مستقبل الحضارات الآسيوية في عصر العولمة

مستقبل الحضارات الآسيوية  في عصر العولمة

أتيحت لي الفرصة أخيرًا للمشاركة في مؤتمر الحوار بين الحضارات الآسيوية الذي عقد في 14 و15 مايو 2019 بالمركز الوطني الصيني للمؤتمرات في بكين.
وقد حضره عدد كبير من القادة والمسؤولين الحكوميين من سبع وأربعين دولة آسيوية، ومثقفون، وفنانون، وممثلون لمنظمات نسائية وشبابية، ونقلت وقائعه بلغات عدة إلى مختلف دول العالم. وقد حمل عنوانه الرئيسي العبارات التالية: «التعلم المتبادل بين الحضارات الآسيوية، وبناء مجتمع موحد لمستقبل مشترك للبشرية». 

أعدت منظمة اليونسكو العالمية، بتنظيم مشترك مع وزارة التربية والثقافة في الصين، ندوة متخصصة وحاشدة باللغتين الإنجليزية والصينية، شارك فيها خمسة عشر باحثًا من دول آسيوية مختلفة، وكان لي شرف المشاركة فيها.
وإلى جانب حفل الافتتاح الضخم، أقيم المعرض الثقافي الآسيوي لتشجيع تكامل الفنون الآسيوية المتنوعة، ومعرض الحضارة الآسيوية لنشر الثقافات الآسيوية العريقة، ونشاطات أخرى، منها «حماية تنوّع الحضارات الآسيوية»، و«التبادلات الثقافية والسياحية والشعبية»، و«التعلم المتبادل بين الحضارات الآسيوية»، و«مسؤولية الشباب في حمل التراث الحضاري الآسيوي إلى الأمام»، و«تبادل الخبرات حول الحوكمة الآسيوية»، و«التأثير العالمي للحضارات الآسيوية».
أقيم مهرجان فني كبير حضره أكثر من عشرة آلاف شخص من داخل الصين وخارجها. وشاركت في تلك الفعاليات نخبة من الفنانين لإبراز خصائص الثقافات الآسيوية.
وقد شكّل المؤتمر مناسبة ثمينة لإظهار إنجازات الحضارات الآسيوية عبر التاريخ، وما قدّمته الشعوب الآسيوية لتطور الحضارة الإنسانية. وهو الأول من نوعه في تاريخ الحوار بين الحضارات الآسيوية.
وكان من أبرز أهدافه تعزيز الثقة المتبادلة بين الشعوب الآسيوية على قاعدة القيم الحضارية المشتركة.

عنصر رئيسي
الحوار بين الحضارات والثقافات يشكّل عنصرًا رئيسيًا في استراتيجية الصين لتعزيز التفاعل الإيجابي بين الثقافات الآسيوية. فتمسكت بالقوة الناعمة، وهي ترفض استخدام قوتها العسكرية إلا في حالة الدفاع عن شعبها وأراضيها ومصالحها. وتدرك القيادة الصينية أن العلاقات بين الدول لا تقتصر على الجانب الاقتصادي، فجمعت بين التنمية الاقتصادية المستدامة والتفاعل الثقافي الذي تعتبره القاعدة الصلبة لنموها الاقتصادي في الداخل. وعززت روابطها الثقافية مع جميع الدول الآسيوية، وأعادت التواصل الثقافي فيما بينها، لأنها تنتسب جميعها إلى ثقافات آسيوية متنوعة في الشكل وموحدة في مضمون قيمها الإنسانية والأخلاقية.
وساهم الحوار الإيجابي الحرّ بين الثقافات الآسيوية في الحفاظ على الثقافات الشعبية الآسيوية الموروثة التي تشكّل سدًّا منيعًا أمام التغريب الثقافي الذي يشكل خطرًا على الهوية الثقافية الآسيوية المشتركة، وعلى مستقبل الشعوب الآسيوية. إذ تتعرض اليوم شرائح شبابية آسيوية واسعة من أعمار مختلفة لتشويه ثقافي وتضليل أيديولوجي في ظل عولمة همجية تنشر ثقافات استهلاكية وافدة من دول متطورة تخشى نهضة الصين.
وشكّل الحوار العقلاني نقطة تحوُّل ثقافية مهمة في تاريخ الثقافات الآسيوية. فما زالت الصين حتى اليوم تفاخر بأنها قدمت للبشرية اكتشافات علمية مهمة، ونظامًا اجتماعيًّا متميزًا بُني على احترام القيم الإنسانية والأخلاقية.

