نهب التراث الحضاري

نهب التراث الحضاري

قبل‭ ‬ظهور‭ ‬الدراسات‭ ‬النقدية‭ ‬التوراتية‭ ‬الحديثة‭ ‬وعلم‭ ‬الآثار،‭ ‬كان‭ ‬يُنظر‭ ‬إلى‭ ‬حضارات‭ ‬المنطقة‭ ‬العربية،‭ ‬السومرية‭ ‬والبابلية‭ ‬والآشورية‭ ‬والفرعونية‭ ‬والفينيقية‭ ‬والقرطاجية‭ ‬وغيرها،‭ ‬بمنزلة‭ ‬النماذج‭ ‬الحاوية‭ ‬لنقيض‭ ‬القيم‭ ‬الغربية‭. ‬لكنّ‭ ‬عصري‭ ‬النهضة‭ ‬والأنوار‭ ‬أزاحا‭ ‬عن‭ ‬روح‭ ‬الغرب‭ ‬وعقله‭ ‬تلك‭ ‬الغشاوة،‭ ‬وأبانا‭ ‬أن‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬معتقداته‭ ‬وميراثه‭ ‬مصدرهما‭ ‬الشرق،‭ ‬ولاسيما‭ ‬تلك‭ ‬المنطقة‭ ‬التي‭ ‬باتت‭ ‬معروفة‭ ‬بالمنطقة‭ ‬السامية‭.‬

انبرى‭ ‬لفيف‭ ‬من‭ ‬ساسة‭ ‬ومفكري‭ ‬الغرب،‭ ‬كما‭ ‬يورد‭ ‬عالم‭ ‬الآثار‭ ‬الإيطالي‭ ‬ماريو‭ ‬ليفِراني،‭ ‬مطالِبين‭ ‬بتملّك‭ ‬ذلك‭ ‬‮«‬الإرث‭ ‬المعنوي‮»‬،‭ ‬الذي‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬أهالي‭ ‬المشرق‭ ‬يعيرونه‭ ‬اهتماما‭. ‬قدِم‭ ‬‮«‬الورثةُ‭ ‬المعنويّون‮»‬‭ ‬من‭ ‬أوربا،‭ ‬وكانت‭ ‬المطالبة‭ ‬جادة‭ ‬وحازمة‭ ‬بموجب‭ ‬الكتاب‭ ‬المقدّس‭: ‬فمنذ‭ ‬فترة‭ ‬رسخ‭ ‬في‭ ‬الأذهان،‭ ‬من‭ ‬جرّاء‭ ‬تمدّد‭ ‬شقّ‭ ‬واسع‭ ‬من‭ ‬المسيحية‭ ‬واليهودية‭ ‬صوب‭ ‬الغرب،‭ ‬أنّ‭ ‬الأوربيين‭ ‬ورثةُ‭ ‬العالم‭ ‬التوراتي‭. ‬وانسحب‭ ‬هذا‭ ‬المبرّر‭ ‬على‭ ‬بقايا‭ ‬الإرث‭ ‬الحضاري‭ ‬العربي‭ ‬القديم‭ ‬أيضا،‭ ‬وعلى‭ ‬تلك‭ ‬العاديات‭ ‬التي‭ ‬تُعَدّ‭ ‬ذات‭ ‬منزلة‭ ‬رفيعة،‭ ‬بذريعة‭ ‬صلتها‭ ‬بالكتاب‭ ‬المقدّس،‭ ‬أو‭ ‬لكونها‭ ‬نتاجاً‭ ‬للحضور‭ ‬الهلّيني‭ ‬والرومانيّ‭ ‬والبيزنطيّ‭ ‬طويل‭ ‬الأمد‭ ‬في‭ ‬المشرق‭ ‬والمغرب‭.‬

لكن‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬ذلك‭ ‬الزعم،‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬نحيط‭ ‬بالمسألة‭ ‬في‭ ‬عمقها‭ ‬الحضاري،‭ ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬ينشأ‭ ‬علم‭ ‬الآثار‭ ‬والانشغال‭ ‬بتراث‭ ‬الشعوب‭ ‬الأخرى‭ ‬بمنأى‭ ‬عن‭ ‬الهيمنة‭ ‬الرأسمالية‭. ‬

