التعايش... أسلوب حياة

التعايش... أسلوب حياة

لم يعُد مفهوم التعايش، الذي نفهمه سابقًا كنوع من التقارب السلمي بين مكونات مختلفة داخل الوطن الواحد، يصلح للاستخدام في عالم بات اليوم أكثر تداخلًا في تعاملاته وتشابكًا في مصالحه، وتواصلاً في اتصالاته، ذلك التبدُّل اللافت في أحوال البشر جعل عالمنا أكثر تأثرًا وتفاعلًا من أي وقت مضى، لدرجة أننا عندما نعود إلى الوراء عشر سنين، نشعر بأن الثورة التواصلية حينها أكثر «سلحفاتية» عندما نقارنها بـ «التواصل الضوئي» الحاصل بين حسابات وسائل التواصل الاجتماعي.
ذلك النوع من التواصل الذي وصفته بالتواصل الضوئي، مكّن نشطاء العالم في مختلف المجالات، وخاصة نشطاء حماية البيئة من تنظيم فعاليات عابرة للقارات تقام في وقت واحد للضغط على قادة العالم لاتخاذ قرارات تسهم في خفض حرارة كوكب الأرض.

ذلك النوع من التضامن الأممي فيما يخصّ نشطاء البيئة، يمثّل الجانب الإيجابي لحالة التقارب بين المكونات الفاعلة والإيجابية على مستوى العالم، لكن في المقابل فتحت ثورة الاتصالات الرقمية، التي تنقل كل ما يجري في العالم في التو واللحظة، أبوابًا لا حصر لها لتلاقي الأفكار والخطابات المتشددة وتناطحها مع نظيراتها بصورة جعلت الحدث يقع في مكان وردّ الفعل الفوري ينتقل إلى مكان آخر، ترافقه في بعض الأحيان أعمال عنف وشغب تغذّت من خلاف تم استيراده رقميًّا من بلد آخر.
هذه الظاهرة السلبية من سماتــــها الأخبار المفبركة والصور المزيّفة أو القديمة التي وقعت بالفعل، ولكن فـي زمان ومكـــان مختلفين ولأسباب لا علاقة لها بالحدث الطازج، لكن وهنا إحدى المعضلات اليومــية التي سهّلت الثورة الرقمــيـة انتقالها لنطاقات غيــــر محدودة، إذ أصبــح توظيـــف المـــواد الإعلاميــة المستهلكـــة أمرًا معتادًا في الأحداث الآنيـــة لخلـــق وتسييــر موجة رأي عام تسير في اتجاه قضية لم توجد أصلًا، ورغم تكرار مثل هذه الأفخاخ، لا يزال كثير من المتلقين يقعون في حفرتها. 
لقد أصبح مفهوم العالم قرية صغيرة أكثر واقعيّة على ضوء هذا التفاعل بين الناس حول العالم، ومن هنا نطرح هذا السؤال: هل نحن بحاجة إلى التعايش مع الآخر لدوافع مصلحيّة؟ أو يجب أن يكون العيش المشترك أسلوب حياة طبيعية من دون تصنّع أو خوف من سلطة القانون إن وجد؟
إن المصالح بطبيعتها متغيّرة، والدول المتقدمة والنامية على السواء، لديها حاجات متبادلة؛ فالأولى بحاجة إلى الأسواق لتصريف منتجاتــها والأيدي العاملة الرخيصــة لتعظيـــم أرباحها، أما الدول النامية فهي بحاجـــة إلــى العُملة الصعبة والمساعدات التي تخفف من وطأة أوضاعها الاقتصادية الصعبة، لكن هل بالضرورة أن تكـــون العـــداوة هـــي سمة العلاقــــة بين تلك الدول بعد نهاية تلك العلاقة المصلحية؟ ألا توجد هناك مساحة منطقة تبريد تدخل فيها العلاقات المنتهية في سبات حتى تنهض من جديد على وقع مصلحة جديدة؟
هذا النوع من العلاقات بين الدول يخدم مجالات محددة، لكنّه لا يؤسس لعلاقات متينة بين شعوبها، فيما عدا اجتهادات النّخب الواعية التي تستغل حالة الانفتاح المؤقت في التواصل مع أقرانها بالدول الأخرى، وسط ترحيب دوائر صنع القرار التي يسعدها تعزيز مفهوم الشراكة المصلحية من زوايا مختلفة لا تؤثر في مسار العلاقة الرئيسية.
إذًا لم يعد هناك خيار يحقق التقارب الإيجابي الذي يضمن العيش المشترك بين الشعوب، سوى أن يكون ذلك العيش أسلوب حياة طبيعية، وهو أمر ليس بالهيّن، ولا يمكن تحقيقه خلال جيل واحد أو أكثر، لأسباب كثيرة يمكن تناول أبرزها عبر النقاط التالية: أوّلها توافر عامل الثقة الذي ينظر له على أنه سلاح جبّار مهمته إذابة قرون من الصراعات الدينية والمذهبية والعرقية وغيرها، وأطنان من الموروثات المكتوبة والشفهية التي تراكمت في الذاكرة الجمعية.

