جون هوبكنز: الكتابة هبة الرحلة
ولد الكاتب الأمريكي جون هوبكنز hopkins John بمدينة أورانج بولاية نيو جرسي سنة 1938. لبى نداء المساحات الشاسعة، والبراري.. فتحرر من الوهم، واتسع إدراكه للكون، واستوعب معنى الوحدة، والغيرية. لم يرغب في العيش بالولايات المتحدة كأستاذه بول بولز، الذي التقاه بطنجة، ورغب في العمل بالمؤسسة البنكية أو أن يصبح رجل أعمال، هو خريج جامعة برانستون، نزولاً عند نصيحة والده: «يا ابني، لا تشتغل في وول ستريت»، هو الذي قضى معظم حياته العملية بـ«وول ستريت»، وما صادف النجاح ولا السعادة كما يقول الابن جون.
تعاطى السفر حتى الإدمان، حيث قضى ربع قرن يرحل من جغرافيا وقارة إلى تاريخ وبشر، يتفرس في تضاريس وجود الناس، يمتص رحيق المعيش فيحوله ثماراً من حروف وعواطف. استقر بأمريكا اللاتينية فكتب روايتي «في الجبال الصينية»، و«مذكرات أمريكا الجنوبية» (1972 - 1973)، وإفريقيا الجنوبية والشرقية فخلدهما عبر «يوميات النيل الأبيض»، وإفريقيا الشمالية حيث قضى بطنجة والمغرب قرابة العقدين، فتمخضت عن روايات «طنين ذباب طنجة»، و«يوميات طنجة» (1962-1979)، و«وداعاً، أليس».. ولئن قال الفيلسوف الفرنسي ألان إن السفر مدرسة ثانية، فالرحلة تخلق الكاتب حين تجد التربة والمناخ، وهي رحلة في الذات، أيضاً. ولأولي الألباب عبرة في المواطن الطنجي ابن بطوطة.
• جون، يبدو لي أن نصيباً من المصادفة قد أسهم في كونك أصبحت كاتباً.
- للمصادفة أو الحتمية نصيب من حدوث الأشياء. وهو ما تلخصه كلمة «مكتوب»، كما قال لكَ وليام بورووز ذات مرة. تعلم أنني سافرت على متن دراجة نارية من ميونيخ بألمانيا إلى مومباسا بكينيا، وقد استمرت الرحلة ستة أشهر، وذلك رفقة صديقي جو ماك فليبس... وكنت شرعت قبل تلك الرحلة بالانخراط في كتابة يومياتي، ولما حللت بطنجة قلت بيني وبين نفسي يجب أن أكتب الآن رواية. وكنت قد راكمت بعض الأفكار التي يمكن أن تشكل الحبكة.
• روايتك الأولى، التي كتبتها، ولم تنشر؟
- نعم، لم تنشر بالطبع، وخلال كتابتها كنت أشتغل بالمدرسة الأمريكية بطنجة كأستاذ. كنت أقضي النهار في التدريس والليل في الكتابة. كان الأمر متعباً جداً. أتممت ذلك الكتاب، ولم يرضني، ولم أقتنع بنشره، وما أزال أحتفظ به حتى الآن (ضاحكاً). بعد ذلك كتبت قصة قصيرة عنوانها «كل ما كنت أرغب فيه هو العشرة» ونشرت بسويسرا بفضل بول بولز بمجلة Art Literature.
• وقد أشرتَ إلى ذلك في «يوميات طنجة»، لكن هل يمكن أن نعتبر التحدي الذي ألقاه في وجهك الناقد بيرسي لوبوك حينما قال لك، بمعية ماك فليبس، إذا استطعت أن تعزل نفسك على ظهر جزيرة، غير بعيدة من سكناه بإيطاليا، من دون أكل ولا شراب، طوال ليلة واحدة وتدوّن مجمل مشاعرك، ستمتحن نفسك لتعرف هل يمكن أن تصبح كاتباً.. هل يمكن اعتبار ذلك التحدي والاستجابة هو أول فعل للكتابة بالنسبة إليك؟
- نعم، طبعاً كنا، أنا وماك فليبس، نقرأ كتباً للكاتب الإنجليزي بيسري لوبيك، وكان عمره يومها 85 سنة، وهو صديق قديم لهنري جيمس، وإدوارد فورستر، وغيرهما من الكتاب الكبار. وقد أقمنا ببيته لعدة أشهر، وكنا نقرأ له خلال النهار بالتناوب ونستمتع بالسباحة، أيضا، لأنه كان يسكن فيلا جميلة جداً بالقرب من البحر. وكنت قد بدأت كتابة مذكراتي ببيته. كنت قضيت أربعا وعشرين ساعة على ظهر جزيرة غير بعيدة عن فيلته وعن الشاطئ، من دون أن أحمل معي أي شيء عدا قلم ومذكرة.
