نسائم الحرية في فبراير
قليل من يعرف فضل شهر «فبراير»! إنّه بلا شك شهر مبارك، ففي فبراير في العام الثاني الهجري (624م)، صارت الكعبة المشرفة قبلة للمسلمين، وانتصر المسلمون في موقعة بدر، وفُرض الصيام وزكاة الفطر.
وفي فبراير من العام العاشر الهجري (631م)، خرج الرسول ﷺ لحـــجة الوداع. وفي هذا الشهر أجلى العرب الفرس من العراق عام 16هـ/637م.
وفي فبراير عام 17هـ/638م، اكتمل وضع التقويم بالتاريخ «القمري»، واتفق على أن يبدأ بهجرة الرسول ﷺ من مكة إلى المدينة.
وتمضي السنون والعقود والقرون، ليأتي فبراير كعادته محملاً بالبركة والخير والسعادة والإجلال، ففيه تحررت الكويت بكرامة من الاحتلال، وانتصر الحقّ وهُزم الباطل وانكسرت الأغلال. كلّ الشرفاء في العالم وقــفوا مع الحـــقّ الكويتي وفــرحوا بها ولها، أمٌ خُطِفَت ورجعت إلـى أبنائها، فلا تدري أيهما أكبر وأعظم في الهناء، باختلاف الآراء، سعادة الأم أم فرحة الأبناء؟
دُحِر العدو الغاشم المستبد الظالم، وتنفسنا نسيم الحرية بعد سبعة شهور عجاف من الخوف والرعب والظلم والظلام، خُتمت بحرق آبار النفط وتلوث الأرض والهواء والماء.
دُحِرَ العدو بعد أن فاض الحنين للأم والأب والأخ والأخت والزوج والأبناء وذوي القربى والأصدقاء، وزاد الحنين إلى العمل بعد انقطاع الأمل، وبعد أن سالت دماء الشهداء الأبرياء ودموع الآباء والأبناء، أتى فبراير ليمسح بنسائمه الباردة حرّ الغضب وضيق الصدر ووحشة الشوق وحزن الفراق، ويبدلنا بالأمل خيراً من ألم يأس النفس بالأمس.
تطوف بي الذكريات فأرى أبناء الكويت يشتغلون بكل شيء للحفاظ على استمرارية العيش ومن أجل البقاء. قاموا بالعصيان المدني فتوقفت كل مؤسسات الدولة عن العمل، ولكنهم من جهة أخرى عملوا خبازين وبائعين جوالين وسباكين وكهربائيين وعُمّال نظافة. استطاعوا أن يؤكدوا ما قاله أبو القاسم الشابي:
إذا الشعب يوماً أراد الحياة
فلا بد أن يستجيب القدر
الكويت وطن النهار
ويظل يوم التحرير يوماً محفوراً في الذاكرة، فكانت السحب السوداء من جراء حرق آبار النفط عالقة في الهواء، تحجب عنا رؤية الشمس والسماء، أيام لا نهار فيها، ليل يغشاه ليل آخر، حتى أتانا يوم التحرير، يوم النور، فغدت أيامنا كلها أنوار، وصارت الكويت وطن النهار.
في السادس والعشرين من شهر فبراير عام 1991م، خرجنا من بيوتنا فرحين نتفقد الأهل والأصحاب والأحباب، بوجوه مسفرة ضاحكة مستبشرة، ندعو ونصلي ونرقص ونغني. وقوافل من الخليج تحيينا ونحييها، رجال حملوا على عاتقهم مسؤولية تحرير الكويت، من السعودية وعمان والإمارات والبحرين وقطر، إنهم حقاً «درع الجزيرة»، نسأل الله ألا يفرّق شملهم.
ولن أنسى قوات الدول العربية المشاركة في تحرير الكويت وعلى رأسها مصر الحبيبة، مصر التي آلت على نفسها حماية حمى العروبة وفداءها بأبنائها البررة وبالمال والسلاح.
وعلى مستوى الأمم، كانت دول العالم المتحضرة قد استنكرت هذا الغزو الرجعي المقيت، فتحالفت الدول العظمى، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة البريطانية، لتحرير الكويت وجمع شمل الشعب بقيادته السياسية.
عرفنا بحق حلاوة الحرية بعد مرارة القمع، ألا لا أرجع الله أياماً يسود بها الطغيان. تعلمنا كيف نجني من بذور الحبّ ثماراً، ونشارك قوُتنا، صغاراً وكباراً، وآمنا أنّ كل درهم عطاء يعود بالخير علينا قنطاراً، وكل دمعة حرّى من عين مظلوم يرسل الله عليها من السماء ماء مدراراً. تعلمنا وتربينا على فعل الخير حباً وسروراً، لا نريد مقابله جزاء من الناس أو شكوراً.
