في نقد موسوعة السرد العربي للدكتور عبد الله إبراهيم

في نقد موسوعة السرد العربي  للدكتور عبد الله إبراهيم

إذا‭ ‬كنا‭ ‬قد‭ ‬اعتدنا‭ ‬قيام‭ ‬الشاعر‭  ‬بجمع‭ ‬شعره‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬يحمل‭ ‬عنوان‭ ‬‮«‬الأعمال‭ ‬الشعرية‭ ‬الكاملة‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬القاص‭ ‬والروائي‭ ‬بإمكانه‭ ‬أيضاً‭ ‬إنجاز‭ ‬الفعل‭ ‬عينه،‭ ‬جامعاً‭  ‬نتاجه‭ ‬القصصي‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭ ‬‮«‬الأعمال‭ ‬القصصية‭ ‬أو‭ ‬الروائية»؛‭ ‬فهل‭ ‬سيكون‭ ‬ذلك‭ ‬ممكناً‭ ‬أيضاً‭ ‬مع‭ ‬النقد،‭ ‬ليجمع‭ ‬الناقد‭ ‬كتاباته‭ ‬النقدية‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬واحد،‭ ‬لكن‭ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬ستكون‭ ‬عليه‭ ‬تسمية‭ ‬هذا‭ ‬الإنجاز‭  ‬حينئذ،‭ ‬سيطلق‭ ‬عليه‭ ‬الأعمال‭ ‬النقدية‭ ‬الكاملة‭ ‬أسوة‭ ‬بالشعر‭ ‬والسرد،‭ ‬أم‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬عنونة‭ ‬أوفى‭ ‬معنى‭ ‬وأدل‭ ‬صياغة‭ ‬في‭ ‬التأشير‭  ‬على‭ ‬المادة‭ ‬المعنونة؟‭!‬

يبدو‭ ‬أن‭ ‬إطلاق‭ ‬اسم‭ ‬موسوعة‭ ‬هو‭ ‬الأقرب‭ ‬إلى‭ ‬الإيفاء‭ ‬بمتطلبات‭ ‬ما‭ ‬تقدم‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬الدكتور‭ ‬عبدالله‭ ‬إبراهيم‭ ‬قد‭ ‬اعتمده‭ ‬بشكل‭ ‬مقصود‭ ‬وريادي‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬علمنا‭. ‬وتظل‭ ‬مشروعية‭ ‬الناقد‭ ‬في‭ ‬التموسع‭ ‬النقدي‭ ‬موضع‭ ‬جدال،‭ ‬فهل‭ ‬من‭ ‬الطبيعي‭ ‬قيام‭ ‬الناقد‭ ‬بجمع‭ ‬نقوده‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬زال‭ ‬سائراً‭ ‬في‭ ‬مشواره،‭ ‬مواصلاً‭ ‬عطاءه‭ ‬الكتابي‭ ‬الذي‭ ‬سيبقى‭ ‬مشرعاً‭ ‬على‭ ‬الجديد؟‭! ‬ثم‭ ‬أليس‭ ‬من‭ ‬المستغرب‭ ‬أن‭ ‬يماثل‭ ‬النقد‭ ‬الإبداع‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬حر‭ ‬لا‭ ‬يتطلب‭ ‬خيوطاً‭ ‬تربط‭ ‬النصوص‭ ‬الشعرية‭ ‬مع‭ ‬بعضها‭ ‬أو‭ ‬ثيمة‭ ‬بعينها‭ ‬تجمع‭ ‬النصوص‭ ‬السردية‭ ‬في‭ ‬بوتقة‭ ‬خاصة،‭ ‬بينما‭ ‬يوسم‭ ‬النقد‭ ‬في‭ ‬الأساس‭ ‬بالعلمية‭ ‬والفلسفية؟‭ ‬

وإذا‭ ‬افترضنا‭ ‬توافر‭ ‬الرابط‭ ‬الثيماتي‭ ‬في‭ ‬النقد؛‭ ‬فإن‭ ‬من‭ ‬الصعب‭ ‬وضع‭ ‬مقدمات‭ ‬أو‭ ‬تمهيدات‭ ‬تجتمع‭ ‬فيها‭ ‬خلاصات‭ ‬ما‭ ‬تم‭ ‬بذره‭ ‬في‭ ‬العناوين‭ ‬الرئيسة‭ ‬والفرعية‭ ‬لتلك‭ ‬الكتب‭ ‬التي‭ ‬تضمها‭ ‬هذه‭ ‬الموسوعة‭. ‬

وإذا‭ ‬كانت‭ ‬التخصصية‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬النقدية‭ ‬تجعل‭ ‬اهتمام‭ ‬الناقد‭ ‬منصباً‭ ‬على‭ ‬السرد‭ ‬بعمومه‭ ‬أو‭ ‬السرد‭ ‬القديم‭ ‬في‭ ‬خصوصه،‭ ‬فهل‭ ‬سيتيح‭ ‬ذلك‭ ‬للناقد‭ ‬إمكان‭ ‬جمع‭ ‬منجزه‭ ‬النقدي‭ ‬بيسر‭ ‬ومنطقية؟‭ ‬وما‭ ‬بال‭ ‬الخضوع‭ ‬للرؤية‭ ‬الزمنية‭ ‬التي‭ ‬ستتطلب‭ ‬من‭ ‬الناقد‭ ‬ترتيب‭ ‬كتبه‭ ‬وكتاباته‭ ‬بحسب‭ ‬تواريخ‭ ‬نشرها؟

