وجه فلسفي أفلاطون... حكم الفيلسوف أم مناهضة الديمقراطية؟

وجه فلسفي أفلاطون... حكم الفيلسوف  أم مناهضة الديمقراطية؟

وصف‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الإنجليزي‭ ‬ألفريد‭ ‬نورث‭ ‬وايتهيد‭ ‬ذات‭ ‬مرة‭ ‬الفلسفة‭ ‬الغربية،‭ ‬بكل‭ ‬أبعادها‭ ‬وطرقها‭ ‬وتحولاتها،‭ ‬بأنها‭ ‬مجرد‭ ‬هامش‭ ‬على‭ ‬متنه‭ ‬الفلسفي‭ - ‬وفي‭ ‬وصفه‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الصحة‭ - ‬إنه‭ ‬أفلاطون،‭ ‬أبو‭ ‬الفلسفة‭ ‬الشرعي،‭ ‬التي‭ ‬معه‭ ‬توضحت‭ ‬ملامحها‭ ‬وتحددت‭ ‬قسماتها‭. ‬

فمع‭ ‬أفلاطون‭ ‬نلتقي‭ ‬بالميتافيزيقيا‭ ‬ونظرية‭ ‬المعرفة‭ ‬والأخلاق‭ ‬والسياسة،‭ ‬وكل‭ ‬حقول‭ ‬الفلسفة،‭ ‬يشدها‭ ‬إلى‭ ‬بعضها‭ ‬البعض‭ ‬خيط‭ ‬ناظم‭ ‬هو‭ ‬نظرية‭ ‬المثل‭ ‬الشهيرة‭. ‬فهو‭ ‬أعظم‭ ‬الفلاسفة‭ ‬أثراً‭ ‬على‭ ‬المسار‭ ‬الفلسفي‭ ‬على‭ ‬مر‭ ‬التاريخ،‭ ‬قديمه‭ ‬وحديثه،‭ ‬وربما‭ ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬شخص‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬من‭ ‬هو‭ ‬أفلاطون‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬له‭ ‬كثير‭ ‬اطلاع‭ ‬في‭ ‬الشأن‭ ‬الفلسفي‭.‬

ولد‭ ‬فيلسوف‭ ‬أثينا‭ ‬الثائر‭ ‬على‭ ‬قيمها‭ ‬وتقاليدها‭ ‬ونظامها‭ ‬الديمقراطي‭ ‬في‭ ‬أثينا‭ ‬حوالي‭ ‬العام‭ ‬427‭ ‬ق‭.‬م،‭ ‬بعد‭ ‬عام‭ ‬من‭ ‬وفاة‭ ‬رجل‭ ‬الدولة‭ ‬الأثيني‭ ‬الكبير‭ ‬بريكليس،‭ ‬وترعرع‭ ‬أفلاطون‭ ‬في‭ ‬عائلة‭ ‬ثرية‭ ‬ذات‭ ‬تقليد‭ ‬أرستقراطي،‭ ‬وربطته‭ ‬علاقة‭ ‬عائلية‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬الأم‭ ‬بالمشرع‭ ‬اليوناني‭ ‬سولون،‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬أقاربه‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬الأم‭ ‬أيضاً‭ ‬من‭ ‬كان‭ ‬ضمن‭ ‬الطغاة‭ ‬الثلاثين‭ ‬الذين‭ ‬استولوا‭ ‬على‭ ‬السلطة‭ ‬في‭ ‬أثينا‭. ‬

وأفلاطون‭ ‬ليس‭ ‬الاسم‭ ‬الحقيقي‭ ‬للفيلسوف‭ ‬إنما‭ ‬هو‭ ‬لقب‭ ‬لُقّب‭ ‬به‭ ‬لعرض‭ ‬منكبيه،‭ ‬فأفلاطون‭ ‬باليونانية‭ ‬تعني‭ ‬العريض‭.‬

التحق‭ ‬أفلاطون‭ ‬بحلقة‭ ‬شهيد‭ ‬الفلسفة‭ ‬سقراط‭ ‬وتعلم‭ ‬على‭ ‬يديه‭ ‬أسس‭ ‬التفلسف،‭ ‬وكان‭ ‬لسقراط‭ ‬أثر‭ ‬كبير‭ ‬فيه،‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬الأفكار‭ ‬الفلسفية‭ ‬فقط،‭ ‬ولكن‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬المنهجية‭ ‬الفلسفية‭ ‬التي‭ ‬يعتمدها،‭ ‬أي‭ ‬المنهج‭ ‬التوليدي‭ ‬للأفكار‭. ‬

