من الريف إلى فيينا النمسا تبتسم في ليالي الأنس
قيل لي: عليك بـ «زي لام سي»، وهي قرية نمساوية يوصف جمالها بأنه السِّحْر بعينه، تجاور الحدود مع ألمانيا، لكن أسمهان أخذتني إلى العاصمة النمساوية منذ عشرات السنين، حيث وعدتني بـ «ليالي الأنس في فيينا»، ومنذئذ أغوتني نفسي الأمّارة بالسفر أن أذهب إليها، برغم أنها ليست ضمن مسار الرحلة.
كان المسار يذهب بنا إلى الريف، ونحن نتجاوز الحدود الألمانية، وكلما اقتربت النمسا بدأت الجبال في التبدل قليلاً، فأعاليها تبين عن صخور تبيّنا لاحقاً أنها في الشتاء تكون مكسوة ببياض الثلج، كأنما اللون الأخضر محض متعة لا يعرفها موسم البرد، إنما هناك ثمة لون أبيض لايزال، حتى ونحن نجتاز الأمكنة عند السفوح، في عز الصيف.
كان الريف النمساوي يبسط ورقته الخضراء حتى على التلال، كأنما يغويك أكثر لإمعان عينيك في الجمال المكتوب على امتداد البصر، فتكاد تكذّب هاتان العينان نفسيهما، حيث إن ما تراه ليس إلا لوحة وضعها مكبّرة أمامك أحد فناني الطبيعة، وليس الطبيعة كما تتجلى واقعاً أمام عينيك، كما أرادها الخالق في هذه البقعة من الدنيا.
ويرفرونج... الوادعة
بلغنا ويرفرونج، القرية النائمة بحنان بالغ في هضبة واسعة، وقد بلغ بنا التعب مأخذاً جعلنا نترقب إطلالة «فندق» الإقامة ببالغ الصبر، لكننا بقينا مأخوذين بدهشة المكان فور أن هدأت الأجسام إلى استراحة قصيرة، فالقرية الريفية تنطوي على جمال لا يجدر بالعين أن تغمض عنه لحظة، الجبال المحيطة، والسهول المنبسطة، والمراعي التي تمرح فيها الأبقار كما نرى على الشاشات الصغيرة والكبيرة، كأنما المشهد أمامنا منزوع من فيلم سينمائي، أو لوحة فنية.
من على الشرفات نطلّ على عالم من الإبداع الكوني الأخضر، وحيناً تأتي السحب لتسكب مطرها فيحط فرحاً على قلوبنا قبل أن تتناوله الأرض بأنفاس من الزهر.
المكان حولنا مغر بالتجوال، ينابيع ماء ومراعٍ مفتوحة للسير، وخيول تهَب المكان لوحة جمال أخرى، ومنازل قريبة كأنما كنا في متحف لحياة مختلفة يلهو الأطفال بدراجاتهم الهوائية، حتى المقبرة كانت لوحة مدهشة، على قبور الأطفال تماثيل صغيرة، منها تمثال لطفل يقرأ.
من شرفة الغرفة يأخذني المنظر أمامي، السحب الهابطة حتى منتصف الجبال، بياض ينهمر حتى مشارف الأرض، لونان يمتزجان، الأخضر والأبيض، والسحر القابض على شهية التأمل ينعش النهارات، حتى إذا حلّ الليل لبست القرية غلالة سوداء، لترى المناظر بعين قلبك، وهي تهجع إلى غفوة من الحلم.
أما الفجر فله سحره الخاص، تكتشف أن السحاب اشتاق إلى الأرض حينما كنت تغمض عينيك، وعليه أن يعود إلى مكانته الأولى فور أن تخدش حياءه، تاركاً قمم الأشجار، ومرتفعاً لينسكب ماء حيث لا يروم صبراً عن اللون الأخضر، يعود إليها بما يجعلها متألقة تحت وهج بصرك وبصيرتك.