• لعل بولز وطنجة ساهما في تشكيل الكاتب جون هوبكنز؟
- بالطبع، بولز قرأ نصي الأول وصححه، وطالب أكثر من مرة بإعادة كتابته حتى طهرته من الزوائد. وظل يقرأ نصوصي ويبدي الملاحظات، ملاحظات الكاتب المتمرس، المخلص، الحريص على تفوق التلميذ ونجاحه، وهو أيضاً في رحاب طنجة جعلني ألتقي كثيراً من الكتاب الأمريكيين، وغير الأمريكيين، وكل ذلك يسهم في خلق الكاتب من دون نسيان دور القراءة. وبولز محرض على القراءة.
• يمكن أن نقول إنك أصبحت رحالة، وقمت برحلات أيضاً، بالمصادفة لما ذهبت إلى البيرو ورغبت في شراء مزرعة هناك والاستثمار في هذا البلد؟
- «ضاحكا» نعم. عندما أنهيت دراستي بجامعة برنستون بالولايات المتحدة، كنت أحلم بامتلاك مزرعة بُنّ بأمريكا الجنوبية. ومن أجل ذلك سافرنا، أنا وماك فليبس، إلى البيرو، محتضنين حلمنا، وعشنا عدة مغامرات هناك، واكتشفنا أن تحقيق حلم مزرعة البن ليس من نصيب شبان مثلنا. كنت يومها ابن الثانية والعشرين، وبدا لي أمراً مستحيلاً قضاء بقية عمري بالغابة الاستوائية. وهكذا عدنا إلى الولايات المتحدة الأمريكية ثم رحلنا إلى إيطاليا، حيث عثرنا على ذلك العمل عند السيد لوبيك، ثم قمنا بتلك المغامرة الطويلة، على متن تلك الدراجة النارية، في إفريقيا.
• بالنسبة إليك ككاتب، هل تعتبر الرحلة، الأسفار، مكوناً ضرورياً للكتابة؟
- نعم، نعم، لو بقيت في بيتي بالولايات المتحدة لن أكتب أبداً. هذه حقيقة. بالنسبة لي وجب علي أن أسافر، أن أتعلم، أن أعرف العالم، هذا أمر ضروري، وجوهري.
• في «يوميات طنجة» تتحدث عن الناس كثيراً وعنك أيضاً، لكن هناك إشارة وردت تهم تناولك للمعجون، هل لذلك علاقة بالكتابة، هل يساعد هذا التناول على الكتابة، يسهلها؟
- لا، لا، أبداً. تناولته بفعل الفضول، ببيت بول أو ببيت بعض الأصدقاء. ولكن لا أثر له على عملية الكتابة. وهذا أمر سمعتَه أيضاً من بول،... ولكن لا أثر لذلك في الكتابة.
• لا يوحي تناوله بأفكار، لا ينشط الذاكرة.
-لا، لا، أبداً. بالنسبة لي، لا أثر له في الكتابة.
• في المغرب أيضاً، ظللت تقوم برحلات إلى الجنوب المغربي، وإلى الصحراء، وإلى عدة مدن أخرى للتعرف على الناس، على الفضاءات.
- تعلم، يا عبدالعزيز، كنت خلال تلك المرحلة أعاني من أزمة ربو شديدة، وطقس طنجة رطب جداً، وما يزال كذلك، ولم تكن هناك تدفئة مركزية في البيت الذي كنت أقيم به، وكانت الرطوبة حادة.. وقد انتابتني نوبات ربو حادة وتضاعفت معاناتي. وعندما ذهبت إلى الصحراء، أحسست بتراجع حدة الربو وبتحسن حالي واسترجع تنفسي إيقاعه العادي بفضل مناخ الصحراء الجاف. وبذلك تكررت رحلاتي إلى الصحراء لأسباب صحية أولاً، ولأنها مصدر إلهام بالنسبة إليَّ ثانياً.