وإذا‭ ‬كان‭ ‬سقراط‭ ‬لم‭ ‬يدون‭ ‬فلسفته،‭ ‬وظل‭ ‬يمشي‭ ‬في‭ ‬الأسواق‭ ‬والأماكن‭ ‬العامة‭ ‬ويمارس‭ ‬فعل‭ ‬التفلسف‭ ‬بالحوار‭ ‬والجدل‭ ‬وتوليد‭ ‬الأفكار‭ ‬مع‭ ‬المتحلقين‭ ‬حوله،‭ ‬الذي‭ ‬يقال‭ ‬إنه‭ ‬تعلمه‭ ‬من‭ ‬مهنة‭ ‬والدته‭ ‬القابلة،‭ ‬فإن‭ ‬أفلاطون‭ ‬كتب‭ ‬فلسفته‭ ‬بأسلوب‭ ‬أدبي‭ ‬رائق‭ ‬على‭ ‬هيئة‭ ‬حوار‭ ‬واسترسال‭ ‬في‭ ‬طرح‭ ‬الفكرة‭ ‬مستعيناً‭ ‬بالمنهج‭ ‬السقراطي‭. ‬وسقراط‭ ‬هو‭ ‬الشخصية‭ ‬المحورية‭ ‬في‭ ‬محاورات‭ ‬أفلاطون،‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬جاوزت‭ ‬الثلاثين‭ ‬محاورة‭. ‬وكثيراً‭ ‬ما‭ ‬يتعذر‭ ‬التمييز‭ ‬بين‭ ‬آراء‭ ‬سقراط‭ ‬التاريخي‭ ‬وآراء‭ ‬سقراط‭ (‬الشخصية‭ ‬الأدبية‭) ‬التي‭ ‬كان‭ ‬أفلاطون‭ ‬يضع‭ ‬أفكاره‭ ‬على‭ ‬لسانها‭. ‬

أسس‭ ‬أفلاطون‭ ‬أول‭ ‬مؤسسة‭ ‬تعنى‭ ‬بالتعليم‭ ‬العالي،‭ ‬الأكاديمية،‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬387‭ ‬ق‭.‬م،‭ ‬وهي‭ ‬البذرة‭ ‬الأولى‭ ‬للجامعة‭ ‬الحديثة،‭ ‬وجذب‭ ‬هذا‭ ‬المركز‭ ‬العلمي‭ ‬البحثي‭ ‬والفلسفي‭ ‬عديداً‭ ‬من‭ ‬الراغبين‭ ‬في‭ ‬المعرفة‭ ‬وكان‭ ‬منهم‭ ‬أرسطو،‭ ‬الذي‭ ‬قضى‭ ‬فيها‭ ‬عشرين‭ ‬عاماً،‭ ‬ولم‭ ‬يؤسس‭ ‬أرسطو‭ ‬مدرسته‭ ‬الخاصة‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬وفاة‭ ‬أفلاطون‭. ‬

استمرت‭ ‬الأكاديمية‭ ‬في‭ ‬نشاطها‭ ‬العلمي‭ ‬حتى‭ ‬العام‭ ‬529م،‭ ‬حين‭ ‬أمر‭ ‬الإمبراطور‭ ‬الروماني‭ ‬جستنيان‭ ‬بإغلاقها‭ ‬بحجة‭ ‬أنها‭ ‬من‭ ‬المراكز‭ ‬الوثنية‭.‬

