نسائم الحرية في فبراير

نسائم الحرية في فبراير

قليل‭ ‬من‭ ‬يعرف‭ ‬فضل‭ ‬شهر‭ ‬‮«‬فبراير‮»‬‭! ‬إنّه‭ ‬بلا‭ ‬شك‭ ‬شهر‭ ‬مبارك،‭ ‬ففي‭ ‬فبراير‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬الثاني‭ ‬الهجري‭ (‬624م‭)‬،‭ ‬صارت‭ ‬الكعبة‭ ‬المشرفة‭ ‬قبلة‭ ‬للمسلمين،‭ ‬وانتصر‭ ‬المسلمون‭ ‬في‭ ‬موقعة‭ ‬بدر،‭ ‬وفُرض‭ ‬الصيام‭ ‬وزكاة‭ ‬الفطر‭. ‬

وفي‭ ‬فبراير‭ ‬من‭ ‬العام‭ ‬العاشر‭ ‬الهجري‭ (‬631م‭)‬،‭ ‬خرج‭ ‬الرسول‭ ‬ﷺ‭ ‬لحـــجة‭ ‬الوداع‭. ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬الشهر‭ ‬أجلى‭ ‬العرب‭ ‬الفرس‭ ‬من‭ ‬العراق‭ ‬عام‭ ‬16هـ‭/‬637م‭. ‬

وفي‭ ‬فبراير‭ ‬عام‭ ‬17هـ‭/‬638م،‭ ‬اكتمل‭ ‬وضع‭ ‬التقويم‭ ‬بالتاريخ‭ ‬‮«‬القمري‮»‬،‭ ‬واتفق‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يبدأ‭ ‬بهجرة‭ ‬الرسول‭ ‬‭ﷺ ‬من‭ ‬مكة‭ ‬إلى‭ ‬المدينة‭. ‬

وتمضي‭ ‬السنون‭ ‬والعقود‭ ‬والقرون،‭ ‬ليأتي‭ ‬فبراير‭ ‬كعادته‭ ‬محملاً‭ ‬بالبركة‭ ‬والخير‭ ‬والسعادة‭ ‬والإجلال،‭ ‬ففيه‭ ‬تحررت‭ ‬الكويت‭ ‬بكرامة‭ ‬من‭ ‬الاحتلال،‭ ‬وانتصر‭ ‬الحقّ‭ ‬وهُزم‭ ‬الباطل‭ ‬وانكسرت‭ ‬الأغلال‭. ‬كلّ‭ ‬الشرفاء‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬وقــفوا‭ ‬مع‭ ‬الحـــقّ‭ ‬الكويتي‭ ‬وفــرحوا‭ ‬بها‭ ‬ولها،‭ ‬أمٌ‭ ‬خُطِفَت‭ ‬ورجعت‭ ‬إلـى‭ ‬أبنائها،‭ ‬فلا‭ ‬تدري‭ ‬أيهما‭ ‬أكبر‭ ‬وأعظم‭ ‬في‭ ‬الهناء،‭ ‬باختلاف‭ ‬الآراء،‭ ‬سعادة‭ ‬الأم‭ ‬أم‭ ‬فرحة‭ ‬الأبناء؟

دُحِر‭ ‬العدو‭ ‬الغاشم‭ ‬المستبد‭ ‬الظالم،‭ ‬وتنفسنا‭ ‬نسيم‭ ‬الحرية‭ ‬بعد‭ ‬سبعة‭ ‬شهور‭ ‬عجاف‭ ‬من‭ ‬الخوف‭ ‬والرعب‭ ‬والظلم‭ ‬والظلام،‭ ‬خُتمت‭ ‬بحرق‭ ‬آبار‭ ‬النفط‭ ‬وتلوث‭ ‬الأرض‭ ‬والهواء‭ ‬والماء‭. ‬

