فيرونا...مدينة الحُب
في إقليم فينيتو بشمال إيطاليا، تقع مدينة الحب «فيرونا»، وسبب تسميتها بمدينة الحب أن بين أزقتها وشرفاتها حدثت قصة الحب الشهيرة التي خلّدها الروائي الإنجليزي الشهير شكسبير (1564 - 1616)، ألا وهي قصة روميو وجولييت، التي تعد من الكلاسيكيات العالمية، وتم تمثيلها في أكثر من فيلم ومسرحية.
تدور أحداث قصة روميو وجولييت في مدينة فيرونا، ويرجح أن تكون وقعت في القرن الرابع عشر، حيث تم لفيرونا استقلالها، إلا أنه كان هناك صراع شرس بين عائلتين نبيلتين، هما مونتاغ وكابوليت، غير أن سهم الحب أصاب روميو (من عائلة مونتاغ) التي تتربص العداء بعائلة جولييت التي أحبها روميو، رغم الصعاب والصراع اللذين مزّقا العائلتين.
وكان العشق المتبادل بين روميو وجولييت كصرخة السلام وسط جعجعة السلاح والموت، ويصر الحبيبان على الزواج، ويتم عقد قرانهما بواسطة قس كان يظن أن هذا الزواج سيضع حداً للصراع الذي يعكر مدينة فيرونا الهادئة، لكنه في الواقع أجج الكراهية، خصوصاً أن أحد أقارب جولييت أراد الزواج منها، ليفاجأ بأن غريمه وعدوه سبقه إليها.
وتدور أحداث دراماتيكية تنتهي بموت الحبيبين، وبموتهما اقتنعت العائلتان بضرورة السّلم، وهو الخيار الأفضل على مر العصور.
وبعيداً عن صليل السيوف وأشعار العشق، قررت أن أدخل المدينة من أوسع أبوابها، للتعرف أكثر على ملامحها وتفاصيل حكايتها، فبوابة «فيرونا بورتو نوفا»، أي بوابة الجنوب، تتأنق بحجرها الأحمر والساعة التي تتوسط البوابة، وتم هدم جزء منها لإفساح المجال لدخول السيارات وعربات الخيل، وما إن عبرتُ البوابة حتى لمحت تمثالاً للروائي شكسبير، إذ كيف لا يُكرم وهو الذي كتب أحداث روايتين من رواياته دارتا في مدينة فيرونا؟
والرواية الثانية هي «سيدان من فيرونا»، التي تدور قصتها حول الصداقة والخيانة، ودائماً اقتباسات مسرحيات شكسبير قيّمة وتدرج كالأمثال الشعبية، ويستشهد بها كثير من المتحاورين والمثقفين في خطاباتهم، لما تحتويه من مفاهيم فلسفية.
وقد لا يكون اختيار شكسبير لفيرونا الإيطالية لتكون مسرح أحداث مسرحياته جزافاً، فمن المؤكد أن هناك المزيد في المدينة يدفعني إلى استكشافها.
بعد البوابة، تأتي المباني البلدية الرسمية بأناقتها المعمارية الإيطالية، ومقابل المباني ساحة فيرونا الرئيسة، يقف بكل شموخ مبنى المدرج الروماني العملاق الذي يعد الثاني في الحجم بعد «كلوسيوم روما» الشهير، وقد بني مدرج فيرونا في عام 30 للميلاد، ولا يزال يستقبل الزوار بحفلات الأوبرا الشهيرة، ومنها مهرجان الأوبرا العالمي السنوي، ويستوعب أكثر من 1500 زائر، وبناؤه المهيب شدني لأقطع تذكرة وأدخل لأرى عظمة هذا المبنى الروماني.
كان الصعود بمدرجاته الحجرية الملساء صعباً، غير أني أصررت على أن أصعد إلى قمته لألتقط صورة تظهر المدرج كاملاً، ولحُسن الحظ كان الجو صحواً، مما سهّل عليّ عدم الانزلاق على هذه الأحجار الملساء التي نحتها الهواء منذ نحو ألفي عام.
ومن الجميل أنه فور الخروج من المدرج تشاهد أناقة الأسواق الإيطالية بشوارع عصرية جنباً إلى جنب مع المدرج الروماني، وكأني ركبت آلة الزمن وعدت إلى العصر الحديث، فشارع التسوق الرئيس يحتوي على أحدث «بوتيكات» بيوت الأزياء الإيطالية والعالمية.