لا‭ ‬يمكن‭ ‬لهذه‭ ‬المساحة‭ ‬المحدودة‭ ‬أن‭ ‬تغطي‭ ‬أفكار‭ ‬هذا‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الكبير،‭ ‬وليس‭ ‬هذا‭ ‬غرضها‭ ‬بالتأكيد،‭ ‬حيث‭ ‬قدمت‭ ‬في‭ ‬فلسفته‭ ‬عشرات‭ ‬الآلاف‭ ‬من‭ ‬الدراسات‭ ‬والأبحاث‭ ‬تناولتها‭ ‬بالشرح‭ ‬والنقد‭ ‬وترجمت‭ ‬أعماله‭ ‬إلى‭ ‬أغلب‭ ‬اللغات‭. ‬ولاتزال‭ ‬كليات‭ ‬الدراسات‭ ‬العليا‭ ‬تستقبل‭ ‬كل‭ ‬عام‭ ‬أطروحات‭ ‬ورسائل‭ ‬جديدة‭ ‬تدور‭ ‬حول‭ ‬جانب‭ ‬من‭ ‬جوانب‭ ‬فلسفته،‭ ‬كما‭ ‬لاتزال‭ ‬الكتب‭ ‬تؤلف‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الكبير‭.‬

 

نظرية‭ ‬المثل‭ ‬

معظم‭ ‬أفكار‭ ‬أفلاطون‭ ‬تدور‭ ‬حول‭ ‬تصوره‭ ‬لعالم‭ ‬المثل،‭ ‬أو‭ ‬قل‭ ‬هي‭ ‬انعكاس‭ ‬لهذه‭ ‬النظرية‭. ‬وغاية‭ ‬أفلاطون‭ ‬من‭ ‬نظريته‭ ‬هذه‭ ‬الكشف‭ ‬عن‭ ‬عالم‭ ‬الوهم‭ ‬الذي‭ ‬نعيشه‭ ‬ونخاله‭ ‬حقيقياً،‭ ‬أي‭ ‬عالم‭ ‬الحس‭ ‬المتغير‭ ‬والمتبدل‭ ‬على‭ ‬الدوام،‭ ‬بينما‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬العالم‭ ‬الحقيقي‭ ‬هو‭ ‬عالم‭ ‬المثل‭ ‬الثابت‭. ‬

وإذا‭ ‬أردنا‭ ‬عرض‭ ‬هذه‭ ‬النظرية‭ ‬بإيجاز،‭ ‬فيمكن‭ ‬القول‭ ‬إنه‭ ‬يقف‭ ‬خلف‭ ‬كل‭ ‬موجود‭ ‬من‭ ‬موجودات‭ ‬الوجود‭ ‬الفردية‭ ‬كيان‭ ‬كلي‭ ‬يسمى‭ ‬المثال‭ ‬أو‭ ‬القالب‭ ‬الذي‭ ‬صنعت‭ ‬منه‭ ‬الأشياء؛‭ ‬فمثلاً‭ ‬إذا‭ ‬رأيت‭ ‬أمامك‭ ‬كرسياً‭ ‬فإنك‭ ‬ترى‭ ‬هذا‭ ‬الكرسي‭ ‬المفرد‭ ‬الجزئي‭ ‬القابل‭ ‬للكسر‭ ‬والتغير‭ ‬والتبدل،‭ ‬لكن‭ ‬خلف‭ ‬الموجود‭ ‬الجزئي‭ ‬يقبع‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬آخر‭ ‬مثال‭ ‬الكرسي،‭ ‬ولتوضيح‭ ‬المسألة؛‭ ‬إذا‭ ‬سألك‭ ‬أحدهم‭ ‬عن‭ ‬ماهية‭ ‬هذا‭ ‬الكرسي،‭ ‬فإنك‭ ‬لن‭ ‬تجيب‭ ‬بأنه‭ ‬الخشب‭ ‬أو‭ ‬المادة‭ ‬التي‭ ‬صنع‭ ‬منها‭ ‬أو‭ ‬الحجم‭ ‬أو‭ ‬غيره،‭ ‬وجوابك‭ ‬سيكون‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬كرسي‭ ‬بمعنى‭ ‬قطعة‭ ‬خشبية‭ ‬أو‭ ‬حديدية‭ ‬أو‭ ‬غيرهما‭ ‬تستوي‭ ‬على‭ ‬أربع‭. ‬وهذا‭ ‬التحديد‭ ‬وهذه‭ ‬الفكرة‭ ‬عند‭ ‬أفلاطون‭ ‬لهما‭ ‬وجود‭ ‬واقعي‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬المثل‭. ‬وكان‭ ‬لأفكار‭ ‬أفلاطون‭ ‬هذه‭ ‬أثر‭ ‬كبير‭ ‬على‭ ‬الكنيسة‭ ‬المسيحية‭ ‬المتأخرة‭ ‬وعلى‭ ‬الفلسفة‭ ‬الإسلامية‭ ‬كذلك،‭ ‬حيث‭ ‬تجسد‭ ‬فكرة‭ ‬المثال‭ ‬النظرة‭ ‬المسيحية‭ ‬للإنسان‭ ‬باعتباره‭ ‬صورة‭ ‬خالقه‭. ‬