دُحِرَ‭ ‬العدو‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬فاض‭ ‬الحنين‭ ‬للأم‭ ‬والأب‭ ‬والأخ‭ ‬والأخت‭ ‬والزوج‭ ‬والأبناء‭ ‬وذوي‭ ‬القربى‭ ‬والأصدقاء،‭ ‬وزاد‭ ‬الحنين‭ ‬إلى‭ ‬العمل‭ ‬بعد‭ ‬انقطاع‭ ‬الأمل،‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬سالت‭ ‬دماء‭ ‬الشهداء‭ ‬الأبرياء‭ ‬ودموع‭ ‬الآباء‭ ‬والأبناء،‭ ‬أتى‭ ‬فبراير‭ ‬ليمسح‭ ‬بنسائمه‭ ‬الباردة‭ ‬حرّ‭ ‬الغضب‭ ‬وضيق‭ ‬الصدر‭ ‬ووحشة‭ ‬الشوق‭ ‬وحزن‭ ‬الفراق،‭ ‬ويبدلنا‭ ‬بالأمل‭ ‬خيراً‭ ‬من‭ ‬ألم‭ ‬يأس‭ ‬النفس‭ ‬بالأمس‭. ‬

تطوف‭ ‬بي‭ ‬الذكريات‭ ‬فأرى‭ ‬أبناء‭ ‬الكويت‭ ‬يشتغلون‭ ‬بكل‭ ‬شيء‭ ‬للحفاظ‭ ‬على‭ ‬استمرارية‭ ‬العيش‭ ‬ومن‭ ‬أجل‭ ‬البقاء‭. ‬قاموا‭ ‬بالعصيان‭ ‬المدني‭ ‬فتوقفت‭ ‬كل‭ ‬مؤسسات‭ ‬الدولة‭ ‬عن‭ ‬العمل،‭ ‬ولكنهم‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭ ‬عملوا‭ ‬خبازين‭ ‬وبائعين‭ ‬جوالين‭ ‬وسباكين‭ ‬وكهربائيين‭ ‬وعُمّال‭ ‬نظافة‭. ‬استطاعوا‭ ‬أن‭ ‬يؤكدوا‭ ‬ما‭ ‬قاله‭ ‬أبو‭ ‬القاسم‭ ‬الشابي‭: ‬

 

إذا‭ ‬الشعب‭ ‬يوماً‭ ‬أراد‭ ‬الحياة

فلا‭ ‬بد‭ ‬أن‭ ‬يستجيب‭ ‬القدر

 

الكويت‭ ‬وطن‭ ‬النهار

ويظل‭ ‬يوم‭ ‬التحرير‭ ‬يوماً‭ ‬محفوراً‭ ‬في‭ ‬الذاكرة،‭ ‬فكانت‭ ‬السحب‭ ‬السوداء‭ ‬من‭ ‬جراء‭ ‬حرق‭ ‬آبار‭ ‬النفط‭ ‬عالقة‭ ‬في‭ ‬الهواء،‭ ‬تحجب‭ ‬عنا‭ ‬رؤية‭ ‬الشمس‭ ‬والسماء،‭ ‬أيام‭ ‬لا‭ ‬نهار‭ ‬فيها،‭ ‬ليل‭ ‬يغشاه‭ ‬ليل‭ ‬آخر،‭ ‬حتى‭ ‬أتانا‭ ‬يوم‭ ‬التحرير،‭ ‬يوم‭ ‬النور،‭ ‬فغدت‭ ‬أيامنا‭ ‬كلها‭ ‬أنوار،‭ ‬وصارت‭ ‬الكويت‭ ‬وطن‭ ‬النهار‭. ‬

في‭ ‬السادس‭ ‬والعشرين‭ ‬من‭ ‬شهر‭ ‬فبراير‭ ‬عام‭ ‬1991م،‭ ‬خرجنا‭ ‬من‭ ‬بيوتنا‭ ‬فرحين‭ ‬نتفقد‭ ‬الأهل‭ ‬والأصحاب‭ ‬والأحباب،‭ ‬بوجوه‭ ‬مسفرة‭ ‬ضاحكة‭ ‬مستبشرة،‭ ‬ندعو‭ ‬ونصلي‭ ‬ونرقص‭ ‬ونغني‭. ‬وقوافل‭ ‬من‭ ‬الخليج‭ ‬تحيينا‭ ‬ونحييها،‭ ‬رجال‭ ‬حملوا‭ ‬على‭ ‬عاتقهم‭ ‬مسؤولية‭ ‬تحرير‭ ‬الكويت،‭ ‬من‭ ‬السعودية‭ ‬وعمان‭ ‬والإمارات‭ ‬والبحرين‭ ‬وقطر،‭ ‬إنهم‭ ‬حقاً‭ ‬‮«‬درع‭ ‬الجزيرة‮»‬،‭ ‬نسأل‭ ‬الله‭ ‬ألا‭ ‬يفرّق‭ ‬شملهم‭. ‬