تأثير عميق
رغم تخلّفها الاقتصادي وسقوطها تحت الاحتلال الأجنبي في القرن التاسع عشر، بقيت الصين تعتبر نفسها الرافد الأقدم للحضارة الإنسانية. فكانت المركز الأول لصناعة الورق، والبارود، والطباعة، والبوصلة، والتقويم، والفلسفة، والثقافات الشعبية التي تركت تأثيرًا عميقًا في كثير من دول العالم القديم. وأنتجت نظامًا من القيم الإنسانية المنفتحة على التفاعل الإيجابي بين الشعوب على قاعدة النفع المشترك، وتبادل القيم الاجتماعية ذات الطابع الإنساني، واحترام الآخر المختلف والتعلّم من تراثه الإيجابي، والتناغم مع الحضارات الأخرى.
وكانت الثقافة الصينية على الدوام ركيزة صلبة لشعب صيني موحد يضمّ قوميات وأديانًا متعددة.
عقد مؤتمر بكين لتعزيز الحوار الإيجابي بين الثقافات والشعوب الآسيوية، واعتماد القوة الناعمة لا العسكرية للحفاظ على الثقافات والحضارات، وتحويلها إلى منظومة من القيم الإنسانية والأخلاقية، ليصبح العالم أكثر أمنًا واستقرارًا. فكان من الطبيعي أن تشكّك مجموعة من المثقفين المروّجين لأولوية الثقافة المركزية الأوربية بالأسباب العميقة التي دفعت الصين إلى عقد هذا المؤتمر في ظروف إقليمية ودولية تشهد صراعًا سياسيًّا واقتصاديًّا بين الولايات المتحدة الأميركية والصين. ونشرت مقالات عدة بلغات عالمية متنوعة تستكشف الأبعاد النظرية والتطبيقية التي سيتمخض عنها مؤتمر حوار الحضارات الآسيوية.
وطرحت أسئلة منهجية عدة، أبرزها: لماذا جمع الحضارات الآسيوية دون سواها من الحضارات؟ ولماذا تعقد الصين مؤتمرًا ضخمًا بمشاركة الآلاف من ممثلي جميع الدول الآسيوية؟ وما هي كلفة التدابير اللوجستية الكبيرة والنفقات المالية الضخمة التي خصصت لإنجاحه، عبر تنظيم رائع أثار دهشة المشاركين فيه، ونقلت وسائل الإعلام أعماله بلغات عالمية متعددة؟