لا‭ ‬تقتصر‭ ‬نظرية‭ ‬المثل‭ ‬على‭ ‬الموجودات‭ ‬المادية،‭ ‬بل‭ ‬تمتد‭ ‬إلى‭ ‬الأشياء‭ ‬المجردة،‭ ‬فالحق‭ ‬والجمال‭ ‬والعدالة‭ ‬لها‭ ‬كذلك‭ ‬أشكال‭ ‬أو‭ ‬قوالب‭ ‬أو‭ ‬مثل‭ ‬كلية‭ ‬منها‭ ‬تستمد‭ ‬وجودها،‭ ‬بل‭ ‬وحتى‭ ‬المفاهيم‭ ‬الرياضية‭ ‬كالأعداد‭ ‬محكومة‭ ‬بنظرية‭ ‬المثل‭ ‬هذه،‭ ‬وكان‭ ‬لأفلاطون‭ ‬تأثير‭ ‬كبير‭ ‬على‭ ‬الفيلسوف‭ ‬والرياضي‭ ‬وعالم‭ ‬المنطق‭ ‬الألماني‭ ‬فريدريك‭ ‬غوتلوب‭ ‬فريغه،‭ ‬فيما‭ ‬يتعلق‭ ‬بالمنطق‭ ‬وفلسفة‭ ‬اللغة‭ ‬تحديداً‭. ‬

 

أمثولة‭ ‬الكهف

تقف‭ ‬هذه‭ ‬النظرية‭ ‬وراء‭ ‬معظم‭ ‬أعمال‭ ‬أفلاطون‭ ‬ومنها‭ ‬الجمهورية‭. ‬وفي‭ ‬الكتاب‭ ‬السابع‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬المحاورة‭ ‬يقدم‭ ‬أفلاطون‭ ‬مثالاً‭ ‬أو‭ ‬أسطورة‭ ‬أو‭ ‬أمثولة‭ ‬توضح‭ ‬فكرته‭ ‬عن‭ ‬عالم‭ ‬المثل‭. ‬تبدأ‭ ‬الأسطورة‭ ‬بمجموعة‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬يعيشون‭ ‬في‭ ‬كهف‭ ‬طوال‭ ‬حياتهم،‭ ‬ولم‭ ‬يحدث‭ ‬أن‭ ‬خرجوا‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الكهف،‭ ‬بل‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬تقيد‭ ‬أيدي‭ ‬هؤلاء‭ ‬السلاسل‭ ‬والأغلال‭ ‬بحيث‭ ‬لا‭ ‬يستطيعون‭ ‬الحركة،‭ ‬ووجوههم‭ ‬متجهة‭ ‬إلى‭ ‬حائط‭ ‬الكهف،‭ ‬وخلفهم‭ ‬نار‭ ‬مشتعلة‭ ‬باستمرار‭. ‬وعند‭ ‬مدخل‭ ‬الكهف‭ ‬حياة‭ ‬حافلة،‭ ‬مليئة‭ ‬بالمخلوقات‭ ‬والموجودات،‭ ‬فعند‭ ‬حركة‭ ‬هذه‭ ‬المخلوقات‭ ‬في‭ ‬غدوها‭ ‬ورواحها‭ ‬تنعكس‭ ‬ظلالهم‭ - ‬بفعل‭ ‬إضاءة‭ ‬النار‭ - ‬على‭ ‬الحائط،‭ ‬فيظن‭ ‬سجناء‭ ‬الكهف‭ ‬أنهم‭ ‬إنما‭ ‬يشاهدون‭ ‬حقائق‭ ‬الوجود‭ ‬ومكوناته‭. ‬