هالشتات... الحُسن يقيم هنا
في طريقنا إلى «زي لام سي» كان علينا التوقف بضع ساعات في قرية هالشتات، اسمها يبدو قريباً من إيقاع المفردة العربية، كأنه يقول «هذا الشتات»، لولا أنه ينطق لام الكلمة.
قرية صغيرة تقع على ضفاف بحيرة ضخمة، وكلما أوغلت بالمركب فوق الصفحة الزرقاء تراها أجمل وأجمل، كأنها لوحة بين زرقة الماء واخضرار الجبل خلفها، ماء يحاذيها من الأرض وآخر ينهمر شلالات من الأعلى، وعليك مواكبة تدفق ذلك الجمال أمام عينيك لتأخذ أقصى حدود متعتك بما ترى.
متحف إبداعي في الهواء الطلق، انعكاس الجمال على الماء جمال آخر، تسير بمحاذاة البحيرة، وعليها البط يعوم كقوارب ورقية صغيرة أقرب إلى المجسمات، يأخذك الخطو بين المنازل والمقاهي ومحال بيع الهدايا والتذكارات التي تعرض تشكيلات جمالية أخرى، لتبقى في هذه المفردة فلا تتعبك قدماك وأنت تمضي بهما المسافات، على يمينك البحيرة الممتدة، وعلى يسارك بيوت القرية المتناسقة مع الجبل، حيث تتحيّن الفرصة للنظر من خلالها إلى الشلال المندفع من هناك.
عدد سكان هذه القرية قليل، وربما لا يتجاوز ألفي شخص، تطل على بحيرة هالستاترسي، التي تبعد نحو 80 كم من مدينة سالزبورج، وساعتين من ميونخ الألمانية، لكنها قادرة - برغم صغرها - على جذب آلاف السياح إليها يومياً، فيما تتوافر متعة إضافية على متن القوارب الصغيرة والكبيرة، التي تجوب البحيرة، لينظر السائح إلى الجزيرة من فوق سطح الماء، وكان المطر رفيقنا في رسم المشهد بانهمار أجبرنا على التحصن دونه بعيداً عن متابعة المشهد في الهواء الطلق، ومن لم يتمكن من الصعود إلى مواقع الملح في ارتفاعاتها، فإنه سيتمتع برؤية تلك الجبال وهي ترسم لوحتها الممتدة من السماء إلى الأرض، واللافت أن شركة صينية للتعدين قررت عام 2011 «تقليد» فكرة القرية وبناء نسخة منها في الصين!
سالزبورج... معزوفة السالز
سالزبورج، المدينة التي ترقبتها طويلاً لأراها، لألتقي موزارت وأسير على نهر السالز، وأصعد إلى قلعتها الشهيرة.
مثّلت لي سالزبورج حلماً قديماً، فالموسيقار العظيم الذي عاشها وعاشت فيه، صنع لها مجداً موسيقياً جعل من بيته، رغم زحام المحال التجارية، ملاذا لتأمل حالة من الوجد مرّت ذات حين من الدهر عبر هذه البوابة، هنا ولد فولفغانغ أماديوس موزارت في السابع والعشرين من شهر يناير عام 1756، وفي الطابق الثالث من هذا البيت عاشت عائلة موزارت نحو 26 عاماً، وفي يونيو عام 1880 دشنت مؤسسة موزارت الدولية أول متحف في مسقط رأس الموسيقار، ليضم، ضمن ما يضمّه، لوحة لم تكتمل لموزارت على البيانو، إضافة إلى وثائق ومراسلات وصور، ليكون وجهة ثقافية وفنية لآلاف الزوار من حول العالم.
هكذا صنعت النمسا مع واحد من عباقرة الموسيقى، النابغة الذي بدأ ممارسة العزف في سن الرابعة، وشارك في الحفلات عندما بلغ السادسة من عمره، وجاب أوربا في جولة موسيقية برفقة عائلته، وكان عمره سبع سنوات، العبقرية التي جعلت من رجل لم يعش إلا نحو 35 عاماً، لكنه وضع فيها 22 عملاً في الأوبرا و41 سيمفونية، ومن لا يتذكر له «الناي السحري»، إحدى روائعه البالغة 626 عملاً موسيقياً، لكنه عندما مات لم يجد إلا خمسة أشخاص، بينهم زوجته، يسيرون في جنازته!