التغيير تصنعه الإرادة 
تلك الثقة لا تأتي من الفراغ، بل إنها تحتاج إلى قواعد صلبة يمكن البناء عليها لسنوات طويلة لا يصنعها غير القادة العظام الذين يمتلكون إرادة حقيقية للبدء بسلسلة من التحولات العميقة في العلاقة مع الآخر، ومؤسسات مهمتها تعـــزيـــز سبل العيش المشترك وتبيان إيجابيات الحياة التي تخلو من الحروب والمشاحنات السرمدية، وفي المقابل يجب أن تتوافر المسببات نفسها في الضفة الأخرى.
وأخطر ما يتهدد مثل هذه المشاريع الكبيرة هو الانتكاسات التي تهدم ما تم تشييده، لأن مثل تلك الإصلاحات تواجه في مراحلها الأولى قوى ترفض التغيير وتريد الإبقاء على الأوضاع على حالها، وحتى الدول التي تجاوزت الكثير من صراعاتها واختلافاتها، مثل الدول الأوربية، تعاني تصاعد النزعات القومية والعنصرية التي أصبحت ورقة رابحة في الانتخابات، وهو ما يعني أن الطريق نحو تحقيق العيش المشترك طويل جدًا.
ويمكن تقسيم حالة الشد والجذب بين الدول إلى قسمين رئيسين، دول متجاورة تعيش فوق مناطق شهدت على مرّ الزمن تبدلات في الحدود ومناطق النفوذ، ودول متباعدة ساهمت الهجرات من ناحية في استنساخ صراعاتها بأماكن جديدة، والسياسة الخارجية من ناحية أخرى، وساهمت الحروب العالمية والنزاعات الإقليمية التي تتدخل فيها دول كثيرة في رسم خريطة الصراعات على مستوى العالم، بعد أن كانت محصورة بين القارات الثلاث المتجاورة؛ آسيا وأوربا وإفريقيا.
الأمر الذي يبعث على التفاؤل، هو أن التجارب الناجحة في التقارب والتعايش السلمي تنتقل هي الأخرى إلى مناطق أبعد سئمت العيش في دائرة القلق وأوهام إبادة المختلفين والمخالفين، وتريد البدء بحياة جديدة على أرضية من نقاط التلاقي واستبعاد نقاط الخلاف، وهذا الأمر ليس تنظيرًا إذا وجدت صورة الحياة الجديدة فرصة للظهور، كما أن توافر الرغبات المشتركة للعيش المشترك يفتح المجال للحلول الذكية التي تضمن لجميع الأطراف الشعور بأن حقوقها لن تُهضم وهوّيتها لن تذوب.