ويحدث‭ ‬أن‭ ‬تُفك‭ ‬الأغلال‭ ‬عن‭ ‬أحدهم‭ ‬ليخرج‭ ‬للعالم‭ ‬الحقيقي‭ ‬الواسع،‭ ‬فيرى‭ ‬الشمس‭ ‬وينظر‭ ‬إلى‭ ‬المخلوقات‭ ‬الحقيقة‭ ‬فيصعق‭ ‬مما‭ ‬يرى،‭ ‬ويقرر‭ ‬أن‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬قومه‭ ‬ليخبرهم‭ ‬بالعالم‭ ‬الحقيقي‭ ‬الذي‭ ‬رَآه،‭ ‬لكن‭ ‬أصحاب‭ ‬الكهف‭ ‬يرفضون‭ ‬تصديقه‭ ‬ويتهمونه‭ ‬بالجنون‭.‬

لقد‭ ‬كانت‭ ‬أمثولة‭ ‬الكهف‭ ‬تعبيراً‭ ‬عن‭ ‬عالم‭ ‬المثل‭ ‬الحقيقي‭ ‬الذي‭ ‬يكشفه‭ ‬الفيلسوف،‭ ‬وكان‭ ‬الرفض‭ ‬الذي‭ ‬قوبل‭ ‬به‭ ‬هذا‭ ‬الخارج‭ ‬من‭ ‬الكهف‭ ‬وضلالاته‭ ‬وخيالاته‭ ‬وأوهامه،‭ ‬إشارة‭ ‬ضمنية‭ ‬لما‭ ‬تعرض‭ ‬له‭ ‬سقراط‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬النظام‭ ‬الديمقراطي‭ ‬الأثيني،‭ ‬وهكذا‭ ‬تحضر‭ ‬نظرية‭ ‬المثل‭ ‬في‭ ‬آراء‭ ‬أفلاطون‭ ‬السياسية‭ ‬الرافضة‭ ‬للديمقراطية‭ ‬والمنحازة‭ ‬إلى‭ ‬حكم‭ ‬النخبة‭ (‬الفلاسفة‭)‬،‭ ‬كما‭ ‬تحضر‭ ‬نظرية‭ ‬المثل‭ ‬في‭ ‬الابستمولوجيا‭ (‬نظرية‭ ‬المعرفة‭)‬،‭ ‬حيث‭ ‬يرى‭ ‬أفلاطون‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬نتعلمه‭ ‬لا‭ ‬يعتمد‭ ‬على‭ ‬عالم‭ ‬الحس،‭ ‬وإنما‭ ‬يستند‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬لا‭ ‬محسوس،‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬هو‭ ‬عالم‭ ‬المثل،‭ ‬ووسيلة‭ ‬المعرفة‭ ‬هي‭ ‬التذكر،‭ ‬فنحن‭ ‬نتذكر‭ ‬فقط‭ ‬ما‭ ‬تعلمناه‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬العالم‭. ‬ومن‭ ‬ذلك‭ ‬إيمان‭ ‬أفلاطون‭ ‬بخلود‭ ‬النفس‭ ‬ورجوعها‭ ‬إلى‭ ‬عالمها‭ ‬الحقيقي،‭ ‬وهو‭ ‬معتقد‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬شائعاً‭ ‬في‭ ‬الفكر‭ ‬اليوناني،‭ ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬النفس‭ ‬عندهم‭ ‬إلا‭ ‬نفسْ‭ ‬يندثر‭ ‬مع‭ ‬الموت،‭ ‬فأخذ‭ ‬أفلاطون‭ ‬هذا‭ ‬المعتقد‭ ‬من‭ ‬الفيثاغورية‭ ‬ومن‭ ‬الديانة‭ ‬الأورفية‭ ‬وعمل‭ ‬على‭ ‬نشره،‭ ‬خصوصاً‭ ‬في‭ ‬محاورة‭ ‬‮«‬فيدون‮»‬‭.‬

‭ ‬أما‭ ‬عن‭ ‬الجمال‭ ‬الحقيقي‭ ‬فهو‭ ‬الجمال‭ ‬في‭ ‬ذاته،‭ ‬أي‭ ‬المثال،‭ ‬لا‭ ‬هذا‭ ‬الشيء‭ ‬الجميل‭ ‬أو‭ ‬ذاك‭. ‬وهكذا‭ ‬نرى‭ ‬الفكرة‭ ‬الجامعة‭ ‬لجميع‭ ‬أطروحات‭ ‬أفلاطون‭ ‬هي‭ ‬نظرية‭ ‬المثل‭.‬

