علوٌ في الحياة وفي الممات عباس محمود العقاد عملاق الفكر

علوٌ في الحياة وفي الممات  عباس محمود العقاد  عملاق الفكر

 

    لا يختلف مثقف أو قارئ واع على قيمة العقاد كاتبًا ومفكرًا وناقدًا وأديبًا لا يُشق له غبار، ولست هنا في مجال تعداد مناقب الرجل – رحمه الله – وإلا سأكون كمن يريد أن يعرّف المعرّف أو من يعيد اختراع العجلة، وإنما دعاني إلى كتابة هذه السطور نبش البعض في سِيَر القامات، والتفتيش عن هناتهم أو زلاتهم، وقد استفزني مقال لكاتب يُدعى شعبان يوسف، بعنوان: «عباس العقاد يهاجم كُتّابًا بالجملة»، وعنوان المقال يفصح منذ الوهلة الأولى عن مضمونه، وخاصة تعميم كاتبه بقوله «بالجملة» فأي جملة يقصد؟ هل يقصد الجملة الاسمية أم الفعلية؟! أم تراها تكون «الجملة» التي هي عكس كلمة (القطاعي) المستخدمة في العامية المصرية؟!

دعنا‭ ‬الآن‭ ‬نتخطى‭ ‬عتبة‭ ‬العنوان‭ ‬بما‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬ارتباك‭ ‬يثير‭ ‬شفقة‭ ‬القارئ‭ ‬إلى‭ ‬ارتباك‭ ‬المقال‭ ‬ذاته‭ ‬ذ‭ ‬وعلى‭ ‬القارئ‭ ‬الكريم‭ ‬أن‭ ‬يتحلى‭ ‬معي‭ ‬بالصبر‭ ‬ذ‭ ‬فقد‭ ‬بدأه‭ ‬كاتبه‭ ‬مقررًا‭ ‬أن‭ ‬العقاد‭ ‬كان‭ ‬‮«‬ظاهرة‭ ‬مثيرة‭ ‬للجدل،‭ ‬إذ‭ ‬إنه‭ ‬كان‭ ‬ناقدًا‭ ‬ومفكرًا‭ ‬ثائرًا‭ ‬على‭ ‬كافة‭ ‬الأوضاع‭ ‬الأدبية‭ ‬السائدة‭ ‬وشارك‭ ‬مع‭ ‬زميله‭ ‬المازني‭ ‬في‭ ‬إنشاء‭ ‬كتاب‭ ‬الديوان‭ ‬الذي‭ ‬أصبح‭ ‬مدرسة‭ ‬يقتدي‭ ‬بمبادئها‭ ‬شعراء‭ ‬وناقدون‭ ‬كثيرون‭ (‬الحمد‭ ‬لله‭)‬‮»‬،‭ ‬ويستمر‭ ‬الكاتب‭ ‬في‭ ‬ذكر‭ ‬محاسن‭ ‬كتاب‭ ‬الديوان‭ ‬ومبادئه‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬للدرجة‭ ‬التي‭ ‬راح‭ ‬كثيرون‭ ‬يتحدثون‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬المبادئ‭ ‬باعتبارها‭ ‬نظرية‭ ‬أدبية‭ ‬وفكرية‭ ‬ذات‭ ‬أركان‭ ‬وأعمدة‭ ‬كبرى‮»‬،‭ ‬ولا‭ ‬يخفى‭ ‬على‭ ‬القارئ‭ ‬الكريم‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬المنطق‭ ‬من‭ ‬تهافت،‭ ‬إذ‭ ‬كيف‭ ‬يكون‭ ‬العقاد‭ ‬‮«‬ظاهرة‭ ‬مثيرة‭ ‬للجدل‮»‬‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يعجب‭ ‬كاتب‭ ‬المقال،‭ ‬وبعد‭ ‬سطرين‭ ‬قصيرين‭ ‬في‭ ‬العمود‭ ‬الأول‭ ‬تصبح‭ ‬‮«‬وبقدرة‭ ‬قادر‮»‬‭ ‬مبادئ‭ ‬كتاب‭ ‬العقاد‭ ‬‮«‬الديوان‮»‬‭ ‬‮«‬نظرية‭ ‬أدبية‭ ‬وفكرية‭ ‬ذات‭ ‬أركان‭ ‬وأعمدة‭ ‬كبرى»؟‭!‬