ومن‭ ‬هذا‭ ‬الباب،‭ ‬استندت‭ ‬حيازة‭ ‬كنوز‭ ‬الشرق‭ ‬وتراثه‭ ‬إلى‭ ‬مبرّر‭ ‬مصلحي‭ ‬قوي‭ ‬في‭ ‬المخيال‭ ‬الغربي،‭ ‬فأسطورة‭ ‬‮«‬الأرض‭ ‬الخالية‮»‬‭ (‬فلسطين‭ ‬أنموذجا‭) ‬و«الثروات‭ ‬السائبة‮»‬‭ (‬المادية‭ ‬والثقافية‭ ‬على‭ ‬غرار‭ ‬المخطوطات‭ ‬والتحف‭ ‬والرُّقم‭)‬،‭ ‬هي‭ ‬ذريعة‭ ‬معهودة‭ ‬للاستعمار‭ ‬والاستغلال‭ ‬الرأسمالي‭. ‬إذ‭ ‬القناعة‭ ‬الماثلة‭ ‬في‭ ‬التصور‭ ‬الغربي‭ ‬أن‭ ‬ثمة‭ ‬ميراثاً‭ ‬لا‭ ‬يجلّه‭ ‬السكان‭ ‬‮«‬الأهليون‮»‬،‭ ‬المنعوتون‭ ‬بـ«الأبوريجان‮»‬‭ ‬و«الإنديجان‮»‬‭ ‬و«الأوتوكتون‮»‬،‭ ‬بسبب‭ ‬الإهمال‭ ‬أو‭ ‬الجهل‭ ‬أو‭ ‬التخلّف‭ ‬التقني،‭ ‬والغرب‭ ‬هو‭ ‬المخوَّل‭ ‬له‭ ‬‮«‬اكتشاف‮»‬‭ ‬تلك‭ ‬الثروات‭ ‬واستغلالها‭ ‬وحيازتها‭. ‬

وينطبق‭ ‬ذلك‭ ‬بدرجة‭ ‬أولى‭ ‬على‭ ‬الثروات‭ ‬المادية،‭ ‬وينسحب‭ ‬على‭ ‬رديفتها‭ ‬الثقافية‭ ‬أيضا‭. ‬وهكذا‭ ‬تدشّن‭ ‬الاستيلاء‭ ‬الاستعماري‭ ‬على‭ ‬ميراث‭ ‬الشرق‭ ‬مع‭ ‬انهيار‭ ‬الدولة‭ ‬العثمانية‭ ‬وحلول‭ ‬الانتداب،‭ ‬وتم‭ ‬بالتوازي‭ ‬إعداد‭ ‬الاستيلاء‭ ‬المادي،‭ ‬وكذلك‭ ‬الاستيلاء‭ ‬الثقافي،‭ ‬ولا‭ ‬سيّما‭ ‬منه‭ ‬الأثريّ‭ ‬منه،‭ ‬واستمرّ‭ ‬ذلك‭ ‬الجشع‭ ‬إلى‭ ‬اليوم‭.‬

كانت‭ ‬نوايا‭ ‬الاستحواذ‭ ‬مبطَّنة‭ ‬أحيانا‭ ‬في‭ ‬قالب‭ ‬حضاري،‭ ‬بقصد‭ ‬‮«‬تحضير‮»‬‭ ‬الآخر‭ ‬وإخراجه‭ ‬من‭ ‬دائرة‭ ‬التوحش،‭ ‬كما‭ ‬صوّرته‭ ‬الأبحاث‭ ‬الاستشراقية‭ ‬الأولى‭. ‬فالتوحش‭ ‬ملحَق‭ ‬بالخارج،‭ ‬في‭ ‬مقابل‭ ‬التحضّر‭ ‬النابع‭ ‬من‭ ‬الذات‭ ‬بغرض‭ ‬تصدير‭ ‬نورانية‭ ‬إلى‭ ‬العالم‭. ‬

