وجه فلسفي أفلاطون... حكم الفيلسوف أم مناهضة الديمقراطية؟
وصف الفيلسوف الإنجليزي ألفريد نورث وايتهيد ذات مرة الفلسفة الغربية، بكل أبعادها وطرقها وتحولاتها، بأنها مجرد هامش على متنه الفلسفي - وفي وصفه كثير من الصحة - إنه أفلاطون، أبو الفلسفة الشرعي، التي معه توضحت ملامحها وتحددت قسماتها.
فمع أفلاطون نلتقي بالميتافيزيقيا ونظرية المعرفة والأخلاق والسياسة، وكل حقول الفلسفة، يشدها إلى بعضها البعض خيط ناظم هو نظرية المثل الشهيرة. فهو أعظم الفلاسفة أثراً على المسار الفلسفي على مر التاريخ، قديمه وحديثه، وربما لا يوجد شخص لا يعرف من هو أفلاطون حتى لو لم يكن له كثير اطلاع في الشأن الفلسفي.
ولد فيلسوف أثينا الثائر على قيمها وتقاليدها ونظامها الديمقراطي في أثينا حوالي العام 427 ق.م، بعد عام من وفاة رجل الدولة الأثيني الكبير بريكليس، وترعرع أفلاطون في عائلة ثرية ذات تقليد أرستقراطي، وربطته علاقة عائلية من جهة الأم بالمشرع اليوناني سولون، وكان من أقاربه من جهة الأم أيضاً من كان ضمن الطغاة الثلاثين الذين استولوا على السلطة في أثينا.
وأفلاطون ليس الاسم الحقيقي للفيلسوف إنما هو لقب لُقّب به لعرض منكبيه، فأفلاطون باليونانية تعني العريض.
التحق أفلاطون بحلقة شهيد الفلسفة سقراط وتعلم على يديه أسس التفلسف، وكان لسقراط أثر كبير فيه، ليس من جهة الأفكار الفلسفية فقط، ولكن من جهة المنهجية الفلسفية التي يعتمدها، أي المنهج التوليدي للأفكار.
وإذا كان سقراط لم يدون فلسفته، وظل يمشي في الأسواق والأماكن العامة ويمارس فعل التفلسف بالحوار والجدل وتوليد الأفكار مع المتحلقين حوله، الذي يقال إنه تعلمه من مهنة والدته القابلة، فإن أفلاطون كتب فلسفته بأسلوب أدبي رائق على هيئة حوار واسترسال في طرح الفكرة مستعيناً بالمنهج السقراطي. وسقراط هو الشخصية المحورية في محاورات أفلاطون، التي قد جاوزت الثلاثين محاورة. وكثيراً ما يتعذر التمييز بين آراء سقراط التاريخي وآراء سقراط (الشخصية الأدبية) التي كان أفلاطون يضع أفكاره على لسانها.
أسس أفلاطون أول مؤسسة تعنى بالتعليم العالي، الأكاديمية، في العام 387 ق.م، وهي البذرة الأولى للجامعة الحديثة، وجذب هذا المركز العلمي البحثي والفلسفي عديداً من الراغبين في المعرفة وكان منهم أرسطو، الذي قضى فيها عشرين عاماً، ولم يؤسس أرسطو مدرسته الخاصة إلا بعد وفاة أفلاطون.
استمرت الأكاديمية في نشاطها العلمي حتى العام 529م، حين أمر الإمبراطور الروماني جستنيان بإغلاقها بحجة أنها من المراكز الوثنية.
لا يمكن لهذه المساحة المحدودة أن تغطي أفكار هذا الفيلسوف الكبير، وليس هذا غرضها بالتأكيد، حيث قدمت في فلسفته عشرات الآلاف من الدراسات والأبحاث تناولتها بالشرح والنقد وترجمت أعماله إلى أغلب اللغات. ولاتزال كليات الدراسات العليا تستقبل كل عام أطروحات ورسائل جديدة تدور حول جانب من جوانب فلسفته، كما لاتزال الكتب تؤلف في هذا الفيلسوف الكبير.
نظرية المثل
معظم أفكار أفلاطون تدور حول تصوره لعالم المثل، أو قل هي انعكاس لهذه النظرية. وغاية أفلاطون من نظريته هذه الكشف عن عالم الوهم الذي نعيشه ونخاله حقيقياً، أي عالم الحس المتغير والمتبدل على الدوام، بينما يرى أن العالم الحقيقي هو عالم المثل الثابت.