• «في يوميات طنجة» تركز كثيراً على الطبيعة والبحر.
- «مقاطعا» لأنني كنت وما أزال أحب البحر، أحب السباحة فيه. وفي طنجة، هناك شواطئ جميلة على المحيط الأطلسي والأبيض المتوسط، عندما كنت أقطن بمنطقة الجبل كنت كثير التجوال على هذا الشاطئ المقابل لإسبانيا، حتى كاب سبارطيل. أراقب الطبيعة، وحركة الأمواج.. وأسبح باستمرار حتى في فصل الشتاء.
الطبيعة المتوحشة
• يبدو للطبيعة، وللبحر أثرهما في الكتابة من حيث توليد الأفكار، وربما تجديدها في معظم نصوصك؟
- الطبيعة مجال للوحي، كما شكلت ذلك بالنسبة للعديد من الكتاب، والطبيعة في المغرب، وخاصة الطبيعة المتوحشة، الشواطئ الجميلة والخالية من الناس، والمناطق الجبلية أيضا (والكل يعلم أن المغرب بلد جميل) وكذلك الصحراء.. أستلهم منها كلها الشيء الكثير وتوحي لي بالشيء الكثير.
• على ذكر الصحراء، تقدم أعمالك أوصافاً جميلة للصحراء تعكس كونها فضاء يولد الأفكار، يغري بالمغامرة والاكتشاف، ويقوي العلاقات الإنسانية ويغنيها.
- أنت تعلم أن من يرغب في السفر إلى الصحراء يجب أن يضع نصب عينيه أنه سـيعاني، وقد سافرت إلى الصحراء على متن الشاحنات، والحافلات الصحراوية، وعلى ظهر الجمال. والسفر في الصحراء صعب وشاق دائماً، وربما دلل الصعاب الآن إنشاء الطرق والمواصلات. لم يكن هناك أكل، أو أكل كافٍ. وكان السفر دائماً طويلاً وبطيئاً. يستمر الترحال ست عشرة ساعة في اليوم، والعطش والجوع يتربصان بك، وليس هناك مكان للمبيت في القرى الصغيرة. يجب عليك أن تبحث عن مكان لقضاء ليلتك ولو كان داخل قلعة قديمة يملكها الاستعمار، وليس هناك أفرشة... ورغم ذلك، كنت دائماً فرحاً وأنا في الصحراء.
• تتحدث عن الطبيعة المتوحشة والفارغة.
- «مقاطعا» الطبيعة المتوحشة والفارغة تأسرني دائما.
• لماذا تأسرك؟
- لأنه في إنجلترا، حيث أقيم الآن، لا وجود لمثل هذه الأماكن «ضاحكا» مع الأسف... ما يشدني إلى هذه الأماكن أنني أكون بها وحدي، ولا أعرف أحداً هناك، أي ليس لي معارف، ويجب علي أن أتحدث إلى مرافقي من المسافرين أو العابرين والشبان من المغاربة أبناء المنطقة... والآن، «حين يكون في الصحراء» علي أن أتحدث مع نفسي عبر المذكرات. عندما أقول يجب أن أتحدث مع نفسي عبر المذكرات، أقصد بذلك أنني أملك كثيرا من الوقت، وليس لديك عمل معين لإنجازه، فتشرع في التفكير بالكتابة، وقد كان في البال روايات، إذن شرعت أفكر في أحداثها، شخوصها ومساراتها... في الصحراء، هناك متسع من الوقت للحديث مع الذات.
طنجة عالم صغير
• جون، ما هي الأشياء التي لفتت انتباهك عندما حللت للمرة الأولى بالمغرب؟
- السوق البراني، والأطفال الذين لا ينامون خلال الليل «ضاحكا».. قضينا، أنا وماك فليبس، الليلة الأولى بالسوق الصغير، نتحدث بمقهى السنترال حتى الرابعة صباحا. كنا جئنا إلى طنجة عبر البحر. ولفت انتباهي سكان طنجة، اللطفاء، الذين يتحدثون كل اللغات الإنجليزية والفرنسية، والإسبانية والإيطالية، وطبعاً اللغة الدارجة المغربية، ثم هناك تنوع ساكني المدينة، وطقسها الجميل، ومستواها المعيشي الرخيص... وقد عثرنا على منزل بمنطقة القصبة وكان ثمنه رخيصا، وكنت فرحا بالتدريس في المدرسة الأمريكية، إذ كان من بين تلامذتي هناك، خمسة عشر تلميذا مغاربة، ويهود، وإسبان، وأمريكان، فرنسيون... خليط حقيقي. وأنا يثيرني تعدد الأجناس في طنجة لأنه يعكس لنا تعدد أجناس العالم، طنجة عالم صغير.