ويستمر‭ ‬المقال‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الشاكلة‭ ‬وكأنك‭ ‬تسير‭ ‬في‭ ‬طريق‭ ‬غير‭ ‬معبّدة‭ ‬كثيرة‭ ‬الانحناءات‭ ‬والتعاريج‭ ‬ذ‭ ‬ولا‭ ‬عزاء‭ ‬للقارئ‭ ‬الكريم‭ ‬إلا‭ ‬بسمة‭ ‬خفيفة‭ ‬تهدئ‭ ‬من‭ ‬روعه‭ ‬ذ‭ ‬فتارة‭ ‬يتحدث‭ ‬صاحبنا‭ ‬عن‭ ‬تأثير‭ ‬مدرسة‭ ‬الديوان‭ ‬ذ‭ ‬والعقاد‭ ‬عمودها‭ ‬ذ‭ ‬وريادتها‭ ‬مشيدًا‭ ‬بها،‭ ‬وتارة‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬تلك‭ ‬المعارك‭ ‬الأدبية‭ ‬بين‭ ‬العقاد‭ ‬والمازني‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬ذ‭ ‬ولم‭ ‬يذكر‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬شكري‭ ‬معهم‭ ‬أو‭ ‬شوقي‭ ‬والمنفلوطي،‭ ‬ولم‭ ‬يذكر‭ ‬غيرهم‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى،‭ ‬ولكنه‭ ‬يخل‭ ‬بطرفي‭ ‬تلك‭ ‬المعادلة‭ ‬المنقوصة،‭ ‬فلا‭ ‬يذكر‭ ‬إلا‭ ‬مساوئ‭ ‬الجهة‭ ‬الأولى‭ ‬ليصل‭ ‬إلى‭ ‬نتيجة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬مقدمات،‭ ‬مفادها؛‭ ‬أن‭ ‬العقاد‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬التجريح‭ ‬والتعصب،‭ ‬ولعل‭ ‬هذه‭ ‬الجملة‭ ‬هي‭ ‬ما‭ ‬أراد‭ ‬الكاتب‭ ‬أن‭ ‬يصدّرها‭ ‬للقارئ،‭ ‬فما‭ ‬فتئ‭ ‬يلح‭ ‬عليها،‭ ‬ولا‭ ‬أدري،‭ ‬وأعتقد‭ ‬أن‭ ‬القارئ‭ ‬يشاركني‭ ‬ذلك،‭ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬أراده‭ ‬صاحبنا‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬هذا‭ ‬المقال‭ ‬اللهم‭ ‬إلا‭ ‬‮«‬التجريح‭ ‬والتعصب‮»‬‭ ‬اللذين‭ ‬وصم‭ ‬بهما‭ ‬العقاد؟‭! ‬

هذا،‭ ‬ولم‭ ‬يشر‭ ‬الكاتب‭ ‬الهمام‭ ‬إلى‭ ‬الآثار‭ ‬الأدبية‭ ‬الرصينة‭ ‬التي‭ ‬ولدت‭ ‬من‭ ‬رحم‭ ‬تلك‭ ‬الاختلافات‭ ‬وتباين‭ ‬الرؤى،‭ ‬ولا‭ ‬ذلك‭ ‬الرواج‭ ‬الأدبي‭ ‬والثراء‭ ‬الثقافي‭ ‬والفكري‭ ‬الذي‭ ‬شهدته‭ ‬الحركة‭ ‬الأدبية‭ ‬والفكرية‭ ‬والثقافية‭ ‬نتيجة‭ ‬الاختلافات‭ ‬في‭ ‬المناهج‭ ‬والأيديولوجيات؛‭ ‬تلك‭ ‬الاختلافات‭ ‬التي‭ ‬تعد‭ ‬أبرز‭ ‬ما‭ ‬يميز‭ ‬الأمم‭ ‬في‭ ‬عصور‭ ‬فتوتها‭ ‬الفكرية‭ ‬ونهضتها‭ ‬العلمية‭ ‬والثقافية‭ ‬والأدبية‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬سواء‭. ‬

وليت‭ ‬أمثال‭ ‬تلك‭ ‬الرياح‭ ‬تهب‭ ‬على‭ ‬حياتنا‭ ‬الفكرية‭ ‬والأدبية‭ ‬فتحرك‭ ‬ما‭ ‬أسِنَ‭ ‬من‭ ‬مائها،‭ ‬وترتقي‭ ‬بالذائقة‭ ‬الأدبية‭ ‬كما‭ ‬ارتقت‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬فيتغير‭ ‬معها‭ ‬حالنا‭ ‬الثقافي‭ ‬والفكري‭! ‬وليت‭ ‬الحركة‭ ‬الثقافية‭ ‬العربية‭ ‬تشهد‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬السجالات‭ ‬الأدبية‭ ‬على‭ ‬صفحات‭ ‬دورياتها‭ ‬وعلى‭ ‬شاشات‭ ‬تلفزتها‭ ‬بدلًا‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الخواء‭ ‬الثقافي‭ ‬وذلك‭ ‬‮«‬الردح‭ ‬الإعلامي‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬يصيب‭ ‬صاحب‭ ‬الفطرة‭ ‬السليمة‭ ‬بالغثيان‭! ‬وفات‭ ‬الكاتبَ‭ ‬الهمام‭ ‬هذا‭ ‬الغثاءُ‭ ‬الطافح‭ ‬فطفق‭ ‬يعيب‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬الثرية‭ ‬ورموزها،‭ ‬ويفتش‭ ‬عن‭ ‬حديث‭ ‬صحافي‭ ‬نشرته‭ ‬مجلة‭ ‬روزاليوسف‭ ‬سنة‭ ‬1956‭ (‬سنة‭ ‬العدوان‭ ‬الثلاثي‭ ‬الغاشم‭ ‬على‭ ‬مصر‭)‬،‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭ ‬‮«‬العقاد‭ ‬يشتم‭ ‬كل‭ ‬الناس‭ ‬دون‭ ‬سابق‭ ‬معرفة‮»‬،‭ ‬وأخذ‭ ‬الكاتب‭ ‬يسرد‭ ‬ما‭ ‬ذكرته‭ ‬محررة‭ ‬ذلك‭ ‬الحديث‭ ‬مما‭ ‬عدّه‭ ‬الكاتب‭ ‬من‭ ‬الطرائف،‭ ‬وما‭ ‬أحسبه‭ ‬إلا‭ ‬تطاولًا‭ ‬ممجوجًا‭. ‬

ثم‭ ‬يورد‭ ‬ما‭ ‬قاله‭ ‬العقاد‭ ‬عن‭ ‬إحسان‭ ‬عبدالقدوس‭ ‬وأحمد‭ ‬بهاء‭ ‬وأنيس‭ ‬منصور‭ ‬وغيرهم‭ ‬وردودهم‭ ‬على‭ ‬العقاد،‭ ‬وكأن‭ ‬المقال‭ ‬مَعنيّ‭ ‬في‭ ‬المقام‭ ‬الأول‭ ‬بتتبع‭ ‬هنّات‭ ‬الناس‭ ‬وسقطات‭ ‬ألسنتهم،‭ ‬هذا‭ ‬على‭ ‬فرض‭ ‬أن‭ ‬صاحبة‭ ‬هذا‭ ‬الحديث‭ ‬بعيدة‭ ‬عن‭ ‬الأغراض‭ ‬والهوى،‭ ‬ونائيةٌ‭ ‬عن‭ ‬الرغبة‭ ‬في‭ ‬إثارة‭ ‬القلاقل‭ ‬والشغب‭ ‬الإعلامي‭ ‬لدفع‭ ‬القارئ‭ ‬لشراء‭ ‬مجلتها‭. ‬وهذا،‭ ‬على‭ ‬فرض‭ ‬تسليمنا‭ ‬بصحة‭ ‬ما‭ ‬ذكرته‭ ‬وصدقها‭ ‬فيه‭. ‬