ولم‭ ‬يتوقف‭ ‬الأمر‭ ‬عند‭ ‬مزاعم‭ ‬سياسية،‭ ‬كما‭ ‬لخّصها‭ ‬الوزير‭ ‬الأول‭ ‬الفرنسي‭ ‬جول‭ ‬فيري‭ (‬Jules Ferry‭) ‬في‭ ‬خطابه‭ ‬في‭ ‬برلمان‭ ‬بلاده‭ ‬سنة‭ ‬1885‭: ‬‮«‬يملي‭ ‬الواجب‭ ‬على‭ ‬الأجناس‭ ‬الراقية‭ ‬العمل‭ ‬للنهوض‭ ‬بالأهْلي‭ ‬المنحطّ،‭ ‬وفرنسا‭ ‬في‭ ‬طليعة‭ ‬الدول‭ ‬المطالبة‭ ‬بذلك‭ ‬الحق‭ ‬لترقية‭ ‬الشعوب‭ ‬التي‭ ‬بقيت‭ ‬في‭ ‬طور‭ ‬البربرية»؛‭ ‬بل‭ ‬امتد‭ ‬ذلك‭ ‬الزعم‭ ‬إلى‭ ‬جوانب‭ ‬ثقافية‭ ‬وفنية‭ ‬ومعرفية‭ ‬ودينية‭.‬

لقد‭ ‬كانت‭ ‬عوامل‭ ‬عدة‭ ‬تدفع‭ ‬العالم‭ ‬الأوربي‭ ‬إلى‭ ‬الوصل‭ ‬بين‭ ‬الحضارات‭ ‬الشرقية‭ ‬القديمة‭ ‬وحضارته‭ ‬الغربية‭. ‬وقد‭ ‬صوّرت‭ ‬ذلك‭ ‬التحفز‭ ‬أعمال‭ ‬الرسامين‭ ‬‮«‬المستشرقين‮»‬‭ ‬في‭ ‬مطلع‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬الميلاديّ‭. ‬لوحاتهم‭ ‬طافحة‭ ‬برسوم‭ ‬أناس‭ ‬عرب‭ ‬‮«‬أهليّين‮»‬،‭ ‬يغمرهم‭ ‬البؤس،‭ ‬رعاة‭ ‬ومزارعين،‭ ‬شيوخاً‭ ‬ونساء‭ ‬طاعنات‭ ‬في‭ ‬السن‭. ‬تساءل‭ ‬فيها‭ ‬الفنّان‭: ‬أَبِمجرّد‭ ‬مكوثهم‭ ‬هناك‭ ‬يكون‭ ‬هؤلاء‭ ‬‮«‬الورثة‭ ‬الفعليّين»؟‭ ‬لكن‭ ‬ليس‭ ‬بالإمكان‭ ‬القول‭ ‬إنهم‭ ‬أصحاب‭ ‬تلك‭ ‬المعالم‭ ‬الكبيرة‭ ‬والشامخة‭! ‬فذلك‭ ‬الإرث‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬الورثة‭ ‬المعنويّين‮»‬‭ ‬الغربيين،‭ ‬على‭ ‬غرار‭ ‬الرحّالة‭ ‬والرسّامين‭ ‬والمنقّبين‭ ‬عن‭ ‬الآثار‭.‬

وفي‭ ‬ذلك‭ ‬الجوّ‭ ‬المشحون‭ ‬بروح‭ ‬الاستحواذ،‭ ‬اتّخذ‭ ‬الاستيلاء‭ ‬على‭ ‬التراث‭ ‬الفرعوني‭ ‬والأكدي‭ ‬والآشوري‭ ‬والقرطاجي‭ ‬والفينيقي‭ ‬عديداً‭ ‬من‭ ‬الأشكال‭. ‬وارتبطت‭ ‬العملية‭ ‬بظهور‭ ‬البرجوازية‭ ‬والدولة‭ ‬الوطنية‭ ‬في‭ ‬أوربا،‭ ‬وتجلى‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬بروز‭ ‬المتاحف‭ ‬الكبرى‭ ‬وتطور‭ ‬النشر‭ ‬في‭ ‬المجالين‭ ‬التاريخيّ‭ ‬والأثري،‭ ‬حيث‭ ‬أُنشئت‭ ‬المتاحف‭ ‬الكبرى‭ ‬الأوربية،‭ ‬المجهَّزة‭ ‬من‭ ‬قِبل‭ ‬الدول،‭ ‬لغرض‭ ‬استقبال‭ ‬المعروضات‭ ‬الضخمة‭ ‬الواردة‭ ‬من‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية‭ ‬والمشرق‭ ‬العربي‭ ‬وبلاد‭ ‬المغرب،‭ ‬التي‭ ‬عجز‭ ‬الخواص‭ ‬عن‭ ‬حيازتها‭ ‬وعن‭ ‬جلبها‭. ‬إذ‭ ‬تمّ‭ ‬تدشين‭ ‬المتحف‭ ‬البريطانيّ‭ ‬سنة‭ ‬1759م،‭ ‬واللوفر‭ ‬سنة‭ ‬1791م،‭ ‬وبالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬روائع‭ ‬الفن‭ ‬الكلاسيكيّ‭ ‬تسترعي‭ ‬الانتباه‭ ‬أيضاً‭ ‬المنحوتاتُ‭ ‬الآشورية‭ ‬الواردة‭ ‬من‭ ‬خرسباد‭ ‬ونينوى‭ ‬ونمرود‭. ‬كما‭ ‬تمّ‭ ‬فتح‭ ‬قسم‭ ‬الآشوريات‭ ‬للعموم‭ ‬في‭ ‬اللوفر‭ ‬سنة‭ ‬1847م،‭ ‬وفي‭ ‬المتحف‭ ‬البريطاني‭ ‬سنة‭ ‬1853م‭.‬

