من الريف إلى فيينا النمسا تبتسم في ليالي الأنس

من الريف إلى فيينا النمسا تبتسم في ليالي الأنس

قيل‭ ‬لي‭: ‬عليك‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬زي‭ ‬لام‭ ‬سي‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬قرية‭ ‬نمساوية‭ ‬يوصف‭ ‬جمالها‭ ‬بأنه‭ ‬السِّحْر‭ ‬بعينه،‭ ‬تجاور‭  ‬الحدود‭ ‬مع‭ ‬ألمانيا،‭ ‬لكن‭ ‬أسمهان‭ ‬أخذتني‭ ‬إلى‭ ‬العاصمة‭ ‬النمساوية‭ ‬منذ‭ ‬عشرات‭ ‬السنين،‭ ‬حيث‭ ‬وعدتني‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬ليالي‭ ‬الأنس‭ ‬في‭ ‬فيينا‮»‬،‭ ‬ومنذئذ‭ ‬أغوتني‭ ‬نفسي‭ ‬الأمّارة‭ ‬بالسفر‭  ‬أن‭ ‬أذهب‭ ‬إليها،‭ ‬برغم‭ ‬أنها‭ ‬ليست‭ ‬ضمن‭ ‬مسار‭  ‬الرحلة‭.‬

كان‭ ‬المسار‭ ‬يذهب‭ ‬بنا‭ ‬إلى‭ ‬الريف،‭ ‬ونحن‭ ‬نتجاوز‭ ‬الحدود‭ ‬الألمانية،‭ ‬وكلما‭ ‬اقتربت‭ ‬النمسا‭ ‬بدأت‭ ‬الجبال‭ ‬في‭ ‬التبدل‭ ‬قليلاً،‭ ‬فأعاليها‭ ‬تبين‭ ‬عن‭ ‬صخور‭ ‬تبيّنا‭ ‬لاحقاً‭ ‬أنها‭ ‬في‭ ‬الشتاء‭ ‬تكون‭ ‬مكسوة‭ ‬ببياض‭ ‬الثلج،‭ ‬كأنما‭ ‬اللون‭ ‬الأخضر‭ ‬محض‭ ‬متعة‭ ‬لا‭ ‬يعرفها‭ ‬موسم‭ ‬البرد،‭ ‬إنما‭ ‬هناك‭ ‬ثمة‭ ‬لون‭ ‬أبيض‭ ‬لايزال،‭ ‬حتى‭ ‬ونحن‭ ‬نجتاز‭ ‬الأمكنة‭ ‬عند‭ ‬السفوح،‭ ‬في‭ ‬عز‭ ‬الصيف‭.‬

كان‭ ‬الريف‭ ‬النمساوي‭ ‬يبسط‭ ‬ورقته‭ ‬الخضراء‭ ‬حتى‭ ‬على‭ ‬التلال،‭ ‬كأنما‭ ‬يغويك‭ ‬أكثر‭ ‬لإمعان‭ ‬عينيك‭ ‬في‭ ‬الجمال‭ ‬المكتوب‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬البصر،‭ ‬فتكاد‭ ‬تكذّب‭ ‬هاتان‭ ‬العينان‭ ‬نفسيهما،‭ ‬حيث‭ ‬إن‭ ‬ما‭ ‬تراه‭ ‬ليس‭ ‬إلا‭ ‬لوحة‭ ‬وضعها‭ ‬مكبّرة‭ ‬أمامك‭ ‬أحد‭ ‬فناني‭ ‬الطبيعة،‭ ‬وليس‭ ‬الطبيعة‭ ‬كما‭ ‬تتجلى‭ ‬واقعاً‭ ‬أمام‭ ‬عينيك،‭ ‬كما‭ ‬أرادها‭ ‬الخالق‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬البقعة‭ ‬من‭ ‬الدنيا‭.‬

 

ويرفرونج‭... ‬الوادعة

بلغنا‭ ‬ويرفرونج،‭ ‬القرية‭ ‬النائمة‭ ‬بحنان‭ ‬بالغ‭ ‬في‭ ‬هضبة‭ ‬واسعة،‭ ‬وقد‭ ‬بلغ‭ ‬بنا‭ ‬التعب‭ ‬مأخذاً‭ ‬جعلنا‭ ‬نترقب‭ ‬إطلالة‭ ‬‮«‬فندق‮»‬‭ ‬الإقامة‭ ‬ببالغ‭ ‬الصبر،‭ ‬لكننا‭ ‬بقينا‭ ‬مأخوذين‭ ‬بدهشة‭ ‬المكان‭ ‬فور‭ ‬أن‭ ‬هدأت‭ ‬الأجسام‭ ‬إلى‭ ‬استراحة‭ ‬قصيرة،‭ ‬فالقرية‭ ‬الريفية‭ ‬تنطوي‭ ‬على‭ ‬جمال‭ ‬لا‭ ‬يجدر‭ ‬بالعين‭ ‬أن‭ ‬تغمض‭ ‬عنه‭ ‬لحظة،‭ ‬الجبال‭ ‬المحيطة،‭ ‬والسهول‭ ‬المنبسطة،‭ ‬والمراعي‭ ‬التي‭ ‬تمرح‭ ‬فيها‭ ‬الأبقار‭ ‬كما‭ ‬نرى‭ ‬على‭ ‬الشاشات‭ ‬الصغيرة‭ ‬والكبيرة،‭ ‬كأنما‭ ‬المشهد‭ ‬أمامنا‭ ‬منزوع‭ ‬من‭ ‬فيلم‭ ‬سينمائي،‭ ‬أو‭ ‬لوحة‭ ‬فنية‭.‬

من‭ ‬على‭ ‬الشرفات‭ ‬نطلّ‭ ‬على‭ ‬عالم‭ ‬من‭ ‬الإبداع‭ ‬الكوني‭ ‬الأخضر،‭ ‬وحيناً‭ ‬تأتي‭ ‬السحب‭ ‬لتسكب‭ ‬مطرها‭ ‬فيحط‭ ‬فرحاً‭ ‬على‭ ‬قلوبنا‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تتناوله‭ ‬الأرض‭ ‬بأنفاس‭ ‬من‭ ‬الزهر‭.‬

المكان‭ ‬حولنا‭ ‬مغر‭ ‬بالتجوال،‭ ‬ينابيع‭ ‬ماء‭ ‬ومراعٍ‭ ‬مفتوحة‭ ‬للسير،‭ ‬وخيول‭ ‬تهَب‭ ‬المكان‭ ‬لوحة‭ ‬جمال‭ ‬أخرى،‭ ‬ومنازل‭ ‬قريبة‭ ‬كأنما‭ ‬كنا‭ ‬في‭ ‬متحف‭ ‬لحياة‭ ‬مختلفة‭ ‬يلهو‭ ‬الأطفال‭ ‬بدراجاتهم‭ ‬الهوائية،‭ ‬حتى‭ ‬المقبرة‭ ‬كانت‭ ‬لوحة‭ ‬مدهشة،‭ ‬على‭ ‬قبور‭ ‬الأطفال‭ ‬تماثيل‭ ‬صغيرة،‭ ‬منها‭ ‬تمثال‭ ‬لطفل‭ ‬يقرأ‭.‬

من‭ ‬شرفة‭ ‬الغرفة‭ ‬يأخذني‭ ‬المنظر‭ ‬أمامي،‭ ‬السحب‭ ‬الهابطة‭ ‬حتى‭ ‬منتصف‭ ‬الجبال،‭ ‬بياض‭ ‬ينهمر‭ ‬حتى‭ ‬مشارف‭ ‬الأرض،‭ ‬لونان‭ ‬يمتزجان،‭ ‬الأخضر‭ ‬والأبيض،‭ ‬والسحر‭ ‬القابض‭ ‬على‭ ‬شهية‭ ‬التأمل‭ ‬ينعش‭ ‬النهارات،‭ ‬حتى‭ ‬إذا‭ ‬حلّ‭ ‬الليل‭ ‬لبست‭ ‬القرية‭ ‬غلالة‭ ‬سوداء،‭ ‬لترى‭ ‬المناظر‭ ‬بعين‭ ‬قلبك،‭ ‬وهي‭ ‬تهجع‭ ‬إلى‭ ‬غفوة‭ ‬من‭ ‬الحلم‭.‬