وإذا‭ ‬كان‭ ‬هؤلاء‭ ‬الكتاب‭ ‬قد‭ ‬ذموا‭ ‬العقاد‭ ‬فهناك‭ ‬أضعافهم‭ ‬قد‭ ‬امتدحوه،‭ ‬وأحيل‭ ‬الكاتب‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬كتبه‭ ‬زكي‭ ‬نجيب‭ ‬محمود‭ ‬في‭ ‬الفصل‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬مع‭ ‬الشعراء‮»‬‭ ‬وما‭ ‬ذكره‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬عن‭ ‬شعر‭ ‬العقاد‭ ‬وأورده‭ ‬د‭. ‬الشيخ‭ ‬سيدي‭ ‬عبدالله‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭: ‬‮«‬إمارة‭ ‬الشعر‭ ‬وإكراهات‭ ‬القصيدة‭ ‬العربية‮»‬،‭ ‬وغيرهما‭ ‬كثير،‭ ‬بل‭ ‬أحيل‭ ‬الكاتب‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬قاله‭ ‬وكتبه‭ ‬أستاذنا‭ ‬المرحوم‭ ‬أبوهمام‭ ‬عبداللطيف‭ ‬عبدالحليم‭ ‬ذ‭ ‬طيب‭ ‬الله‭ ‬ثراه‭ ‬ذ‭ ‬عن‭ ‬العقاد،‭ ‬وكان‭ ‬قد‭ ‬تتلمذ‭ ‬على‭ ‬يديه‭ ‬أربع‭ ‬سنوات،‭ ‬على‭ ‬المستويين‭ ‬الإنساني‭ ‬الشخصي‭ ‬والأكاديمي‭ ‬العلمي،‭ ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬أبوهمام‭ ‬حيًا‭ ‬لشج‭ ‬رأس‭ ‬كاتب‭ ‬هذا‭ ‬المقال‭ ‬بعصا‭ ‬أدبه‭!‬

 

علو‭ ‬الهمة

لقد‭ ‬سمعت‭ ‬أبا‭ ‬همام‭ ‬يحكي‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬محاضراته‭ ‬عن‭ ‬عفة‭ ‬يد‭ ‬العقاد‭ ‬وعلو‭ ‬همته‭ ‬من‭ ‬أنه‭ ‬مات‭ ‬ولم‭ ‬يترك‭ ‬من‭ ‬حطام‭ ‬الدنيا‭ ‬إلا‭ ‬جنيهات‭ ‬لم‭ ‬تبلغ‭ ‬العشرين‭ ‬على‭ ‬حين‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬بيوت‭ ‬مفتوحة‭ ‬من‭ ‬جيبه‭ ‬الخاص‭!‬