‭ ‬

معايير‭ ‬ناجزة

ولو‭ ‬افترضنا‭ ‬أن‭ ‬الناقد‭ ‬تجاهل‭ ‬الزمن‭ ‬وانبرى‭ ‬يصنف‭ ‬كتاباته‭ ‬بحسب‭ ‬التعاطي‭ ‬المنهجي‭ ‬معتمداً‭ ‬الفن‭ ‬معياراً،‭ ‬ومدققاً‭ ‬في‭ ‬النواحي‭ ‬الإجرائية‭ ‬والنظرية‭ ‬التي‭ ‬تنداح‭ ‬تلك‭ ‬الكتابات‭ ‬فيها،‭ ‬فهل‭ ‬سينجو‭ ‬حينذاك‭ ‬من‭ ‬أحقية‭ ‬السبق‭ ‬لما‭ ‬هو‭ ‬مكتوب‭ ‬قبلاً؟‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬أسئلة‭ ‬أخرى‭ ‬كثيرة‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬يفضي‭ ‬الجدل‭ ‬فيها‭ ‬إلى‭ ‬محصلات‭ ‬قطعية‭ ‬ذات‭ ‬معايير‭ ‬ناجزة‭ ‬وكلية‭.‬

وبهذا‭ ‬نفهم‭ ‬مقدار‭ ‬المغامرة‭ ‬النقدية‭ ‬التي‭ ‬قبل‭ ‬الناقد‭ ‬عبدالله‭ ‬إبراهيم‭ ‬المراهنة‭ ‬عليها‭ ‬وهو‭ ‬يجمع‭ ‬ستة‭ ‬كتب‭ ‬تصب‭ ‬في‭ ‬باب‭ ‬النقد‭ ‬السردي‭ ‬لتجتمع‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬واحد‭ ‬متخصص‭ ‬في‭ ‬السردية‭ ‬العربية‭ ‬بقديمها‭ ‬وحديثها‭ ‬تحت‭ ‬مسمى‭ ‬‮«‬موسوعة‮»‬‭.‬

وهنا‭ ‬يتبادر‭ ‬لنا‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬الناقد‭ ‬نوثروب‭ ‬فراي‭ (‬1912‭-‬1991‭) ‬قد‭ ‬عمله‭ ‬في‭ ‬أطروحته‭ ‬المهمة‭ ‬حول‭ ‬الكتاب‭ ‬المقدس‭ ‬والأدب،‭ ‬موشحاً‭ ‬لها‭ ‬بالاسم‭ (‬المدونة‭ ‬الكبرى‭) ‬بناء‭ ‬على‭ ‬مسح‭ ‬استقصائي‭ ‬عميق‭ ‬للصور‭ ‬الفنية‭ ‬والسردية‭ ‬التي‭ ‬حواها‭ ‬الكتاب‭ ‬المقدس،‭ ‬مشفوعة‭ ‬بتفسير‭ ‬للكيفيات‭ ‬التي‭ ‬نشأت‭ ‬بها‭ ‬تلك‭ ‬الصور‭ ‬خيالياً‭.‬

والمهم‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المقام‭ ‬ما‭ ‬أعطاه‭ ‬فراي‭ ‬في‭ ‬مقدمة‭ ‬هذه‭ ‬المدونة‭ ‬من‭ ‬اهتمام‭ ‬ملحوظ‭ ‬للقراء‭ ‬الذين‭ ‬وجه‭ ‬إليهم‭ ‬كتابه،‭ ‬مصنفاً‭ ‬إياهم‭ ‬إلى‭ ‬ثلاث‭ ‬فئات‭: ‬فئة‭ ‬متعودة‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬التعاطي‭ ‬مع‭ ‬الكتاب‭ ‬المقدس‭ ‬بألفة،‭ ‬وفئة‭ ‬متعودة‭ ‬لكن‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬ألفة،‭ ‬وفئة‭ ‬غير‭ ‬متعودة‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬إطلاقاً‭ ‬لكونها‭ ‬ملتزمة‭ ‬بالقضايا‭ ‬الوجودية‭.  

ولا‭ ‬ننسى‭ ‬النظرية‭ ‬الفذة‭ ‬التي‭ ‬اجترحها‭ ‬فراي‭ ‬في‭ ‬مدونته‭ ‬التي‭ ‬ما‭ ‬سبقه‭ ‬إليها‭ ‬كاتب‭ ‬آخر‭ ‬غطى‭ ‬الموضوع‭ ‬بمثل‭ ‬ما‭ ‬غطّاه‭ ‬فراي‭. ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬كله‭ ‬فإن‭ ‬شعر‭ ‬إزاء‭ ‬مدونته‭ ‬بتوجس،‭ ‬فقال‭: ‬‮«‬بقيت‭ ‬أشعر‭ ‬طوال‭ ‬كتابته‭ ‬شعور‭ ‬شيطان‭ ‬ملتون‭ ‬الذي‭ ‬يتخبط‭ ‬في‭ ‬العماء،‭ ‬حيث‭ ‬كل‭ ‬خطوة‭ ‬لا‭ ‬تكون‭ ‬خطوة‭ ‬بل‭ ‬هوياً‭ ‬في‭ ‬حجر‭ ‬أو‭ ‬تحليقاً‭ ‬في‭ ‬الفضاء‭ ‬أو‭ ‬عوماً‭ ‬تحيط‭ ‬به‭ ‬مترامية‭ ‬لا‭ ‬تنتهي‭ ‬من‭ ‬أرض‭ ‬مجهولة‮»‬‭. ‬