ولن‭ ‬أنسى‭ ‬قوات‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬المشاركة‭ ‬في‭ ‬تحرير‭ ‬الكويت‭ ‬وعلى‭ ‬رأسها‭ ‬مصر‭ ‬الحبيبة،‭ ‬مصر‭ ‬التي‭ ‬آلت‭ ‬على‭ ‬نفسها‭ ‬حماية‭ ‬حمى‭ ‬العروبة‭ ‬وفداءها‭ ‬بأبنائها‭ ‬البررة‭ ‬وبالمال‭ ‬والسلاح‭. ‬

وعلى‭ ‬مستوى‭ ‬الأمم،‭ ‬كانت‭ ‬دول‭ ‬العالم‭ ‬المتحضرة‭ ‬قد‭ ‬استنكرت‭ ‬هذا‭ ‬الغزو‭ ‬الرجعي‭ ‬المقيت،‭ ‬فتحالفت‭ ‬الدول‭ ‬العظمى،‭ ‬وعلى‭ ‬رأسها‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭ ‬والمملكة‭ ‬المتحدة‭ ‬البريطانية،‭ ‬لتحرير‭ ‬الكويت‭ ‬وجمع‭ ‬شمل‭ ‬الشعب‭ ‬بقيادته‭ ‬السياسية‭. ‬

عرفنا‭ ‬بحق‭ ‬حلاوة‭ ‬الحرية‭ ‬بعد‭ ‬مرارة‭ ‬القمع،‭ ‬ألا‭ ‬لا‭ ‬أرجع‭ ‬الله‭ ‬أياماً‭ ‬يسود‭ ‬بها‭ ‬الطغيان‭. ‬تعلمنا‭ ‬كيف‭ ‬نجني‭ ‬من‭ ‬بذور‭ ‬الحبّ‭ ‬ثماراً،‭ ‬ونشارك‭ ‬قوُتنا،‭ ‬صغاراً‭ ‬وكباراً،‭ ‬وآمنا‭ ‬أنّ‭ ‬كل‭ ‬درهم‭ ‬عطاء‭ ‬يعود‭ ‬بالخير‭ ‬علينا‭ ‬قنطاراً،‭ ‬وكل‭ ‬دمعة‭ ‬حرّى‭ ‬من‭ ‬عين‭ ‬مظلوم‭ ‬يرسل‭ ‬الله‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬السماء‭ ‬ماء‭ ‬مدراراً‭. ‬تعلمنا‭ ‬وتربينا‭ ‬على‭ ‬فعل‭ ‬الخير‭ ‬حباً‭ ‬وسروراً،‭ ‬لا‭ ‬نريد‭ ‬مقابله‭ ‬جزاء‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬أو‭ ‬شكوراً‭.‬