أما‭ ‬الفجر‭ ‬فله‭ ‬سحره‭ ‬الخاص،‭ ‬تكتشف‭ ‬أن‭ ‬السحاب‭ ‬اشتاق‭ ‬إلى‭ ‬الأرض‭ ‬حينما‭ ‬كنت‭ ‬تغمض‭ ‬عينيك،‭ ‬وعليه‭ ‬أن‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬مكانته‭ ‬الأولى‭ ‬فور‭ ‬أن‭ ‬تخدش‭ ‬حياءه،‭ ‬تاركاً‭ ‬قمم‭ ‬الأشجار،‭ ‬ومرتفعاً‭ ‬لينسكب‭ ‬ماء‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬يروم‭ ‬صبراً‭ ‬عن‭ ‬اللون‭ ‬الأخضر،‭ ‬يعود‭ ‬إليها‭ ‬بما‭ ‬يجعلها‭ ‬متألقة‭ ‬تحت‭ ‬وهج‭ ‬بصرك‭ ‬وبصيرتك‭.‬

 

هالشتات‭... ‬الحُسن‭ ‬يقيم‭ ‬هنا

في‭ ‬طريقنا‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬زي‭ ‬لام‭ ‬سي‮»‬‭ ‬كان‭ ‬علينا‭ ‬التوقف‭ ‬بضع‭ ‬ساعات‭ ‬في‭ ‬قرية‭ ‬هالشتات،‭ ‬اسمها‭ ‬يبدو‭ ‬قريباً‭ ‬من‭ ‬إيقاع‭ ‬المفردة‭ ‬العربية،‭ ‬كأنه‭ ‬يقول‭ ‬‮«‬هذا‭ ‬الشتات‮»‬،‭ ‬لولا‭ ‬أنه‭ ‬ينطق‭ ‬لام‭ ‬الكلمة‭.‬

قرية‭ ‬صغيرة‭ ‬تقع‭ ‬على‭ ‬ضفاف‭ ‬بحيرة‭ ‬ضخمة،‭ ‬وكلما‭ ‬أوغلت‭ ‬بالمركب‭ ‬فوق‭ ‬الصفحة‭ ‬الزرقاء‭ ‬تراها‭ ‬أجمل‭ ‬وأجمل،‭ ‬كأنها‭ ‬لوحة‭ ‬بين‭ ‬زرقة‭ ‬الماء‭ ‬واخضرار‭ ‬الجبل‭ ‬خلفها،‭ ‬ماء‭ ‬يحاذيها‭ ‬من‭ ‬الأرض‭ ‬وآخر‭ ‬ينهمر‭ ‬شلالات‭ ‬من‭ ‬الأعلى،‭ ‬وعليك‭ ‬مواكبة‭ ‬تدفق‭ ‬ذلك‭ ‬الجمال‭ ‬أمام‭ ‬عينيك‭ ‬لتأخذ‭ ‬أقصى‭ ‬حدود‭ ‬متعتك‭ ‬بما‭ ‬ترى‭.‬

متحف‭ ‬إبداعي‭ ‬في‭ ‬الهواء‭ ‬الطلق،‭ ‬انعكاس‭ ‬الجمال‭ ‬على‭ ‬الماء‭ ‬جمال‭ ‬آخر،‭ ‬تسير‭ ‬بمحاذاة‭ ‬البحيرة،‭ ‬وعليها‭ ‬البط‭ ‬يعوم‭ ‬كقوارب‭ ‬ورقية‭ ‬صغيرة‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬المجسمات،‭ ‬يأخذك‭ ‬الخطو‭ ‬بين‭ ‬المنازل‭ ‬والمقاهي‭ ‬ومحال‭ ‬بيع‭ ‬الهدايا‭ ‬والتذكارات‭ ‬التي‭ ‬تعرض‭ ‬تشكيلات‭ ‬جمالية‭ ‬أخرى،‭ ‬لتبقى‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المفردة‭ ‬فلا‭ ‬تتعبك‭ ‬قدماك‭ ‬وأنت‭ ‬تمضي‭ ‬بهما‭ ‬المسافات،‭ ‬على‭ ‬يمينك‭ ‬البحيرة‭ ‬الممتدة،‭ ‬وعلى‭ ‬يسارك‭ ‬بيوت‭ ‬القرية‭ ‬المتناسقة‭ ‬مع‭ ‬الجبل،‭ ‬حيث‭ ‬تتحيّن‭ ‬الفرصة‭ ‬للنظر‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬إلى‭ ‬الشلال‭ ‬المندفع‭ ‬من‭ ‬هناك‭.‬

عدد‭ ‬سكان‭ ‬هذه‭ ‬القرية‭ ‬قليل،‭ ‬وربما‭ ‬لا‭ ‬يتجاوز‭ ‬ألفي‭ ‬شخص،‭ ‬تطل‭ ‬على‭ ‬بحيرة‭ ‬هالستاترسي،‭ ‬التي‭ ‬تبعد‭ ‬نحو‭ ‬80‭ ‬كم‭ ‬من‭ ‬مدينة‭ ‬سالزبورج،‭ ‬وساعتين‭ ‬من‭ ‬ميونخ‭ ‬الألمانية،‭ ‬لكنها‭ ‬قادرة‭ - ‬برغم‭ ‬صغرها‭ - ‬على‭ ‬جذب‭ ‬آلاف‭ ‬السياح‭ ‬إليها‭ ‬يومياً،‭ ‬فيما‭ ‬تتوافر‭ ‬متعة‭ ‬إضافية‭ ‬على‭ ‬متن‭ ‬القوارب‭ ‬الصغيرة‭ ‬والكبيرة،‭ ‬التي‭ ‬تجوب‭ ‬البحيرة،‭ ‬لينظر‭ ‬السائح‭ ‬إلى‭ ‬الجزيرة‭ ‬من‭ ‬فوق‭ ‬سطح‭ ‬الماء،‭ ‬وكان‭ ‬المطر‭ ‬رفيقنا‭ ‬في‭ ‬رسم‭ ‬المشهد‭ ‬بانهمار‭ ‬أجبرنا‭ ‬على‭ ‬التحصن‭ ‬دونه‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬متابعة‭ ‬المشهد‭ ‬في‭ ‬الهواء‭ ‬الطلق،‭ ‬ومن‭ ‬لم‭ ‬يتمكن‭ ‬من‭ ‬الصعود‭ ‬إلى‭ ‬مواقع‭ ‬الملح‭ ‬في‭ ‬ارتفاعاتها،‭ ‬فإنه‭ ‬سيتمتع‭ ‬برؤية‭ ‬تلك‭ ‬الجبال‭ ‬وهي‭ ‬ترسم‭ ‬لوحتها‭ ‬الممتدة‭ ‬من‭ ‬السماء‭ ‬إلى‭ ‬الأرض،‭ ‬واللافت‭ ‬أن‭ ‬شركة‭ ‬صينية‭ ‬للتعدين‭ ‬قررت‭ ‬عام‭ ‬2011‭ ‬‮«‬تقليد‮»‬‭ ‬فكرة‭ ‬القرية‭ ‬وبناء‭ ‬نسخة‭ ‬منها‭ ‬في‭ ‬الصين‭!‬

 

سالزبورج‭... ‬معزوفة‭ ‬السالز

سالزبورج،‭ ‬المدينة‭ ‬التي‭ ‬ترقبتها‭ ‬طويلاً‭ ‬لأراها،‭ ‬لألتقي‭ ‬موزارت‭ ‬وأسير‭ ‬على‭ ‬نهر‭ ‬السالز،‭ ‬وأصعد‭ ‬إلى‭ ‬قلعتها‭ ‬الشهيرة‭.‬