 

أفلاطون‭ ‬والاستبداد

يجب‭ ‬ألا‭ ‬يغيب‭ ‬عنا‭ ‬أن‭ ‬أفلاطون‭ ‬كان‭ ‬بذلك‭ ‬مدافعاً‭ ‬عن‭ ‬نظام‭ ‬شمولي،‭ ‬وكان‭ ‬يضع‭ ‬نصب‭ ‬عينيه‭ ‬النظام‭ ‬السياسي‭ ‬في‭ ‬إسبرطة‭. ‬ومن‭ ‬يقرأ‭ ‬الجمهورية‭ ‬فلابد‭ ‬أن‭ ‬يتولد‭ ‬لديه‭ ‬شعور‭ ‬بالتململ‭ ‬من‭ ‬التفاصيل‭ ‬التي‭ ‬يتدخل‭ ‬فيها‭ ‬الحاكم‭ ‬الفيلسوف‭. ‬

أفلاطون‭ ‬يفرض‭ ‬عليك‭ ‬في‭ ‬جمهوريته‭ ‬سناً‭ ‬للزواج،‭ ‬ويحدد‭ ‬لك‭ ‬الموسيقى‭ ‬التي‭ ‬تسمعها،‭ ‬ويمنع‭ ‬عنك‭ ‬الشعر،‭ ‬ويطرد‭ ‬الشعراء‭ ‬من‭ ‬الجمهورية،‭ ‬كما‭ ‬يتخلص‭ ‬من‭ ‬ذوي‭ ‬الإعاقة‭ ‬الذين‭ ‬يعتبرهم‭ ‬عنصر‭ ‬ضعف‭ ‬للدولة‭. ‬

وفي‭ ‬ذلك‭ ‬يقول‭ ‬برتراند‭ ‬راسل‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬تاريخ‭ ‬الفلسفة‭ ‬الغربية‮»‬‭ ‬إن‭ ‬أفلاطون‭ ‬‮«‬أخذ‭ ‬نفسه‭ ‬بالدفاع‭ ‬عن‭ ‬الحكم‭ ‬الاستبدادي‮»‬‭.‬

‭ ‬في‭ ‬السعي‭ ‬إلى‭ ‬فهم‭ ‬طبيعة‭ ‬وقيمة‭ ‬العدالة،‭ ‬يقدم‭ ‬أفلاطون‭ ‬في‭ ‬الجمهورية‭ ‬رؤية‭ ‬لمجتمع‭ ‬طوباوي‭ ‬محكوم‭ ‬من‭ ‬طبقة‭ ‬الحكام‭ ‬الفلاسفة،‭ ‬بينما‭ ‬تنقسم‭ ‬بقية‭ ‬فئات‭ ‬المجتمع‭ ‬إلى‭ ‬طبقة‭ ‬الجنود‭ ‬وطبقة‭ ‬العامة‭. ‬كما‭ ‬تقدم‭ ‬الجمهورية‭ ‬تصوراً‭ ‬لمجتمع‭ ‬شمولي‭ ‬لا‭ ‬مكان‭ ‬فيه‭ ‬للحرية‭ ‬الفردية،‭ ‬فالفرد‭ ‬يُضبط‭ ‬بكل‭ ‬تفاصيله‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الدولة‭ ‬الممثلة‭ ‬بالفيلسوف،‭ ‬والمواطن‭ ‬الصالح‭ ‬هو‭ ‬ذلك‭ ‬الشخص‭ ‬الذي‭ ‬يطيع‭ ‬القوانين‭ ‬خدمة‭ ‬للصالح‭ ‬العام‭.‬