سبعة‭ ‬وعشرون‭ ‬عاماً‭ ‬مضت،‭ ‬كأنها‭ ‬الأمس،‭ ‬أم‭ ‬تراني‭ ‬أحسب‭ ‬أنّ‭ ‬أعوام‭ ‬السرور‭ ‬دقائق‭ ‬وأيامه‭ ‬كادت‭ ‬تكون‭ ‬ثواني،‭ ‬فأرى‭ ‬جيلاً‭ ‬يافعاً‭ ‬من‭ ‬الشباب‭ ‬ولد‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الأيام،‭ ‬ولم‭ ‬يدرِ‭ ‬أو‭ ‬يعلم‭ ‬عن‭ ‬مجريات‭ ‬حوادث‭ ‬يوم‭ ‬ميلاده‭. ‬هل‭ ‬سنكتب‭ ‬له‭ ‬التاريخ؟‭ ‬وهل‭ ‬هو‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يقرأه؟‭ ‬هذا‭ ‬جيل‭ ‬لا‭ ‬يكتب‭ ‬بقلم‭ ‬على‭ ‬ورقة،‭ ‬ولا‭ ‬يجيد‭ ‬صوغ‭ ‬عبارات‭ ‬بلغة،‭ ‬ولا‭ ‬يستطيع‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬نفسه،‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬حجاب‭ ‬أو‭ ‬قناع‭. ‬ليس‭ ‬العيب‭ ‬فيه‭! ‬إنما‭ ‬العيب‭ ‬الذي‭ ‬نخاله‭ ‬عيباً‭ ‬جاء‭ ‬من‭ ‬التشرذم‭ ‬والتفكك‭ ‬المجتمعي‭ ‬من‭ ‬جراء‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬الحديثة‭ ‬التي‭ ‬قطعت‭ ‬الأرحام‭ ‬باسم‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬إنها‭ ‬وحدة‭ ‬الانشغال‭ ‬بالذات‭.‬

 

الرويْبِضةُ‭ ‬فضاء‭ ‬المعرفة‭ ‬

إنّ‭ ‬التغيّر‭ ‬السريع،‭ ‬والأسرع‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬البشرية،‭ ‬بدأ‭ ‬مع‭ ‬بداية‭ ‬الألفية‭ ‬الثالثة،‭ ‬حين‭ ‬تجلى‭ ‬بالطفرة‭ ‬العلمية‭ ‬العالمية‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الاختراعات‭ ‬الآلية،‭ ‬متمثلة‭ ‬بتطور‭ ‬الأجهزة‭ ‬الإلكترونية‭ ‬وبرامجها،‭ ‬وانعكس‭ ‬هذا‭ ‬التطور‭ ‬على‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬وسائل‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭. ‬وأصبحت‭ ‬الهواتف‭ ‬النقالة‭ ‬‮«‬صنابير‮»‬،‭ ‬ما‭ ‬إن‭ ‬تفتحها‭ ‬حتى‭ ‬يتدفق‭ ‬عليك‭ ‬سيْل،‭ ‬ولا‭ ‬تدري‭ ‬من‭ ‬أين‭ ‬جاءك‭ ‬هذا‭ ‬السيل،‭ ‬فلا‭ ‬هو‭ ‬صادر‭ ‬من‭ ‬مصدر‭ ‬نقي‭ ‬ومعروف‭ ‬بالصدق،‭ ‬ولا‭ ‬هو‭ ‬نابع‭ ‬من‭ ‬منبع‭ ‬موثوق‭ ‬بالحق‭. ‬

اختلطت‭ ‬الأمور‭ ‬على‭ ‬الناس،‭ ‬لتصبح‭ ‬المعرفة‭ ‬حشواً،‭ ‬فينشر‭ ‬التافهون‭ ‬غثهم‭ ‬ظنّاً‭ ‬منهم‭ ‬بأنه‭ ‬أدب‭ ‬وثقافة،‭ ‬ويصورون‭ ‬سماجاتهم‭ ‬وسخفهم‭ ‬وكأنها‭ ‬إنجاز‭ ‬وحصافة،‭ ‬ليزدحم‭ ‬فضاء‭ ‬العلم‭ ‬بالترهات‭ ‬والخرافات،‭ ‬ويضيق‭ ‬بك‭ ‬العالم،‭ ‬فلا‭ ‬تدري‭ ‬هل‭ ‬أنتَ‭ ‬فيه‭ ‬أم‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬صار‭ ‬بين‭ ‬يديك‭ ‬وهو‭ ‬فيك‭.‬