مثّلت‭ ‬لي‭ ‬سالزبورج‭ ‬حلماً‭ ‬قديماً،‭ ‬فالموسيقار‭ ‬العظيم‭ ‬الذي‭ ‬عاشها‭ ‬وعاشت‭ ‬فيه،‭ ‬صنع‭ ‬لها‭ ‬مجداً‭ ‬موسيقياً‭ ‬جعل‭ ‬من‭ ‬بيته،‭ ‬رغم‭ ‬زحام‭ ‬المحال‭ ‬التجارية،‭ ‬ملاذا‭ ‬لتأمل‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬الوجد‭ ‬مرّت‭ ‬ذات‭ ‬حين‭ ‬من‭ ‬الدهر‭ ‬عبر‭ ‬هذه‭ ‬البوابة،‭ ‬هنا‭ ‬ولد‭ ‬فولفغانغ‭ ‬أماديوس‭ ‬موزارت‭ ‬في‭ ‬السابع‭ ‬والعشرين‭ ‬من‭ ‬شهر‭ ‬يناير‭ ‬عام‭ ‬1756،‭ ‬وفي‭ ‬الطابق‭ ‬الثالث‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬البيت‭ ‬عاشت‭ ‬عائلة‭ ‬موزارت‭ ‬نحو‭ ‬26‭ ‬عاماً،‭ ‬وفي‭ ‬يونيو‭ ‬عام‭ ‬1880‭ ‬دشنت‭ ‬مؤسسة‭ ‬موزارت‭ ‬الدولية‭ ‬أول‭ ‬متحف‭ ‬في‭ ‬مسقط‭ ‬رأس‭ ‬الموسيقار،‭ ‬ليضم،‭ ‬ضمن‭ ‬ما‭ ‬يضمّه،‭ ‬لوحة‭ ‬لم‭ ‬تكتمل‭ ‬لموزارت‭ ‬على‭ ‬البيانو،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬وثائق‭ ‬ومراسلات‭ ‬وصور،‭ ‬ليكون‭ ‬وجهة‭ ‬ثقافية‭ ‬وفنية‭ ‬لآلاف‭ ‬الزوار‭ ‬من‭ ‬حول‭ ‬العالم‭.‬

هكذا‭ ‬صنعت‭ ‬النمسا‭ ‬مع‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬عباقرة‭ ‬الموسيقى،‭ ‬النابغة‭ ‬الذي‭ ‬بدأ‭ ‬ممارسة‭ ‬العزف‭ ‬في‭ ‬سن‭ ‬الرابعة،‭ ‬وشارك‭ ‬في‭ ‬الحفلات‭ ‬عندما‭ ‬بلغ‭ ‬السادسة‭ ‬من‭ ‬عمره،‭ ‬وجاب‭ ‬أوربا‭ ‬في‭ ‬جولة‭ ‬موسيقية‭ ‬برفقة‭ ‬عائلته،‭ ‬وكان‭ ‬عمره‭ ‬سبع‭ ‬سنوات،‭ ‬العبقرية‭ ‬التي‭ ‬جعلت‭ ‬من‭ ‬رجل‭ ‬لم‭ ‬يعش‭ ‬إلا‭ ‬نحو‭ ‬35‭ ‬عاماً،‭ ‬لكنه‭ ‬وضع‭ ‬فيها‭ ‬22‭ ‬عملاً‭ ‬في‭ ‬الأوبرا‭ ‬و41‭ ‬سيمفونية،‭ ‬ومن‭ ‬لا‭ ‬يتذكر‭ ‬له‭ ‬‮«‬الناي‭ ‬السحري‮»‬،‭ ‬إحدى‭ ‬روائعه‭ ‬البالغة‭ ‬626‭ ‬عملاً‭ ‬موسيقياً،‭ ‬لكنه‭ ‬عندما‭ ‬مات‭ ‬لم‭ ‬يجد‭ ‬إلا‭ ‬خمسة‭ ‬أشخاص،‭ ‬بينهم‭ ‬زوجته،‭ ‬يسيرون‭ ‬في‭ ‬جنازته‭!‬

التقطت‭ ‬صور‭ ‬البيت‭ ‬ضمن‭ ‬العشرات‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬يتحينون‭ ‬فرصتهم‭ ‬لتكون‭ ‬الصورة‭ ‬لهم‭ ‬وحدهم‭ ‬مع‭ ‬هذا‭ ‬البيت،‭ ‬بما‭ ‬يضمه‭ ‬من‭ ‬بصمة‭ ‬عميقة‭ ‬على‭ ‬التراث‭ ‬الموسيقي‭ ‬العالمي،‭ ‬لتأخذنا‭ ‬سالزبورج‭ ‬بعدها‭ ‬في‭ ‬مساحاتها‭ ‬وساحاتها،‭ ‬ولنبقى‭ ‬قريبين‭ ‬من‭ ‬نهر‭ ‬السالزاك،‭ ‬هي‭ ‬رابع‭ ‬أكبر‭ ‬مدينة‭ ‬في‭ ‬النمسا،‭ ‬وأشهرها‭ ‬ربما،‭ ‬لما‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬شهرة‭ ‬عالمية،‭ ‬وجمال‭ ‬فاتن،‭ ‬فالمعمار‭ ‬ناطق‭ ‬بفنونه‭ ‬أيضاً‭.‬

المحال‭ ‬تعرض‭ ‬شوكولاتة‭ ‬محتفية‭ ‬بموزارت،‭ ‬والسياح‭ ‬يطلبونها‭ ‬لأنها‭ ‬تتخذ‭ ‬من‭ ‬ملهم‭ ‬وعبقري‭ ‬مذاقها‭ ‬المتعدد‭ ‬طعماً‭ ‬وشكلاً‭ ‬كالموسيقى‭ ‬التي‭ ‬غرسها‭ ‬في‭ ‬سواقي‭ ‬سالزبورج،‭ ‬هناك‭ ‬ما‭ ‬يشبه‭ ‬آلة‭ ‬الكمان،‭ ‬وما‭ ‬مثّل‭ ‬عشقاً‭ ‬جميلاً‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬موزارت،‭ ‬ويقال‭ ‬إن‭ ‬كرات‭ ‬الشوكولاتة‭ ‬المعروفة‭ ‬باسم‭ ‬‮«‬موزارت‭ ‬كوغلن‮»‬‭ ‬ابتكرها‭ ‬عام‭ ‬1890‭ ‬حلواني‭ ‬يدعى‭ ‬بول‭ ‬فورست،‭ ‬وهي‭ ‬مزيج‭ ‬من‭ ‬‮«‬المرزبانية‭ ‬وشوكولاتة‭ ‬ذائبة‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬يشير‭ ‬أحد‭ ‬المواقع‭ ‬الإلكترونية،‭ ‬ويواصل‭ ‬رحلتها‭ ‬نوبرت‭ ‬فورست،‭ ‬حفيد‭ ‬الحلواني‭ ‬الأول‭ ‬الذي‭ ‬صنعها،‭ ‬وأسس‭ ‬لإنتاجها‭ ‬شركة‭ ‬تتوارث‭ ‬الطعم‭ ‬الجميل‭.‬