سبعة وعشرون عاماً مضت، كأنها الأمس، أم تراني أحسب أنّ أعوام السرور دقائق وأيامه كادت تكون ثواني، فأرى جيلاً يافعاً من الشباب ولد في تلك الأيام، ولم يدرِ أو يعلم عن مجريات حوادث يوم ميلاده. هل سنكتب له التاريخ؟ وهل هو قادر على أن يقرأه؟ هذا جيل لا يكتب بقلم على ورقة، ولا يجيد صوغ عبارات بلغة، ولا يستطيع التعبير عن نفسه، إلا من وراء حجاب أو قناع. ليس العيب فيه! إنما العيب الذي نخاله عيباً جاء من التشرذم والتفكك المجتمعي من جراء التكنولوجيا الحديثة التي قطعت الأرحام باسم التواصل الاجتماعي، إنها وحدة الانشغال بالذات.
الرويْبِضةُ فضاء المعرفة
إنّ التغيّر السريع، والأسرع في تاريخ البشرية، بدأ مع بداية الألفية الثالثة، حين تجلى بالطفرة العلمية العالمية على مستوى الاختراعات الآلية، متمثلة بتطور الأجهزة الإلكترونية وبرامجها، وانعكس هذا التطور على وسائل الإعلام ومن ثم وسائل التواصل الاجتماعي. وأصبحت الهواتف النقالة «صنابير»، ما إن تفتحها حتى يتدفق عليك سيْل، ولا تدري من أين جاءك هذا السيل، فلا هو صادر من مصدر نقي ومعروف بالصدق، ولا هو نابع من منبع موثوق بالحق.
اختلطت الأمور على الناس، لتصبح المعرفة حشواً، فينشر التافهون غثهم ظنّاً منهم بأنه أدب وثقافة، ويصورون سماجاتهم وسخفهم وكأنها إنجاز وحصافة، ليزدحم فضاء العلم بالترهات والخرافات، ويضيق بك العالم، فلا تدري هل أنتَ فيه أم كل هذا العالم صار بين يديك وهو فيك.
وأجزم أن اليوم قد استولى على فضاء المعرفة الرويْبِضةُ، حين صارت القراءة سَلْقاً والأدبُ حَلْقاً والعلم طرْقاً، لا لغة ولا مرجع ولا معلم، وعندما تبحث عن نِقاش لا تجد إلا جدلاً، وصار الكلّ يجادل بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير. والمُتلقي يُؤخَذُ ويُجْذَبُ بالإبهار، نبتة أو غذاء لعلاج مرض عضال! تأويل مريض لآية أو حديث! عرض تاريخي مشوه بالدسائس والأكاذيب! أدعية... وأدعية... وأدعية! سبّ وشتائم وقذف وذم وعتاب! فضائح بأثواب نصائح وكذب وخداع! وعرض صور وأفلام لحرمات الناس وكل الفواحش والآثام! ومساطر وأعمدة من الكلمات مرذولة أو مقبولة، وكلها منقولة أو منحولة! حتى ضجت النفوس وضاقت، من إدمانها الألم... واتسخ السمع والبصر والفؤاد من تقيؤات وحشرجات مدمني وسائل التواصل الاجتماعي، الذين جعلوا من حساباتهم وصفحاتهم أنابيب «صرف صحي»، ليستخدموا حسابات غيرهم «مراحيض»، فانتشرت الأمراض والأوبئة، وعاثت الفيروسات والميكروبات تنشر أمراضاً، في أجهزتنا خراباً وفي عقولنا دماراً.
تراجع علمنا وقل عملنا، على جميع المستويات، الذات والأسرة والمجتمع والدولة، تركنا الكتاب وانشغلنا عن تربية الأبناء، وأهملنا الدار والجار، وجاهرنا بالخصومة، وتكاسلنا في العمل، حتى صار الموظف يقضي نصف وقته في العمل مهملاً، ليتابع ما ينثر عليه جهازه من تقيؤات، فيضيع الوقت ويمضي الزمن دون نتيجة أو إنتاج.
أما الأطفال، فقد استغنوا عن اللُّعَبِ واللَّعِب، وسماع القصص والحكايات، وما عاد الأب أو الأم أو الجدّة والجدّ يسامرهم أو يحكي لهم قصص ما قبل النوم، الكلّ لاهٍ بمشاهدة جهازه الذي بين يديه. وتعلم الأطفال العنْفَ والشتْمَ والكسل والإهمال، وتمردوا على ذويهم، الذين عدموا كفاءة التربية أو فهموا خطأً معنى «حقوق الطفل».