وصحيح‭ ‬أن‭ ‬الفارق‭ ‬بين‭ ‬المدونة‭ ‬والموسوعة‭ ‬كبير،‭ ‬لكن‭ ‬الوازع‭ ‬الكتابي‭ ‬واحد،‭ ‬يتمثل‭ ‬في‭ ‬محاولة‭ ‬الاستقصاء‭ ‬والإيفاء‭ ‬بمتطلبات‭ ‬المادة‭ ‬المنقودة‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬الكتاب‭ ‬المقدس‭ ‬عند‭ ‬فراي‭ ‬والسردية‭ ‬العربية‭ ‬عند‭ ‬عبدالله‭ ‬إبراهيم،‭ ‬ولا‭ ‬خلاف‭ ‬أن‭ ‬التقديم‭ ‬في‭ ‬هكذا‭ ‬عمل‭ ‬كبير‭ ‬أو‭ ‬موسوعي‭ ‬وصياغته‭ ‬بدقة‭ ‬سيظل‭ ‬تحدياً‭ ‬من‭ ‬تحديات‭ ‬الفاعلية‭ ‬النقدية‭ ‬التي‭ ‬تريد‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬شمولية‭ ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬تبغي‭ ‬أن‭ ‬تظل‭ ‬حاملة‭ ‬لروح‭ ‬العلم‭ ‬غير‭ ‬حائدة‭ ‬عنها‭. ‬

قد‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬مستغرباً‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬الأمر‭ ‬متوقف‭ ‬على‭ ‬مرونة‭ ‬الوعي‭ ‬النقدي‭ ‬الذي‭ ‬سيكون‭ ‬عليه‭ ‬الناقد‭ ‬وهو‭ ‬يمارس‭ ‬التحليل‭ ‬والاستقصاء،‭ ‬فهذا‭ ‬فراي‭ ‬بوعيه‭ ‬المرن‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الكتابة‭ ‬الأفضل‭ ‬والأتم‭ ‬أمر‭ ‬لن‭ ‬يتحقق،‭ ‬مستشهداً‭ ‬بمقولة‭ ‬برونو‭ ‬‮«‬ربما‭ ‬يكون‭ ‬إطلاق‭ ‬حكم‭ ‬شيئاً‭ ‬لازماً‭ ‬إذا‭ ‬أريد‭ ‬الاستحثاث‭ ‬على‭ ‬كتابة‭ ‬كتب‭ ‬أفضل‮»‬‭. ‬

 

طموح‭ ‬علمي

وهذه‭ ‬المرونة‭ ‬النقدية‭ ‬تجعل‭ ‬فراي‭ ‬يتمنى‭ ‬بتواضع‭ ‬عال‭ ‬‮«‬أن‭ ‬تعيدنا‭ ‬دراسة‭ ‬أخرى‭ ‬لنكون‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬الشرح‭ ‬بتفصيل‭ ‬أكثر‭ ‬على‭ ‬نص‭ ‬الكتاب‭ ‬المقدس‮»‬،‭ ‬وهذا‭ ‬التطلع‭ ‬القائم‭ ‬على‭ ‬المرونة‭ ‬والتواضع‭ ‬هو‭ ‬هم‭ ‬معرفي‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬حداً‭ ‬وهو‭ ‬أيضاً‭ ‬طموح‭ ‬علمي‭ ‬يستفز‭ ‬الناقد‭ ‬فلا‭ ‬يتركه‭ ‬مقتنعاً‭ ‬اقتناعاً‭ ‬تاماً‭ ‬بأي‭ ‬كتاب‭ ‬ينجزه،‭ ‬من‭ ‬منطلق‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬يعمله‭ ‬لن‭ ‬يكون‭ ‬تاماً‭ ‬ولا‭ ‬مستوفياً‭ ‬للمطامح‭ ‬الأكاديمية‭ ‬ولا‭ ‬شاملاً‭ ‬للغايات‭ ‬البحثية‭ ‬كلها‭ ‬والمرامي‭ ‬الإبداعية‭ ‬على‭ ‬اختلافها‭.‬

هذه‭ ‬الرؤية‭ ‬التي‭ ‬يضعها‭ ‬فراي‭ ‬في‭ ‬مقدمته‭ ‬تغدو‭ ‬ضرورية،‭ ‬لا‭ ‬لأنها‭ ‬تفتح‭ ‬آفاق‭ ‬البحث‭ ‬ولا‭ ‬تغلقه‭ ‬فحسب؛‭ ‬وإنما‭ ‬لكونها‭ ‬تقر‭ ‬إقراراً‭ ‬موضوعياً‭ ‬بالطبيعة‭ ‬البشرية‭ ‬التي‭ ‬جبلت‭ ‬على‭ ‬النسيان‭ ‬والسهو‭ ‬والمزاج،‭ ‬وليس‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الإقرار‭ ‬تهويل‭ ‬للجهد‭ ‬النقدي‭ ‬المبذول‭ ‬ولا‭ ‬غمط‭ ‬لحقوق‭ ‬القائم‭ ‬به‭ ‬أو‭ ‬انتقاص‭ ‬له‭.‬

أما‭ ‬المقدمة‭ ‬التي‭ ‬دشّن‭ ‬بها‭ ‬د‭. ‬عبدالله‭ ‬إبراهيم‭ ‬موسوعته،‭ ‬فجاءت‭ ‬في‭ ‬شكل‭ ‬تمهيد‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭ ‬‮«‬السردية‭... ‬التلقي‭ ‬والاتصال‭ ‬والتفاعل‭ ‬الأدبي‮»‬،‭ ‬ربما‭ ‬لأن‭ ‬عملاً‭ ‬موسوعياً‭ ‬بهذا‭ ‬الحجم‭ ‬لا‭ ‬تنفع‭ ‬معه‭ ‬مقدمة،‭ ‬لكن‭ ‬يفيده‭ ‬تمهيد‭ ‬يوطن‭ ‬بمبدئية‭ ‬المفاهيم‭ ‬النظرية‭ ‬وما‭ ‬قد‭ ‬يترشح‭ ‬منها‭ ‬من‭ ‬مصطلحات‭ ‬وحيثيات،‭ ‬لكن‭ ‬هذه‭ ‬المبدئية‭ ‬تعدت‭ ‬عنده‭ ‬حدود‭ ‬التنظير‭ ‬إلى‭ ‬الاستقصاء‭ ‬التاريخي‭ ‬والتلميح‭ ‬الانطباعي‭ ‬بإزاء‭ ‬قضايا‭ ‬السردية‭ ‬الحديثة‭ ‬وظواهر‭ ‬الثقافة‭ ‬المتعالمة‭. 