التقطت صور البيت ضمن العشرات الذين كانوا يتحينون فرصتهم لتكون الصورة لهم وحدهم مع هذا البيت، بما يضمه من بصمة عميقة على التراث الموسيقي العالمي، لتأخذنا سالزبورج بعدها في مساحاتها وساحاتها، ولنبقى قريبين من نهر السالزاك، هي رابع أكبر مدينة في النمسا، وأشهرها ربما، لما لها من شهرة عالمية، وجمال فاتن، فالمعمار ناطق بفنونه أيضاً.
المحال تعرض شوكولاتة محتفية بموزارت، والسياح يطلبونها لأنها تتخذ من ملهم وعبقري مذاقها المتعدد طعماً وشكلاً كالموسيقى التي غرسها في سواقي سالزبورج، هناك ما يشبه آلة الكمان، وما مثّل عشقاً جميلاً في حياة موزارت، ويقال إن كرات الشوكولاتة المعروفة باسم «موزارت كوغلن» ابتكرها عام 1890 حلواني يدعى بول فورست، وهي مزيج من «المرزبانية وشوكولاتة ذائبة»، كما يشير أحد المواقع الإلكترونية، ويواصل رحلتها نوبرت فورست، حفيد الحلواني الأول الذي صنعها، وأسس لإنتاجها شركة تتوارث الطعم الجميل.
كانت الساحات تنطق بحيوية لافتة، الرجل الذي وجد لنفسه حيلة مميزة في جمع المال، يرتفع عن الأرض كأنما طائر يحوم فوق مجموعة كتب ترفعه عن الأرض، وبجواره عرفنا قصة أصغر بيت في المدينة، عرضه لا يتجاوز المتر تقريباً، تخنقه بنايتان، لكنها قصة الفقير الذي أوجد لنفسه مأوى في هذه المدينة، ومن شارع إلى آخر وجدنا أنفسنا أمام عربة صاعدة إلى الأعلى، هناك القلعة القديمة، بإطلالتها الساحرة على المدينة، فرصة للتصوير لا تعوّض، بما يزيدها المطر الناعم جمالاً.
وأمام جمال حدائق «ميرابل» أخذتنا دهشة الجمال، وقالوا إن العرسان يأتون إلى هنا، فالمكان يمنحهم لوحات أخّاذة لتسجيل أجمل اللقطات في مستهل مشوار يأملون أن يكون سعيداً، تاريخها يعود إلى عام 1690م، حينما صممها رجل يدعى يوهان برنارد فيشر، ثم أعيد تشكيلها عام 1730، وحول نافورتها «بيغاسوس» المشيدة عام 1913 نحتت أربع مجموعات من التماثيل وضعها أوتافيو موستو، وترمز إلى العناصر الأربعة، النار والهواء والأرض والماء، وافتتحت أمام الجمهور عام 1854 على يد الإمبراطور فرانز جوزيف.
كان المكان حياة متجددة وهي تخط يومياتها على وقع خطو البشر، هناك من يتفرج، مقابل من يصنع الفرجة، وما أكثر من يفعل ذلك، كأنما الأمكنة مسارح مفتوحة، تحتفي بخطو الحياة على جنباتها.
في عام 1965 مرقت عدسات تصوير فيلم «صوت الموسيقى» مع جولي أندروز وكريستوفر بلامر، ولأن المدينة تحتفي بالفنون وتعتني بالسياحة، فإن أماكن تصوير الفيلم تحولت إلى مزارات تجذب الزوار إليها، بدءاً من حدائق ميرابل، وقلعتي ليبولد سكورن وهلبرن، ووصولاً إلى كنيسة موندزي التي تقام فيها مراسم الزفاف، حيث يتجلّى الفرح بمشروع حياة سعيدة بين رجل وامرأة، مع توزيع البهجة على مدعوين، ومشاهدين.
