الثقافة العربية... بين ضحايا الإرهاب
مؤسف جداً على الصعيد الثقافي، وإن كان مفهوم الأسباب بعض الشيء، أن ينصرف الألمان عن الثقافة العربية، كما جاء في الصحف! فقد كانوا في مقدمة من اهتم بلغتها وآدابها ومخطوطاتها وأشعارها، كما ملأ باحثوهم ومؤلفوهم ومستشرقوهم المكتبات بالبحوث والكتب القيّمة في مختلف مواضيعها.
مَن منا يجهل - مثلاً - فضل باحث عملاق مثل كارل بروكلمان (1868/1956) المرجع الكبير في تاريخ الأدب العربي، إذ قلّ من الباحثين، كما يقول د. نجيب العقيقي، «من لم يستند إليه أو يتوكأ على مصنفاته؟». (المستشرقون، جـ2، ص425)؟
اشتكى المترجم الألماني هارتموت فيندريش أخيراً من قلة اهتمام دور النشر الألمانية بالأدب العربي، واصفاً ذلك في مقابلة مع وكالة الأنباء الألمانية بأنه «فصل كئيب». وأضاف الناشر الألماني أن «دور النشر الكبيرة في ألمانيا لا تترجم سوى عمل صغير من وقت لآخر، مبررة ذلك بأن الأدب العربي ليس له جمهور في ألمانيا». (الشرق الأوسط، 25/4/2017).
وشكوى الرجل جديرة بأن تنبّه كل المؤسسات الثقافية والإعلامية في دول مجلس التعاون والعالم العربي.
إذ يعتبر فيندريش (72 عاماً)، من أشهر المترجمين الألمان للغة العربية، وحصل عام 2016 على جائزة الأدب السويسري عن أعماله المترجمة من العربية إلى الألمانية، وكان الرجل قبل بضعة أعوام عضواً في لجنة تحكيم الجائزة العالمية لأدب الروايات العربية، التي غالباً ما تسمى جائزة بوكر العربية، وتُمنح هذه الجائزة، كما قالت الصحيفة، للمرة العاشرة في أبوظبي.
وقالت الصحيفة كذلك إن المترجم الألماني أشار إلى «أن عدد الأعمال العربية التي ترجمت إلى الألمانية كانت أكثر بكثير في تسعينيات القرن الماضي عنها الآن»، لافتاً إلى «أن عدد الأعمال العربية المترجمة للفرنسية أكثر بكثير»، ومضيفاً أن «كثيراً من المؤلفين المشهورين في العالم العربي غير معروفين تماماً في ألمانيا، مما يضعف الطلب على أعمالهم وعلى الأدب العربي في ألمانيا بشكل عام».
كانت الصحيفة قبل سبعة أعوام قد أشارت إلى تراجع الاهتمام باللغة العربية في دولة أوربية أخرى هي إسبانيا، وفي منطقة تعني للعرب الكثير، وهي الأندلس!
وكانت الحكومة المحلية هناك قد طالبت بتخصيص مبلغ 25 مليون يورو حتى عام 2013 لتنفيذ مشروع يتضمن فتح أقسام لدراسة اللغة العربية، لكن المشروع جوبه بمعارضة شديدة.
وجاء في تعليق المعارضين في إحدى الصحف الإلكترونية، «أن تدريس اللغة العربية لا يفيد في شيء»، وقال آخر مشككاً «ما هي فائدة دراسة اللغة العربية؟ إن القادمين إلى بلدنا عليهم أن يدرسوا لغتنا، لا أن ندرس نحن لغتهم»، وطالب معلّق معادٍ بشدة للمسلمين فيما يبدو «أتمنى أن يعود الملوك الكاثوليك كي يطردوهم مرة أخرى»! (الشرق الأوسط، 1/1/2010).
وقالت صحيفة اللوموند دبلوماتيك قبل خمسة أعوام إنه «على الرغم من أن العربية هي اللغة الثانية الأكثر تداولاً في فرنسا، فإن تعليمها الرسمي يسجل في المرحلة الثانوية تراجعاً مستمراً».