صلات وثيقة
ما هي الأسباب الكامنة وراء دعوة الصين لانعقاد هذا المؤتمر في بكين؟ وهل هناك صلات وثيقة بين انعقاد المؤتمر والتوترات الأمنية في بعض أنحاء الصين، وخاصة في منطقة شينجيانج، والعلاقات المتوترة بين الصين وتايوان؟ وما هي الخطوات المعاكسة التي تستخدمها الولايات المتحدة لوقف عملية التنمية المستدامة ومشروع طريق الحرير لما يشكّلان من مكاسب كبيرة للصين تؤهلها للمرتبة الاقتصادية الأولى في العالم، وتحوّل القرن الواحد والعشرين إلى قرن آسيوي بامتياز؟ وما هي الأهداف والنتائج المتوقعة منه؟ 
لقد عزّز الحوار بين الحضارات الآسيوية الدعوة إلى جمع الشعوب المختلفة على طول مبادرة «طريق الحرير والحزام الاقتصادي».
وتساءل بعض النقاد عمّا إذا كانت الصين تسعى من خلاله إلى توحيد الحضارات الآسيوية لتوسيع دائرة نفوذها في آسيا، ردًا على الضغوط الغربية. 
لكنّ وثائق المؤتمر أكدت بوضوح أن انعقاد المؤتمر كان لتعزيز الحوار المشترك وتقدّم الشعوب الآسيوية، فالحضارة الصينية اغتنت عبر تاريخها الطويل بالتفاعل الإيجابي مع الحضارات الآسيوية، وغيرها من الحضارات الأخرى من خلال التواصل الدائم معها، وعدم الانجرار إلى صراع فيما بينها أو السقوط فيما يخطط له منظّرو صدام الحضارات في الغرب الإمبريالي.
ويتطلب التقدّم المشترك للشعوب الآسيوية الحوارَ المتبادل بين الحضارات المختلفة، واحترام خصوصية كل منها، وبناء قاعدة مادية وثقافية صلبة للأجيال القادمة من خلال التعاون العالي الجودة بين الشعوب الآسيوية، وإطلاق مشاريع تنفّذ بمشاركة شعوب حرة ودول مستقلة على أساس المنفعة المتبادلة وتعميم الفائدة على الجميع.    
وانطلاقًا من تلك الأهداف النبيلة لخّص الرئيس الصيني شي جين بينغ خلال حفل افتتاح المؤتمر في 15 مايو 2019 جوهر الحضارة الصينية بقوله: الحضارة الصينية تساهم بشكل كبير في تنمية الحضارة البشرية.

قيمة مميّزة
التعاون الإيجابي مع الجيران الآسيويين هو الطريقة الصينية المثلى للتعامل مع جميع دول العالم، فنعمة الاستقرار والازدهار للشعوب هي القيمة المميزة للحضارة الصينية، والتمسك بالإصلاح والابتكار ومواكبة روح العصر من أساسيات جوهر الحضارة الصينية الذي لم يتغيّر. والالتزام بتحقيق الانسجام مع الطبيعة والوحدة بين الإنسان والكون هي فلسفة الوجود للحضارة الصينية. والحضارات تفقد حيويتها إذا مارست الدول التي تنتمي إليها سياسة العزلة، أو عزلت نفسها عن الحضارات العالمية الأخرى. 
وتتطلع الشعوب الآسيوية إلى آسيا منفتحة ومتكاملة، وإلى بناء مجتمعات آسيوية مستقرة ومزدهرة. وتتوقع من رافعي شعار «خصوصية الحضارات الآسيوية»، ومن المروجين لنشر حضارة إنسانية بخصائص آسيوية أن يبذلوا جهودًا كبيرة لكي يعم الرخاء المشترك بين الشعوب الآسيوية على اختلاف قومياتها وأديانها وتنوع أنظمتها السياسية. 
ويبدي بعض القادة الآسيويين فعلًا رغبة صادقة في تعزيز العولمة الاقتصادية على قاعدة الانفتاح التام وتقاسم المنافع المشتركة بين الشعوب الآسيوية. 
ويطالبون بوضع برامج عملية وخطط تنموية مشتركة للقضاء على الفقر والتخلف في جميع الدول الآسيوية، مما يعزز الثقة وروح التضامن والتعاون بين تلك الشعوب من خلال الانسجام، والتناغم، واحترام الاختلاف، وتوسيع دائرة التبادلات الاقتصادية والثقافية والسياحية العابرة للحدود. 
فتشجيع التفاعل الإيجابي بين الحضارات الآسيوية يستوجب الانسجام مع الحضارات غير الآسيوية، والشعوب الآسيوية تحتاج إلى القوة الثقافية الجامعة لمواجهة التحديات والأزمات التي تواجه العيش المشترك.