‭ ‬وأجزم‭ ‬أن‭ ‬اليوم‭ ‬قد‭ ‬استولى‭ ‬على‭ ‬فضاء‭ ‬المعرفة‭ ‬الرويْبِضةُ،‭ ‬حين‭ ‬صارت‭ ‬القراءة‭ ‬سَلْقاً‭ ‬والأدبُ‭ ‬حَلْقاً‭ ‬والعلم‭ ‬طرْقاً،‭ ‬لا‭ ‬لغة‭ ‬ولا‭ ‬مرجع‭ ‬ولا‭ ‬معلم،‭ ‬وعندما‭ ‬تبحث‭ ‬عن‭ ‬نِقاش‭ ‬لا‭ ‬تجد‭ ‬إلا‭ ‬جدلاً،‭ ‬وصار‭ ‬الكلّ‭ ‬يجادل‭ ‬بغير‭ ‬علم‭ ‬ولا‭ ‬هدى‭ ‬ولا‭ ‬كتاب‭ ‬منير‭. ‬والمُتلقي‭ ‬يُؤخَذُ‭ ‬ويُجْذَبُ‭ ‬بالإبهار،‭ ‬نبتة‭ ‬أو‭ ‬غذاء‭ ‬لعلاج‭ ‬مرض‭ ‬عضال‭! ‬تأويل‭ ‬مريض‭ ‬لآية‭ ‬أو‭ ‬حديث‭! ‬عرض‭ ‬تاريخي‭ ‬مشوه‭ ‬بالدسائس‭ ‬والأكاذيب‭! ‬أدعية‭... ‬وأدعية‭... ‬وأدعية‭! ‬سبّ‭ ‬وشتائم‭ ‬وقذف‭ ‬وذم‭ ‬وعتاب‭! ‬فضائح‭ ‬بأثواب‭ ‬نصائح‭ ‬وكذب‭ ‬وخداع‭! ‬وعرض‭ ‬صور‭ ‬وأفلام‭ ‬لحرمات‭ ‬الناس‭ ‬وكل‭ ‬الفواحش‭ ‬والآثام‭! ‬ومساطر‭ ‬وأعمدة‭ ‬من‭ ‬الكلمات‭ ‬مرذولة‭ ‬أو‭ ‬مقبولة،‭ ‬وكلها‭ ‬منقولة‭ ‬أو‭ ‬منحولة‭! ‬حتى‭ ‬ضجت‭ ‬النفوس‭ ‬وضاقت،‭ ‬من‭ ‬إدمانها‭ ‬الألم‭... ‬واتسخ‭ ‬السمع‭ ‬والبصر‭ ‬والفؤاد‭ ‬من‭ ‬تقيؤات‭ ‬وحشرجات‭ ‬مدمني‭ ‬وسائل‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬الذين‭ ‬جعلوا‭ ‬من‭ ‬حساباتهم‭ ‬وصفحاتهم‭ ‬أنابيب‭ ‬‮«‬صرف‭ ‬صحي‮»‬،‭ ‬ليستخدموا‭ ‬حسابات‭ ‬غيرهم‭ ‬‮«‬مراحيض‮»‬،‭ ‬فانتشرت‭ ‬الأمراض‭ ‬والأوبئة،‭ ‬وعاثت‭ ‬الفيروسات‭ ‬والميكروبات‭ ‬تنشر‭ ‬أمراضاً،‭ ‬في‭ ‬أجهزتنا‭ ‬خراباً‭ ‬وفي‭ ‬عقولنا‭ ‬دماراً‭. ‬

تراجع‭ ‬علمنا‭ ‬وقل‭ ‬عملنا،‭ ‬على‭ ‬جميع‭ ‬المستويات،‭ ‬الذات‭ ‬والأسرة‭ ‬والمجتمع‭ ‬والدولة،‭ ‬تركنا‭ ‬الكتاب‭ ‬وانشغلنا‭ ‬عن‭ ‬تربية‭ ‬الأبناء،‭ ‬وأهملنا‭ ‬الدار‭ ‬والجار،‭ ‬وجاهرنا‭ ‬بالخصومة،‭ ‬وتكاسلنا‭ ‬في‭ ‬العمل،‭ ‬حتى‭ ‬صار‭ ‬الموظف‭ ‬يقضي‭ ‬نصف‭ ‬وقته‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬مهملاً،‭ ‬ليتابع‭ ‬ما‭ ‬ينثر‭ ‬عليه‭ ‬جهازه‭ ‬من‭ ‬تقيؤات،‭ ‬فيضيع‭ ‬الوقت‭ ‬ويمضي‭ ‬الزمن‭ ‬دون‭ ‬نتيجة‭ ‬أو‭ ‬إنتاج‭. ‬