وليت‭ ‬التناقض‭ ‬وتهافت‭ ‬المنطق‭ ‬وقف‭ ‬عند‭ ‬حد‭ ‬اتهام‭ ‬كاتب‭ ‬المقال‭ ‬العقادَ‭ ‬بالتعصب،‭ ‬بل‭ ‬ذهب‭ ‬لأبعد‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬مثل‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬دفع‭ ‬العقاد‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬هو‭ ‬عدم‭ ‬قدرته‭ ‬على‭ ‬الاقتناع‭ ‬بالأفكار‭ ‬الجديدة‭ ‬التي‭ ‬ظهرت‭ ‬على‭ ‬الساحة‭ ‬الثقافية‭ ‬والسياسية‭ ‬والفكرية‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬والعالم‭ ‬العربي‭ ‬على‭ ‬السواء،‭ ‬وعدم‭ ‬قدرته‭ ‬على‭ ‬مناقشتها‭ ‬أو‭ ‬تقديم‭ ‬أدلة‭ ‬مقنعة‭ ‬على‭ ‬خطئها‭ ‬‮«‬فراح‭ ‬يناصبها‭ ‬العداء‭ ‬بشدة‭...‬‮»‬‭ ‬العقاد‭ ‬لم‭ ‬يستطع‭ ‬مناقشة‭ ‬الأفكار‭ ‬الجديدة‭ ‬منذ‭ ‬عقد‭ ‬الأربعينيات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬فراح‭ ‬يناصبها‭ ‬العداء‭! ‬ونسي‭ ‬كاتب‭ ‬المقال‭ ‬ما‭ ‬قاله‭ ‬قبل‭ ‬أسطر‭ ‬قليلة‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬العقاد‭ ‬‮«‬قد‭ ‬استطاع‭ ‬أن‭ ‬يهز‭ ‬عرش‭ ‬دولتي‭ ‬شوقي‭ ‬والمنفلوطي،‭ ‬وذلك‭ ‬بالنقد‭ ‬والمنطق‭ ‬والأدلة‭ ‬والشواهد‮»‬،‭ ‬ذلك‭ ‬المنطق‭ ‬الذي‭ ‬تخلى‭ ‬عن‭ ‬كاتب‭ ‬المقال‭ ‬من‭ ‬بداية‭ ‬مقاله‭ ‬إلى‭ ‬نهايته،‭ ‬وتلك‭ ‬الأدلة‭ ‬والشواهد‭ ‬التي‭ ‬ناصبته‭ ‬العداء‭ ‬على‭ ‬طول‭ ‬سطوره‭ ‬وثقلها‭ ‬وغثاثتها‭! ‬

والعجيب‭ ‬بعد‭ ‬هذا‭ ‬كله‭ ‬أن‭ ‬صاحبنا‭ ‬قد‭ ‬توصل‭ ‬إلى‭ ‬الحكم‭ ‬ببساطة‭ ‬كما‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬والأمر‭ ‬ببساطة‭ ‬يتلخص‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬الأرض‭ ‬بدأت‭ ‬تنسحب‭ ‬من‭ ‬تحت‭ ‬قدمي‭ ‬العقاد،‭ ‬وبدأت‭ ‬أسماء‭ ‬أخرى‭ ‬تظهر‭ ‬وتلمع‭ ‬وتضيء‭ ‬وتشكل‭ ‬خطرًا‭ ‬على‭ ‬العقاد‭ ‬وأبناء‭ ‬جيله،‭ ‬فأصابه‭ ‬ذلك‭ ‬بالذهول‭ ‬والاندهاش،‭ ‬كما‭ ‬أصاب‭ ‬غيره،‭ ‬فراح‭ ‬يلعن‭ ‬ويسب‭ ‬الجميع‭ ‬بطريقة‭ ‬لا‭ ‬تليق‭ ‬بطود‭ ‬شامخ‭ ‬مثله،‭ ‬قدّم‭ ‬للثقافة‭ ‬العربية‭ ‬مؤلفات‭ ‬فكرية‭ ‬مرموقة‭! (‬يا‭ ‬مثبت‭ ‬العقل‭ ‬في‭ ‬الدماغ‭ ‬يا‭ ‬رب‭)‬،‭ ‬إن‭ ‬القارئ‭ ‬لم‭ ‬يدرِ‭ ‬ذ‭ ‬حتى‭ ‬اللحظة‭ ‬ذ‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬النقد‭ ‬موجهًا‭ ‬للعقاد‭ ‬شخصًا‭ ‬أم‭ ‬للعقاد‭ ‬مفكرًا‭ ‬وكاتبًا‭ ‬وناقدًا‭ ‬وشاعرًا؟‭! ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يدري‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬صاحبنا‭ ‬مادحًا‭ ‬العقاد‭ ‬ونتاجه‭ ‬أم‭ ‬ساخطًا‭ ‬ناقمًا‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬ذلك؟‭! ‬خاصة‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬ذكره‭ ‬الكاتب‭ ‬في‭ ‬مقاله‭ ‬من‭ ‬سباب‭ ‬موجّه‭ ‬للعقاد‭ ‬على‭ ‬ألسنة‭ ‬بعض‭ ‬الكتاب‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬التجاوز‭ ‬والتطاول‭ ‬والتجريح‭ ‬ما‭ ‬يفوق‭ ‬بمراحل‭ ‬ما‭ ‬أورده‭ ‬الكاتب‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬العقاد،‭ ‬من‭ ‬مثل‭: ‬‮«‬طفل‭ ‬قاصر‭ ‬ومجنون‭ ‬وعضاض‭! ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬لم‭ ‬يعب‭ ‬عليهم‭ ‬ما‭ ‬قالوه‭! ‬هل‭ ‬أراد‭ ‬الكاتب‭ ‬ظهورًا‭ ‬وإثبات‭ ‬حضور‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬الليث‭ ‬الجسور،‭ ‬وقد‭ ‬غيّبه‭ ‬الثرى‭ ‬وظلمات‭ ‬القبور؟‭! 