كانت‭ ‬الساحات‭ ‬تنطق‭ ‬بحيوية‭ ‬لافتة،‭ ‬الرجل‭ ‬الذي‭ ‬وجد‭ ‬لنفسه‭ ‬حيلة‭ ‬مميزة‭ ‬في‭ ‬جمع‭ ‬المال،‭ ‬يرتفع‭ ‬عن‭ ‬الأرض‭ ‬كأنما‭ ‬طائر‭ ‬يحوم‭ ‬فوق‭ ‬مجموعة‭ ‬كتب‭ ‬ترفعه‭ ‬عن‭ ‬الأرض،‭ ‬وبجواره‭ ‬عرفنا‭ ‬قصة‭ ‬أصغر‭ ‬بيت‭ ‬في‭ ‬المدينة،‭ ‬عرضه‭ ‬لا‭ ‬يتجاوز‭ ‬المتر‭ ‬تقريباً،‭ ‬تخنقه‭ ‬بنايتان،‭ ‬لكنها‭ ‬قصة‭ ‬الفقير‭ ‬الذي‭ ‬أوجد‭ ‬لنفسه‭ ‬مأوى‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المدينة،‭ ‬ومن‭ ‬شارع‭ ‬إلى‭ ‬آخر‭ ‬وجدنا‭ ‬أنفسنا‭ ‬أمام‭ ‬عربة‭ ‬صاعدة‭ ‬إلى‭ ‬الأعلى،‭ ‬هناك‭ ‬القلعة‭ ‬القديمة،‭ ‬بإطلالتها‭ ‬الساحرة‭ ‬على‭ ‬المدينة،‭ ‬فرصة‭ ‬للتصوير‭ ‬لا‭ ‬تعوّض،‭ ‬بما‭ ‬يزيدها‭ ‬المطر‭ ‬الناعم‭ ‬جمالاً‭. ‬

وأمام‭ ‬جمال‭ ‬حدائق‭ ‬‮«‬ميرابل‮»‬‭ ‬أخذتنا‭ ‬دهشة‭ ‬الجمال،‭ ‬وقالوا‭ ‬إن‭ ‬العرسان‭ ‬يأتون‭ ‬إلى‭ ‬هنا،‭ ‬فالمكان‭ ‬يمنحهم‭ ‬لوحات‭ ‬أخّاذة‭ ‬لتسجيل‭ ‬أجمل‭ ‬اللقطات‭ ‬في‭ ‬مستهل‭ ‬مشوار‭ ‬يأملون‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬سعيداً،‭ ‬تاريخها‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬عام‭ ‬1690م،‭ ‬حينما‭ ‬صممها‭ ‬رجل‭ ‬يدعى‭ ‬يوهان‭ ‬برنارد‭ ‬فيشر،‭ ‬ثم‭ ‬أعيد‭ ‬تشكيلها‭ ‬عام‭ ‬1730،‭ ‬وحول‭ ‬نافورتها‭ ‬‮«‬بيغاسوس‮»‬‭ ‬المشيدة‭ ‬عام‭ ‬1913‭ ‬نحتت‭ ‬أربع‭ ‬مجموعات‭ ‬من‭ ‬التماثيل‭ ‬وضعها‭ ‬أوتافيو‭ ‬موستو،‭ ‬وترمز‭ ‬إلى‭ ‬العناصر‭ ‬الأربعة،‭ ‬النار‭ ‬والهواء‭ ‬والأرض‭ ‬والماء،‭ ‬وافتتحت‭ ‬أمام‭ ‬الجمهور‭ ‬عام‭ ‬1854‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬الإمبراطور‭ ‬فرانز‭ ‬جوزيف‭.‬

كان‭ ‬المكان‭ ‬حياة‭ ‬متجددة‭ ‬وهي‭ ‬تخط‭ ‬يومياتها‭ ‬على‭ ‬وقع‭ ‬خطو‭ ‬البشر،‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬يتفرج،‭ ‬مقابل‭ ‬من‭ ‬يصنع‭ ‬الفرجة،‭ ‬وما‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬يفعل‭ ‬ذلك،‭ ‬كأنما‭ ‬الأمكنة‭ ‬مسارح‭ ‬مفتوحة،‭ ‬تحتفي‭ ‬بخطو‭ ‬الحياة‭ ‬على‭ ‬جنباتها‭. ‬

في‭ ‬عام‭ ‬1965‭ ‬مرقت‭ ‬عدسات‭ ‬تصوير‭ ‬فيلم‭ ‬‮«‬صوت‭ ‬الموسيقى‮»‬‭ ‬مع‭ ‬جولي‭ ‬أندروز‭ ‬وكريستوفر‭ ‬بلامر،‭ ‬ولأن‭ ‬المدينة‭ ‬تحتفي‭ ‬بالفنون‭ ‬وتعتني‭ ‬بالسياحة،‭ ‬فإن‭ ‬أماكن‭ ‬تصوير‭ ‬الفيلم‭ ‬تحولت‭ ‬إلى‭ ‬مزارات‭ ‬تجذب‭ ‬الزوار‭ ‬إليها،‭ ‬بدءاً‭ ‬من‭ ‬حدائق‭ ‬ميرابل،‭ ‬وقلعتي‭ ‬ليبولد‭ ‬سكورن‭ ‬وهلبرن،‭ ‬ووصولاً‭ ‬إلى‭ ‬كنيسة‭ ‬موندزي‭ ‬التي‭ ‬تقام‭ ‬فيها‭ ‬مراسم‭ ‬الزفاف،‭ ‬حيث‭ ‬يتجلّى‭ ‬الفرح‭ ‬بمشروع‭ ‬حياة‭ ‬سعيدة‭ ‬بين‭ ‬رجل‭ ‬وامرأة،‭ ‬مع‭ ‬توزيع‭ ‬البهجة‭ ‬على‭ ‬مدعوين،‭ ‬ومشاهدين‭.‬

كان‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬الوقت‭ ‬أن‭ ‬يعبرنا‭ ‬سريعاً،‭ ‬مع‭ ‬أن‭ ‬سالزبورج‭ ‬لم‭ ‬تطلعنا‭ ‬إلا‭ ‬على‭ ‬النزر‭ ‬اليسير‭ ‬من‭ ‬فتنها،‭ ‬فالأمكنة‭ ‬القديمة‭ ‬فيها‭ ‬كالعصرية‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬إحداث‭ ‬الفتنة،‭ ‬وما‭ ‬حولها‭ ‬من‭ ‬طبيعة‭ ‬وجبال‭ ‬يطرزان‭ ‬شالاً‭ ‬أخضر‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬هذه‭ ‬الفاتنة‭ ‬المتجددة‭.‬

لم‭ ‬يهبنا‭ ‬الوقت‭ ‬فسحة‭ ‬لنجرّب‭ ‬رحلة‭ ‬القارب‭ ‬في‭ ‬نهار‭ ‬سالزاك،‭ ‬من‭ ‬جربها‭ ‬يصفها‭ ‬كأنها‭ ‬السحر،‭ ‬الماء‭ ‬يعبر‭ ‬كمقطوعة‭ ‬موسيقية‭ ‬على‭ ‬أسماع‭ ‬صبايا‭ ‬يتناثرن‭ ‬عبر‭ ‬مشوار‭ ‬الرحلة‭ ‬المقدر‭ ‬بثمانية‭ ‬كيلومترات‭ ‬من‭ ‬المتعة‭ ‬البصرية،‭ ‬والشاعرية‭.‬

وسالزبورج‭ ‬لا‭ ‬تكفيها‭ ‬الأيام‭ ‬لرؤية‭ ‬مفاتنها،‭ ‬علما‭ ‬بأن‭ ‬البلدة‭ ‬القديمة‭ ‬أدرجتها‭ ‬‮«‬اليونسكو‮»‬‭ ‬ضمن‭ ‬قائمة‭ ‬التراث‭ ‬العالمي،‭ ‬فليس‭ ‬كثيراً‭ ‬عليها‭ ‬أن‭ ‬تبقى‭ ‬‮«‬أكثر‭ ‬الوجهات‭ ‬الرومانسية‭ ‬في‭ ‬العالم‮»‬،‭ ‬وعلى‭ ‬جسر‭ ‬يربط‭ ‬ضفتي‭ ‬النهر‭ ‬عشرات‭ ‬الآلاف‭ ‬من‭ ‬القفول‭ ‬تسامر‭ ‬مرور‭ ‬الماء‭ ‬وحيوية‭ ‬المدينة،‭ ‬أغلقها‭ ‬عشاق‭ ‬من‭ ‬سائر‭ ‬دول‭ ‬العالم،‭ ‬ووضعوا‭ ‬المفاتيح‭ ‬عهدة‭ ‬في‭ ‬مجرى‭ ‬النهر،‭ ‬ليكون‭ ‬كل‭ ‬قفل‭ ‬شاهداً‭ ‬على‭ ‬مرور‭ ‬حبيبين‭ ‬عبرا‭ ‬من‭ ‬هنا،‭ ‬ذات‭ ‬عشق‭.‬