تحديّات متصاعدة
هنا تبرز أهمية القيم الحضارية الموروثة التي تشكّل العمود الفقري في الحضارات الآسيوية، إلى جانب الدور الفاعل الذي تلعبه القوى الاقتصادية والتكنولوجية في دعم الشعوب الآسيوية لمواجهة التحديات الجغرافية والبيئية بصورة مشتركة.
كما أن التحديات العالمية المتصاعدة التي تواجه البشرية بأسرها في المرحلة الراهنة تستوجب تضافر جهود الدول، على اختلاف ثقافاتها وأنظمتها السياسية، لحماية البشرية من الحروب المدمرة. 
هكذا بدا واضحًا أن الهدف الأساس من تنظيم هذا المؤتمر الكبير للحوار بين الحضارات الآسيوية في هذه المرحلة بالذات هو حشد الطلقات الآسيوية من خلال الحوار المتكافئ، وتقاسم الخبرات المكتسبة، والتخطيط الدقيق للاستفادة من القيم الإيجابية التي بلورتها الحضارات الآسيوية عبر تاريخها الطويل، وتعزيز نظام القيم الآسيوية كرافد فاعل في الحضارة الكونية الواحدة، ومواجهة التحلل الأخلاقي في النظم التي تتبنى الثقافة الاستهلاكية الغربية بجناحيها الأوربي والأمريكي.
وشدّد الرئيس الصيني على مبدأ التعايش السلمي بين مختلف الحضارات الآسيوية، انطلاقًا من تطلّعات الشعوب الآسيوية لحياة أفضل، والعمل على تحقيق العصر الآسيوي لكي يعم السلام والازدهار جميع الدول الآسيوية، وتجاوز مشكلات الحدود الجغرافية، والاختلاف الثقافي، والعرقي، واللغوي. 

ركائز العيش المشترك
دعا حكام الدول الآسيوية ونخبها الثقافية والاقتصادية إلى إطلاق برامج تربوية لتنمية قيم الحضارات الآسيوية والاستفادة من حيويتها الذاتية، ففي عالم متعدد الثقافات والحضارات لا بدّ من استنباط أفضل الوسائل التثقيفية لتوظيف القيم الحضارية في بناء ركائز العيش المشترك التي تساعد على استقرار الجماعات البشرية على أراضيها بحريّة تامة، وتحقيق الرخاء الاقتصادي والحياة الكريمة لجميع الشعوب.
وقد رفضت الصين مقولة صدام الحضارات، لأن الشعوب الآسيوية حيّة وقادرة على تمثّل جمال القيم الحضارية والاستفادة منها في بناء مجتمع آسيوي قوي على أسس أكثر إنسانية وعقلانية. 
والتناغم بين الحضارات الآسيوية والتفاعل الإيجابي بين قيمها الإنسانية والأخلاقية يساعدان على تعميم القيم الحضارية في مختلف المجتمعات الإنسانية، وتعليم قيم الحضارات الآسيوية لا يعطي ثماره الإيجابية الفورية بطريقة متكافئة ومتساوية، لأنها متنوعة الاتجاهات.
فتعليم القيم الحضارية يساعد على تجنّب كل أشكال الإكراه أو فرض قيم حضارة واحدة على حساب حضارات أخرى، مهما كانت صغيرة. 
أما صهر الحضارات الآسيوية في قالب موحد لفرضه على الشعوب الآسيوية، فيقود إلى دمار حضارات آسيوية بأكملها، تحت ذريعة أنها حضارات قديمة وتجاوزها الزمن.
والحضارة الموروثة قيمة ثقافية كونية ذات طابع إنساني، أما الثقافة العالمية الواحدة أو الكونية المفروضة بالقوة العسكرية وبالإكراه المادي والمعنوي، فهي نتاج سياسات إمبريالية تبنت مقولة الدور التمديني للعرق الأبيض في تثقيف الشعوب الأخرى، وإذاقتها طعم الحضارة الغربية بالقوة العسكرية. 
وقد خطط المستعمر الغربي لفرضها بالقوة العسكرية على الشعوب التي خضعت لاحتلاله، مما تسبب في قطيعة معرفية بين تاريخ تلك الشعوب وحاضرها في اتجاه معاكس لمسار الحضارة البشرية. 