وإذا أردنا عرض هذه النظرية بإيجاز، فيمكن القول إنه يقف خلف كل موجود من موجودات الوجود الفردية كيان كلي يسمى المثال أو القالب الذي صنعت منه الأشياء؛ فمثلاً إذا رأيت أمامك كرسياً فإنك ترى هذا الكرسي المفرد الجزئي القابل للكسر والتغير والتبدل، لكن خلف الموجود الجزئي يقبع في عالم آخر مثال الكرسي، ولتوضيح المسألة؛ إذا سألك أحدهم عن ماهية هذا الكرسي، فإنك لن تجيب بأنه الخشب أو المادة التي صنع منها أو الحجم أو غيره، وجوابك سيكون أن هذا كرسي بمعنى قطعة خشبية أو حديدية أو غيرهما تستوي على أربع. وهذا التحديد وهذه الفكرة عند أفلاطون لهما وجود واقعي في عالم المثل. وكان لأفكار أفلاطون هذه أثر كبير على الكنيسة المسيحية المتأخرة وعلى الفلسفة الإسلامية كذلك، حيث تجسد فكرة المثال النظرة المسيحية للإنسان باعتباره صورة خالقه.
لا تقتصر نظرية المثل على الموجودات المادية، بل تمتد إلى الأشياء المجردة، فالحق والجمال والعدالة لها كذلك أشكال أو قوالب أو مثل كلية منها تستمد وجودها، بل وحتى المفاهيم الرياضية كالأعداد محكومة بنظرية المثل هذه، وكان لأفلاطون تأثير كبير على الفيلسوف والرياضي وعالم المنطق الألماني فريدريك غوتلوب فريغه، فيما يتعلق بالمنطق وفلسفة اللغة تحديداً.
أمثولة الكهف
تقف هذه النظرية وراء معظم أعمال أفلاطون ومنها الجمهورية. وفي الكتاب السابع من هذه المحاورة يقدم أفلاطون مثالاً أو أسطورة أو أمثولة توضح فكرته عن عالم المثل. تبدأ الأسطورة بمجموعة من الناس يعيشون في كهف طوال حياتهم، ولم يحدث أن خرجوا من هذا الكهف، بل أكثر من ذلك، تقيد أيدي هؤلاء السلاسل والأغلال بحيث لا يستطيعون الحركة، ووجوههم متجهة إلى حائط الكهف، وخلفهم نار مشتعلة باستمرار. وعند مدخل الكهف حياة حافلة، مليئة بالمخلوقات والموجودات، فعند حركة هذه المخلوقات في غدوها ورواحها تنعكس ظلالهم - بفعل إضاءة النار - على الحائط، فيظن سجناء الكهف أنهم إنما يشاهدون حقائق الوجود ومكوناته.
ويحدث أن تُفك الأغلال عن أحدهم ليخرج للعالم الحقيقي الواسع، فيرى الشمس وينظر إلى المخلوقات الحقيقة فيصعق مما يرى، ويقرر أن يعود إلى قومه ليخبرهم بالعالم الحقيقي الذي رَآه، لكن أصحاب الكهف يرفضون تصديقه ويتهمونه بالجنون.
لقد كانت أمثولة الكهف تعبيراً عن عالم المثل الحقيقي الذي يكشفه الفيلسوف، وكان الرفض الذي قوبل به هذا الخارج من الكهف وضلالاته وخيالاته وأوهامه، إشارة ضمنية لما تعرض له سقراط على يد النظام الديمقراطي الأثيني، وهكذا تحضر نظرية المثل في آراء أفلاطون السياسية الرافضة للديمقراطية والمنحازة إلى حكم النخبة (الفلاسفة)، كما تحضر نظرية المثل في الابستمولوجيا (نظرية المعرفة)، حيث يرى أفلاطون أن ما نتعلمه لا يعتمد على عالم الحس، وإنما يستند إلى عالم لا محسوس، مرة أخرى هو عالم المثل، ووسيلة المعرفة هي التذكر، فنحن نتذكر فقط ما تعلمناه في ذلك العالم. ومن ذلك إيمان أفلاطون بخلود النفس ورجوعها إلى عالمها الحقيقي، وهو معتقد لم يكن شائعاً في الفكر اليوناني، إذ لم تكن النفس عندهم إلا نفسْ يندثر مع الموت، فأخذ أفلاطون هذا المعتقد من الفيثاغورية ومن الديانة الأورفية وعمل على نشره، خصوصاً في محاورة «فيدون».