وقد‭ ‬اتهم‭ ‬أفلاطون‭ ‬بأنه‭ ‬زرع‭ ‬بذور‭ ‬الأنظمة‭ ‬الشمولية‭ ‬باسم‭ ‬مبادئ‭ ‬مثالية،‭ ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬نفهم‭ ‬محاولته‭ ‬ونضعها‭ ‬في‭ ‬سياقها‭ ‬الصحيح‭ ‬فلسفياً‭ ‬وتاريخياً،‭ ‬فالجمهورية‭ ‬كانت‭ ‬تطبيقاً‭ ‬عملياً‭ ‬لنظرية‭ ‬المثل‭ ‬في‭ ‬الحقل‭ ‬السياسي‭ ‬للوصول‭ ‬إلى‭ ‬المثال‭ ‬الصحيح‭ ‬لتنظيم‭ ‬المجتمع،‭ ‬وهو‭ ‬بدوره‭ ‬يدعم‭ ‬ويعزز‭ ‬قوة‭ ‬هذا‭ ‬المجتمع‭ ‬لمواجهة‭ ‬أعدائه،‭ ‬لاسيما‭ ‬أن‭ ‬النظام‭ ‬الديمقراطي،‭ ‬وفق‭ ‬أفلاطون‭ ‬نفسه،‭ ‬يعزز‭ ‬من‭ ‬نزوع‭ ‬المواطنين‭ ‬نحو‭ ‬المصلحة‭ ‬الخاصة‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬الصالح‭ ‬العام،‭ ‬وهنا‭ ‬تحضر‭ ‬اللحظة‭ ‬التاريخية‭ ‬التي‭ ‬تشكل‭ ‬بها‭ ‬فكر‭ ‬أفلاطون،‭ ‬لحظة‭ ‬كانت‭ ‬فيها‭ ‬الصراعات‭ ‬على‭ ‬أوجها‭ ‬بين‭ ‬أثينا‭ ‬وإسبرطة‭. ‬

في‭ ‬الجعبة‭ ‬كثير‭ ‬عن‭ ‬حياة‭ ‬أفلاطون‭ ‬وآرائه‭ ‬ومحاوراته‭ ‬وآثاره،‭ ‬لكن‭ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬نستفيده‭ ‬نحن‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الراهن‭ ‬من‭ ‬أفلاطون؟‭ ‬هل‭ ‬ثمة‭ ‬فائدة‭ ‬عملية‭ ‬لقراءة‭ ‬محاوراته،‭ ‬بالطبع‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬اللذة‭ ‬الأدبية‭ ‬الكبيرة‭ ‬التي‭ ‬يشعر‭ ‬بها‭ ‬القارئ‭ ‬في‭ ‬إبداعات‭ ‬هذا‭ ‬الرجل‭ ‬من‭ ‬محاورة‭ ‬‮«‬فيدون‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬محاورة‭ ‬‮«‬الجمهورية‮»‬‭ ‬وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬محاورة‭ ‬‮«‬المأدبة‮»‬‭ ‬وغيرها‭ ‬كثير؟‭ ‬

نعم؛‭ ‬إنها‭ ‬القدرة‭ ‬الفائقة‭ ‬على‭ ‬تبسيط‭ ‬الفكرة‭ ‬الفلسفية‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬الإخلال‭ ‬بعمقها‭ ‬ومتانتها،‭ ‬وهي‭ ‬حاجة‭ ‬تربوية‭ ‬تعليمية‭ ‬ملحة،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬دعم‭ ‬الأفكار‭ ‬بالحجج‭ ‬المنطقية‭ ‬السليمة‭ ‬عوضاً‭ ‬عن‭ ‬التشنج‭ ‬في‭ ‬طرح‭ ‬المزاعم‭. ‬

بيد‭ ‬أن‭ ‬الأهم‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬هو‭ ‬تحصل‭ ‬الملكة‭ ‬النقدية‭ ‬التي‭ ‬تزعزع‭ ‬الواقع‭ ‬الماثل‭ ‬بحثاً‭ ‬عمّا‭ ‬هو‭ ‬أفضل‭. ‬ولعل‭ ‬نقد‭ ‬أفلاطون‭ ‬للديمقراطية‭ ‬وحججه‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬تسعفنا‭ ‬في‭ ‬تأويل‭ ‬انحدار‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬أنظمتها‭ ‬إلى‭ ‬توسل‭ ‬الشعبوية‭ ‬والتعصب‭ ‬والعنصرية‭ ‬وسيلة‭ ‬تتلاعب‭ ‬بها‭ ‬بعقول‭ ‬العامة‭ ‬للظفر‭ ‬بالسلطة■