كان لا بد من الوقت أن يعبرنا سريعاً، مع أن سالزبورج لم تطلعنا إلا على النزر اليسير من فتنها، فالأمكنة القديمة فيها كالعصرية قادرة على إحداث الفتنة، وما حولها من طبيعة وجبال يطرزان شالاً أخضر على رأس هذه الفاتنة المتجددة.
لم يهبنا الوقت فسحة لنجرّب رحلة القارب في نهار سالزاك، من جربها يصفها كأنها السحر، الماء يعبر كمقطوعة موسيقية على أسماع صبايا يتناثرن عبر مشوار الرحلة المقدر بثمانية كيلومترات من المتعة البصرية، والشاعرية.
وسالزبورج لا تكفيها الأيام لرؤية مفاتنها، علما بأن البلدة القديمة أدرجتها «اليونسكو» ضمن قائمة التراث العالمي، فليس كثيراً عليها أن تبقى «أكثر الوجهات الرومانسية في العالم»، وعلى جسر يربط ضفتي النهر عشرات الآلاف من القفول تسامر مرور الماء وحيوية المدينة، أغلقها عشاق من سائر دول العالم، ووضعوا المفاتيح عهدة في مجرى النهر، ليكون كل قفل شاهداً على مرور حبيبين عبرا من هنا، ذات عشق.
كان الشلال يلوح من بعيد، وكان التحدي الصعود إلى النقطة الأعلى في الجبل الذي يرتفع أكثر من 3000 متر، حملت التحدي معي، وكلما أنجزت بضع مئات ألتقط صوراً لمسار الشلال، إذ أقترب من أعلى نقطة يأتي منها، لكنني لم أكسب في التحدي سوى 1200 متر، تاركاً المتبقي لمن يجيدون «صعود الجبال»، معهم همّته وروح الشباب واللياقة المطلوبة في هكذا تحديات!
على أبعاد مختلفة توجد استراحات صغيرة لمتابعة رحلة الشلال من عليائه إلى مصبّه المتكون كبحيرة من الحليب لنقاء بياضه، وكم رائع أن ترى الضوء يلتقي مع الندى وقطرات انسكاب الشلال، راسماً قوس قزح، فتنظر إلى الأسفل لتكتشف متعة الألوان، وهناك بحيرة تكونت لاستخدام اندفاع المياه بعدها في توليد الطاقة الكهربائية، المكان افتتح عام 1893م، وأضيف كواحد من المزارات السياحية التي تصنع لهذه البلاد ثروتها.
زي لام سي... لهجتها «خليجية»!
في أجندة السياحة النمساوية يتردد اسم هذه القرية كثيراً، «زي.. لام.. سي»، غرفة في بحر، أو هي تلك القرية الصغيرة المتكررة الحدوث في النمسا، بقعة بين بحيرة ماء وجبل مزهو بجماله الممتد اخضراراً من سفحه إلى قمته.
وعبر تكرار السماع عنها، أردت لقاءها، أسوة بعشرات أعرفهم التقوها، فكان القدر الذي أتاح لي الفرصة سانحة، لكني لم أتخيلها تتحدث لهجة بلداننا «الخليجية» بهكذا صورة، أمام باب الفندق أربع سيارات كلاسيكية أشبه بلوحات مكتوب عليها أبيات الغزل والشوق، ويحاذيه تماماً محل، أو كما يردد الرجل العربي أمامه، بتكرار يبدو «تسجيلياً»، أنها بقالة عربية، مستعرضاً ما يقدمه مما اعتاده المواطن الخليجي في بلاده، وصولاً إلى شرائح الهواتف المحمولة.
في الساحات والمقاهي تجد وجوه أبناء الخليج منتشرة كأنك في مدينة تتبع إحدى دول مجلس التعاون الست، ووصولاً إلى البحيرة، وعلى امتدادها كأنما أبناء المدينة غادروها لأجل هؤلاء السياح الذين يحيون اقتصادها بحيوية مشهودة لهم، وهم يعرفون كيف يؤكل لحم الكتف، فحيثما تلفتّ عليك دفع المال، وقال سائح إنهم لو يملكون قياس نسبة الأكسجين ليبيعوها لنا لفعلوا!