تعزيز الثقة
أدرك قادة الدول الآسيوية أهمية تعزيز الثقة فيما بينهم على قاعدة القيم المشتركة للحضارات الآسيوية.
فالحوار الإيجابي بين الحضارات الآسيوية وغيرها من الحضارات يساعد على تطوير الدور الإيجابي الذي لعبته الحضارات الآسيوية في تاريخ الحضارات الإنسانية، فيتعزز بذلك الأساس الثقافي للمجتمع الآسيوي الموحد بكامل مكوناته السكانية، والتخطيط لبناء مجتمع إنساني متماسك تشارك فيه الحضارات الآسيوية إلى جانب الحضارات الأخرى، لتظهر مجتمعة دور القيم الحضارية في بناء عالم جديد أكثر عدالة ومساواة.
بيد أن الحضارات الآسيوية وغيرها من الحضارات، بحاجة اليوم إلى مواكبة روح العصر، والثورات العلمية والتكنولوجية والجينية المتسارعة.
ومع أن العلوم العصرية تحضّ على ابتكار كل ما هو جديد، فهي تحترم القيم الحضارية القديمة ودورها في تعزيز الصمود والتماسك الاجتماعي، انطلاقًا من الاحترام المتبادل والتفاعل الإيجابي بين الحضارات.
كما أن العلوم الإنسانية على أنواعها ترفض الأفكار العنصرية التي تروّج لتفوق أعراق على أخرى من حيث القدرة على التقدم العلمي، وبالتالي التفوق الحضاري.
ومنهم من روّج لحضارة تفرض بالقوة العسكرية على شعوب أخرى، لأن لديها القدرة على إلغاء أو تهميش حضارات بأكملها. وفرض الحضارة بالقوة مقولة عنصرية تمجد العرق الأقوى عسكريًّا وثقافيًّا وتبرر تحكّمه لشعوب أخرى وإجبارها على تبني لغته، وثقافته، وعاداته، وتقاليده بالقوة العسكرية.

 ركائز هشّة
يروّج مناهضو الحوار الإيجابي بين الحضارات الآسيوية لمقولات خطيرة جدًّا تهدد الاستقرار والأمن والسلام في آسيا. فبعد انهيار الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية الملحقة به، فرضت الولايات المتحدة سيطرتها على العالم بالقوة العسكرية، وتبنت مقولات «نهاية التاريخ» لخدمة الهيمنة الإمبريالية الأمريكية، و«صدام الحضارات» لكي تدمر بعضها بعضًا في نزاعات دينية ومذهبية وعرقية، و«الفوضى الخلّاقة» التي تنسف الركائز الهشة لكثير من الدول العصرية، وتمنع استمرارية العيش المشترك بين الشعوب في كثير من الدول، وخصوصًا الآسيوية والإفريقية منها.
وتشهد المرحلة الراهنة قتلاً وتهجيرًا لكثير من القوميات المحلية الضعيفة، عبر مجازر رهيبة أدت إلى ترحيل كثيف لجماعات بشرية مغلوبة على أمرها، وتخضع لعصابات سلطوية محليّة تتلقى التمويل السخي والدعم اللوجستي من تجار الحروب وشركات بيع الأسلحة. 
لقد أثبت المؤتمر أن الصين، التي تطورت سرعة فائقة لتحتل المركز الثاني في الاقتصاد العالمي وتنافس بقوة على المرتبة الأولى فيه، لن تتخلى عن الحكمة الصينية الموروثة من النظام السياسي القديم ودوره في الحفاظ على كل ما هو إيجابي في التقاليد والعادات الصينية الموروثة.
لذا فقد دعا قادة الصين ممثلي الدول الآسيوية إلى التلاقي والتعاون على إظهار الانسجام التام بين الثقافات الآسيوية وقدرتها على الحوار مع الحضارات الأخرى من موقع الندية والثقة بالنفس.
فالحضارات الآسيوية تمتلك القدرة على الاستجابة بالرد الحضاري، لأنه الضامن للتعايش بين الثقافات والحضارات.
وتسعى الصين إلى قيام عولمة أكثر إنسانية من العولمة الاستهلاكية التي عمل الغرب على فرضها بالقوة، فقادت إلى حركة تغريب ثقافي أساءت إلى شعوب كبيرة وذات حضارات إنسانية معترف بها عالميًا.