لقد‭ ‬جاء‭ ‬التنقيب‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬أولى،‭ ‬بغرض‭ ‬العثور‭ ‬على‭ ‬تحف‭ ‬نفيسة‭ ‬وترحيلها‭ ‬نحو‭ ‬المتاحف‭ ‬الكبرى،‭ ‬لتشهد‭ ‬الظاهرة‭ ‬تصاعداً‭ ‬لاحقاً‭. ‬فمنذ‭ ‬زمن،‭ ‬كان‭ ‬عامة‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬المشرق،‭ ‬ولاسيّما‭ ‬في‭ ‬مصر،‭ ‬يقومون‭ ‬بأعمال‭ ‬التنقيب‭ ‬لبيع‭ ‬ما‭ ‬يعثرون‭ ‬عليه‭ ‬بدراهم‭ ‬معدودة‭ ‬لتجار‭ ‬التحف‭ ‬والسماسرة‭ ‬والوسطاء،‭ ‬فتُرحَّل‭ ‬هذه‭ ‬صوب‭ ‬أوربا‭. ‬وكان‭ ‬المخيال‭ ‬الشعبي‭ ‬ومنذ‭ ‬عهود‭ ‬سابقة‭ ‬مسكوناً‭ ‬بوجود‭ ‬ثروات‭ ‬مطمورة‭ ‬في‭ ‬باطن‭ ‬الأرض،‭ ‬في‭ ‬مقابر‭ ‬الفراعنة،‭ ‬وفي‭ ‬قبر‭ ‬آشور‭ ‬بانيبال‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬ويمكن‭ ‬حيازتها‭ ‬بحفر‭ ‬سراديب‭ ‬تحت‭ ‬الأرض‭. ‬

ومع‭ ‬أعمال‭ ‬التنقيب،‭ ‬خلال‭ ‬منتصف‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬الميلادي،‭ ‬تم‭ ‬التحوّل‭ ‬إلى‭ ‬الاستغلال‭ ‬المباشر،‭ ‬برعاية‭ ‬شقّ‭ ‬من‭ ‬البرجوازية‭ ‬الأوربية،‭ ‬وقد‭ ‬كانت‭ ‬‮«‬الفرمانات‮»‬‭ ‬المخوِّلة‭ ‬من‭ ‬الباب‭ ‬العالي،‭ ‬أو‭ ‬بالأحرى‭ ‬المقتناة‭ ‬منه،‭ ‬أذوناً‭ ‬بالترحيل‭ ‬لا‭ ‬لمجرّدِ‭ ‬القيام‭ ‬بأعمال‭ ‬التنقيب،‭ ‬فالتنقيب‭ ‬دون‭ ‬ترحيل‭ ‬هو‭ ‬فعلٌ‭ ‬لا‭ ‬معنى‭ ‬له‭. ‬وبعبارة‭ ‬أخرى،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تتمّ‭ ‬العملية‭ ‬في‭ ‬الأراضي‭ ‬التابعة‭ ‬للإيالة‭ ‬العثمانية،‭ ‬يغدو‭ ‬من‭ ‬الضروريّ‭ ‬التدخل‭ ‬الدبلوماسيّ،‭ ‬التابع‭ ‬للحكومتين‭ ‬الإنجليزية‭ ‬والفرنسية‭ ‬لدى‭ ‬السراي،‭ ‬وبالتنافس‭ ‬بينهما‭. ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬كلّ‭ ‬من‭ ‬بول‭ ‬إيميل‭ ‬بوتا‭ ‬P.É‭. ‬Botta‭ ‬وهنري‭ ‬أوستن‭ ‬لايارد‭ ‬A.H‭. ‬Layard‭ ‬دبلوماسيين،‭ ‬وهما‭ ‬من‭ ‬أوائل‭ ‬المنقّبين‭ ‬الهواة‭ ‬عن‭ ‬الآثار‭ ‬وترحيلها‭. ‬