أما‭ ‬الأطفال،‭ ‬فقد‭ ‬استغنوا‭ ‬عن‭ ‬اللُّعَبِ‭ ‬واللَّعِب،‭ ‬وسماع‭ ‬القصص‭ ‬والحكايات،‭ ‬وما‭ ‬عاد‭ ‬الأب‭ ‬أو‭ ‬الأم‭ ‬أو‭ ‬الجدّة‭ ‬والجدّ‭ ‬يسامرهم‭ ‬أو‭ ‬يحكي‭ ‬لهم‭ ‬قصص‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬النوم،‭ ‬الكلّ‭ ‬لاهٍ‭ ‬بمشاهدة‭ ‬جهازه‭ ‬الذي‭ ‬بين‭ ‬يديه‭. ‬وتعلم‭ ‬الأطفال‭ ‬العنْفَ‭ ‬والشتْمَ‭ ‬والكسل‭ ‬والإهمال،‭ ‬وتمردوا‭ ‬على‭ ‬ذويهم،‭ ‬الذين‭ ‬عدموا‭ ‬كفاءة‭ ‬التربية‭ ‬أو‭ ‬فهموا‭ ‬خطأً‭ ‬معنى‭ ‬‮«‬حقوق‭ ‬الطفل‮»‬‭. ‬

لا‭ ‬ننكر‭ ‬فضل‭ ‬هذه‭ ‬التقنية‭ ‬الحديثة،‭ ‬ولكننا‭ ‬ضد‭ ‬استخداماتها‭ ‬الخاطئة،‭ ‬التي‭ ‬كثرت‭ ‬جماهيرها‭. ‬قُطعان‭ ‬تقودها‭ ‬ذئاب،‭ ‬ترفع‭ ‬شعارات‭ ‬حقّ‭ ‬يراد‭ ‬به‭ ‬باطل،‭ ‬باسم‭ ‬‮«‬الحرية‮»‬‭ ‬و«الإصلاح‮»‬‭ ‬و«محاربة‭ ‬الفساد‮»‬‭ ‬و«الخبز‮»‬‭ ‬و«الغلاء‮»‬،‭ ‬وغير‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬الحثّ‭ ‬على‭ ‬مسيرات‭ ‬ومظاهرات‭ ‬وعصيان‭ ‬وانقلابات‭ ‬وثورات،‭ ‬كلها‭ ‬ترفع‭ ‬شعارات‭ ‬محاربة‭ ‬الظلم‭ ‬والفقر‭ ‬والجوع‭ ‬والكرامة‭! ‬وما‭ ‬إن‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬مرادها،‭ ‬لا‭ ‬نرى‭ ‬إلا‭ ‬رجعية‭ ‬وقتلاً‭ ‬وفوضى‭ ‬ودماراً‭ ‬في‭ ‬النفوس‭ ‬والأخلاق‭ ‬ثم‭ ‬في‭ ‬الزرع‭ ‬والحرث‭ ‬والمال،‭ ‬لينتشر‭ ‬فساد‭ ‬آخر،‭ ‬وبصورة‭ ‬أعنف‭.‬

 

جيل‭ ‬الإنترنت

ولعل‭ ‬التغير‭ ‬الأسرع،‭ ‬لدرجة‭ ‬أنّ‭ ‬من‭ ‬ولد‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬لن‭ ‬يستطيع‭ ‬أبدا‭ ‬مواكبته‭ ‬أو‭ ‬فهمه،‭ ‬هو‭ ‬اندماج‭ ‬الواقع‭ ‬الافتراضي‭ ‬بالواقع‭ ‬الحقيقي‭.‬‭ ‬