أما عن الجمال الحقيقي فهو الجمال في ذاته، أي المثال، لا هذا الشيء الجميل أو ذاك. وهكذا نرى الفكرة الجامعة لجميع أطروحات أفلاطون هي نظرية المثل.
أفلاطون والاستبداد
يجب ألا يغيب عنا أن أفلاطون كان بذلك مدافعاً عن نظام شمولي، وكان يضع نصب عينيه النظام السياسي في إسبرطة. ومن يقرأ الجمهورية فلابد أن يتولد لديه شعور بالتململ من التفاصيل التي يتدخل فيها الحاكم الفيلسوف.
أفلاطون يفرض عليك في جمهوريته سناً للزواج، ويحدد لك الموسيقى التي تسمعها، ويمنع عنك الشعر، ويطرد الشعراء من الجمهورية، كما يتخلص من ذوي الإعاقة الذين يعتبرهم عنصر ضعف للدولة.
وفي ذلك يقول برتراند راسل في كتابه «تاريخ الفلسفة الغربية» إن أفلاطون «أخذ نفسه بالدفاع عن الحكم الاستبدادي».
في السعي إلى فهم طبيعة وقيمة العدالة، يقدم أفلاطون في الجمهورية رؤية لمجتمع طوباوي محكوم من طبقة الحكام الفلاسفة، بينما تنقسم بقية فئات المجتمع إلى طبقة الجنود وطبقة العامة. كما تقدم الجمهورية تصوراً لمجتمع شمولي لا مكان فيه للحرية الفردية، فالفرد يُضبط بكل تفاصيله من قبل الدولة الممثلة بالفيلسوف، والمواطن الصالح هو ذلك الشخص الذي يطيع القوانين خدمة للصالح العام.
وقد اتهم أفلاطون بأنه زرع بذور الأنظمة الشمولية باسم مبادئ مثالية، ومع ذلك يجب أن نفهم محاولته ونضعها في سياقها الصحيح فلسفياً وتاريخياً، فالجمهورية كانت تطبيقاً عملياً لنظرية المثل في الحقل السياسي للوصول إلى المثال الصحيح لتنظيم المجتمع، وهو بدوره يدعم ويعزز قوة هذا المجتمع لمواجهة أعدائه، لاسيما أن النظام الديمقراطي، وفق أفلاطون نفسه، يعزز من نزوع المواطنين نحو المصلحة الخاصة على حساب الصالح العام، وهنا تحضر اللحظة التاريخية التي تشكل بها فكر أفلاطون، لحظة كانت فيها الصراعات على أوجها بين أثينا وإسبرطة.
في الجعبة كثير عن حياة أفلاطون وآرائه ومحاوراته وآثاره، لكن ما الذي نستفيده نحن في العصر الراهن من أفلاطون؟ هل ثمة فائدة عملية لقراءة محاوراته، بالطبع إلى جانب اللذة الأدبية الكبيرة التي يشعر بها القارئ في إبداعات هذا الرجل من محاورة «فيدون» إلى محاورة «الجمهورية» وصولاً إلى محاورة «المأدبة» وغيرها كثير؟
نعم؛ إنها القدرة الفائقة على تبسيط الفكرة الفلسفية من دون الإخلال بعمقها ومتانتها، وهي حاجة تربوية تعليمية ملحة، إضافة إلى دعم الأفكار بالحجج المنطقية السليمة عوضاً عن التشنج في طرح المزاعم.
بيد أن الأهم من ذلك هو تحصل الملكة النقدية التي تزعزع الواقع الماثل بحثاً عمّا هو أفضل. ولعل نقد أفلاطون للديمقراطية وحججه في ذلك تسعفنا في تأويل انحدار عديد من أنظمتها إلى توسل الشعبوية والتعصب والعنصرية وسيلة تتلاعب بها بعقول العامة للظفر بالسلطة■