وكانت‭ ‬ضخامة‭ ‬اللقى‭ ‬الأثريّة‭ (‬الصفائح‭ ‬الكبرى‭ ‬المنحوتة‭ ‬لقصور‭ ‬آشور‭) ‬تقتضي‭ ‬تنظيم‭ ‬قوافل‭ ‬جرّارة‭ ‬من‭ ‬الطوّافات‭ ‬لنقلها‭ ‬عبر‭ ‬نهر‭ ‬دجلة،‭ ‬ثم‭ ‬بالبواخر،‭ ‬وربما‭ ‬مروراً‭ ‬عبر‭ ‬الهند،‭ ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬قناة‭ ‬السويس‭ ‬شُقّت‭ ‬بعدُ‭. ‬

في‭ ‬تلك‭ ‬الأجواء‭ ‬نُقلت‭ ‬بوابة‭ ‬عشتار‭ ‬من‭ ‬العراق‭ ‬لينتهي‭ ‬بها‭ ‬المقام‭ ‬في‭ ‬متحف‭ ‬برلين‭ ‬بألمانيا‭.‬

إن‭ ‬التغاضي‭ ‬عن‭ ‬نهب‭ ‬الآثار‭ ‬الشرقية‭ ‬وترحيلها‭ ‬نحو‭ ‬الغرب‭ ‬يستند‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يسمّيه‭ ‬المؤرخ‭ ‬ماريو‭ ‬ليفِراني‭ ‬ادعاء‭ ‬‮«‬الإرث‭ ‬المعنوي‮»‬‭ ‬لتلك‭ ‬الآثار‭ ‬من‭ ‬قِبل‭ ‬الغرب‭. ‬وقد‭ ‬استفحلت‭ ‬المسألة‭ ‬مع‭ ‬تطور‭ ‬الحسّ‭ ‬بالهيمنة‭ ‬وتمدد‭ ‬الرأسمالية‭ ‬المدعومة‭ ‬بإحساس‭ ‬طاغٍ‭ ‬بالمركزية‭ ‬الغربية،‭ ‬التي‭ ‬تُعدّ‭ ‬نفسها‭ ‬وصية‭ ‬على‭ ‬الميراث‭ ‬الفني‭ ‬الكوني‭ ‬والموكلة‭ ‬باستغلاله‭.‬

 

طمس‭ ‬الذاكرة‭ ‬التاريخية

يزداد‭ ‬الترويج‭ ‬في‭ ‬الغرب‭ ‬الراهن‭ ‬لمقولة‭ ‬إن‭ ‬الشعوب‭ ‬العربية‭ ‬لا‭ ‬تفقه‭ ‬تاريخها،‭ ‬ولا‭ ‬تعترف‭ ‬فيه‭ ‬إلا‭ ‬بالجانب‭ ‬الإسلامي،‭ ‬ويتطور‭ ‬هذا‭ ‬الزعم‭ ‬إلى‭ ‬القول‭ ‬بأن‭ ‬الاعتراف‭ ‬بالماضي‭ ‬يقتصر‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬ديني،‭ ‬وتحديداً‭ ‬المتمثّل‭ ‬في‭ ‬التوجهات‭ ‬الأرثوذكسية‭ ‬الموغلة‭ ‬في‭ ‬التشدد‭. ‬وهي‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬مسوغات‭ ‬تبرّئ‭ ‬الغرب‭ ‬من‭ ‬مسؤولية‭ ‬نهب‭ ‬تلك‭ ‬الثروات‭ ‬والاستئثار‭ ‬بها‭. ‬

في‭ ‬هذه‭ ‬الأجواء،‭ ‬ثمة‭ ‬تحميل‭ ‬لمسؤولية‭ ‬ما‭ ‬يجري‭ ‬من‭ ‬نهب‭ ‬تراث‭ ‬البلاد‭ ‬العربية‭ ‬إلى‭ ‬العربي،‭ ‬بوصفه‭ ‬المسؤول‭ ‬الرئيس،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬عمليات‭ ‬السطو‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬التهريب،‭ ‬والتغاضي‭ ‬عن‭ ‬شبكات‭ ‬المافيا‭ ‬الدولية‭ ‬الخلفية‭. ‬