هي ملاذ سياحي خليجي في الصيف، وفي الشتاء فإن الأوربيين يجدون فيها ضالتهم لأجل التزلج على الجليد، وكانت لافتة لي تلك الصورة التي رأيت فيها كيف تبدل «زي لام سي» شالها الأخضر شتاء، لترتدي فستان زفاف أبيض، يمتد من جبلها إلى بحيرتها.
البحيرة التي تسير عليها القوارب بلهجاتنا، وعلى ممشاها الجميل ترى ملامح وجوه كالتي نعرفها في أي مدينة خليجية، أطفال حارتنا، نساء «الفريج»، زحام على عربة بيع الآيس كريم، ثم المشي حول البحيرة، هذا الخزان الهائل الممتد أكثر من 4000 متر مربع، والمحتجز نحو 175 مليون متر مكعب من الماء.
على الجانب الآخر يطل الجبل، وكان لا مناص من اكتشاف أي عالم يختبئ هناك، وعبر التلفريك اكتشفنا القرية أولاً، حيث تبدو من الأعلى سحراً تنقشه الطبيعة بمنتهى الدقة، أما الجبل فلم يكن إلا غابة، السير فيها متعة حقيقية، وبين أشجارها تندس، بين مساحة وأخرى، مجموعة من ألعاب للأطفال، وتسير معك المناظر المفتوحة على سهول وبحيرات، وعلى مبعدة تلوح قمة جبل كابرون بعمامته البيضاء.
ليس مبالغة القول إن اللهجة الخليجية احتلت أقصى ارتفاع في جبل كابرون، كأنما اللوحات البيضاء تحتفي بزوارها من منطقة في ذلك الفصل يعدّون لوحة الثلج خرافة تبدو في الحكايات القديمة، أو عبر الشاشات الملونة.
فيينا... ليلتان لا تكفيان
«فيينا المدينة الأكثر ملاءمة للعيش في العالم»، لعدة مرات تكرر الشعار تجاه هذه المدينة، ليضاف إلى قصتي القديمة مع أغنية أسمهان، رائعة الشاعر أحمد رامي، ولحن فريد الأطرش: «ليالي الأنس في فيينا/ نسيمها من هوا الجنّة، نغم في الجوّ له رنّة/ سمعها الطير بكى وغنّى»، إلى أن تقول: «ساعة هنا - لو تفضالك - تنسى معاها الكون كلّه».
وكان المعنى صائباً أكثر من قدرة الكلمات على اختزاله، فأي قرار خاطئ هذا الذي ارتكبته حينما اكتفيت، ضمن جدول الرحلة، بليلتين في فيينا، كانت نهاراً يسابق نهاراً، لأتمكن من مشاهدة ما تضمّه هذه المدينة من جواهر.
كانت خطوتي إليها طويلة جداً، بين الوصول إليها وزيارتي إلى «زي لام سي» رحلة إلى ميونخ، فتعيّن عليّ قطع المسافة بينها والمدينة الألمانية في أكثر من ست ساعات، إذ إن فيينا تقع في الطرف الآخر على الخريطة النمساوية، وكان على سائقة السيارة كلوديا، الألمانية الظريفة، مدّنا ببعض الاستراحات والضحكات، لننشغل عن طول المسافات وهي تتخذ لها طرقاً ملتوية داخل القرى للهروب من زحام الطريق السريع.
وكعادتنا في مدن كهذه، البحث عن الطعام المناسب، إذ تبدو كلمة «حلال» المفردة السحرية التي نفتش عنها في واجهات المطاعم، وتبدو أيضاً مستحقة للثمن المدفوع بسبب ندرتها، أو عدم الاهتداء إليها بسهولة.
