نهب التراث الحضاري

قبل ظهور الدراسات النقدية التوراتية الحديثة وعلم الآثار، كان يُنظر إلى حضارات المنطقة العربية، السومرية والبابلية والآشورية والفرعونية والفينيقية والقرطاجية وغيرها، بمنزلة النماذج الحاوية لنقيض القيم الغربية. لكنّ عصري النهضة والأنوار أزاحا عن روح الغرب وعقله تلك الغشاوة، وأبانا أن كثيراً من معتقداته وميراثه مصدرهما الشرق، ولاسيما تلك المنطقة التي باتت معروفة بالمنطقة السامية.
انبرى لفيف من ساسة ومفكري الغرب، كما يورد عالم الآثار الإيطالي ماريو ليفِراني، مطالِبين بتملّك ذلك «الإرث المعنوي»، الذي ما كان أهالي المشرق يعيرونه اهتماما. قدِم «الورثةُ المعنويّون» من أوربا، وكانت المطالبة جادة وحازمة بموجب الكتاب المقدّس: فمنذ فترة رسخ في الأذهان، من جرّاء تمدّد شقّ واسع من المسيحية واليهودية صوب الغرب، أنّ الأوربيين ورثةُ العالم التوراتي. وانسحب هذا المبرّر على بقايا الإرث الحضاري العربي القديم أيضا، وعلى تلك العاديات التي تُعَدّ ذات منزلة رفيعة، بذريعة صلتها بالكتاب المقدّس، أو لكونها نتاجاً للحضور الهلّيني والرومانيّ والبيزنطيّ طويل الأمد في المشرق والمغرب.
لكن إلى جانب ذلك الزعم، ينبغي أن نحيط بالمسألة في عمقها الحضاري، إذ لم ينشأ علم الآثار والانشغال بتراث الشعوب الأخرى بمنأى عن الهيمنة الرأسمالية.
ومن هذا الباب، استندت حيازة كنوز الشرق وتراثه إلى مبرّر مصلحي قوي في المخيال الغربي، فأسطورة «الأرض الخالية» (فلسطين أنموذجا) و«الثروات السائبة» (المادية والثقافية على غرار المخطوطات والتحف والرُّقم)، هي ذريعة معهودة للاستعمار والاستغلال الرأسمالي. إذ القناعة الماثلة في التصور الغربي أن ثمة ميراثاً لا يجلّه السكان «الأهليون»، المنعوتون بـ«الأبوريجان» و«الإنديجان» و«الأوتوكتون»، بسبب الإهمال أو الجهل أو التخلّف التقني، والغرب هو المخوَّل له «اكتشاف» تلك الثروات واستغلالها وحيازتها.
وينطبق ذلك بدرجة أولى على الثروات المادية، وينسحب على رديفتها الثقافية أيضا. وهكذا تدشّن الاستيلاء الاستعماري على ميراث الشرق مع انهيار الدولة العثمانية وحلول الانتداب، وتم بالتوازي إعداد الاستيلاء المادي، وكذلك الاستيلاء الثقافي، ولا سيّما منه الأثريّ منه، واستمرّ ذلك الجشع إلى اليوم.
كانت نوايا الاستحواذ مبطَّنة أحيانا في قالب حضاري، بقصد «تحضير» الآخر وإخراجه من دائرة التوحش، كما صوّرته الأبحاث الاستشراقية الأولى. فالتوحش ملحَق بالخارج، في مقابل التحضّر النابع من الذات بغرض تصدير نورانية إلى العالم.
ولم يتوقف الأمر عند مزاعم سياسية، كما لخّصها الوزير الأول الفرنسي جول فيري (Jules Ferry) في خطابه في برلمان بلاده سنة 1885: «يملي الواجب على الأجناس الراقية العمل للنهوض بالأهْلي المنحطّ، وفرنسا في طليعة الدول المطالبة بذلك الحق لترقية الشعوب التي بقيت في طور البربرية»؛ بل امتد ذلك الزعم إلى جوانب ثقافية وفنية ومعرفية ودينية.
لقد كانت عوامل عدة تدفع العالم الأوربي إلى الوصل بين الحضارات الشرقية القديمة وحضارته الغربية. وقد صوّرت ذلك التحفز أعمال الرسامين «المستشرقين» في مطلع القرن التاسع عشر الميلاديّ. لوحاتهم طافحة برسوم أناس عرب «أهليّين»، يغمرهم البؤس، رعاة ومزارعين، شيوخاً ونساء طاعنات في السن. تساءل فيها الفنّان: أَبِمجرّد مكوثهم هناك يكون هؤلاء «الورثة الفعليّين»؟ لكن ليس بالإمكان القول إنهم أصحاب تلك المعالم الكبيرة والشامخة! فذلك الإرث يعود إلى «الورثة المعنويّين» الغربيين، على غرار الرحّالة والرسّامين والمنقّبين عن الآثار.