فلسفة الحكمة الصينية
تستند بكين إلى فلسفة الحكمة الصينية والخبرات التي اكتسبتها عبر تاريخها الطويل، وهي تستخدم اليوم تلك الحكمة لحل المشكلات التي تواجهها في ظل نظام معولم تقوده الولايات المتحدة بالقوة العسكرية، وتفرض عقوبات على الدول المارقة، وتحاول تغيير أنظمتها السياسية عبر مقولة «الفوضى الخلاقة».
في المقابل، من بين الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن بالأمم المتحدة تشارك الصين بأكبر عدد من قوات حفظ السلام، وتعتبر ثاني أكبر دولة بينها تقدّم دعمًا ماليًّا لعملية حفظ السلام، وتساهم بنسبة عالية في مجالات التعاون النموذجي بين الدول والشعوب لتخفيف حدة الفقر في دول آسيوية وإفريقية.   
ختامًا، ساهمت النقاشات العلمية المعمقة برعاية منظمة اليونسكو في لفت الانتباه إلى أن الحضارات الآسيوية قادرة على مواكبة تبدلات عصر العولمة. 
وهناك اعتراف دولي بأن الحضارات الآسيوية كتبت فصلاً رائعًا في تاريخ الحضارة البشرية، فقارة آسيا هي أولى القارات التي شهدت أقدم المستوطنات البشرية، وشكّلت موقعا مهمًّا للحضارة الإنسانية.  
لكن الحضارات والثقافات، على أنواعها، مطالَبة اليوم باحترام إيقاع العصر، واستيعاب جوهر التبدلات العلمية والثقافية والفنية والاجتماعية والاقتصادية العصرية.
ومن أول واجبات المبدعين في عصر العولمة، ابتكار طرق جديدة لزيادة القوة الدافعة لتطوير الحضارة الكونية، ومعها ركائز التقدم الحضاري، وتحقيق إنجازات تنموية تتجاوز حدود المكان الجغرافي الآسيوي، لتصبح مكاسب إنسانية تعم العالم بأسره.
ففي عالم تتعايش فيه حضارات وثقافات متعددة الأشكال والتجليات، ما زالت كل حضارة تمثّل روح بلد وشعبه. ولا يكتفي الشعب في دولة محددة باحترام حضارته، ونقلها من جيل إلى جيل فحسب، بل يطالب أيضًا بابتكار قيم حضارية جماعية تحد من سلبيات ثقافة العولمة.
فداخل القرية الكونية الكبرى تعيش شعوب تنتمي إلى أعراق وألوان ومعتقدات دينية ونظم اجتماعية مختلفة، وتحمل ثقافات خاصة غالبًا ما تتمسك بها وترفض التفاعل، لأنها مع الثقافات الكونية. 
فهي ثقافات بسيطة ومن نتاج قوميات أو جماعات صغيرة ومهمشة وتخشى الذوبان في العولمة، سواء بالطرق الطوعية أو بالقوة العسكرية، وهي تطالب بحقها في العيش الكريم، واحترام خصوصياتها الثقافية والحضارية.
فاحترام الآخر، والعيش معه بحريّة، والانخراط في التفاعل المتبادل مع ثقافته تعزّز جسور الصداقة بين الشعوب، وتحمي المجتمعات الصغيرة، وتصون السلام والاستقرار لجميع الشعوب. 
وليس بمقدور الشعوب الصغيرة مواجهة التحديات الكبيرة منفردة، مادامت هناك قوى تتجاهل القيم والحضارية وتهدد البشرية بأسرها .