كان‭ ‬الشلال‭ ‬يلوح‭ ‬من‭ ‬بعيد،‭ ‬وكان‭ ‬التحدي‭ ‬الصعود‭ ‬إلى‭ ‬النقطة‭ ‬الأعلى‭ ‬في‭ ‬الجبل‭ ‬الذي‭ ‬يرتفع‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬3000‭ ‬متر،‭ ‬حملت‭ ‬التحدي‭ ‬معي،‭ ‬وكلما‭ ‬أنجزت‭ ‬بضع‭ ‬مئات‭ ‬ألتقط‭ ‬صوراً‭ ‬لمسار‭ ‬الشلال،‭ ‬إذ‭ ‬أقترب‭ ‬من‭ ‬أعلى‭ ‬نقطة‭ ‬يأتي‭ ‬منها،‭ ‬لكنني‭ ‬لم‭ ‬أكسب‭ ‬في‭ ‬التحدي‭ ‬سوى‭ ‬1200‭ ‬متر،‭ ‬تاركاً‭ ‬المتبقي‭ ‬لمن‭ ‬يجيدون‭ ‬‮«‬صعود‭ ‬الجبال‮»‬،‭ ‬معهم‭ ‬همّته‭ ‬وروح‭ ‬الشباب‭ ‬واللياقة‭ ‬المطلوبة‭ ‬في‭ ‬هكذا‭ ‬تحديات‭!‬

على‭ ‬أبعاد‭ ‬مختلفة‭ ‬توجد‭ ‬استراحات‭ ‬صغيرة‭ ‬لمتابعة‭ ‬رحلة‭ ‬الشلال‭ ‬من‭ ‬عليائه‭ ‬إلى‭ ‬مصبّه‭ ‬المتكون‭ ‬كبحيرة‭ ‬من‭ ‬الحليب‭ ‬لنقاء‭ ‬بياضه،‭ ‬وكم‭ ‬رائع‭ ‬أن‭ ‬ترى‭ ‬الضوء‭ ‬يلتقي‭ ‬مع‭ ‬الندى‭ ‬وقطرات‭ ‬انسكاب‭ ‬الشلال،‭ ‬راسماً‭ ‬قوس‭ ‬قزح،‭ ‬فتنظر‭ ‬إلى‭ ‬الأسفل‭ ‬لتكتشف‭ ‬متعة‭ ‬الألوان،‭ ‬وهناك‭ ‬بحيرة‭ ‬تكونت‭ ‬لاستخدام‭ ‬اندفاع‭ ‬المياه‭ ‬بعدها‭ ‬في‭ ‬توليد‭ ‬الطاقة‭ ‬الكهربائية،‭ ‬المكان‭ ‬افتتح‭ ‬عام‭ ‬1893م،‭ ‬وأضيف‭ ‬كواحد‭ ‬من‭ ‬المزارات‭ ‬السياحية‭ ‬التي‭ ‬تصنع‭ ‬لهذه‭ ‬البلاد‭ ‬ثروتها‭.‬

 

زي‭ ‬لام‭ ‬سي‭... ‬لهجتها‭ ‬‮«‬خليجية‮»‬‭!‬

في‭ ‬أجندة‭ ‬السياحة‭ ‬النمساوية‭ ‬يتردد‭ ‬اسم‭ ‬هذه‭ ‬القرية‭ ‬كثيراً،‭ ‬‮«‬زي‭.. ‬لام‭.. ‬سي‮»‬،‭ ‬غرفة‭ ‬في‭ ‬بحر،‭ ‬أو‭ ‬هي‭ ‬تلك‭ ‬القرية‭ ‬الصغيرة‭ ‬المتكررة‭ ‬الحدوث‭ ‬في‭ ‬النمسا،‭ ‬بقعة‭ ‬بين‭ ‬بحيرة‭ ‬ماء‭ ‬وجبل‭ ‬مزهو‭ ‬بجماله‭ ‬الممتد‭ ‬اخضراراً‭ ‬من‭ ‬سفحه‭ ‬إلى‭ ‬قمته‭.‬

وعبر‭ ‬تكرار‭ ‬السماع‭ ‬عنها،‭ ‬أردت‭ ‬لقاءها،‭ ‬أسوة‭ ‬بعشرات‭ ‬أعرفهم‭ ‬التقوها،‭ ‬فكان‭ ‬القدر‭ ‬الذي‭ ‬أتاح‭ ‬لي‭ ‬الفرصة‭ ‬سانحة،‭ ‬لكني‭ ‬لم‭ ‬أتخيلها‭ ‬تتحدث‭ ‬لهجة‭ ‬بلداننا‭ ‬‮«‬الخليجية‮»‬‭ ‬بهكذا‭ ‬صورة،‭ ‬أمام‭ ‬باب‭ ‬الفندق‭ ‬أربع‭ ‬سيارات‭ ‬كلاسيكية‭ ‬أشبه‭ ‬بلوحات‭ ‬مكتوب‭ ‬عليها‭ ‬أبيات‭ ‬الغزل‭ ‬والشوق،‭ ‬ويحاذيه‭ ‬تماماً‭ ‬محل،‭ ‬أو‭ ‬كما‭ ‬يردد‭ ‬الرجل‭ ‬العربي‭ ‬أمامه،‭ ‬بتكرار‭ ‬يبدو‭ ‬‮«‬تسجيلياً‮»‬،‭ ‬أنها‭ ‬بقالة‭ ‬عربية،‭ ‬مستعرضاً‭ ‬ما‭ ‬يقدمه‭ ‬مما‭ ‬اعتاده‭ ‬المواطن‭ ‬الخليجي‭ ‬في‭ ‬بلاده،‭ ‬وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬شرائح‭ ‬الهواتف‭ ‬المحمولة‭.‬

في‭ ‬الساحات‭ ‬والمقاهي‭ ‬تجد‭ ‬وجوه‭ ‬أبناء‭ ‬الخليج‭ ‬منتشرة‭ ‬كأنك‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬تتبع‭ ‬إحدى‭ ‬دول‭ ‬مجلس‭ ‬التعاون‭ ‬الست،‭ ‬ووصولاً‭ ‬إلى‭ ‬البحيرة،‭ ‬وعلى‭ ‬امتدادها‭ ‬كأنما‭ ‬أبناء‭ ‬المدينة‭ ‬غادروها‭ ‬لأجل‭ ‬هؤلاء‭ ‬السياح‭ ‬الذين‭ ‬يحيون‭ ‬اقتصادها‭ ‬بحيوية‭ ‬مشهودة‭ ‬لهم،‭ ‬وهم‭ ‬يعرفون‭ ‬كيف‭ ‬يؤكل‭ ‬لحم‭ ‬الكتف،‭ ‬فحيثما‭ ‬تلفتّ‭ ‬عليك‭ ‬دفع‭ ‬المال،‭ ‬وقال‭ ‬سائح‭ ‬إنهم‭ ‬لو‭ ‬يملكون‭ ‬قياس‭ ‬نسبة‭ ‬الأكسجين‭ ‬ليبيعوها‭ ‬لنا‭ ‬لفعلوا‭!‬

هي‭ ‬ملاذ‭ ‬سياحي‭ ‬خليجي‭ ‬في‭ ‬الصيف،‭ ‬وفي‭ ‬الشتاء‭ ‬فإن‭ ‬الأوربيين‭ ‬يجدون‭ ‬فيها‭ ‬ضالتهم‭ ‬لأجل‭ ‬التزلج‭ ‬على‭ ‬الجليد،‭ ‬وكانت‭ ‬لافتة‭ ‬لي‭ ‬تلك‭ ‬الصورة‭ ‬التي‭ ‬رأيت‭ ‬فيها‭ ‬كيف‭ ‬تبدل‭ ‬‮«‬زي‭ ‬لام‭ ‬سي‮»‬‭ ‬شالها‭ ‬الأخضر‭ ‬شتاء،‭ ‬لترتدي‭ ‬فستان‭ ‬زفاف‭ ‬أبيض،‭ ‬يمتد‭ ‬من‭ ‬جبلها‭ ‬إلى‭ ‬بحيرتها‭.‬

