محمد مستجاب الصعيدي الذي لم يغادر بوابة «العربي»

محمد مستجاب  الصعيدي الذي لم يغادر بوابة «العربي»

برحيل الكاتب المصري محمد مستجاب عن سن الخامسة والستين عامًا، فقدت الساحة الأدبية بالعالم العربي أحد ركائزها المائزين. ذلك لأن مستجابًا، ونحن نستعيد ذكراه،  لم يكن مجرد كاتب ضمن طابور  الكتبة المتشابهين، وإنما كان، على عصاميته وربما بسبب هذه العصامية، كاتبًا نباش قيعان، تواقًا إلى جواهر الأشياء والمعاني غير قانع بالقشور والأصداف. فكما أبدع الراحل في القصة القصيرة أبدع أيضًا في المقالة والعمود الصحفي. وتكفي الإشارة إلى كون «مستجابياته» حول «صعود آل مستجاب وأفولهم» تمثل إحدى غرر  الفن القصصي الراقي الذي تتصادى فيه الصنعة الفنية بالموقف الفكري. ولعل قراء كثرا ما عرفوا محمد مستجاب من خلال مؤلفاته القليلة، وإنما  عبر عموده الشهير «بوابة جبر الخاطر» الذي دأب على كتابته ضمن صحيفة «أخبار الأدب» المصرية منذ أول عدد لها. كما عرفوه، أكثر، في ركنه الشهري «نبش الغراب» بمجلة العربي الكويتية، فضلاً عن مطالعة بعض قصصه في هذا المنبر أو ذاك.

رغم‭ ‬المجد‭ ‬الأدبي‭ ‬الذي‭ ‬حازه‭ ‬الفقيد،‭ ‬وباستحقاق،‭ ‬فإنه‭ ‬ظل‭ ‬وفيًا‭ ‬للتقاليد‭ ‬الصعيدية‭ ‬في‭ ‬الملبس‭ ‬والمأكل‭ ‬وقوة‭ ‬العريكة‭. ‬فجائزة‭ ‬الدولة‭ ‬التقديرية‭ ‬التي‭ ‬سعت‭ ‬إليه‭ ‬لم‭ ‬تفلح‭ ‬في‭ ‬جره‭ ‬إلى‭ ‬قطيع‭ ‬المتزلفين،‭ ‬وأضواء‭ ‬‮«‬قاهرة‭ ‬المعز‮»‬‭ ‬لم‭ ‬تنجح‭ ‬في‭ ‬إقناعه‭ ‬بنزع‭ ‬عباءته‭ ‬البسيطة‭ ‬وعناده‭ ‬القوي‭. ‬

لقد‭ ‬ظل‭ ‬متمسكًا‭ ‬بأخلاق‭ ‬الصحراء‭ (‬وفق‭ ‬المعنى‭ ‬النبيل‭ ‬للكلمة‭) ‬ودروسها‭. ‬وبدل‭ ‬أن‭ ‬يغدو‭ ‬عموده‭ ‬الأسبوعي‭ ‬والشهري‭ ‬أداة‭ ‬للمهادنة‭ ‬وجبر‭ ‬الخواطر‭ ‬المكسورة‭ ‬كانت‭ ‬له‭ ‬فيه‭ ‬مآرب‭ ‬أخرى،‭ ‬قوامها‭ ‬التصدي‭ ‬للمسلكيات‭ ‬الطارئة‭ ‬والادعاءات‭ ‬الزائفة‭. ‬وإلى‭ ‬جانب‭ ‬تشجيعه‭ ‬للشباب‭ ‬الواعد‭ ‬من‭ ‬الكتاب‭ ‬كان‭ ‬يتصدى،‭ ‬وبشراسة،‭ ‬للانتهازيين‭ ‬وقناصي‭ ‬المناسبات‭ ‬مهما‭ ‬علا‭ ‬شأنهم‭. ‬وكم‭ ‬خاض‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الفسحة‭ ‬الصغيرة‭ ‬من‭ ‬معارك‭ ‬كبيرة‭ ‬وضارية‭. ‬وأحيانًا‭ ‬حتى‭ ‬مع‭ ‬أعز‭ ‬أصدقائه‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬يحس‭ ‬أن‭ ‬هؤلاء‭ ‬كانوا‭ ‬يرتكبون‭ ‬باسم‭ ‬هذه‭ ‬الصداقة‭ ‬تجاوزات‭ ‬بحقه‭ ‬لا‭ ‬ينبغي‭ ‬السكوت‭ ‬عنها‭ ‬بأي‭ ‬حال‭. ‬ولا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬القرّاء‭ ‬يذكرون‭ ‬استشكاله‭ ‬في‭ ‬شأن‭ ‬ديك‭ ‬له‭ ‬يدعى‭ ‬‮«‬زهر‭ ‬الفول‮»‬‭ ‬رأى‭ ‬أن‭ ‬مواطنه‭ ‬الروائي‭ ‬فؤاد‭ ‬قنديل‭ ‬قد‭ ‬سطا‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬أعماله‭. ‬