وفي ذلك الجوّ المشحون بروح الاستحواذ، اتّخذ الاستيلاء على التراث الفرعوني والأكدي والآشوري والقرطاجي والفينيقي عديداً من الأشكال. وارتبطت العملية بظهور البرجوازية والدولة الوطنية في أوربا، وتجلى ذلك في بروز المتاحف الكبرى وتطور النشر في المجالين التاريخيّ والأثري، حيث أُنشئت المتاحف الكبرى الأوربية، المجهَّزة من قِبل الدول، لغرض استقبال المعروضات الضخمة الواردة من الجزيرة العربية والمشرق العربي وبلاد المغرب، التي عجز الخواص عن حيازتها وعن جلبها. إذ تمّ تدشين المتحف البريطانيّ سنة 1759م، واللوفر سنة 1791م، وبالإضافة إلى روائع الفن الكلاسيكيّ تسترعي الانتباه أيضاً المنحوتاتُ الآشورية الواردة من خرسباد ونينوى ونمرود. كما تمّ فتح قسم الآشوريات للعموم في اللوفر سنة 1847م، وفي المتحف البريطاني سنة 1853م.
لقد جاء التنقيب في مرحلة أولى، بغرض العثور على تحف نفيسة وترحيلها نحو المتاحف الكبرى، لتشهد الظاهرة تصاعداً لاحقاً. فمنذ زمن، كان عامة الناس في المشرق، ولاسيّما في مصر، يقومون بأعمال التنقيب لبيع ما يعثرون عليه بدراهم معدودة لتجار التحف والسماسرة والوسطاء، فتُرحَّل هذه صوب أوربا. وكان المخيال الشعبي ومنذ عهود سابقة مسكوناً بوجود ثروات مطمورة في باطن الأرض، في مقابر الفراعنة، وفي قبر آشور بانيبال على سبيل المثال، ويمكن حيازتها بحفر سراديب تحت الأرض.
ومع أعمال التنقيب، خلال منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، تم التحوّل إلى الاستغلال المباشر، برعاية شقّ من البرجوازية الأوربية، وقد كانت «الفرمانات» المخوِّلة من الباب العالي، أو بالأحرى المقتناة منه، أذوناً بالترحيل لا لمجرّدِ القيام بأعمال التنقيب، فالتنقيب دون ترحيل هو فعلٌ لا معنى له. وبعبارة أخرى، بعد أن تتمّ العملية في الأراضي التابعة للإيالة العثمانية، يغدو من الضروريّ التدخل الدبلوماسيّ، التابع للحكومتين الإنجليزية والفرنسية لدى السراي، وبالتنافس بينهما. فقد كان كلّ من بول إيميل بوتا P.É. Botta وهنري أوستن لايارد A.H. Layard دبلوماسيين، وهما من أوائل المنقّبين الهواة عن الآثار وترحيلها.
وكانت ضخامة اللقى الأثريّة (الصفائح الكبرى المنحوتة لقصور آشور) تقتضي تنظيم قوافل جرّارة من الطوّافات لنقلها عبر نهر دجلة، ثم بالبواخر، وربما مروراً عبر الهند، إذ لم تكن قناة السويس شُقّت بعدُ.
في تلك الأجواء نُقلت بوابة عشتار من العراق لينتهي بها المقام في متحف برلين بألمانيا.
إن التغاضي عن نهب الآثار الشرقية وترحيلها نحو الغرب يستند إلى ما يسمّيه المؤرخ ماريو ليفِراني ادعاء «الإرث المعنوي» لتلك الآثار من قِبل الغرب. وقد استفحلت المسألة مع تطور الحسّ بالهيمنة وتمدد الرأسمالية المدعومة بإحساس طاغٍ بالمركزية الغربية، التي تُعدّ نفسها وصية على الميراث الفني الكوني والموكلة باستغلاله.
طمس الذاكرة التاريخية
يزداد الترويج في الغرب الراهن لمقولة إن الشعوب العربية لا تفقه تاريخها، ولا تعترف فيه إلا بالجانب الإسلامي، ويتطور هذا الزعم إلى القول بأن الاعتراف بالماضي يقتصر على ما هو ديني، وتحديداً المتمثّل في التوجهات الأرثوذكسية الموغلة في التشدد. وهي في الحقيقة مسوغات تبرّئ الغرب من مسؤولية نهب تلك الثروات والاستئثار بها.
في هذه الأجواء، ثمة تحميل لمسؤولية ما يجري من نهب تراث البلاد العربية إلى العربي، بوصفه المسؤول الرئيس، سواء في عمليات السطو أو في عملية التهريب، والتغاضي عن شبكات المافيا الدولية الخلفية.