وقد‭ ‬وقف‭ ‬التمهيد‭ ‬في‭ ‬بدايته‭ ‬عند‭ ‬تبيان‭ ‬مدد‭ ‬زمنية،‭ ‬فمن‭ ‬العشرين‭ ‬عاماً‭ ‬التي‭ ‬احتاج‭ ‬إليها‭ ‬الإعداد‭ ‬والشروع‭ ‬إلى‭ ‬الألف‭ ‬والخمسمائة‭ ‬سنة‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬عمر‭ ‬التمثيل‭ ‬للسرد‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬المخيال‭ ‬الإسلامي‭.‬

‭ ‬حتى‭ ‬إذا‭ ‬صرنا‭ ‬بإزاء‭ ‬مبدئيات‭ ‬النظرية‭ ‬السردية‭ ‬وجدناها‭ ‬بمنزلة‭ ‬افتتاح‭ ‬عتباتي‭ ‬ذي‭ ‬فرشة‭ ‬مهادية‭ ‬وقفت‭ ‬عند‭ ‬مفاهيم‭ ‬ومصطلحات‭ ‬غدت‭ ‬اليوم‭ ‬كلاسيكية‭ ‬تجاوزها‭ ‬عالم‭ ‬النقد‭ ‬السردي،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬طغيان‭ ‬التتبع‭ ‬التاريخي‭ ‬على‭ ‬قسم‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الوقفات‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬استعراض‭ ‬مرحليات‭ ‬التعاطي‭ ‬الغربي‭ ‬في‭ ‬ميدان‭ ‬السرد‭ ‬وتجلياته‭ ‬الدلالية‭ ‬واللسانية‭ ‬ليغدو‭ ‬القول‭ ‬مثلا‭ ‬بأن‭: ‬‮«‬الباحث‭ ‬الذي‭ ‬استقامت‭ ‬على‭ ‬جهوده‭ ‬السردية‭ ‬في‭ ‬تيارها‭ ‬الدلالي‭ ‬هو‭ ‬الروسي‭ ‬بروب‭ (‬1895‭-‬1970‭)‬‭ ‬الذي‭ ‬بحث‭ ‬في‭ ‬أنظمة‭ ‬التشكل‭ ‬الداخلي‭ ‬للخرافة‭ ‬الروسية‮»‬‭ ‬إلا‭ ‬تعاط‭ ‬تاريخي‭ ‬سيتكرر‭ ‬مع‭ ‬ذرية‭ ‬بروب‭ ‬وهو‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬لا‭ ‬جدة‭ ‬فيه‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬قراء‭ ‬يفترض‭ ‬فيهم‭ ‬أنهم‭ ‬مطلعون‭ ‬بخلفيات‭ ‬تعليمية‭ ‬ملائمة‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬نقل‭ ‬إنهم‭ ‬متخصصون‭ ‬بمعرفية‭ ‬عالية‭.‬

ينتقل‭ ‬التمهيد‭ ‬بعد‭ ‬هذا‭ ‬الطرح‭ ‬التاريخي‭ ‬إلى‭ ‬الخوض‭ ‬في‭ ‬الشفاهية‭ ‬والكتابية‭ ‬والأجناس‭ ‬القصصية‭ ‬التي‭ ‬نشأت‭ ‬السردية‭ ‬في‭ ‬حضنها،‭ ‬ومعلوم‭ ‬أن‭ ‬السرد‭ ‬العربي‭ ‬القديم‭ ‬قد‭ ‬انبثق‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬سيادة‭ ‬السماع،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬لا‭ ‬يغدو‭ ‬جديداً‭ ‬القول‭: ‬‮«‬ولم‭ ‬يقم‭ ‬التدوين‭ ‬الذي‭ ‬عرف‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬لاحق‭ ‬إلا‭ ‬بتثبيت‭ ‬آخر‭ ‬صورة‭ ‬بلغها‭ ‬المروي‮»‬،‭ ‬فقد‭ ‬ظلت‭ ‬حاضنة‭ ‬الإبداع‭ ‬عموما‭ ‬شفاهية‭ ‬لآماد‭ ‬طويلة،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬فارق‭ ‬النثر‭ ‬الشعر‭ ‬جزئياً‭ ‬واستقل‭ ‬من‭ ‬ثم‭ ‬منضماً‭ ‬إلى‭ ‬حاضنة‭ ‬الإبداع‭ ‬الكتابي‭.‬

 

الوضع‭ ‬والإسناد

ويسحب‭ ‬الحديثُ‭ ‬عن‭ ‬التدوين‭ ‬الناقدَ‭ ‬إلى‭ ‬التعاطي‭ ‬مع‭ ‬ظاهرتي‭ ‬الوضع‭ ‬والإسناد‭ ‬وهما‭ ‬ظاهرتان‭ ‬خاصتان‭ ‬بالتدوين‭ ‬للأحاديث‭ ‬الشريفة‭ ‬دائرتان‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬الصحيح‭ ‬والموضوع‭ ‬والمزيف‭ ‬مما‭ ‬لا‭ ‬علاقة‭ ‬له‭ ‬بنقد‭ ‬النصوص‭ ‬الأدبية‭ ‬الإبداعية‭ ‬التي‭ ‬تظل‭ ‬إبداعيتها‭ ‬رهناً‭ ‬بالمجاز‭ ‬وقد‭ ‬قيل‭ ‬‮«‬أحسن‭ ‬الشعر‭ ‬أكذبه‮»‬‭.‬