البحيرة‭ ‬التي‭ ‬تسير‭ ‬عليها‭ ‬القوارب‭ ‬بلهجاتنا،‭ ‬وعلى‭ ‬ممشاها‭ ‬الجميل‭ ‬ترى‭ ‬ملامح‭ ‬وجوه‭ ‬كالتي‭ ‬نعرفها‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬مدينة‭ ‬خليجية،‭ ‬أطفال‭ ‬حارتنا،‭ ‬نساء‭ ‬‮«‬الفريج‮»‬،‭ ‬زحام‭ ‬على‭ ‬عربة‭ ‬بيع‭ ‬الآيس‭ ‬كريم،‭ ‬ثم‭ ‬المشي‭ ‬حول‭ ‬البحيرة،‭ ‬هذا‭ ‬الخزان‭ ‬الهائل‭ ‬الممتد‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬4000‭ ‬متر‭ ‬مربع،‭ ‬والمحتجز‭ ‬نحو‭ ‬175‭ ‬مليون‭ ‬متر‭ ‬مكعب‭ ‬من‭ ‬الماء‭.‬

على‭ ‬الجانب‭ ‬الآخر‭ ‬يطل‭ ‬الجبل،‭ ‬وكان‭ ‬لا‭ ‬مناص‭ ‬من‭ ‬اكتشاف‭ ‬أي‭ ‬عالم‭ ‬يختبئ‭ ‬هناك،‭ ‬وعبر‭ ‬التلفريك‭ ‬اكتشفنا‭ ‬القرية‭ ‬أولاً،‭ ‬حيث‭ ‬تبدو‭ ‬من‭ ‬الأعلى‭ ‬سحراً‭ ‬تنقشه‭ ‬الطبيعة‭ ‬بمنتهى‭ ‬الدقة،‭ ‬أما‭ ‬الجبل‭ ‬فلم‭ ‬يكن‭ ‬إلا‭ ‬غابة،‭ ‬السير‭ ‬فيها‭ ‬متعة‭ ‬حقيقية،‭ ‬وبين‭ ‬أشجارها‭ ‬تندس،‭ ‬بين‭ ‬مساحة‭ ‬وأخرى،‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬ألعاب‭ ‬للأطفال،‭ ‬وتسير‭ ‬معك‭ ‬المناظر‭ ‬المفتوحة‭ ‬على‭ ‬سهول‭ ‬وبحيرات،‭ ‬وعلى‭ ‬مبعدة‭ ‬تلوح‭ ‬قمة‭ ‬جبل‭ ‬كابرون‭ ‬بعمامته‭ ‬البيضاء‭.‬

ليس‭ ‬مبالغة‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬اللهجة‭ ‬الخليجية‭ ‬احتلت‭ ‬أقصى‭ ‬ارتفاع‭ ‬في‭ ‬جبل‭ ‬كابرون،‭ ‬كأنما‭ ‬اللوحات‭ ‬البيضاء‭ ‬تحتفي‭ ‬بزوارها‭ ‬من‭ ‬منطقة‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الفصل‭ ‬يعدّون‭ ‬لوحة‭ ‬الثلج‭ ‬خرافة‭ ‬تبدو‭ ‬في‭ ‬الحكايات‭ ‬القديمة،‭ ‬أو‭ ‬عبر‭ ‬الشاشات‭ ‬الملونة‭. ‬

 

فيينا‭... ‬ليلتان‭ ‬لا‭ ‬تكفيان

‮«‬فيينا‭ ‬المدينة‭ ‬الأكثر‭ ‬ملاءمة‭ ‬للعيش‭ ‬في‭ ‬العالم‮»‬،‭ ‬لعدة‭ ‬مرات‭ ‬تكرر‭ ‬الشعار‭ ‬تجاه‭ ‬هذه‭ ‬المدينة،‭ ‬ليضاف‭ ‬إلى‭ ‬قصتي‭ ‬القديمة‭ ‬مع‭ ‬أغنية‭ ‬أسمهان،‭ ‬رائعة‭ ‬الشاعر‭ ‬أحمد‭ ‬رامي،‭ ‬ولحن‭ ‬فريد‭ ‬الأطرش‭: ‬‮«‬ليالي‭ ‬الأنس‭ ‬في‭ ‬فيينا‭/ ‬نسيمها‭ ‬من‭ ‬هوا‭ ‬الجنّة،‭ ‬نغم‭ ‬في‭ ‬الجوّ‭ ‬له‭ ‬رنّة‭/ ‬سمعها‭ ‬الطير‭ ‬بكى‭ ‬وغنّى‮»‬،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تقول‭: ‬‮«‬ساعة‭ ‬هنا‭ - ‬لو‭ ‬تفضالك‭ - ‬تنسى‭ ‬معاها‭ ‬الكون‭ ‬كلّه‮»‬‭.‬

وكان‭ ‬المعنى‭ ‬صائباً‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬قدرة‭ ‬الكلمات‭ ‬على‭ ‬اختزاله،‭ ‬فأي‭ ‬قرار‭ ‬خاطئ‭ ‬هذا‭ ‬الذي‭ ‬ارتكبته‭ ‬حينما‭ ‬اكتفيت،‭ ‬ضمن‭ ‬جدول‭ ‬الرحلة،‭ ‬بليلتين‭ ‬في‭ ‬فيينا،‭ ‬كانت‭ ‬نهاراً‭ ‬يسابق‭ ‬نهاراً،‭ ‬لأتمكن‭ ‬من‭ ‬مشاهدة‭ ‬ما‭ ‬تضمّه‭ ‬هذه‭ ‬المدينة‭ ‬من‭ ‬جواهر‭.‬

كانت‭ ‬خطوتي‭ ‬إليها‭ ‬طويلة‭ ‬جداً،‭ ‬بين‭ ‬الوصول‭ ‬إليها‭ ‬وزيارتي‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬زي‭ ‬لام‭ ‬سي‮»‬‭ ‬رحلة‭ ‬إلى‭ ‬ميونخ،‭ ‬فتعيّن‭ ‬عليّ‭ ‬قطع‭ ‬المسافة‭ ‬بينها‭ ‬والمدينة‭ ‬الألمانية‭ ‬في‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ست‭ ‬ساعات،‭ ‬إذ‭ ‬إن‭ ‬فيينا‭ ‬تقع‭ ‬في‭ ‬الطرف‭ ‬الآخر‭ ‬على‭ ‬الخريطة‭ ‬النمساوية،‭ ‬وكان‭ ‬على‭ ‬سائقة‭ ‬السيارة‭ ‬كلوديا،‭ ‬الألمانية‭ ‬الظريفة،‭ ‬مدّنا‭ ‬ببعض‭ ‬الاستراحات‭ ‬والضحكات،‭ ‬لننشغل‭ ‬عن‭ ‬طول‭ ‬المسافات‭ ‬وهي‭ ‬تتخذ‭ ‬لها‭ ‬طرقاً‭ ‬ملتوية‭ ‬داخل‭ ‬القرى‭ ‬للهروب‭ ‬من‭ ‬زحام‭ ‬الطريق‭ ‬السريع‭.‬

وكعادتنا‭ ‬في‭ ‬مدن‭ ‬كهذه،‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الطعام‭ ‬المناسب،‭ ‬إذ‭ ‬تبدو‭ ‬كلمة‭ ‬‮«‬حلال‮»‬‭ ‬المفردة‭ ‬السحرية‭ ‬التي‭ ‬نفتش‭ ‬عنها‭ ‬في‭ ‬واجهات‭ ‬المطاعم،‭ ‬وتبدو‭ ‬أيضاً‭ ‬مستحقة‭ ‬للثمن‭ ‬المدفوع‭ ‬بسبب‭ ‬ندرتها،‭ ‬أو‭ ‬عدم‭ ‬الاهتداء‭ ‬إليها‭ ‬بسهولة‭. ‬