لقد‭ ‬بدأت‭ ‬هذه‭ ‬التقنية‭ ‬منذ‭ ‬عشر‭ ‬سنوات‭ ‬أو‭ ‬تزيد‭ ‬قليل،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الأفلام‭ ‬السينمائية‭ ‬رباعية‭ ‬الأبعاد،‭ ‬التي‭ ‬يحتاج‭ ‬فيها‭ ‬المرء‭ ‬إلى‭ ‬اعتمار‭ ‬خوذة‭ ‬أو‭ ‬قناع‭ ‬بنظارة‭ ‬خاصة‭ ‬للعرض‭ ‬والمشاهدة‭ ‬في‭ ‬آن‭ ‬واحد‭. ‬

وتأتي‭ ‬الاختراعات‭ ‬تباعاً‭ ‬لدعم‭ ‬هذه‭ ‬التقنية‭ ‬لما‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬سيطرة‭ ‬على‭ ‬عقل‭ ‬ووقت‭ ‬وميول‭ ‬الإنسان،‭ ‬ليضع‭ ‬المنتجون‭ ‬عام‭ -‬2020‭ ‬2030م‭ ‬كبداية‭ ‬للنقلة‭ ‬النوعية‭ ‬في‭ ‬الحضارة‭ ‬الإنسانية‭. ‬

سيكون‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الجيل‭ ‬الجديد‭ ‬للشبكة‭ ‬العنكبوتية‭ (‬إنترنت‭)‬،‭ ‬حيث‭ ‬سيتم‭ ‬سن‭ ‬جميع‭ ‬القوانين‭ ‬والتشريعات‭ ‬التي‭ ‬تتحكم‭ ‬بحركة‭ ‬التواصل‭ ‬بين‭ ‬الناس،‭ ‬بعضهم‭ ‬البعض،‭ ‬وبين‭ ‬الناس‭ ‬ووسائل‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬المختلفة،‭ ‬كوسائل‭ ‬النقل‭ ‬والترفيه‭ ‬والصحة‭ ‬والتعليم‭ ‬والخدمات‭ ‬الأخرى،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬برتوكول‭ ‬6  IPV،‭ ‬رقم‭ ‬الهوية‭ ‬السري،‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬جاء‭ ‬تحديثاً‭ ‬لبرنامج‭ ‬V‭ ‬4‭ ‬ثم‭ ‬5‭ ‬V‭. ‬ومهمة‭ ‬هذا‭ ‬البرتوكول‭ ‬هي‭ ‬تنظيم‭ ‬العلاقة‭ ‬الإنسانية‭ ‬بين‭ ‬الناس‭ ‬بعضهم‭ ‬البعض،‭ ‬وبين‭ ‬الحواسيب‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬تلك‭ ‬الحواسيب‭ ‬التي‭ ‬لن‭ ‬تخلو‭ ‬منها‭ ‬آلة‭ ‬مستقبلية،‭ ‬سواء‭ ‬سيارات‭ ‬أو‭ ‬طائرات‭ ‬أو‭ ‬سفن‭ ‬أو‭ ‬أدوات‭ ‬وأجهزة‭ ‬إلكترونية‭ ‬وكهربائية‭. ‬

