرة‭ ‬الإيبيريّة،‭ ‬وكانت‭ ‬على‭ ‬درجة‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬الأهميّة،‭ ‬حقيقة‭ ‬ثابتة،‭ ‬لكنّ‭ ‬المصادر‭ ‬العربيّة‭ ‬الراصدة‭ ‬لهذا‭ ‬الحدث‭ ‬متأخرة‭ ‬وذات‭ ‬صدقيّات‭ ‬مختلفة،‭ ‬وفي‭ ‬بعض‭ ‬الأحيان‭ ‬متضاربة،‭ ‬وتعتمد‭ ‬على‭ ‬العجائبي‭.‬

كان‭ ‬عالم‭ ‬دار‭ ‬الإسلام‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬تشكّل‭ ‬واكتمال،‭ ‬وكان‭ ‬الاهتمام‭ ‬منصبًّا‭ ‬أساسًا‭ ‬على‭ ‬الكتابة‭ ‬في‭ ‬المجال‭ ‬الفقهي‭ ‬والديني‭ ‬المحدّد‭ ‬للإطار‭ ‬التشريعي،‭ ‬ولم‭ ‬ينشأ‭ ‬التدوين‭ ‬بطريقة‭ ‬تحليليّة‭ ‬إلّا‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الرابع‭ ‬الهجري‭ ‬أو‭ ‬الحادي‭ ‬عشر‭ ‬الميلادي،‭ ‬إذ‭ ‬بدأ‭ ‬تدوين‭ ‬الروايات‭ ‬الشفهيّة‭ ‬وغير‭ ‬المنتظمة‭ ‬كرونولوجيًّا‭ ‬والمرتبطة‭ ‬بالحوادث‭ ‬الأولى‭ ‬للدولة‭ ‬الإسلاميّة‭.‬

 

مصادر‭ ‬ضعيفة

من‭ ‬المعلوم‭ ‬أنّ‭ ‬تسمية‭ ‬الأندلس‭ ‬استعملت‭ ‬مع‭ ‬الفاتحين‭ ‬المسلمين‭ ‬منذ‭ ‬الأعوام‭ ‬الأولى‭ ‬للفتح‭ ‬92هـ‭/‬711م‭. ‬وعوّض‭ ‬مصطلح‭ ‬هسبانيا‭ ‬على‭ ‬نقود‭ ‬االمرحلة‭ ‬الانتقاليّةب‭ ‬التي‭ ‬سكتّها‭ ‬منذ‭ ‬فترة‭ ‬712‭/‬720‭ ‬السلطات‭ ‬العربيّة‭ ‬وإمارة‭ ‬الخلافة‭ ‬الجديدة‭.‬

هذه‭ ‬النقود‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬البداية،‭ ‬عام‭ ‬92هـ‭/‬711م،‭ ‬باللغة‭ ‬اللاتينيّة،‭ ‬ابتداءً‭ ‬من‭ ‬عام‭ ‬102هـ‭/‬720م‭. ‬ومنذ‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬أصبح‭ ‬مصطلح‭ ‬الأندلس‭ ‬يعني‭ ‬مناطق‭ ‬شبه‭ ‬الجزيرة‭ ‬الإيبيريّة‭ ‬الخاضعة‭ ‬للسيطرة‭ ‬الإسلاميّة‭. ‬

ألا‭ ‬يدلّ‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬افتحب‭ ‬للأندلس؟‭ ‬وهل‭ ‬يسكّ‭ ‬العملة‭ ‬باللغة‭ ‬العربيّة‭ ‬سوى‭ ‬فاتح‭ ‬للبلاد‭ ‬له‭ ‬سلطانه؟‭ ‬وهل‭ ‬كان‭ ‬اللقاء‭ ‬الفكري‭ ‬بين‭ ‬المسلمين‭ ‬وجماعة‭ ‬المسيحيّة‭ ‬الآريوسيّة‭ ‬في‭ ‬إسبانيا‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬سمح‭ ‬لموسى‭ ‬بن‭ ‬نصير‭ ‬بممارسة‭ ‬سلطانه‭ ‬هذا؟

لا‭ ‬شكّ‭ ‬في‭ ‬أنّ‭ ‬ضعف‭ ‬المصادر‭ ‬التاريخيّة‭ ‬المعاصرة‭ ‬للفتح‭ ‬العربي‭ ‬لإسبانيا‭ ‬معطى‭ ‬منهجي‭ ‬معروف،‭ ‬لكن‭ ‬أولاغوي‭ ‬أردف‭ ‬هذه‭ ‬القضيّة‭ ‬إلى‭ ‬مسألة‭ ‬التغيّرات‭ ‬المناخيّة‭ ‬الكبرى‭ (‬تجفيف‭ ‬الأرض‭) ‬غير‭ ‬المؤكّدة‭ ‬علميًا‭. ‬