كانت‭ ‬المساحات‭ ‬الخضراء‭ ‬تتكشف‭ ‬على‭ ‬شاشة‭ ‬الهاتف‭ ‬حينما‭ ‬أمدّتنا‭ ‬خرائط‭ ‬‮«‬جوجل‮»‬‭ ‬بإحداثيات‭ ‬المكان‭ ‬المقيمين‭ ‬فيه،‭ ‬والمشي‭ ‬متعة،‭ ‬إذ‭ ‬إننا‭ - ‬كما‭ ‬يقال‭ ‬عنها‭ - ‬في‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬‮«‬كبريات‭ ‬المدن‭ ‬الأكثر‭ ‬أماناً‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الأرض‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬بقعة‭ ‬ثرية‭ ‬بالتاريخ،‭ ‬فوسط‭ ‬المدينة،‭ ‬مثلاً،‭ ‬مسجل‭ ‬على‭ ‬لائحة‭ ‬‮«‬اليونسكو‮»‬‭ ‬للتراث‭ ‬العالمي،‭ ‬وكم‭ ‬لافت‭ ‬أن‭ ‬تحتضن‭ ‬فيينا‭ ‬27‭ ‬قصراً،‭ ‬عدا‭ ‬العدد‭ ‬الكبير‭ ‬من‭ ‬المقار‭ ‬السكنية‭ ‬المعروفة‭ ‬فيها،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬يشكل‭ ‬نهر‭ ‬الدانوب‭ ‬حكاية‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬جمال‭ ‬المدينة،‭ ‬فتنهض‭ ‬‮«‬جزيرة‭ ‬الدانوب‮»‬‭ ‬من‭ ‬حكايتين‭ ‬يرويهما‭ ‬هذا‭ ‬النهر،‭ ‬واحدة‭ ‬زرقاء‭ ‬وأخرى‭ ‬جديدة،‭ ‬ترسم‭ ‬لوحات‭ ‬الترفيه‭ ‬على‭ ‬صفحات‭ ‬جريان‭ ‬الفصول،‭ ‬ويمضي‭ ‬النهر‭ ‬في‭ ‬مساره‭ ‬مخترقاً‭ ‬وسط‭ ‬المدينة،‭ ‬ليواصل‭ ‬بريشته‭ ‬رسم‭ ‬الحياة‭ ‬على‭ ‬الضفتين،‭ ‬وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬ساحة‭ ‬خضراء‭ ‬يقال‭ ‬إنها‭ ‬تغطي‭ ‬ستة‭ ‬ملايين‭ ‬متر‭ ‬مربع،‭ ‬إنها‭ ‬براتر،‭ ‬إحدى‭ ‬أجمل‭ ‬عشرة‭ ‬متنزهات‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬العالم‭.‬

 

قصر‭ ‬القياصرة

في‭ ‬الصباحات‭ ‬الباكرة‭ ‬اخترنا‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬قصر‭ ‬الشونبرون‭ ‬وجهتنا‭ ‬الأولى،‭ ‬يا‭ ‬إلهى‭! ‬كل‭ ‬تلك‭ ‬الجموع‭ ‬تتجه‭ ‬إلى‭ ‬بوابة‭ ‬القصر،‭ ‬وهذه‭ ‬الطوابير‭ ‬أمام‭ ‬بائعي‭ ‬التذاكر،‭ ‬لكنني‭ ‬في‭ ‬المدينة‭ ‬القادرة‭ ‬على‭ ‬مصادقة‭ ‬سياحها،‭ ‬وتدليلهم‭ ‬بهكذا‭ ‬حُسن،‭ ‬خلال‭ ‬دقائق،‭ ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬أجهزة‭ ‬إلكترونية‭ ‬يمكن‭ ‬قطع‭ ‬التذاكر‭ ‬والدفع‭ ‬إلكترونياً،‭ ‬إنما‭ ‬المفاجأة‭ ‬هي‭ ‬انتظار‭ ‬موعد‭ ‬الدخول‭ ‬إلى‭ ‬القصر،‭ ‬ساعة‭ ‬ونصف‭ ‬الساعة‭ ‬يتطلب‭ ‬إنفاقها‭ ‬حتى‭ ‬يحين‭ ‬وقت‭ ‬الزيارة‭ ‬المحدد‭ ‬على‭ ‬التذكرة،‭ ‬لكن،‭ ‬وكما‭ ‬يليق‭ ‬بفيينا‭ ‬وعلاقتها‭ ‬بضيوفها،‭ ‬ينطوي‭ ‬المكان‭ ‬على‭ ‬حديقة‭ ‬تقع‭ ‬خلف‭ ‬القصر،‭ ‬بما‭ ‬يقتضي‭ ‬التجوال‭ ‬فيها‭ ‬ساعات‭.‬

قصر‭ ‬شونبرون‭ ‬أكبر‭ ‬قصور‭ ‬النمسا‭ ‬وأهمها،‭ ‬ويمتد‭ ‬على‭ ‬مساحة‭ ‬160‭ ‬هكتاراً،‭ ‬فيما‭ ‬تبلغ‭ ‬مساحة‭ ‬حديقة‭ ‬الحيوانات‭ ‬16‭ ‬هكتاراً،‭ ‬وفي‭ ‬عام‭ ‬1996‭ ‬أدرجته‭ ‬‮«‬اليونسكو‮»‬‭ ‬ضمن‭ ‬لائحتها‭ ‬للتراث‭ ‬الإنساني‭.‬

حينما‭ ‬حان‭ ‬الوقت‭ ‬كنّا‭ ‬على‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬الوجد‭ ‬التاريخي،‭ ‬ما‭ ‬هذه‭ ‬الفخامة‭ ‬الإمبراطورية؟،‭ ‬كأنما‭ ‬ماريا‭ ‬تريزا‭ ‬مازالت‭ ‬تختال‭ ‬على‭ ‬السجاد‭ ‬الذي‭ ‬اختارته‭ ‬ليزيّن‭ ‬قصرها‭ ‬مع‭ ‬اكتماله‭ ‬في‭ ‬عصرها‭ ‬عام‭ ‬1743م،‭ ‬وسريرها‭ ‬هناك،‭ ‬يجمع‭ ‬الجمال‭ ‬والفخامة‭ ‬وعطر‭ ‬الأنوثة‭ ‬المتبقّي‭ ‬تاريخاً‭ ‬على‭ ‬مناديل‭ ‬إمبراطورية‭ ‬تسيدت‭ ‬المشهد‭ ‬السياسي‭ ‬الأوربي‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬السادس‭ ‬عشر‭.‬

كل‭ ‬هذه‭ ‬الغرف،‭ ‬1441‭ ‬غرفة‭!‬،‭ ‬كل‭ ‬منها‭ ‬تروي‭ ‬سيرة‭ ‬من‭ ‬عبروا‭ ‬في‭ ‬الزمن‭ ‬القيصري‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬عليه‭ ‬النمسا،‭ ‬الثروات‭ ‬الهائلة‭ ‬التي‭ ‬أنفقت‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬العصر‭ ‬الفخم‭ ‬على‭ ‬بناء‭ ‬القصر‭ ‬تدرّ‭ ‬ذهباً‭ ‬كل‭ ‬حين‭ ‬في‭ ‬الزمن‭ ‬الراهن،‭ ‬فآلاف‭ ‬الزوار‭ ‬المتدفــــــقين‭ ‬يومياً‭ ‬يصنعـــون‭ ‬مشروعاً‭ ‬اســــتثمارياً‭ ‬هائلاً‭ ‬على‭ ‬خريطة‭ ‬الدخل‭ ‬القومي‭ ‬لهذه‭ ‬البلاد‭.‬