من‭ ‬أجل‭ ‬ذلك‭ ‬صارت‭ ‬تسمية‭ ‬هذا‭ ‬النظام‭ ‬الجديد‭ ‬IOT‭ ‬بمعنى‭ ‬Internet‭ ‬of‭ ‬Things‭ ‬أي‭ ‬شبكة‭ ‬الأشياء‭. ‬إنّه‭ ‬حقاً‭ ‬تطور‭ ‬عظيم،‭ ‬لكنه‭ ‬سيُفقد‭ ‬الإنسان‭ ‬قدراته‭ ‬على‭ ‬الإبداع،‭ ‬وربما‭ ‬التفكير،‭ ‬فمثلما‭ ‬فقدنا‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬الحساب‭ ‬باختراع‭ ‬الآلة‭ ‬الحاسبة،‭ ‬وفقدنا‭ ‬حس‭ ‬التذكر‭ ‬بالاعتماد‭ ‬على‭ ‬الحافظة‭ ‬الرقمية،‭ ‬وفقدنا‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬الأحلام‭ ‬بفقدنا‭ ‬للخيال‭ ‬الذي‭ ‬سلبته‭ ‬منا‭ ‬الأفلام،‭ ‬سنفقد‭ ‬قدرة‭ ‬بقية‭ ‬الحواس‭ ‬ونتنازل‭ ‬عن‭ ‬بشريتنا‭ ‬إلى‭ ‬مستوى‭ ‬الآلة،‭ ‬وأخشى‭ ‬أن‭ ‬يكسل‭ ‬العقل‭ ‬الإنساني‭ ‬ليصبح‭ ‬العقل‭ ‬الإلكتروني‭ ‬هو‭ ‬الأفضل‭. ‬شاع‭ ‬الكسل‭ ‬باسم‭ ‬الرفاهية،‭ ‬حتى‭ ‬صار‭ ‬المرء‭ ‬عندما‭ ‬يسافر‭ ‬ويسكن‭ ‬الفندق‭ ‬يسأل‭ ‬عن‭ ‬wifi‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يسأل‭ ‬عن‭ ‬الغرفة‭ ‬والإطلالة،‭ ‬ومثل‭ ‬ذلك‭ ‬عندما‭ ‬يذهب‭ ‬إلى‭ ‬قهوة‭ ‬أو‭ ‬مطعم‭. ‬ومثل‭ ‬ذلك،‭ ‬طلاب‭ ‬المدارس‭ ‬الذين‭ ‬هجروا‭ ‬المكتبة‭ ‬بمصادرها‭ ‬العلمية‭ ‬ومراجعها‭ ‬وصاروا‭ ‬ينهلون‭ ‬من‭ ‬Google‭ ‬كل‭ ‬المعارف‭ ‬والعلوم‭. ‬والأسوأ‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬صارت‭ ‬عملية‭ ‬نقل‭ ‬المعلومة‭ ‬من‭ ‬المرجع‭ ‬‮«‬قصّ‭ ‬ولزْق‮»‬،‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬يكلف‭ ‬الطالب‭ ‬نفسه‭ ‬عناء‭ ‬إضفاء‭ ‬شخصية‭ ‬فكره‭ ‬على‭ ‬الموضوع‭.‬

إنّ‭ ‬العالم‭ ‬الافتراضي‭ ‬الذي‭ ‬ننتظره‭ ‬أهمل‭ ‬فرضية‭ ‬أكبر‭ ‬مما‭ ‬يتوقعه‭ ‬المبرمجون‭ ‬وعلماء‭ ‬الحوسبة،‭ ‬وهي‭ ‬نضوب‭ ‬الطاقة،‭ ‬فهل‭ ‬نتدارك‭ ‬هذا‭ ‬الجري‭ ‬الحثيث‭ ‬الذي‭ ‬يفوق‭ ‬طاقة‭ ‬الإنسان‭ ‬على‭ ‬المواكبة؟‭ ‬أم‭ ‬أننا‭ ‬سوف‭ ‬نجري‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬بصر‭ ‬ولا‭ ‬سمع‭ ‬ولا‭ ‬حواس،‭ ‬وبكل‭ ‬ما‭ ‬أوتينا‭ ‬من‭ ‬سرعة‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬مجهول‭ ‬نتعثر‭ ‬فيه‭ ‬فتُدّق‭ ‬أعناقنا‭ ‬ونُقهر؟‭ ‬

وهل‭ ‬سيأتي‭ ‬اليوم‭ ‬الذي‭ ‬يقول‭ ‬فيه‭ ‬كلّ‭ ‬إنسان‭: ‬يا‭ ‬ليتني‭ ‬متّ‭ ‬قبل‭ ‬هذا‭ ‬لكي‭ ‬لا‭ ‬أفقد‭ ‬اسمي‭ ‬وهويتي،‭ ‬وأكون‭ ‬رَقَماً‭ ‬في‭ ‬حاسوب‭ ‬الزمن‭ ‬الافتراضي؟■