ولا‭ ‬يخفى‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬السماع‭ ‬والكتابة‭ ‬كم‭ ‬لا‭ ‬يستهان‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬حكايات‭ ‬وقصص‭ ‬ظلت‭ ‬شفاهية،‭ ‬بعضها‭ ‬نسيها‭ ‬الزمان‭ ‬واندثرت‭ ‬وبعضها‭ ‬الآخر‭ ‬قاوم‭ ‬النسيان‭ ‬فظلت‭ ‬الذاكرة‭ ‬تحمله‭ ‬عبر‭ ‬الأجيال‭ ‬وتتناقله‭ ‬بتحوير‭ ‬هنا‭ ‬وإضافة‭ ‬هناك،‭ ‬حتى‭ ‬وصل‭ ‬في‭ ‬شكل‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نصفه‭ ‬بأنه‭ ‬حكاية‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬سليلة‭ ‬الملاحم‭ ‬والأساطير،‭ ‬ونقول‭ ‬حكاية‭ ‬لأنها‭ ‬لا‭ ‬تتضمن‭ ‬كل‭ ‬عناصر‭ ‬الحكي‭ ‬من‭ ‬سارد‭ ‬وحدث‭ ‬مسرود،‭ ‬وكائن‭ ‬افتراضي‭ ‬مسرود‭ ‬إليه‭ ‬كما‭ ‬لم‭ ‬تتطور‭ ‬تلك‭ ‬الحكايات‭ ‬إلى‭ ‬قصص‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تخلصت‭ ‬من‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالمحتوى‭ ‬وتشذبت‭ ‬بالخيال‭ ‬وانبرت‭ ‬توجه‭ ‬عنايتها‭ ‬نحو‭ ‬مباني‭ ‬الأخيلة‭ ‬ومدياتها‭ ‬الرحبة‭.‬

وبهذه‭ ‬المسافات‭ ‬الزمانية‭ ‬الطويلة‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬التحول‭ ‬السردي‭ ‬من‭ ‬المشافهة‭ ‬إلى‭ ‬الكتابة،‭ ‬ومن‭ ‬الحكي‭ ‬إلى‭ ‬القص‭ ‬يكون‭ ‬السرد‭ ‬العربي‭ ‬قد‭ ‬قطع‭ ‬أشواطاً‭ ‬سحيقة‭ ‬كان‭ ‬المتحصل‭ ‬منها‭ ‬أن‭ ‬السارد‭ ‬هذا‭ ‬الكائن‭ ‬النصي‭ ‬الذي‭ ‬مهمته‭ ‬تقديم‭ ‬البطل‭ ‬والشخصيات‭ ‬المرتبطة‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬قارئ‭ ‬أياً‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬القارئ‭ ‬افتراضياً‭ ‬أو‭ ‬فعلياً،‭ ‬فإن‭ ‬هذا‭ ‬السارد‭ ‬سينتقل‭ ‬من‭ ‬الخفاء‭ ‬إلى‭ ‬العلن،‭ ‬معلوماً‭ ‬لا‭ ‬مجهولاً‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬عبّر‭ ‬عنه‭ ‬د‭. ‬عبدالله‭ ‬إبراهيم‭ ‬بالراوي‭ ‬المفارق‭ ‬لمرويه‭ ‬لأنه‭ ‬يروي‭ ‬متوناً‭ ‬لا‭ ‬تنتسب‭ ‬إليه‭ ‬والراوي‭ ‬المتماهي‭ ‬بمرويه‭ ‬غير‭ ‬المنفصل‭ ‬عنه،‭ ‬حيث‭ ‬تتماهى‭ ‬المسافات‭ ‬بينهما‭.‬

ومعلوم‭ ‬أن‭ ‬السردية‭ ‬العربية‭ ‬القديمة‭ ‬لم‭ ‬يبدعها‭ ‬العربي‭ ‬وحده‭ ‬وإنما‭ ‬كان‭ ‬للأعاجم‭ ‬وبأصول‭ ‬عرقية‭ ‬مختلفة‭ ‬دور‭ ‬لا‭ ‬يستهان‭ ‬به،‭ ‬لكن‭ ‬التمهيد‭ ‬أفضى‭ ‬إلى‭ ‬رؤية‭ ‬مخالفة،‭ ‬مفادها‭ ‬أن‭ ‬الاعتراف‭ ‬بالعرقية‭ ‬غير‭ ‬ذي‭ ‬أهمية،‭ ‬وأن‭ ‬لا‭ ‬حرج‭ ‬من‭ ‬إغفال‭ ‬حقيقة‭ ‬أن‭ ‬حاضنة‭ ‬السرد‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬هامشية‭ ‬كانت‭ ‬قد‭ ‬اشتركت‭ ‬في‭ ‬إنتاجها‭ ‬أعراق‭ ‬مختلفة‭ ‬عربية‭ ‬وغير‭ ‬عربية،‭ ‬بدءاً‭ ‬من‭ ‬أساسات‭ ‬التشكل‭ ‬وانتهاء‭ ‬بالطبقات‭ ‬التي‭ ‬وصلت‭ ‬إليها‭ ‬السردية‭ ‬في‭ ‬عصور‭ ‬لاحقة‭. ‬