إنصاف الفضاءات
• حين تستوعب تضاريس المكان وساكنيه، وتغوص في بحرهما اللجّي، وتعتق المعرفة بهما تتحول كلمات وعواطف تنثرها على أوراق قد تمتع قارئاً مفترضاً يقيم على هذه الأرض، بلغة ما.
- تذكر قول جون كوكتو: أقرأ حتى أمتلئ ثم أفرغ ما في جعبتي، نقرأ الكتب، والواقع، والناس... وقد أنصفت كل الفضاءات التي أقمت بها... وحب طنجة والصحراء راسخ في الروح.
• طنجة كفضاء، من خلال كتاباتك، تشكل نقيضا للصحراء.
- «مقاطعا وهو يضحك» طبعا، نعم. تماماً. كان لي عمل، وكان البيت الذي أقيم به جميلاً، لكن وجب أن أتحرر، بين الفينة والأخرى، من طنجة من أجل صحتي، ولكن أيضا من أجل اكتشاف الصحراء.
• في روايتك القائمة على رحلة من صحراء المغرب نحو طنجة «طنين ذباب طنجة»، بحثا عن بعض التطهير والاستشفاء وكنت توجد بمدينة «گُولْمِيمْ» تحدثت عن ذلك المهندس الأمريكي الذي اكتشف الماغنيزيوم.
- «مقاطعا» ليس في «گولميم» بل بقرية قرب «فُمْ زْگِيطْ» بقرية تدعى تارْگِيسَتْ، التقيت مهندس معادن أمريكياً أحمق يقول إنه اكتشف معادن الماغنيزيوم بأحد الجبال هناك. نعم، يحدث أن نلتقي كثيرا من الشخوص الغريبي الأطوار خلال الأسفار.
• قلتَ عبارة بمنزلة تعليق على ذلك نستشف منها الخوف على براءة العالم والإنسان من استبداد رأس مال: «هكذا سينتهي المطاف بالعالم التصنيع والاستغلال».
- نعم، وهذه حقيقة. فهذا المهندس كان يعتقد أن شركة أمريكية كبيرة ستحل بتارﮔيست لتستغل الماغنيزيوم. لكن، حمدا لله، أن ذلك لم يحدث «ضاحكا».
• لو حدث ذلك لتم تحويل الطبيعة ومسخها عبر بنايات إسمنتية.
- نعم، إن ذلك سيشكل طامة كبرى... الحمد لله أن ذلك لم يحدث، على الأقل حتى الآن «ضاحكا» تارگيست كانت واحة جميلة جداً. وقد ذهبت إلى تارگيست على متن الدراجة النارية ذاتها. كانت الطريق صعبة ووعرة. إني أتحدث عن فترة انصرمت قبل قرابة خمسين سنة، وقد تغير المغرب كثيرا منذ ذلك الوقت.
أمريكا اللاتينية
• روايتك الأولى «مساح الأرض» فضاؤها أمريكا اللاتينية.
- «مقاطعا» هي الرواية الأولى المنشورة. وتعرض لشاب ببلد أجنبي يبحث عن معنى لحياته ويريد اكتشاف هذه الحياة في الآن ذاته. والرواية إلى حد ما ذات مضمون سيرذاتي، قام الشاب هوبكنز بعدة رحلات إلى الأمازون والجبال بعيداً عن أسرتي وعن بلدي. وقد كنت أصبحت مستقلا بذاتي للمرة الأولى. وما أزال أتوفر على عدد هائل من صفحات مذكراتي عن تلك الفترة من حياتي... (نشر هوبكنز، مؤخرا، كتابا يشمل مذكراته الرحلية بأمريكا الجنوبية، وما يزال يحتفظ بمئات الصفحات الأخرى).