ويختم‭ ‬الكاتب‭ ‬مقاله‭ ‬بمثل‭ ‬ما‭ ‬بدأ‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الارتباك‭ ‬وتهافت‭ ‬المنطق‭ ‬واعوجاج‭ ‬الحجة‭ ‬فيقول‭: ‬‮«‬هكذا‭ ‬صار‭ ‬العقاد‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬حياته‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬كان‭ ‬جبارًا‭ ‬وكانت‭ ‬مقالاته‭ ‬وكتاباته‭ ‬تهز‭ ‬أركان‭ ‬الحياة‭ ‬السياسية‭ ‬والثقافية‭ ‬والفكرية‮»‬‭.  

ليس‭ ‬هكذا‭ ‬يا‭ ‬سيدي‭ ‬تورد‭ ‬الإبل‭ ‬‮«‬إننا‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬فاصلة‭ ‬من‭ ‬حياة‭ ‬الأمة‭ ‬نحتاج‭ ‬فيها‭ ‬للعودة‭ ‬إلى‭ ‬تراثنا‭ ‬الثري‭ ‬ننهل‭ ‬من‭ ‬فيضه‭ ‬ونحترم‭ ‬رموزه،‭ ‬نوجه‭ ‬لهم‭ ‬سهام‭ ‬النقد‭ ‬عندما‭ ‬نمتلك‭ ‬أدواته،‭ ‬فنقر‭ ‬منها‭ ‬بالصحيح‭ ‬ونفند‭ ‬بالحجة‭ ‬المحكمة‭ ‬ما‭ ‬نراه‭ ‬غير‭ ‬ذلك،‭ ‬‮«‬وكل‭ ‬يؤخذ‭ ‬منه‭ ‬ويرد‭ ‬إلا‭ ‬صاحب‭ ‬هذا‭ ‬القبر‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‮»‬‭ ‬كما‭ ‬قال‭ ‬الإمام‭ ‬مالك‭ ‬رحمه‭ ‬الله‭. ‬

وما‭ ‬كان‭ ‬العقاد‭ ‬ليغضب‭ ‬لو‭ ‬أن‭ ‬نقدًا‭ ‬وجه‭ ‬إلى‭ ‬منهجه‭ ‬في‭ ‬التأليف‭ ‬أو‭ ‬أسلوبه‭ ‬في‭ ‬الكتابة،‭ ‬لكن‭ ‬أن‭ ‬نصل‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬المستوى‭ ‬ذ‭ ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬حكاية‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬الغير‭ ‬ذ‭ ‬فهذا‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يرضاه‭ ‬منصف،‭ ‬ولا‭ ‬يقبله‭ ‬موضوعي،‭ ‬فلماذا‭ ‬ننكأ‭ ‬جراحًا‭ ‬التأمت؟‭ ‬ونجدد‭ ‬ثارات‭ ‬وئدت؟