ولو‭ ‬افترضنا‭ ‬أن‭ ‬هؤلاء‭ ‬الذين‭ ‬أسهموا‭ ‬في‭ ‬الانتقال‭ ‬بالسرد‭ ‬إلى‭ ‬مناطق‭ ‬جديدة‭ ‬كانوا‭ ‬أقلية،‭ ‬فكيف‭ ‬سيكون‭ ‬الأمر‭ ‬إذا‭ ‬تصورنا‭ ‬أن‭ ‬هؤلاء‭ ‬كانوا‭ ‬أغلبية؛‭ ‬أليس‭ ‬في‭ ‬عدم‭ ‬إثبات‭ ‬هذه‭ ‬الحقيقة‭ ‬بإزائهم‭ ‬هو‭ ‬غبن‭ ‬لهم‭ ‬وغمط‭ ‬لحقوقهم؟‭!‬

ويصر‭ ‬د‭. ‬عبدالله‭ ‬إبراهيم‭ ‬على‭ ‬عدم‭ ‬الاعتراف‭ ‬بهؤلاء‭ ‬فيقول‭: ‬‮«‬حيثما‭ ‬سيتردد‭ ‬مصطلح‭ ‬السردية‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الموسوعة‭ ‬فلا‭ ‬يميل‭ ‬على‭ ‬مقصد‭ ‬عرقي‭ ‬إنما‭ ‬الهدف‭ ‬منه‭ ‬الوقوف‭ ‬على‭ ‬المرويات‭ ‬السردية‭ ‬القديمة‭ ‬والنصوص‭ ‬السردية‭ ‬الحديثة‭ ‬التي‭ ‬تكونت‭ ‬أغراضاً‭ ‬وبنى‭ ‬ضمن‭ ‬الثقافة‭ ‬التي‭ ‬أنتجتها‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‮»‬‭.‬

لكن‭ ‬هذه‭ ‬المراهنة‭ ‬التي‭ ‬أرادها‭ ‬الناقد‭ ‬ليست‭ ‬عرقية،‭ ‬ستتبعها‭ ‬مبالغة‭ ‬نقدية‭ ‬مؤسلبة‭ ‬بإزاء‭ ‬ما‭ ‬قدمه‭ ‬النقاد‭ ‬العرب‭ ‬المعاصرون‭ ‬في‭ ‬حقل‭ ‬النقد‭ ‬الروائي‭.‬

ومما‭ ‬يدلل‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬السلبية‭ ‬كلمات‭ ‬وعبارات‭ ‬حواها‭ ‬التمهيد‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ (‬تلفيق‭/ ‬تقديس‭/ ‬قلب‭ ‬الأدوار‭/ ‬تركيب‭ ‬نموذج‭/ ‬شرعية‭ ‬النموذج‭ ‬التحليلي‭/ ‬توجيه‭ ‬النصوص‭ ‬لتثبت‭ ‬مصداقية‭ ‬الإطار‭ ‬السردي‭/ ‬تمزيق‭ ‬النصوص‭ ‬لتأكيد‭ ‬كفاءة‭ ‬ذلك‭ ‬النموذج‭ ‬الافتراضي‭). ‬

والأدهى‭ ‬هو‭ ‬القول‭ ‬الإطلاقي‭ ‬والتعميم‭ ‬الجزافي‭ ‬الذي‭ ‬أعقب‭ ‬هذا‭ ‬الاستعراض‭ ‬السريع‭ ‬المؤسلب،‭ ‬والذي‭ ‬وسم‭ ‬النقد‭ ‬العربي‭ ‬المعاصر‭ ‬بالهوس‭ ‬وهذا‭ ‬نصه‭ ‬‮«‬تلك‭ ‬العلاقة‭ ‬المقلوبة‭ ‬بين‭ ‬السردية‭ ‬والنصوص‭ ‬قادت‭ ‬إلى‭ ‬هوس‭ ‬في‭ ‬التصنيف‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬ينتج‭ ‬معرفة‭ ‬نقدية‭ ‬ولا‭ ‬يتمكن‭ ‬من‭ ‬إضاءة‭ ‬النصوص‮»‬‭.‬

هذا‭ ‬المرأى‭ ‬الذي‭ ‬يجيء‭ ‬في‭ ‬تمهيد‭ ‬لعمل‭ ‬موسوعي‭ ‬ذي‭ ‬قسمين‭ ‬الثاني‭ ‬منهما‭ ‬معني‭ ‬بالسرد‭ ‬الحديث‭ ‬ونقده‭ ‬هو‭ ‬حكم‭ ‬تقييمي‭ ‬سريع‭ ‬وإسقاط‭ ‬ومغالاة‭ ‬لا‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬الإجحاف،‭ ‬ومما‭ ‬نقتطعه‭ ‬من‭ ‬التمهيد‭ ‬قول‭ ‬الناقد‭: ‬‮«‬إذ‭ ‬يتوهم‭ ‬كثيرون‭ ‬أنها‭ ‬تقتصر‭ ‬على‭ ‬تطبيق‭ ‬نماذج‭ ‬جاهزة‭ ‬أو‭ ‬التعريف‭ ‬بالمصطلحات‭...‬‮»‬‭ ‬لنعرف‭ ‬أن‭ ‬إبدال‭ ‬كثيرين‭ ‬ببعض‭ ‬سينفي‭ ‬المغالاة‭ ‬والسلبية‭ ‬في‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬جهد‭ ‬السابقين،‭ ‬كما‭ ‬سندرك‭ ‬أن‭ ‬المبغى‭ ‬هو‭ ‬الاعتداد‭ ‬بالجهد‭ ‬الأنوي‭ ‬المبذول‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬المصادرة‭ ‬لما‭ ‬سيأتي‭ ‬من‭ ‬جهد‭ ‬نقدي‭ ‬لاحق‭ ‬وإساءة‭ ‬ظن‭ ‬بإمكانات‭ ‬هذا‭ ‬اللاحق‭ ‬وفاعليته‭.‬