• روايتك الثانية «طيران البجع» تتخذ من أمريكا اللاتينية فضاء لها، أيضا.
- نعم، وهي أيضا استوحيتها من أسفاري لأمريكا اللاتينية. وعدد من شخوصها استوحيته من أصدقائي، ولا أذكرهم بأسمائهم الحقيقية. وتتحدث الرواية عن ابن يبحث عن والده الذي فقده من مدة طويلة. إنها قصة واقعية تقوم على وقائع حقيقية لأسرة أعرفها بالولايات المتحدة. بالطبع، وظفت كل تجاربي الخاصة بإقامتي في أمريكا اللاتينية. وبالطبع، هناك اهتمام خاص بالطبيعة في هذه الرواية.
• أعتقد أن موضع البحث عن الأب خاص بك أيضا.
- تعلم أن البحث عن الأب، متشعب. إنك تعلم أن والديَّ انفصلا عن بعضيهما البعض لما بلغت الرابعة عشرة. وقد أحدث الطلاق حزنا كبيرا لي ولباقي أفراد أسرتي. كنت ألتقي والدي، بين الفينة والأخرى، وكان الحزن يأكله أيضا، وكنت أبحث عن أبي من خلال/ وفي هذه الرواية.
• لعل عنوان روايتك الثالثة «في الجبال الصينية» غريب إلى حد ما.. إذ إن وقائعها تتخذ من البيرو فضاء لها... لكن حين نعلم أن من بين أطراف الصراع في البلد مجموعة ماوية، متأثرة بفكر ماو تسي تونغ الزعيم السابق للصين ندرك مواءمة العنوان للنص.
- نعم، وهو بالفعل كذلك... إنه يقوم أيضا على معرفتي بقصة مجموعة ثورية ماوية كانت تنشط في البيرو. تدعى هذه المجموعة
بالــ«sedero Romenoso Chining pair" وقد تعرفت، خلال إقامتي بالبيرو، على عدد كبير من الأصدقاء الذين دمرت حياتهم هذه المجموعة من الثوار، ولذلك كتبت هذه الرواية. وكان سارد هذه الرواية نصفه ألماني ونصفه الآخر هندي، كان يعيش في الموقعين معا، موقع الثوار، وموقع العائلات القديمة الأصيلة في البيرو.
• كيف تخلقت ثم نمت فكرة كتابة رواية «طنين ذباب طنجة»؟
- كنت ذات يوم آخذ قيلولتي في طنجة، ولما استيقظت ظللت أراقب ذباب طنجة، وأنا ممدد بفراشي. ذباب طنجة، الذباب الذي يظهر بغرف بيوت طنجة، ذباب لا يحدث صوتا... طبعا، لما كنت في الصحراء كنت أرى كثيرا من الذباب، خاصة خلال فترة الثمر، لكن ذباب طنجة مختلف عن ذباب الصحراء. في تلك اللحظة تذكرت مغامراتي في الصحراء، فنشأت فكرة الرواية في ذهني، وأنا أشاهد ذباب طنجة.
• الحدث الأهم، أو محور هذه الرواية هو تلك الرحلة من جنوب المغرب، من الصحراء، باتجاه الشمال، طنجة؟
- قمت، يومها، رفقة السيد ماك فليبس، برحلة إلى الصحراء التي كانت تحتلها إسبانيا: أي الساقية الحمراء ووادي الذهب. هذا الفضاء الصحراوي الشاسع جداً. وقد سحرنا واندهشنا ونحن نخوض مغامرتنا في تلك البقاع، ونعاين الحضور الإسباني، حضور جنود الفيلق الإسباني.
• يلاحظ في روايتك هذه تأكيدك على وصف المواسم الشعبية.
- زرت أول موسم وهو موسم سيدي قاسم رفقة بول «بولز» على الشاطئ الأطلسي. إنها تجربة مدهشة. ثم لما سكنت بمدينة مراكش زرت معظم مواسم المنطقة، كما زرت المواسم الموجودة جهة طنجة, ومنها موسم سيدي علي زرهون، وهو غير بعيد عن مولاي إدريس «بالقرب من مدينة فاس»، وحضرت لحظات الجذبة لجماعات حمادشة، وگناوة، وجيلالة.