سؤال‭ ‬ثقيل‭ ‬يطرحه‭ ‬سياق‭ ‬الحديث‭: ‬لمن‭ ‬ينتمي‭ ‬الماضي؟‭ ‬وهل‭ ‬الغرب‭ ‬يقرّ‭ ‬فعلا‭ ‬بأحقية‭ ‬تملك‭ ‬الشعوب‭ ‬ثرواتها‭ ‬التاريخية‭ ‬والثقافية؟‭ ‬

القضايا‭ ‬المطروحة‭ ‬في‭ ‬السؤالين‭ ‬السابقين‭ ‬تبدو‭ ‬الإجابة‭ ‬عنها‭ ‬مسواة‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬معاهدة‭ ‬لاهاي‭ ‬1954‭ ‬بخصوص‭ ‬حماية‭ ‬الممتلكات‭ ‬الثقافية‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬نشوب‭ ‬نزاعات‭ ‬مسلحة،‭ ‬أو‭ ‬تلك‭ ‬العائدة‭ ‬إلى‭ ‬اليونسكو‭ ‬1970‭. ‬وكلتاهما‭ ‬تقرّ‭ ‬بأن‭ ‬من‭ ‬حق‭ ‬البلدان‭ ‬تملّك‭ ‬ثرواتها‭ ‬الفنية‭ ‬وحفظها،‭ ‬وفي‭ ‬حال‭ ‬تفجر‭ ‬نزاعات‭ ‬على‭ ‬الغازي‭ ‬أن‭ ‬يلتزم‭ ‬بحفظ‭ ‬المتاحف‭ ‬والمواقع‭ ‬الحاوية‭ ‬لتلك‭ ‬الثروات‭. ‬لقد‭ ‬أرست‭ ‬الهيئات‭ ‬الدولية،‭ ‬منذ‭ ‬وقت،‭ ‬قواعد‭ ‬تُلحِق‭ ‬بمقتضاها‭ ‬ما‭ ‬عاد‭ ‬للحضارات‭ ‬القديمة‭ ‬لأصحابها‭ ‬وورثتها،‭ ‬ولاسيّما‭ ‬منها‭ ‬الأعمال‭ ‬الفنية،‭ ‬لتضع‭ ‬حداً‭ ‬للجدل‭ ‬الجاري‭ ‬بشأن‭ ‬‮«‬الورثة‭ ‬المعنويين‮»‬،‭ ‬فيما‭ ‬يتصل‭ ‬بالتراث‭ ‬الشرقي‭ ‬القديم‭. ‬ولم‭ ‬يطبّق‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬إلا‭ ‬النزر‭ ‬القليل،‭ ‬ففي‭ ‬العراق‭ ‬‮«‬مهد‭ ‬الحضارات‭ ‬البشرية‮»‬‭ ‬كما‭ ‬يسمى،‭ ‬مع‭ ‬السومريين‭ ‬والأكديين‭ ‬والآشوريين‭ ‬والبابليين،‭ ‬بدخول‭ ‬الأمريكان‭ ‬بغداد‭ ‬2003‭ ‬تبخّر‭ ‬‮«‬قناع‭ ‬أوروك‮»‬‭ ‬المعروف‭ ‬أيضا‭ ‬بسيدة‭ ‬الوركاء،‭ ‬الذي‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬3300‭ ‬قبل‭ ‬الميلاد،‭ ‬وموناليزا‭ ‬نمرود،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يضاهي‭ ‬قيمة‭ ‬قناع‭ ‬توت‭ ‬عنخ‭ ‬آمون،‭ ‬وحُليّ‭ ‬ملكات‭ ‬نمرود‭ ‬الآشوريات،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬آلاف‭ ‬الألواح‭ ‬المسمارية‭. ‬فقط‭ ‬من‭ ‬15‭.‬000‭ ‬قطعة‭ ‬أثرية‭ ‬مجدوَلة‭ ‬عاد‭ ‬الثلث‭. ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬تحرص‭ ‬فيه‭ ‬بعض‭ ‬الدول‭ ‬على‭ ‬استرجاع‭ ‬تحفها‭ ‬الفنية‭ ‬المفقودة،‭ ‬تتلكّأ‭ ‬في‭ ‬ردّ‭ ‬ما‭ ‬بحوزتها‭ ‬لأصحابه،‭ ‬ونذكر‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬مسلّة‭ ‬أكسوم‭ ‬الإثيوبية‭ ‬المرحَّلة‭ ‬إلى‭ ‬إيطاليا‭ ‬في‭ ‬الحقبة‭ ‬الفاشية،‭ ‬وقد‭ ‬عانت‭ ‬من‭ ‬المماطلة،‭ ‬وكذلك‭ ‬طلب‭ ‬ليبيا‭ ‬استرجاع‭ ‬مسكوكاتها‭ ‬القديمة‭ ‬من‭ ‬إيطاليا،‭ ‬ومنها‭ ‬مسكوكات‭ ‬قورينا‭ ‬الذهبية‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الخصوص‭.‬