وأضاف‭ ‬دوام‭ ‬الاعتقادات‭ ‬الأريوسيّة‭ ‬حتى‭ ‬بعد‭ ‬دخول‭ ‬القوط‭ ‬في‭ ‬المذهب‭ ‬الكاثوليكي‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬السابع‭ ‬الميلادي،‭ ‬ليجعل‭ ‬منها‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الحجج‭ ‬الواهية‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬حقيقة‭ ‬تاريخيّة‭ ‬كبرى‭.‬

 

نظريّة‭ ‬هشّة

نفي‭ ‬فتح‭ ‬الأندلس‭ ‬أو‭ ‬نفي‭ ‬غزو‭ ‬إسبانيا‭ ‬نظريّة‭ ‬هشّة‭ ‬غير‭ ‬صحيحة‭ ‬تاريخيًاّ‭ ‬وغير‭ ‬مقنعة،‭ ‬تعسّف‭ ‬صاحبها‭ ‬أي‭ ‬تعسّف‭ ‬في‭ ‬محاولة‭ ‬لإثباتها‭ ‬وهو‭ ‬يرتدي‭ ‬لباس‭ ‬الميدان‭. ‬وهو‭ ‬لباس‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬يليق‭ ‬بمن‭ ‬يتوجّه‭ ‬إلى‭ ‬ساحات‭ ‬الحروب،‭ ‬فلا‭ ‬يليق‭ ‬البتّة‭ ‬بمن‭ ‬يتوجّه‭ ‬إلى‭ ‬وقائع‭ ‬التاريخ‭ ‬قاصدًا‭ ‬استنطاق‭ ‬أحداثه‭ ‬ومساءلتها‭ ‬وتفسيرها‭ ‬وإعطاءها‭ ‬وصفها‭ ‬الصحيح‭.‬

تستلزم‭ ‬كتابة‭ ‬التاريخ‭ ‬تدريب‭ ‬الذهنيّات‭ ‬قبل‭ ‬كلّ‭ ‬شيء،‭ ‬بحيث‭ ‬يكون‭ ‬المؤّرخ‭ ‬مجرّدًا‭ ‬من‭ ‬الأهواء‭ ‬والعصبيّات‭ ‬نزيهًا‭ ‬أقصى‭ ‬حدود‭ ‬النزاهة،‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬التعصّب‭ ‬والعصبيّات،‭ ‬لا‭ ‬يبتغي‭ ‬سوء‭ ‬الحقيقة‭ ‬ولا‭ ‬يلتزم‭ ‬من‭ ‬أساليب‭ ‬الكتابة‭ ‬سوى‭ ‬بالأسلوب‭ ‬العلمي‭. ‬وقد‭ ‬رأينا‭ ‬في‭ ‬النماذج‭ ‬التي‭ ‬نقلناها‭ ‬لأولاغوي‭ ‬عن‭ ‬العرب‭ ‬حديثًا،‭ ‬ساخرًا‭ ‬حينًا،‭ ‬وهاجيًا‭ ‬حينًا‭ ‬آخر،‭ ‬ومتأبطًا‭ ‬مشروعًا‭ ‬لا‭ ‬يحيد‭ ‬عنه،‭ ‬هو‭ ‬نفي‭ ‬ما‭ ‬أجمع‭ ‬الآخرون‭ ‬على‭ ‬حصوله‭. ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬ظاهر‭ ‬الجديد‭ ‬الذي‭ ‬يتبدّى‭ ‬به‭ ‬مشروعه،‭ ‬فإنّه‭ ‬لا‭ ‬يختلف‭ ‬في‭ ‬جوهره،‭ ‬وبخاصة‭ ‬في‭ ‬نظرته‭ ‬إلى‭ ‬العرب‭ ‬والمسلمين،‭ ‬عمّا‭ ‬كتبه‭ ‬المستشرقون‭ ‬ذوو‭ ‬الميول‭ ‬العنصريّة‭.‬

لقد‭ ‬سلب‭ ‬الغرب‭ ‬من‭ ‬العرب‭ ‬الحاضر،‭ ‬لكن‭ ‬أحد‭ ‬باحثيه‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يسلب‭ ‬منهم‭ ‬التاريخ‭ ‬أيضًا،‭ ‬فينتزع‭ ‬منه‭ ‬حقيقة‭ ‬كبرى‭ ‬من‭ ‬حقائقه‭ ‬هي‭ ‬فتح‭ ‬العرب‭ ‬للأندلس‭ .