الصحراء تطهر الإنسان
• يمكن أن نلاحظ أن الوحدة هي إحدى التيمات الرئيسة في كتاباتك، نعثر عليها في نصوص عدة منها: «طنين ذباب طنجة» من خلال شخصية جوزيف كايبل، «كل ما أرغب فيه هو العشرة»؟
- في ذلك الوقت كنت أبحث كثيراً عن الوحدة، كنت أريد تجريب الوحدة. كنت أعتبر الوحدة مهمة جدا في ذلك الوقت. إن أسفاري إلى الصحراء كان الغرض منها معرفة الوحدة ومعرفة ما إذا كنت قادرا على تحمل الوحدة. واكتشفت الوحدة ولاحظت أنني أحبها كثيرا، وأحب أن أعيش الوحدة لأنها ترغمني على التفكير في كتبي، وفي كلماتي. وعندما كنت أغادر الصحراء بعد مرحلة من الوحدة، كنت كمن يخرج من الحمام، أغادر الصحراء نظيفا، نقيا، وأحسن حالاً مما كنت عليه من قبل... الصحراء تطهر الإنسان من أدران التحديث، والمكننة.
• في «طنين ذباب طنجة» يقول جوزيف كايبل: «إنني أرغب في صحبة المغاربة لأنهم خبراء في القضاء على الوحدة»؟
- آه، المغاربة. نعم، نعم، لأنني أدركت مبكرا أنه يجب علي أن أقبل بمعاشرة المغاربة لمعرفة أحوال المغرب، وخصائص أهله وعالم الصحراء. يجب علي أن أخالط المغاربة الذين ألتقي بهم في الطريق إلى الصحراء.
كاتب واقعي
• يمكن القول إنك كاتب واقعي، وذلك ما تدعمه نصوصك.
- نعم، نعم.. أنا مقتنع بذلك أيضا.
• في كتاباتك تنحو نحو تقديم لحظات من تاريخ الناس وطباعهم وأفكارهم ونمط عيشهم اليومي؟
- نعم، نعم. الإبداع تاريخ للواقع، أو التحولات، أو المشاعر كما يقول صديقنا بولز.
• وهو ما يعطي لكتاباتك قوتها وقيمتها ككتابة تقدم صورة عن شعب معين؟
- ذلك جزء من الديكور... أليس كذلك؟ بالطبع، عندما كنت في المنطقة الجنوبية لبلدك، لم يكن الأمر كما هي الحال عليه الآن من وجود عدد من السياح. لم يكن هناك، آنذاك، سياح آخرون شباب كما نراهم الآن، يسافرون في كل بلاد العالم. لقد كنت وحدي، يومها، رفقة المغاربة الذين يسافرون مثلي والذين كنت ألتقي بهم في الأسواق وغيرها... ووجب علي أن أتحدث إليهم، وفي كتبي أقوم بوصفهم، وأصف ما رأيتهم عليه وما عرفته عنهم.
• في رواية بول بولز المعنونة بـ«السماء الواقية»، «شاي في الصحراء» في الترجمة الفرنسية، وعنوان فيلم برتولوتشي المقتبس عنها، يقيم السارد مقارنة بين السائح والرحالة.
- «مقاطعا» في ذلك الزمن كان الرحالة يقوم برحلاته بمفرده. بالنسبة لي لم أكن أبحث عن الرفاهية ووسائل الراحة. بالنسبة إلي، إننا ننسى بسرعة الأسفار القائمة على وسائل الراحة وما نتذكره جيدا هو نقطة الانطلاق المريحة للرحلة. بالنسبة لمفهوم انعدام وسائل الراحة هناك إحالة على نوع من التحدي، مثال ذلك عندما تصل إلى قرية صغيرة حيث لا يوجد فراش ولا ماء ولا شيء تقريباً، يجب أن تبحث عما تلبي به حاجياتك... هناك، أنت سائح بالمعنى العميق والحقيقي للكلمة، أي أنك رحالة... تدرس، تتعلم، تراقب، تصحح أفكارك، تقاوم الأحكام المسبقة، كما يقول بولز، تكون آدمياً وسط آدميين مثلك بخصائص إضافية يجب اكتشافها.
كاتب رومانسي
• إذن فأنت كنت رحالة ولم تكن سائحا؟
- في ذلك الزمن كنت رحالة ولم أكن سائحا.. فقد كنت أضع المجتمع الأمريكي موضع سؤال، وكنت ألمس سمو الحضارات الأخرى على «حضارة» المجتمع الأمريكي. وكنت أسعى إلى استيعاب سمو الإنسان أينما كان، وشساعة روحه، ووجوده.