العرب ومصالحهم المشتركة
يمتلك العرب رصيدًا زاخرًا من الفرص التي تمكّنهم من نسج علاقات متينة حول العالم، استنادًا إلى التاريخ والجغرافيا واللغة والثقافة والدين والموارد ولغة المصالح المشتركة.
وفي نظرة سريعة لما حولنا، سنجد أن دول العالم الإسلامي، ومن بينها دول ناهضة اقتصاديًّا، مثل ماليزيا، مشرعة الأبواب لدخولنا في عالمها الواسع، الدول الآسيوية - وخاصة الصين - تعتبر مناطق تخلو من التوتر التاريخي بيننا وبينهم، لا بل إن جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة، التي يشكّل المسلمون غالبيتها، تعتبر مناطق واعدة اقتصاديًّا.
قارة أمريكا الجنوبية التي تعتبر بعيدة جدًا عن العالم العربي، لعب المهاجرون العرب فيها دورًا أساسيًّا في جعلها بيئة صديقة للعرب، نظرًا لاندماجهم العميق في حياة دول تلك القارة، وحضورهم هناك ليس هامشيًّا، فقد نجحوا في الاقتصاد وفي السياسة وتولّي أعلى المناصب، بما فيها رئاسة الجمهورية في أكثر من بلد.
ويكفي أن نعرف أن تأثر اللغة الإسبانية بالوجود العربي والإسلامي في إسبانيا انتقل هو الآخر على يد الإسبان الذين فتحوا القارة اللاتينية، وفي بلد مثل تشيلي، على سبيل الخصوص، تركّزت الهجرة الفلسطينية بصورة كبيرة، ونجح الفلسطينيون من تحقيق مكانة مرموقة كمواطنين تشيليين من أصول عربية، من هنا ليس من المستغرب أن تتخذ مجموعة من دول القارة اللاتينية مواقف مؤيدة لقضية العرب الأولى، القضية الفلسطينية. 
وفيما يخص علاقــة دول القـارة الأوربيــــة التــــي يوجد بيننا وبينهم تاريخ طــويل مليء بمحطــات الصراع كالحروب الصليبيـــة والاحتلال ونهب الموارد، فقد تبدّل كثير من الأوضاع، لتحلّ علاقات الصداقة مكان التاريخ المثخن بالدماء والمآسي، وأصبحت أوربا بالنســـبة إلى كثير من الشباب العربي مكانًا مطلوبًا للعمل والتعليم والهجرة واللجوء السياسي، وتكونت مع الزمن، منذ أيام الاحتلال، جاليات عربية أصبحت أوربا موطنها الرئيسي.
وبالرغم من كل ذلك الرصيد العربي في قارات العالـــم المختلفــــة، فقد كان الاستثمار فيه أقلّ من الطموح، كما لم تتحسن كثــــيرًا صورة العربي والمسلم في المخيّلة النمطـــية التي نجح الإعلام الغربي في صنعـهـــا، كما لــــم تنجح تلك العلاقات المتشابكة مع العالم الحديث في تطوّر مفهوم العيش المشترك مع الآخرين.
 
الحوار بديلًا عن التصادم 
لا توجد - برأيي المتواضع - بداية مثالية لفهم للآخر سوى بالاقتراب منه لمعرفة مفرداته وطريقة تفكيره وتفسيره لكل شيء، ذلك الاقتراب لا يعني الاحتكاك المباشر، رغم أهميته، لكن مجرّد التوقف عن الاستغراب أو الاستهجان للشكل الخارجي أو سلوك معيّن، والبدء بطرح سؤال بسيط هو «لماذا؟»، سيمهّد الطريق لفهم كثير من الأمور التي نكرهها بلا سبب.
إن محركات البحث التي لا تستخدم كثيرًا لمثل هذه الأمور قادرة على استدعاء كل تفاصيل الآخر وطرق عيشه وملبسه ومأكله وموسيقاه، وتساهم القراءة في فك كثير من الرموز، خاصة الروايات التي تعبّر عن الحياة في البلدان الأخرى، وإذا تم تطوير النظم التعليمية لكي تقدّم نماذج حياة الشعوب الأخرى وحجم المؤثرات المتبادلة بيننا وبينهم، أصبح التقارب معهم أكثر سهولة ويسرًا.
في الختام، إننا فـــي كــــل علاقاتـــنا الإنســــانية نرى الآخرين من الخارج بداية الأمر، ثم ما نلبث أن نراهم من الداخل، ومع مرور الوقت نعتاد كل ما يأتينا منهم، لأنهم وُجدوا هكذا، واختاروا أن يكونوا هكذا، وكلما اتّسعت دائرة العلاقات اتسعت دائرة الفهم والاستيعاب، وهو ما سنعلّمه لأطفالنا الذين سيجدون في المنزل عالمًا فسيحًا مهما صغُرت مساحته .