ربما‭ ‬المسألة‭ ‬أشدّ‭ ‬تعقيداً‭ ‬وتشعباً‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬المخطوطات‭ ‬العربية،‭ ‬فعلى‭ ‬سبيل‭ ‬الذكر،‭ ‬يقبع‭ ‬في‭ ‬المكتبة‭ ‬الوطنية‭ ‬في‭ ‬باريس‭ ‬وحدها‭ ‬6835‭ ‬مخطوطاً‭ ‬عربياً،‭ ‬وما‭ ‬يفوق‭ ‬7000‭ ‬مخطوط‭ ‬في‭ ‬مكتبة‭ ‬الدولة‭ ‬في‭ ‬برلين‭ ‬بألمانيا‭. ‬وغالبية‭ ‬تلك‭ ‬المخطوطات‭ ‬هجرت‭ ‬البلاد‭ ‬العربية‭ ‬بطرق‭ ‬ملتوية‭. ‬فالمخطوطات‭ ‬اليمنية‭ ‬وحدها‭ ‬في‭ ‬إيطاليا‭ ‬تُقدّر‭ ‬بثلاثة‭ ‬آلاف‭ ‬وثلاثمائة‭ ‬مخطوط،‭ ‬حاز‭ ‬مهربُ‭ ‬المخطوطات‭ ‬جوسيبي‭ ‬كابْروتّي‭ (‬1862‭-‬1919‭) ‬نصيب‭ ‬الأسد‭ ‬في‭ ‬ترحيلها‭ ‬نحو‭ ‬إيطاليا‭. ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬وصول‭ ‬كابروتي‭ ‬إلى‭ ‬مدينة‭ ‬الحديدة‭ ‬اليمنية‭ ‬سنة‭ ‬1885،‭ ‬ثم‭ ‬استقر‭ ‬به‭ ‬المقام‭ ‬في‭ ‬صنعاء‭. ‬وشحن‭ ‬قرابة‭ ‬الستين‭ ‬صندوقاً‭ ‬من‭ ‬المخطوطات‭ ‬حوَتْ‭ ‬ما‭ ‬يربو‭ ‬على‭ ‬2040‭ ‬مخطوطا‭ ‬تتراوح‭ ‬تواريخها‭ ‬بين‭ ‬القرن‭ ‬الثاني‭ ‬عشر‭ ‬والقرن‭ ‬الخامس‭ ‬عشر‭. ‬وهي‭ ‬اليوم‭ ‬مودعة‭ ‬في‭ ‬المكتبات‭ ‬الإيطالية‭ ‬وإمارة‭ ‬موناكو‭ ‬وفي‭ ‬مكتبة‭ ‬حاضرة‭ ‬الفاتيكان‭.‬

إننا‭ ‬مازلنا‭ ‬نعيش‭ ‬مع‭ ‬الإعلام‭ ‬الغربي‭ ‬حتى‭ ‬الراهن‭ ‬نوعًا‭ ‬من‭ ‬الوصاية‭ ‬على‭ ‬الآثار‭ ‬العربية،‭ ‬والمشكلة‭ ‬أن‭ ‬العملية‭ ‬يشرعِن‭ ‬لها‭ ‬مؤرخون‭ ‬وعلماء‭ ‬آثار‭ ‬بدعوى‭ ‬عدم‭ ‬أهلية‭ ‬العرب‭ ‬الغارقين‭ ‬في‭ ‬اقتتالهم‭ ‬وحروبهم‭. ‬