• يمكن لقارئك أن يلاحظ أنك كاتب رومانسي أيضاً، لأن كتاباتك تقوم على قوة وصف الطبيعة بمختلف عناصرها؟
- نعم، نعم، هذه كلها عناصر رومانسية، والطبيعة كانت مهمة جدا بالنسبة لي، ذلك أنني وجدت المغرب، آنذاك، بلداً جميلاً جداً، وخطيراً جداً. لقد سحرني جمال المغرب وخاصة جمال الصحراء.
• هذه الرحلات المتعددة باتجاه الصحراء، هل كان الهدف منها الرغبة في التخلص من قوة الضوضاء... في الولايات المتحدة هناك عدد من أشكال القلق، واقتحام خلوة عالم الفرد... وكل ذلك من نتائج الحداثة. وفي الصحراء، تعتبر زيارتها دخولاً إلى الحمام والتطهر مما كان عالقا بالذاكرة والحواس... فنخرج، كما قلتَ، وقد طهرنا، ثم إن الرحلة باتجاه الصحراء نوع من الهرب من مظاهر الحداثة، مظاهر عالم غربي، آلي... نحو البساطة والسكينة الآدميتين؟
- نعم، نعم، أنت محق في كلامك، إن الذهاب نحو الصحراء نوع من الهرب. كنت أبحث عن المساحات الشاسعة الفارغة، كنت أبحث عن الصمت، عن السكينة، وكل ذلك يمكنني من حسن التفكير ويمنح السكون والمساحات الشاسعة الفارغة أفكاري كل الوضوح، ويسمح بالتواصل مع الذات. كنت أحس أنني على أحسن حال، في جنوب المغرب، ثم إنني مصاب بالربو، وفي طقس تلك المنطقة شفاء لي، أو تحسن لأحوالي الصحية.
• هناك بعض شخصيات نصوصك ترغب في الذهاب إلى الفضاءات الآهلة بالناس، كما في رواية «طنين ذباب طنجة»، حيث هناك جوزيف الذي يتردد على مقهى «المسكسف»، أو متابعة أحاديث الناس في مقاهٍ أخرى مثل مقهى «مرقالة»، وبالرغم من البحث عن الفضاءات المانحة للسكينة، هناك في المقابل بحث أيضا عن الفضاءات المليئة بالفئات الشعبي.
- نعم، نعم، بالطبع، فالوحدة يجب ألا تستغرق كل الوقت، أن تدوم إلى الأبد. عندما كنت أغادر الصحراء، أكون في غاية السرور وعلى عجلة من أمري في العثور على مكان في مقهى بأسواق تارودانت، أو أسواق مراكش، أو ورزازات، أو تزنيت ذاتها. إن الرحلة إلى الصحراء متعبة. يمكن أن نتحمل الوحدة، والسكون لأيام محدودة، ثم نشرع في البحث عن العشرة، عن الأصدقاء وعن الأجانب.
سحر الموسيقى الصوفية
• في كل نصوصك، نعثر على إحالات على الفرق الموسيقية الشعبية مما يمكن تفسيره بحب هذه الألوان الموسيقية الشعبية؟
- آه، نعم. لقد فتنتني كل الموسيقى الصوفية، وخاصة موسيقى جيلالة، وگناوة، وحمادشة، ودرقاوة... سحر المغرب، وخطورته وغناه في تنوعه. وتلك الموسيقى المتنوعة تسحرني وتأسرني.
• إنه سحر شخصي وليس فقط سحر شخوص بعينها.
- نعم، وخاصة موسيقى جيلالة. وهناك عدة فرق موسيقية جيلالية بطنجة. وقد دعوت تلك الفرق، إلى بيتي، عدة مرات، لإحياء الحفلات، أو للرقص على إيقاعاتها... وقد كنت فرحا جدا باستقبالها في بيتي.
• هل يمكن اعتبار هذه الموسيقى ضرباً من حمام، كما أشرت إلى ذلك، قبل قليل، في حديثك عن الرحلة إلى الصحراء؟
- نعم، نعم، في الاستمتاع بتلك الموسيقى نوع من دخول الحمام، تطهير، لأن الرقص، والجذبة يحرران الجسد.