وفي أحد الحوارات، هاجم وزير الزراعة برونو لومار عام 2011 بعض وسائل تدريس العربية قائلاً: «أنتم تغذون الشعبوية عندما تسمحون بإعطاء دروس في اللغة العربية من قِبل نساء محجبات في المدارس الحكومية». وأضافت الصحيفة «في حين يختار خمسة عشر ألفاً اللغة الصينية، وأربعة عشر ألفاً الروسية، واثنا عشر ألفاً البرتغالية، بالكاد يتخطى عدد الذين يختارون اللغة العربية الستة آلاف».
وإذا كانت بعض العائلات الإسلامية تختار تسجيل أبنائها في المسجد أو في جمعية دينية كي يترافق تلقينه اللغة بتعليم ديني، «تشير أستاذة اللغة العربية بثانوية فولتير في باريس، زينب غاين، إلى أن «هنالك أهالي يفضلون أن يتعلم أولادهم الإنجليزية والإسبانية في المدرسة». (الترجمة العربية من القبس، أكتوبر 2012).
كانت فرنسا هي الدولة الأولى في أوربا الغربية التي أنشأت كرسياً للغة العربية في كوليج دي فرانس في عام 1530 في زمن الملك لويس الرابع عشر.
إذن، الاهتمام بالعربية في فرنسا عمره نحو خمسة قرون. وفي مطلع القرن التاسع عشر حلّت فرنسا محل هولندا بفضل أستاذ العربية والفارسية الذي جدّد الدراسات العربية، ولاسيما علمَي الصرف والنحو في أوربا جمعاء، العلّامة دي ساسي، فقصده الألمان وتتلمذوا عليه وتأثروا به، ومن أشهرهم فلايشر (1801/1888) وإيغالد (1803/1875)، فعُدّا مؤسسي الدراسات العربية في ألمانيا.
كانت علاقة الألمان بالعربية قد بدأت قبل قرون من خلال قيام الرهبان بالترجمة في الأندلس، وقام يونيوس (1545/1602) بترجمة نص التوراة من العربية إلى اللاتينية. (العقيقي، ص 340).
وقد اختلط تدريس اللغة العربية وآدابها في الغرب اليوم بمشكلات أوربا وقضايا الهجرة والهوية والتطرف والحجاب والنقاب و«داعش» والقاعدة والإرهاب، وتغيرت صورة المجتمعات الإسلامية بصورة جذرية. وفي فرنسا بدأ أحياناً إقفال صفوف ممتلئة بالطلاب، تقول «اللوموند» نقلاً عن المفتش العام للتربية الوطنية، «فقد انتاب الخوف الكثير من مديري المدارس ورؤساء المناطق التربوية أمام هذا الكم من العرب المقيمين عندنا، والذين تبيّن أنهم يدرسون اللغة العربية».
إن العربية اليوم لغة 390 مليون إنسان وأكثر، وتعد اللغة الرسمية ضمن 6 لغات تستخدمها الأمم المتحدة إلى جانب الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والصينية والروسية، في حين باتت تعتبر في فرنسا لغة مرتبطة بالمهاجرين، من السهل ربطها كذلك بأحياء الغيتو، بالقومية العربية والإسلام، وتقول «اللوموند»: «من هذا المنطلق لا يمكن لمسؤول سياسي تأييد مسألة تدريسها من دون أن يتعرض لهجوم».
قارن ما قلناه كله بما يقوله أستاذ الأدب العربي الحديث في جامعة باريس الثالثة Censier:
«لا يمضي عام إلا وتصدر، في أكثر من لغة، ترجمة جديدة لكتاب «النبي» لجبران خليل جبران، هذا الكتاب، الذي وزّع الجيش الأمريكي منه مليون نسخة على جنوده الذاهبين إلى جبهات القتال في أوربا في أثناء الحرب العالمية الثانية، ما لبث أن تصدّر لائحة المبيعات في الولايات المتحدة بعد الكتاب المقدس مباشرة». (لوموند دبلوماتيك، العربية، 7 يوليو 2008 ■