ومن‭ ‬ذا‭ ‬الذي‭ ‬ترضى‭ ‬سجاياه‭ ‬كلها

كفى‭ ‬بالمرء‭ ‬نبلًا‭ ‬أن‭ ‬تعد‭ ‬معايبه

وكان‭ ‬الأحرى‭ ‬بكاتب‭ ‬هذا‭ ‬المقال‭ ‬أن‭ ‬يقرأ‭ ‬كتابًا‭ ‬للعقاد‭ ‬من‭ ‬كتبه‭ ‬التي‭ ‬تخطت‭ ‬حاجز‭ ‬المئة‭ ‬أو‭ ‬مقالًا‭ ‬من‭ ‬مقالاته‭ ‬التي‭ ‬تجاوزت‭ ‬الخمس‭ ‬عشرة‭ ‬ألف‭ ‬مقالة،‭ ‬موجها‭ ‬سهام‭ ‬نقده‭ ‬الموضوعي‭ - ‬إن‭ ‬كان‭ ‬يملك‭ ‬أدواته‭ - ‬بأسلوب‭ ‬علمي‭ ‬ومنهجية‭ ‬معتبرة،‭ ‬لافتًا‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬فكرة‭ ‬جديدة‭ ‬أو‭ ‬جانب‭ ‬غفل‭ ‬عنه‭ ‬غيره‭ ‬في‭ ‬أدب‭ ‬هؤلاء‭ ‬الأشاوس،‭ ‬إفادة‭ ‬للقارئ‭ ‬وإحياء‭ ‬لإرثنا‭ ‬العربي‭ ‬أمام‭ ‬القراء‭ ‬والنشء،‭ ‬خاصة‭ ‬أن‭ ‬العقاد‭ ‬يعد‭ ‬رمزا‭ ‬يضرب‭ ‬به‭ ‬المثل‭ ‬في‭ ‬طلب‭ ‬العلم‭ ‬بصبر‭ ‬نفتقده‭ ‬الآن‭ ‬ومثابرة‭ ‬قلّ‭ ‬من‭ ‬يقدر‭ ‬عليها‭ ‬وحب‭ ‬للقراءة‭ ‬والاطلاع‭ ‬منقطع‭ ‬النظير‭ ‬كي‭ ‬يقتدي‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬اصطفاهم‭ ‬الله‭ ‬لحمل‭ ‬لواء‭ ‬الفكر‭ ‬والثقافة‭ ‬في‭ ‬عالمنا‭ ‬العربي‭ ‬ليخرج‭ ‬جيل‭ ‬قارئ‭ ‬ناقد‭ ‬مهذب‭ ‬في‭ ‬نقده‭.‬

وللعقاد‭ ‬أقول‭: ‬‮«‬نم‭ ‬قرير‭ ‬العين‭ ‬طيب‭ ‬الله‭ ‬ثراك،‭ ‬وجزاك‭ ‬الله‭ ‬عن‭ ‬الإسلام‭ ‬والعربية‭ ‬خير‭ ‬جزاء‭ ‬قدر‭ ‬ما‭ ‬كشفت‭ ‬عن‭ ‬وضاءة‭ ‬منهجه،‭ ‬وسماحة‭ ‬شريعته،‭ ‬وصفاء‭ ‬عقيدته،‭ ‬وجمال‭ ‬لغته،‭ ‬وسنظل‭ ‬نرتقب‭ (‬عقادين‭ ‬جدداً‭) ‬يحيون‭ ‬لغتنا‭ ‬العربية‭ ‬وينافحون‭ ‬عن‭ ‬دينهم‭ ‬بشموخ‭ ‬وإباء‭ ‬وأنفة‭ ‬وكبرياء‭ ‬