‭ ‬وكان‭ ‬المفترض‭ ‬بالتمهيد‭ ‬الانتصاف‭ ‬لا‭ ‬الغبن‭ ‬والاعتراف‭ ‬لا‭ ‬الإجحاف‭ ‬والتحقيق‭ ‬لا‭ ‬الإلغاء‭ ‬لجهود‭ ‬النقاد‭ ‬العرب‭ ‬المخلصين‭ ‬والجادين‭ ‬المعاصرين‭ ‬والرياديين‭ ‬من‭ ‬أمثال‭ ‬الدكتور‭ ‬محمد‭ ‬غنيمي‭ ‬هلال‭ ‬وعبدالفتاح‭ ‬كليطيو‭ ‬وغيرهما‭ ‬كثير‭ ‬لا‭ ‬يسعنا‭ ‬ذكرهم‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المقام‭. ‬

 

توهم‭ ‬ومجازفة

ولو‭ ‬جاءت‭ ‬مقالة‭ ‬الناقد‭ ‬منضوية‭ ‬في‭ ‬تضاعيف‭ ‬متنه‭ ‬النقدي‭ ‬لكنا‭ ‬وجدنا‭ ‬لها‭ ‬تبريراً‭ ‬ما،‭ ‬لكن‭ ‬حضورها‭ ‬في‭ ‬التمهيد‭ ‬سيحتم‭ ‬وصفها‭ ‬قرائياً‭ ‬بالمغالاة،‭ ‬لاسيما‭ ‬إذا‭ ‬علمنا‭ ‬أن‭ ‬المقدمات‭ ‬والتمهيدات‭ ‬لا‭ ‬تبنى‭ ‬إلا‭ ‬على‭ ‬مقصدية‭ ‬التحصيل‭ ‬وميكانيزمية‭ ‬الاستقراء،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬التمهيد‭ ‬للموسوعة‭ ‬موسوما‭ ‬بسمات‭ ‬غير‭ ‬مرنة‭ ‬واقعاً‭ ‬في‭ ‬شراك‭ ‬التوهم‭ ‬والمجازفة‭ ‬عنوة‭ ‬أو‭ ‬ولعاً‭.‬

ولنظل‭ ‬في‭ ‬حدود‭ ‬الجهد‭ ‬النقدي‭ ‬العربي،‭ ‬لنجد‭ ‬كيف‭ ‬يقيمه‭ ‬الناقد‭ ‬د‭. ‬عبدالله‭ ‬إبراهيم‭ ‬فيقول‭: ‬‮«‬ولو‭ ‬نظرنا‭ ‬إلى‭ ‬تركة‭ ‬الدراسات‭ ‬النقدية‭ ‬خلال‭ ‬العقود‭ ‬الثلاثة‭ ‬الأخيرة،‭ ‬لوجدنا‭ ‬أن‭ ‬كثيراً‭ ‬منها‭ ‬شُغل‭ ‬بهذه‭ ‬المقدمات‭ ‬الإجرائية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬صلة‭ ‬لها‭ ‬بالنقد،‭ ‬إذ‭ ‬اختلفوا‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬له‭ ‬صلة‭ ‬بذلك‭ ‬فأخفقوا‭ ‬في‭ ‬الاتفاق‭ ‬على‭ ‬اقتراح‭ ‬نموذج‭ ‬عام‭ ‬يستوعب‭ ‬عملية‭ ‬التحليل‭ ‬السردي‭ ‬للنصوص‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬نماذج‭ ‬جزئية‭ ‬تصلح‭ ‬لتحليل‭ ‬مكونات‭ ‬البنية‭ ‬السردية،‭ ‬مثل‭ ‬أساليب‭ ‬السرد‭ ‬ووسائله‭ ‬وبناء‭ ‬الشخصيات‭ ‬والأحداث‭ ‬والخلفيات‭ ‬الزمانية‭ ‬والمكانية‮»‬‭.‬

وهنا‭ ‬نتساءل‭: ‬وما‭ ‬الذي‭ ‬أبقاه‭ ‬د‭. ‬إبراهيم‭ ‬للناقد‭ ‬العربي‭ ‬وهو‭ ‬يتهمه‭ ‬بالإخفاق‭ ‬في‭ ‬الصميم؟‭! ‬لكنه‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬يستدرك‭ ‬أن‭ ‬السردية‭ - ‬وليس‭ ‬النقد‭ ‬السردي‭ - ‬أنجزت‭ ‬مهمة‭ ‬جليلة‭ ‬خلخلت‭ ‬ركائز‭ ‬النقد‭ ‬التقليدي‭.‬

إن‭ ‬هذا‭ ‬الشطب‭ ‬للرؤية‭ ‬النقدية‭ ‬وجديتها‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬السرد‭ ‬يجانب‭ ‬الواقع،‭ ‬ولم‭ ‬يتعمق‭ ‬الناقد‭ ‬في‭ ‬الشطب‭ ‬كما‭ ‬لم‭ ‬يقم‭ ‬بالتتبع‭ ‬التاريخي،‭ ‬لأن‭ ‬ذلك‭ ‬سيفند‭ ‬الشطب‭ ‬بالتأكيد،‭ ‬ولهذا‭ ‬فضّل‭ ‬الانتقال‭ ‬بالتمهيد‭ ‬إلى‭ ‬موضوع‭ ‬جديد،‭ ‬حارفا‭ ‬الاهتمام‭ ‬من‭ ‬النقد‭ ‬الأدبي‭ ‬إلى‭ ‬تدريس‭ ‬النقد‭ ‬في‭ ‬الجامعات‭.‬