وبقدر‭ ‬ما‭ ‬بدا‭ ‬الأمر‭ ‬مضحكًا‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬يطرح‭ ‬قضية‭ ‬أدبية‭ ‬وأخلاقية‭ ‬في‭ ‬غاية‭ ‬الخطورة‭. ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬أنني‭ - ‬شخصيًا‭ - ‬وفي‭ ‬غمرة‭ ‬انشغالي‭ ‬الأكاديمي‭ ‬بالتداخل‭ ‬النصي‭ ‬والتناص‭ ‬والتلاص‭ ‬وهلم‭ ‬تفاعلا،‭ ‬دخلت‭ ‬على‭ ‬الخط‭ ‬بغية‭ ‬فك‭ ‬الارتباط‭ ‬بين‭ ‬مستجاب‭ ‬وقنديل،‭ ‬داعيًا‭ ‬الكاتبين‭ ‬إلى‭ ‬قليل‭ ‬من‭ ‬الحكمة‭. ‬سيما‭ ‬وأنه‭ ‬من‭ ‬المخزي‭ ‬أن‭ ‬يشعل‭ ‬الأخوان‭ ‬العدوان‭ ‬نار‭ ‬الفتنة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬ديك‭ ‬بئيس،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬لصوصًا‭ ‬كبارًا‭ ‬ما‭ ‬انفكوا‭ ‬يسرقون‭ ‬الأرزاق‭ ‬والأوطان‭ ‬أمام‭ ‬الأنظار‭ ‬والأسماع‭ ‬ولا‭ ‬من‭ ‬احتج‭ ‬أو‭ ‬تكلم‭. ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬قصدي‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬من‭ ‬ذاك‭ ‬الكلام‭ ‬إطفاء‭ ‬الحريق،‭ ‬بل‭ ‬النفخ‭ ‬في‭ ‬الشرر‭ ‬واستدراج‭ ‬مستجاب‭ ‬إلى‭ ‬حيث‭ ‬يعرف‭ ‬كيف‭ ‬يستعرض‭ ‬أسلحته‭. ‬

بيد‭ ‬أن‭ ‬الرجل‭ ‬الصعيدي‭ ‬ما‭ ‬علق‭ ‬على‭ ‬رأيي‭ ‬حتى‭. ‬لربما‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يرى‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬قلته‭ ‬ما‭ ‬يستحق‭ ‬منه‭ ‬التفاتة،‭ ‬ولربما‭ ‬كان‭ ‬كلامي‭ ‬قد‭ ‬أفحمه‭. ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬فإن‭ ‬تعظيمي‭ ‬لهذا‭ ‬الرجل،‭ ‬الذي‭  ‬خيب‭ ‬ظني‭ ‬في‭ ‬كونه‭ ‬لم‭ ‬يمنحني،‭ ‬حينها،‭ ‬فرصة‭ ‬للسجال،‭ ‬ما‭ ‬فتئ‭ ‬يتعاظم‭ ‬مع‭ ‬الأيام‭ ‬حتى‭ ‬صدمني،‭ ‬خبر‭ ‬نعيه‭ ‬الفاجع‭ ‬سنة‭ ‬2005‭. ‬