سؤال ثقيل يطرحه سياق الحديث: لمن ينتمي الماضي؟ وهل الغرب يقرّ فعلا بأحقية تملك الشعوب ثرواتها التاريخية والثقافية؟
القضايا المطروحة في السؤالين السابقين تبدو الإجابة عنها مسواة سواء في معاهدة لاهاي 1954 بخصوص حماية الممتلكات الثقافية في حالة نشوب نزاعات مسلحة، أو تلك العائدة إلى اليونسكو 1970. وكلتاهما تقرّ بأن من حق البلدان تملّك ثرواتها الفنية وحفظها، وفي حال تفجر نزاعات على الغازي أن يلتزم بحفظ المتاحف والمواقع الحاوية لتلك الثروات. لقد أرست الهيئات الدولية، منذ وقت، قواعد تُلحِق بمقتضاها ما عاد للحضارات القديمة لأصحابها وورثتها، ولاسيّما منها الأعمال الفنية، لتضع حداً للجدل الجاري بشأن «الورثة المعنويين»، فيما يتصل بالتراث الشرقي القديم. ولم يطبّق من ذلك إلا النزر القليل، ففي العراق «مهد الحضارات البشرية» كما يسمى، مع السومريين والأكديين والآشوريين والبابليين، بدخول الأمريكان بغداد 2003 تبخّر «قناع أوروك» المعروف أيضا بسيدة الوركاء، الذي يعود إلى 3300 قبل الميلاد، وموناليزا نمرود، وهو ما يضاهي قيمة قناع توت عنخ آمون، وحُليّ ملكات نمرود الآشوريات، بالإضافة إلى آلاف الألواح المسمارية. فقط من 15.000 قطعة أثرية مجدوَلة عاد الثلث. وفي الوقت الذي تحرص فيه بعض الدول على استرجاع تحفها الفنية المفقودة، تتلكّأ في ردّ ما بحوزتها لأصحابه، ونذكر على سبيل المثال مسلّة أكسوم الإثيوبية المرحَّلة إلى إيطاليا في الحقبة الفاشية، وقد عانت من المماطلة، وكذلك طلب ليبيا استرجاع مسكوكاتها القديمة من إيطاليا، ومنها مسكوكات قورينا الذهبية على وجه الخصوص.
ربما المسألة أشدّ تعقيداً وتشعباً في مجال المخطوطات العربية، فعلى سبيل الذكر، يقبع في المكتبة الوطنية في باريس وحدها 6835 مخطوطاً عربياً، وما يفوق 7000 مخطوط في مكتبة الدولة في برلين بألمانيا. وغالبية تلك المخطوطات هجرت البلاد العربية بطرق ملتوية. فالمخطوطات اليمنية وحدها في إيطاليا تُقدّر بثلاثة آلاف وثلاثمائة مخطوط، حاز مهربُ المخطوطات جوسيبي كابْروتّي (1862-1919) نصيب الأسد في ترحيلها نحو إيطاليا. فقد كان وصول كابروتي إلى مدينة الحديدة اليمنية سنة 1885، ثم استقر به المقام في صنعاء. وشحن قرابة الستين صندوقاً من المخطوطات حوَتْ ما يربو على 2040 مخطوطا تتراوح تواريخها بين القرن الثاني عشر والقرن الخامس عشر. وهي اليوم مودعة في المكتبات الإيطالية وإمارة موناكو وفي مكتبة حاضرة الفاتيكان.
إننا مازلنا نعيش مع الإعلام الغربي حتى الراهن نوعًا من الوصاية على الآثار العربية، والمشكلة أن العملية يشرعِن لها مؤرخون وعلماء آثار بدعوى عدم أهلية العرب الغارقين في اقتتالهم وحروبهم.
ومن هذا الزعم نشأت جملة من التناقضات، منها أن جميع الطرق، الأخلاقية وغير الأخلاقية، مباحة لحيازة ذلك الإرث، الذي يبقى الغرب موكلا بأمره. ذلك أن الإرث الثقافي العربي منهوب منذ زمن وليست المسألة وليدة اليوم مع التنظيمات الإرهابية وشبكات السوق السوداء.
وعملية النهب تشتغل على جبهتين تنطلق من «التومْبارولو»، و«نبّاش القبور»، ومن باعة المخطوطات والتحف، بحثاً عن الارتزاق، لتمرّ اللقية الأثرية إلى أيدي الوسطاء المحليين الذين يسلمون بضاعتهم إلى مافيا دولية لإيصالها إلى الأسواق السوداء في الغرب، ولتنتهي في المزادات العالمية في جنيف وباريس وهونج كونج ولندن ونيويورك، ومن ثمة في أيدي ملاك «شرعيين».
والسؤال المطروح: لماذا نهْبُ تلك الثروات غالباً ما ينتهي بها المطاف في عواصم الدول الغنية؟
كتاب أستاذ تاريخ فن الشرق الأوسط القديم في جامعة جنوة باولو بروساسكو «الكنوز المنهوبة. سرقة التراث الفني في الشرق الأوسط»، نشر موندادوري، روما 2013، يشرح الأمر بتفصيل وإيضاح، إذ ينتهي المطاف بالآثار والمخطوطات هناك لأنها تُروّج بأمان. لم تصادق أمريكا على اتفاقية لاهاي المذكورة والمعنية بموضوع الآثار سوى في 13 مارس 2009، وبالمثل لم تعرب بريطانيا عن نيتها في المصادقة سوى عام 2004، لتبقى إلى اليوم محترزة على بنودها، والمصادقة تعني محاصرة مهربي الآثار ودفعهم إلى العدالة والمحافظة على الذاكرة التاريخية للشعوب■