ومن‭ ‬المهم‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬هذا‭ ‬الانحراف‭ ‬ناتج‭ ‬من‭ ‬كون‭ ‬الناقد‭ ‬عاصر‭ ‬متغيرات‭ ‬شهدتها‭ ‬الأكاديمية‭ ‬العراقية‭ ‬في‭ ‬طوريها‭ ‬الأولي‭ ‬والعالي‭ ‬قبل‭ ‬عشرين‭ ‬أو‭ ‬ثلاثين‭ ‬سنة،‭ ‬ومنها‭ ‬ما‭ ‬يتعلق‭ ‬بتدريس‭ ‬مادة‭ ‬النقد،‭ ‬وقد‭ ‬بدا‭ ‬ما‭ ‬طرحه‭ ‬غير‭ ‬جديد،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬عدم‭ ‬مواكبته‭ ‬للمتغيرات،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يستوجب‭ ‬من‭ ‬التمهيد‭ ‬التماشي‭ ‬مع‭ ‬المرحلة‭ ‬الراهنة‭ ‬كي‭ ‬يقدم‭ ‬لقرائه‭ ‬الجديد‭ ‬والدقيق‭ ‬والموثوق‭.   

أما‭ ‬ما‭ ‬يؤشره‭ ‬الناقد‭ ‬في‭ ‬التمهيد‭ ‬حول‭ ‬مناهج‭ ‬النقد‭ ‬فلم‭ ‬يكن‭ ‬طرقه‭ ‬بالمناسب،‭ ‬لأنه‭ ‬بدا‭ ‬استطراداً‭ ‬بلا‭ ‬دواع‭ ‬منهجية،‭ ‬فضلاً‭ ‬عمّا‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬تناس‭ ‬لمناح‭ ‬استطاعت‭ ‬جامعات‭ ‬المغرب‭ ‬العربي‭ ‬تخطيها‭ ‬متجاوزة‭ ‬المعتاد‭ ‬من‭ ‬المناهج،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬تمكنت‭ ‬من‭ ‬فعله‭ ‬بعض‭ ‬جامعات‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬أيضاً‭.‬

 

وعي‭ ‬نقدي

من‭ ‬هنا‭ ‬تبدو‭ ‬أهمية‭ ‬إعادة‭ ‬كتابة‭ ‬التقديم‭ ‬أو‭ ‬التمهيد‭ ‬لأي‭ ‬طبعة‭ ‬جديدة‭ ‬لكتاب‭ ‬ما،‭ ‬والبغية‭ ‬التحديث‭ ‬وليس‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬مثلبة،‭ ‬لأن‭ ‬الإعادة‭ ‬ضرورية‭ ‬لجعل‭ ‬صيرورة‭ ‬الكتاب‭ ‬أكثر‭ ‬متانة‭ ‬وبما‭ ‬يحصن‭ ‬المؤلف‭ ‬نفسه‭ ‬من‭ ‬هفوات‭ ‬وإسقاطات‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬وقع‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬دراية،‭ ‬ليأخذ‭ ‬عمله‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬طبعة‭ ‬موقعه‭ ‬الذي‭ ‬يناسبه‭ ‬من‭ ‬المنطقية‭ ‬والموضوعية‭ ‬وبوعي‭ ‬نقدي‭ ‬مرن‭ ‬وبحيادية‭ ‬تتخطى‭ ‬الذاتية‭ ‬إلى‭ ‬الموضوعية‭ ‬إجراء‭ ‬ونظرية‭.‬

ولا‭ ‬خلاف‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬يكتب‭ ‬في‭ ‬المقدمات‭ ‬والتمهيدات‭ ‬والمداخل‭ ‬والابتداءات‭ ‬هو‭ ‬خلاصة‭ ‬للمتن‭ ‬المكتوب‭ ‬وعتبة‭ ‬استهلال‭ ‬للولوج‭ ‬إليه،‭ ‬لذا‭ ‬تغدو‭ ‬الدقة‭ ‬في‭ ‬الإعداد‭ ‬له‭ ‬محققة‭ ‬للإنصاف،‭ ‬ملمة‭ ‬بحيثيات‭ ‬العمل‭ ‬المكتوب‭ ‬وبالشكل‭ ‬الذي‭ ‬يجعلها‭ ‬مرآة‭ ‬له‭ ‬تكشف‭ ‬عن‭ ‬هويته‭ ‬بلا‭ ‬تزويق‭ ‬ولا‭ ‬تهاون‭ ‬أو‭ ‬تقصير‭ ‬كماً‭ ‬ونوعاً،‭ ‬بمعنى‭ ‬أن‭ ‬المحصلات‭ ‬لا‭ ‬تساق‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬وقوف‭ ‬مستفيض‭ ‬ودقيق‭ ‬يحصي‭ ‬المسببات‭ ‬ويؤشر‭ ‬المؤثرات‭ ‬ويجترح‭ ‬الآليات‭ ‬مؤسساً‭ ‬مخزوناً‭ ‬ثقافياً‭ ‬ومرجعية‭ ‬تراكمية‭ ‬يتم‭ ‬ضخها‭ ‬في‭ ‬مقدمة‭ ‬أو‭ ‬تمهيد‭ ‬هما‭ ‬محط‭ ‬أنظار‭ ‬القراء‭ ‬على‭ ‬اختلاف‭ ‬الحقب‭ ‬والأزمان‭ ■‬