بيد‭ ‬أن‭ ‬عزائي‭ ‬تمثل‭ ‬في‭ ‬أمرين‭ ‬مهمين‭: ‬تجلى‭ ‬الأول‭ ‬في‭ ‬استمرار‭ ‬وفاء‭ ‬مجلة‭ ‬العربي‭ ‬لذكراه،‭ ‬وفي‭ ‬ذلك‭ ‬صون‭ ‬لجزء‭ ‬من‭ ‬ذاكرتها‭ ‬العطرة‭. ‬وتجلى‭ ‬الثاني‭ ‬في‭ ‬استمرار‭ ‬كينونة‭ ‬هذا‭ ‬الصعيدي‭ ‬الراحل‭ ‬في‭ ‬ابنه‭ ‬الكاتب‭ ‬محمد‭ ‬محمد‭ ‬مستجاب،‭ ‬بل‭ ‬واستمرار‭ ‬التواصل‭ ‬الوثيق‭ ‬بين‭ ‬هذا‭ ‬الأخير‭ ‬ومجلة‭ ‬العربي‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الثقافي‭ ‬والإنساني،‭ ‬في‭ ‬عشرة‭ ‬وجدانية‭ ‬نادرة‭.‬

قد‭ ‬يتجاوز‭ ‬حكمي‭ ‬على‭ ‬تجربة‭ ‬محمد‭ ‬مستجاب‭ - ‬التي‭ ‬لا‭ ‬أزعم‭ ‬مواكبتها‭ ‬الدقيقة‭ - ‬لتقصير‭ ‬شخصي‭ ‬مني،‭ ‬مادامت‭ ‬كتاباته‭ ‬تشكل‭ ‬قيمة‭ ‬في‭ ‬حد‭ ‬ذاتها‭ ‬لما‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬عمق‭ ‬وتميز‭ ‬سواء‭ ‬بصدقها‭ ‬الجارح‭ ‬أو‭ ‬بسخريتها‭ ‬النفاذة‭. ‬

فهو‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬يكتب‭ ‬بسلاسة‭ ‬كما‭ ‬يتكلم‭ - ‬حسب‭ ‬رأي‭ ‬الدكتور‭ ‬سليمان‭ ‬العسكري‭ ‬في‭ ‬تقديم‭ ‬‮«‬نبش‭ ‬الغراب‭ ‬في‭ ‬واحة‭ ‬العربي‮»‬‭ (‬الصادر‭ ‬في‭ ‬ثلاثة‭ ‬أجزاء‭) ‬‭- ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬يرتكن‭ ‬إلى‭ ‬الارتجالية‭ ‬والخاطر،‭ ‬وكان‭ ‬مدققًا‭ ‬على‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬صعيد‭. ‬وقبل‭ ‬الإقدام‭ ‬على‭ ‬موضوع‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬يتردد‭ ‬في‭ ‬استشارة‭  ‬المعاجم‭ ‬والمراجع‭ ‬والموسوعات‭ ‬والحصول‭ ‬على‭ ‬المعارف‭ ‬من‭ ‬مظانها‭ ‬الموثوقة‭. ‬وإلى‭ ‬جانب‭ ‬المتعة‭ ‬التي‭ ‬يجنيها‭ ‬القارئ‭ ‬من‭ ‬كتابات‭ ‬مستجاب‭ ‬المفعمة‭ ‬بخفة‭ ‬الدم‭ ‬والدعابة‭ ‬والمفارقة،‭ ‬هناك‭ ‬دومًا‭ ‬حيز‭ ‬وافر‭ ‬للفائدة‭ ‬العلمية‭ ‬والفكرية‭ ‬واللغوية‭. ‬ليس‭ ‬هذا‭ ‬وحسب‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬الفقيد‭ ‬كان‭ ‬معينًا‭ ‬لا‭ ‬ينضب‭ ‬من‭ ‬الحكم‭ ‬والأمثال‭ ‬والشذرات‭ ‬والمغازي‭ ‬البليغة‭  ‬والآسرة‭ ‬‭>‬