وفي زقاق صغير وسط السوق رأيت ازدحام الزوار، مما لفت نظري، فجعلت عدسة كاميرتي متأهبة، فما كان هذا إلا بيت جولييت وشرفتها الشهيرة التي تسابق السياح لالتقاط الصور تحتها، وبجانب تمثال برونزي لها.
ومن عادة الزوار، وخصوصاً العشاق حديثي الزواج، تعليق قفل بأسوار المنزل، ويكتب على القفل حرفاً أو حرفين توثيقاً للحب عند أشهر حبيبين، إلا أنني أتحفظ عن أنهما الأشهر، فرومانسية الشاعر العربي قيس بن الملوح وحبه لليلى لا يقلان جمالاً عن روميو وجولييت، كذلك يزخر الأدب الفارسي بقصة حب مماثلة بين فرهاد وشيرين، وقصتهما مقاربة لقصة روميو وجولييت.
وبعيداً عن حكايات وأشعار العشاق التي لا تنتهي، حان وقت الغداء، فلابد من زيارة أحد المطاعم الإيطالية الشهيرة في ساحة دانتي، الذي يعد أب اللغة الإيطالية، وله في كل مدينة تمثال وساحة.
وساحة دانتي فيها المطاعم التي تقدم الأكل التقليدي الإيطالي الشهير، وكان اختياري للؤلؤة التاج الإيطالي، ألا وهي البيتزا، وتشتهر إيطاليا أيضاً بالمثلجات، وبما أن فيرونا قريبة من جبال الألب، فإن مثلجات فيرونا ذات طعم فريد مستمد من حليب أبقار جبال الألب الطازج.
وبعد الاستراحة بالمطعم، واصلت اكتشاف المدينة بساحة إربي التي كانت منتدى لأعيان فيرونا في زمن الإمبراطورية الرومانية، وتروي الساحة تاريخ فيرونا بتمازج المعمار الروماني، وبعبقرية هندسة معمار عصر النهضة، وتوجد بالساحة الأكشاك التي تبيع التذكارات وأقنعة الكرنفال، وقبعات إيطاليا المسطحة الشهيرة، كذلك باجات وأزرار معدنية تحمل شعار مدينة فيرونا.
وبجانب الساحة يوجد برج لامبيرتي الذي يعد الأعلى من 48 برجاً في المدينة، ويتزين البرج بساعة دقيقة، ويشمخ بارتفاع 84 متراً، وبني عام 1172، وبه جرسان أحدهما للإنذار من الحريق، والآخر لحمل السلاح، حيث كانت لأهل فيرونا صولات وجولات عسكرية تحكيها قلعة فيكو، وهي نموذج للقلاع بالقرون الوسطى وخالية من الزخارف، لها سبعة أبراج، وتقع على نهر أديجي الذي يعد ثاني أكبر نهر في إيطاليا، وينبع من جبال الألب، وبتعرجاته يحيط بمدينة فيرونا من جهتين كشكل المنجل.
وتطل القلعة مباشرة على النهر، وتحكي بطولة وشهامة سكان فيرونا، ففي أثناء الغزو الفرنسي بقيادة الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت، تم قتل فتاتين في عيد الفصح بشارع روما، فحضرت الروح الوطنية، وهمّ جميع سكان المدينة لمقاومة المحتل الفرنسي، ودارت رحى الحرب بالقلعة، وانتصر الطليان، فكان هذا اليوم يوم البطولة للمدينة، ويتم إعادة إحياء الواقعة وتمثيلها سنوياً.
وبجانب القلعة جسر غريب البناء، فهو محصن كأبراج القلعة، تم بناؤه في القرن الرابع عشر، ليكون وسيلة هروب عند محاصرة القلعة، وتضرر كثيراً أيام الحرب الفرنسية، وتم ترميمه حالياً بأحجاره الحمراء المطابقة لأحجار القلعة.
في فيرونا... لكل حجر قصة، ولكل زقاق تاريخ ■
بوابة فيرونا وتسمى بورتو نوفا أي بوابة الجنوب وهي جزء من سور روماني تستقبل الباحثين عن أسرار روميو وجولييت
اركو داي جافي ازدهر في فيرونا بالعصر الروماني وهو من بقايا تاريخ الامبراطورية
لاحظت تمثالاً لأسد سان ماركو وهو أيقونة مدينة فينيسيا وهذا دليل على نفوذ البنادقة على المدينة
الارينا ويعتبر الثاني بالحجم بعد كولوسيوم روما وتقام فيه حفلات الأوبرا