• ثم هناك عناية كبيرة، في نصوصك المغربية ومنها «طنين ذباب طنجة» و«مذكرات طنجة» بالزمن، بالفصول، بالربيع... هل يمكن اعتبار ذلك محاولة لتحديد أو متابعة أو التشديد على أثر الزمن في الشخوص، كما تابع الرسام الفرنسي، كلود موني، تغيرات الضوء وهو يرسم الكاتدرائيات على مدار النهار؟
- نعم، بالفعل. وقد مضى وقت طويل على كتابتي لـ«طنين ذباب طنجة»، لكن بالنسبة إلي الأزمنة لا تتغير بسرعة في المغرب، كما هي الحال مثلاً في إنجلترا. هناك فصل الصيف وهو ممتد جدا، وهناك فصل الشتاء قصير، والربيع نسبيا غير طويل، وكذلك فصل الخريف. في طنجة، هناك فصلان واضحان: فصل جاف وفصل الأمطار. وقد أثر فيَّ كثيرا فصل الأمطار لأنه يجعلني أعاني كثيرا من اشتداد الربو علي، نتيجة الرطوبة.
• هناك عناية بالفضاءات، هل يتم اختيار الفضاءات (وهي طنجة، مراكش، الصحراء، دار التونسي) هل يتم اختيارها عن وعي أم يتم اختيارها لأنك تعرفها حق المعرفة؟
- أختارها عن وعي، طبعاً. أختارها كديكور، لرواياتي وكرمز، وأختارها لأضع فيها شخصياتي، في أماكن قد تبدو أحيانا غريبة.
الافتتان بألبير كامو
• كتبت، قبل سنوات، قصة قصيرة بعنوان «كل ما كنت أريده هو العشرة» ثم عدت مؤخراً إلى كتابتها في شكل رواية.
- «مقاطعا» بعنوان «وداعاً أليس». الرواية في الأصل هي قصة قصيرة، وكانت أول قصة كتبتها ونشرتها بفضل بول بولز. هي الآن، رواية غير طويلة، نسبيا، وقد عدت إلى القصة لأنني ظللت دائما مفتتناً بالشخصية الرئيسية «نورمان» وخاصة لمعرفة مصير نورمان الشخصية التي استنبطتها من رواية ألبير كامو «الغريب».
• إنك شديد العناية بكتابات ألبير كامو، وتحيل عليه في عدد من أعمالك منها «مذكرات طنجة»؟
- بالطبع، بالطبع. فألبير كامو أثر في كثيراً، آنذاك، مثل كثير من الناس، خلال فترة الستينيات.
• معنى ذلك أنك تشعر بعبثية الحياة مثله؟
- لا. كنت مفتتنا به لأنه كان من أوربيي الجزائر، ولد بالجزائر، وكان كامو، يومها، يعتبر بطلاً بالنسبة لكل الأمريكيين.
• هل لأنه لم يكن يشعر بذاته داخل جلده؟
- لا، لا، بل لأنه كان عضوا بالمقاومة الفرنسية ضد الألمان، حصل على جائزة نوبل، سافر إلى الصحراء. وقد أحببت كثيرا نصوصه، آنذاك، «السقوط»، و«الطاعون»، وخاصة «الغريب»، و«مذكراته»، وقصصه القصيرة، بل كل ما كتبه... و«المتمرد» أيضا.
• وروايته الأخيرة أيضا التي نشرت بعد غيابه، «الرجل الأول»، ذلك أنني أذكر أننا تحدثنا عنها قبل سنوات.
- نعم، نعم، قرأت هذا الكتاب باللغة الإنجليزية، إنه يعرض لطفولة كامو بالجزائر... وهو كتاب مهم جدا.
• تبدو قاسياً في تقييم تجربتك في الكتابة وربما الحياة، ألا تقول: «تبدو لي حياتي قابلة للإدانة: لأنني لا أجعل أي أحد سعيداً. عملي ككاتب، مثل هذه الرحلة على ظهر جمل، هو رحلة في العدم».
- قبل قليل اتفقنا على تصنيفي كاتباً واقعياً. الواقع هو الذي عجن تلك الجمل. وددت لو كانت الكتابة تنشر الفرح، تسعد الناس، تخفف ألم البعض، تقوم مقام الصدقة ■