ومن‭ ‬هذا‭ ‬الزعم‭ ‬نشأت‭ ‬جملة‭ ‬من‭ ‬التناقضات،‭ ‬منها‭ ‬أن‭ ‬جميع‭ ‬الطرق،‭ ‬الأخلاقية‭ ‬وغير‭ ‬الأخلاقية،‭ ‬مباحة‭ ‬لحيازة‭ ‬ذلك‭ ‬الإرث،‭ ‬الذي‭ ‬يبقى‭ ‬الغرب‭ ‬موكلا‭ ‬بأمره‭. ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬الإرث‭ ‬الثقافي‭ ‬العربي‭ ‬منهوب‭ ‬منذ‭ ‬زمن‭ ‬وليست‭ ‬المسألة‭ ‬وليدة‭ ‬اليوم‭ ‬مع‭ ‬التنظيمات‭ ‬الإرهابية‭ ‬وشبكات‭ ‬السوق‭ ‬السوداء‭. ‬

وعملية‭ ‬النهب‭ ‬تشتغل‭ ‬على‭ ‬جبهتين‭ ‬تنطلق‭ ‬من‭ ‬‮«‬التومْبارولو‮»‬،‭ ‬و«نبّاش‭ ‬القبور‮»‬،‭ ‬ومن‭ ‬باعة‭ ‬المخطوطات‭ ‬والتحف،‭ ‬بحثاً‭ ‬عن‭ ‬الارتزاق،‭ ‬لتمرّ‭ ‬اللقية‭ ‬الأثرية‭ ‬إلى‭ ‬أيدي‭ ‬الوسطاء‭ ‬المحليين‭ ‬الذين‭ ‬يسلمون‭ ‬بضاعتهم‭ ‬إلى‭ ‬مافيا‭ ‬دولية‭ ‬لإيصالها‭ ‬إلى‭ ‬الأسواق‭ ‬السوداء‭ ‬في‭ ‬الغرب،‭ ‬ولتنتهي‭ ‬في‭ ‬المزادات‭ ‬العالمية‭ ‬في‭ ‬جنيف‭ ‬وباريس‭ ‬وهونج‭ ‬كونج‭ ‬ولندن‭ ‬ونيويورك،‭ ‬ومن‭ ‬ثمة‭ ‬في‭ ‬أيدي‭ ‬ملاك‭ ‬‮«‬شرعيين‮»‬‭. ‬

والسؤال‭ ‬المطروح‭: ‬لماذا‭ ‬نهْبُ‭ ‬تلك‭ ‬الثروات‭ ‬غالباً‭ ‬ما‭ ‬ينتهي‭ ‬بها‭ ‬المطاف‭ ‬في‭ ‬عواصم‭ ‬الدول‭ ‬الغنية؟‭ ‬

كتاب‭ ‬أستاذ‭ ‬تاريخ‭ ‬فن‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬القديم‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬جنوة‭ ‬باولو‭ ‬بروساسكو‭ ‬‮«‬الكنوز‭ ‬المنهوبة‭. ‬سرقة‭ ‬التراث‭ ‬الفني‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‮»‬،‭ ‬نشر‭ ‬موندادوري،‭ ‬روما‭ ‬2013،‭ ‬يشرح‭ ‬الأمر‭ ‬بتفصيل‭ ‬وإيضاح،‭ ‬إذ‭ ‬ينتهي‭ ‬المطاف‭ ‬بالآثار‭ ‬والمخطوطات‭ ‬هناك‭ ‬لأنها‭ ‬تُروّج‭ ‬بأمان‭. ‬لم‭ ‬تصادق‭ ‬أمريكا‭ ‬على‭ ‬اتفاقية‭ ‬لاهاي‭ ‬المذكورة‭ ‬والمعنية‭ ‬بموضوع‭ ‬الآثار‭ ‬سوى‭ ‬في‭ ‬13‭ ‬مارس‭ ‬2009،‭ ‬وبالمثل‭ ‬لم‭ ‬تعرب‭ ‬بريطانيا‭ ‬عن‭ ‬نيتها‭ ‬في‭ ‬المصادقة‭ ‬سوى‭ ‬عام‭ ‬2004،‭ ‬لتبقى‭ ‬إلى‭ ‬اليوم‭ ‬محترزة‭ ‬على‭ ‬بنودها،‭ ‬والمصادقة‭ ‬تعني‭ ‬محاصرة‭ ‬مهربي‭ ‬الآثار‭ ‬ودفعهم‭ ‬إلى‭ ‬العدالة‭ ‬والمحافظة‭ ‬على‭ ‬الذاكرة‭ ‬التاريخية‭ ‬للشعوب■