بجهاز‭ ‬يشرح‭ ‬باللغة‭ ‬العربية‭ ‬ما‭ ‬تضمه‭ ‬كل‭ ‬غرفة،‭ ‬كان‭ ‬المسار‭ ‬يتنقل‭ ‬بنا‭ ‬بين‭ ‬كنوز‭ ‬مرحلة‭ ‬مهمة‭ ‬من‭ ‬التاريخ‭ ‬النمساوي،‭ ‬وعلاقاته‭ ‬مع‭ ‬إمبراطوريات‭ ‬الغرب‭ ‬الأوربي،‭ ‬صعود‭ ‬ونكوص،‭ ‬انتصارات‭ ‬وانكسارات،‭ ‬هنا‭ ‬سرير‭ ‬جوزيف،‭ ‬الإمبراطور‭ ‬العاشق،‭ ‬بسيط‭ ‬كما‭ ‬يليق‭ ‬بصاحب‭ ‬رؤية‭ ‬فلسفية،‭ ‬وهـــناك‭ ‬مرآة‭ ‬مذهّبة،‭ ‬وهذه‭ ‬القاعة‭ ‬الملكية‭ ‬كأنما‭ ‬كل‭ ‬جزء‭ ‬منها‭ ‬تحفة‭ ‬فنية‭ ‬منفصلة‭ ‬تتجلى‭ ‬لصنع‭ ‬دهشة‭ ‬لا‭ ‬تستطيع‭ ‬العين‭ ‬حصر‭ ‬متعتها،‭ ‬وعلى‭ ‬الزاوية‭ ‬صور‭ ‬لا‭ ‬تُحصى‭ ‬لمن‭ ‬عبروا‭ ‬دروب‭ ‬المجد‭ ‬تاركين‭ ‬نقوشاً‭ ‬تراهن‭ ‬على‭ ‬البقاء‭ ‬برغم‭ ‬أنف‭ ‬التحولات،‭ ‬إذ‭ ‬إن‭ ‬الحصار‭ ‬التركي‭ ‬لفيينا‭ ‬عام‭ ‬1638‭ ‬أضر‭ ‬كثيراً‭ ‬بالقصر،‭ ‬لكن‭ ‬عصر‭ ‬ماريا‭ ‬تريزا‭ ‬توّج‭ ‬هيبته‭ ‬بما‭ ‬يستحقها،‭ ‬ويكون‭ ‬رمزاً‭ ‬لفيينــــا‭ ‬يسيــر‭ ‬إليه‭ ‬الملايين‭ ‬كل‭ ‬عام‭. ‬

كان‭ ‬اسم‭ ‬ماريـــا‭ ‬تريزا‭ ‬يتكـرر‭ ‬كــــثيراً‭ ‬عبــــر‭ ‬الغرف‭ ‬والممرات‭ ‬والصـــور،‭ ‬الإمبـــراطــورة‭ ‬التــــي‭ ‬يشار‭ ‬إليها‭ ‬بالبنان‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬النمــساوي،‭ ‬وبنفوذها‭ ‬الـــقوي‭ ‬في‭ ‬القارة‭ ‬الشقراء،‭ ‬هي‭ ‬والدة‭ ‬ملكـــة‭ ‬فرنسا‭ ‬ماري‭ ‬أنطــوانيت،‭ ‬ووالـــــدها‭ ‬الإمبراطور‭ ‬تشارلز‭ ‬السادس‭ ‬الذي‭ ‬أصــــدر‭ ‬‮«‬مرســــوم‭ ‬الأمر‭ ‬العالي‮»‬‭ ‬القاضــــي‭ ‬بأن‭ ‬ترث‭ ‬ماريا‭ ‬أراضيه،‭ ‬لكنها‭ ‬وجدت‭ ‬مــن‭ ‬ينازعــــها‭ ‬فيــــها،‭ ‬فطالبت‭ ‬بروسيا‭ ‬وبافاريا‭ ‬وفرنسا‭ ‬وإسبانيا‭ ‬بأجزاء‭ ‬من‭ ‬أراضي‭ ‬ماريا‭ ‬تريزا،‭ ‬برغــم‭ ‬أنها‭ ‬وعدت‭ ‬بعدم‭ ‬المساس‭ ‬بهذا‭ ‬الميراث‭ ‬الإمبراطوري‭... ‬فكانت‭ ‬حرب‭ ‬الخلافة‭ ‬النمساوية،‭ ‬التي‭ ‬انتهت‭ ‬عام‭ ‬1748‭ ‬بمعاهدة‭ ‬تسمى‭ ‬‮«‬إكس‭ ‬لا‭ ‬شابل‮»‬‭.‬

خلف‭ ‬القصر‭ ‬كانت‭ ‬الحديقة‭ ‬مفتوحة‭ ‬على‭ ‬جمال‭ ‬آخر،‭ ‬كلّما‭ ‬صعدنا‭ ‬تلاً‭ ‬عليه‭ ‬لوحة‭ ‬من‭ ‬جمال‭ ‬ترى‭ ‬القصر‭ ‬فيها،‭ ‬يأتيك‭ ‬تل‭ ‬آخر‭ ‬ترى‭ ‬فيه‭ ‬الشونبرون‭ ‬في‭ ‬لوحة‭ ‬أشمل‭.‬

بقي‭ ‬نهار‭ ‬واحد،‭ ‬عليّ‭ ‬واجب‭ ‬تجاه‭ ‬هذه‭ ‬المدينة،‭ ‬أن‭ ‬أراها‭ ‬ولو‭ ‬عبوراً‭ ‬على‭ ‬شوارعها،‭ ‬وكانت‭ ‬الفكرة‭ ‬‮«‬الباص‭ ‬السياحي‭ ‬المفتوح‮»‬‭ ‬المنساب‭ ‬في‭ ‬شرايين‭ ‬فيينا‭ ‬متوقفاً‭ ‬أمام‭ ‬معالمها‭ ‬الشهيرة‭ ‬ليتيح‭ ‬لركّابه‭ ‬فرصة‭ ‬زيارتها،‭ ‬وهناك‭ ‬حافلة‭ ‬تعبر‭ ‬الأمكنة‭ ‬كل‭ ‬ربع‭ / ‬ثلث‭ ‬ساعة،‭ ‬ليكمل‭ ‬السائح‭ ‬الدورة‭ ‬التي‭ ‬يريدها‭. ‬

وما‭ ‬أكثر‭ ‬الأمكنة‭ ‬الضاجة‭ ‬بالثراء‭ (‬تاريخياً‭ ‬وجمالياً‭) ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬ليس‭ ‬بغريب‭ ‬أن‭ ‬تنال‭ ‬كل‭ ‬تلك‭ ‬الصفات‭ ‬كجميلة‭ ‬تعيش‭ ‬‮«‬فخامة‭ ‬إمبراطورية‮»‬‭ ‬لكنها‭ ‬تتنزه‭ ‬على‭ ‬نهر‭ ‬الدانوب‭ ‬بثوب‭ ‬عصري‭ ‬بالغ‭ ‬الزهو■

القفول‭ ‬على‭ ‬جسر‭ ‬نهر‭ ‬السالز،‭ ‬مشهد‭ ‬متكرر‭ ‬في‭ ‬مدن‭ ‬عدة‭ ‬تغلق‭ ‬على‭ ‬الحب‭ ‬أقفالاً‭ ‬وتلقي‭ ‬المفاتيح‭ ‬في‭ ‬النهر

بيت‭ ‬موزارت‭ ‬يستقطب‭ ‬السياح‭ ‬القادمين‭ ‬إلى‭ ‬سالزبورج

في‭ ‬ساحة‭ ‬بمدينة‭ ‬سالزبورج‭ ‬يجمع‭ ‬النقود‭ ‬بطريقة‭ ‬مثقفة

مدينة‭ ‬سالزبورج‭ ‬كما‭ ‬تبدو‭ ‬من‭ ‬قلعتها