لا ننكر فضل هذه التقنية الحديثة، ولكننا ضد استخداماتها الخاطئة، التي كثرت جماهيرها. قُطعان تقودها ذئاب، ترفع شعارات حقّ يراد به باطل، باسم «الحرية» و«الإصلاح» و«محاربة الفساد» و«الخبز» و«الغلاء»، وغير ذلك من الحثّ على مسيرات ومظاهرات وعصيان وانقلابات وثورات، كلها ترفع شعارات محاربة الظلم والفقر والجوع والكرامة! وما إن تصل إلى مرادها، لا نرى إلا رجعية وقتلاً وفوضى ودماراً في النفوس والأخلاق ثم في الزرع والحرث والمال، لينتشر فساد آخر، وبصورة أعنف.
جيل الإنترنت
ولعل التغير الأسرع، لدرجة أنّ من ولد في القرن الماضي لن يستطيع أبدا مواكبته أو فهمه، هو اندماج الواقع الافتراضي بالواقع الحقيقي.
لقد بدأت هذه التقنية منذ عشر سنوات أو تزيد قليل، من خلال الأفلام السينمائية رباعية الأبعاد، التي يحتاج فيها المرء إلى اعتمار خوذة أو قناع بنظارة خاصة للعرض والمشاهدة في آن واحد.
وتأتي الاختراعات تباعاً لدعم هذه التقنية لما لها من سيطرة على عقل ووقت وميول الإنسان، ليضع المنتجون عام -2020 2030م كبداية للنقلة النوعية في الحضارة الإنسانية.
سيكون ذلك من خلال الجيل الجديد للشبكة العنكبوتية (إنترنت)، حيث سيتم سن جميع القوانين والتشريعات التي تتحكم بحركة التواصل بين الناس، بعضهم البعض، وبين الناس ووسائل التكنولوجيا المختلفة، كوسائل النقل والترفيه والصحة والتعليم والخدمات الأخرى، من خلال برتوكول 6 IPV، رقم الهوية السري، وهو الذي جاء تحديثاً لبرنامج V 4 ثم 5 V. ومهمة هذا البرتوكول هي تنظيم العلاقة الإنسانية بين الناس بعضهم البعض، وبين الحواسيب في العالم، تلك الحواسيب التي لن تخلو منها آلة مستقبلية، سواء سيارات أو طائرات أو سفن أو أدوات وأجهزة إلكترونية وكهربائية.
من أجل ذلك صارت تسمية هذا النظام الجديد IOT بمعنى Internet of Things أي شبكة الأشياء. إنّه حقاً تطور عظيم، لكنه سيُفقد الإنسان قدراته على الإبداع، وربما التفكير، فمثلما فقدنا القدرة على الحساب باختراع الآلة الحاسبة، وفقدنا حس التذكر بالاعتماد على الحافظة الرقمية، وفقدنا القدرة على الأحلام بفقدنا للخيال الذي سلبته منا الأفلام، سنفقد قدرة بقية الحواس ونتنازل عن بشريتنا إلى مستوى الآلة، وأخشى أن يكسل العقل الإنساني ليصبح العقل الإلكتروني هو الأفضل. شاع الكسل باسم الرفاهية، حتى صار المرء عندما يسافر ويسكن الفندق يسأل عن wifi قبل أن يسأل عن الغرفة والإطلالة، ومثل ذلك عندما يذهب إلى قهوة أو مطعم. ومثل ذلك، طلاب المدارس الذين هجروا المكتبة بمصادرها العلمية ومراجعها وصاروا ينهلون من Google كل المعارف والعلوم. والأسوأ من ذلك، صارت عملية نقل المعلومة من المرجع «قصّ ولزْق»، حيث لا يكلف الطالب نفسه عناء إضفاء شخصية فكره على الموضوع.
إنّ العالم الافتراضي الذي ننتظره أهمل فرضية أكبر مما يتوقعه المبرمجون وعلماء الحوسبة، وهي نضوب الطاقة، فهل نتدارك هذا الجري الحثيث الذي يفوق طاقة الإنسان على المواكبة؟ أم أننا سوف نجري من غير بصر ولا سمع ولا حواس، وبكل ما أوتينا من سرعة إلى عالم مجهول نتعثر فيه فتُدّق أعناقنا ونُقهر؟
وهل سيأتي اليوم الذي يقول فيه كلّ إنسان: يا ليتني متّ قبل هذا لكي لا أفقد اسمي وهويتي، وأكون رَقَماً في حاسوب الزمن الافتراضي؟■