كانت المساحات الخضراء تتكشف على شاشة الهاتف حينما أمدّتنا خرائط «جوجل» بإحداثيات المكان المقيمين فيه، والمشي متعة، إذ إننا - كما يقال عنها - في واحدة من «كبريات المدن الأكثر أماناً على وجه الأرض»، وهي بقعة ثرية بالتاريخ، فوسط المدينة، مثلاً، مسجل على لائحة «اليونسكو» للتراث العالمي، وكم لافت أن تحتضن فيينا 27 قصراً، عدا العدد الكبير من المقار السكنية المعروفة فيها، في حين يشكل نهر الدانوب حكاية أخرى في جمال المدينة، فتنهض «جزيرة الدانوب» من حكايتين يرويهما هذا النهر، واحدة زرقاء وأخرى جديدة، ترسم لوحات الترفيه على صفحات جريان الفصول، ويمضي النهر في مساره مخترقاً وسط المدينة، ليواصل بريشته رسم الحياة على الضفتين، وصولاً إلى ساحة خضراء يقال إنها تغطي ستة ملايين متر مربع، إنها براتر، إحدى أجمل عشرة متنزهات على مستوى العالم.
قصر القياصرة
في الصباحات الباكرة اخترنا أن يكون قصر الشونبرون وجهتنا الأولى، يا إلهى! كل تلك الجموع تتجه إلى بوابة القصر، وهذه الطوابير أمام بائعي التذاكر، لكنني في المدينة القادرة على مصادقة سياحها، وتدليلهم بهكذا حُسن، خلال دقائق، ومن خلال أجهزة إلكترونية يمكن قطع التذاكر والدفع إلكترونياً، إنما المفاجأة هي انتظار موعد الدخول إلى القصر، ساعة ونصف الساعة يتطلب إنفاقها حتى يحين وقت الزيارة المحدد على التذكرة، لكن، وكما يليق بفيينا وعلاقتها بضيوفها، ينطوي المكان على حديقة تقع خلف القصر، بما يقتضي التجوال فيها ساعات.
قصر شونبرون أكبر قصور النمسا وأهمها، ويمتد على مساحة 160 هكتاراً، فيما تبلغ مساحة حديقة الحيوانات 16 هكتاراً، وفي عام 1996 أدرجته «اليونسكو» ضمن لائحتها للتراث الإنساني.
حينما حان الوقت كنّا على حالة من الوجد التاريخي، ما هذه الفخامة الإمبراطورية؟، كأنما ماريا تريزا مازالت تختال على السجاد الذي اختارته ليزيّن قصرها مع اكتماله في عصرها عام 1743م، وسريرها هناك، يجمع الجمال والفخامة وعطر الأنوثة المتبقّي تاريخاً على مناديل إمبراطورية تسيدت المشهد السياسي الأوربي في القرن السادس عشر.
كل هذه الغرف، 1441 غرفة!، كل منها تروي سيرة من عبروا في الزمن القيصري الذي كانت عليه النمسا، الثروات الهائلة التي أنفقت في ذلك العصر الفخم على بناء القصر تدرّ ذهباً كل حين في الزمن الراهن، فآلاف الزوار المتدفــــــقين يومياً يصنعـــون مشروعاً اســــتثمارياً هائلاً على خريطة الدخل القومي لهذه البلاد.
بجهاز يشرح باللغة العربية ما تضمه كل غرفة، كان المسار يتنقل بنا بين كنوز مرحلة مهمة من التاريخ النمساوي، وعلاقاته مع إمبراطوريات الغرب الأوربي، صعود ونكوص، انتصارات وانكسارات، هنا سرير جوزيف، الإمبراطور العاشق، بسيط كما يليق بصاحب رؤية فلسفية، وهـــناك مرآة مذهّبة، وهذه القاعة الملكية كأنما كل جزء منها تحفة فنية منفصلة تتجلى لصنع دهشة لا تستطيع العين حصر متعتها، وعلى الزاوية صور لا تُحصى لمن عبروا دروب المجد تاركين نقوشاً تراهن على البقاء برغم أنف التحولات، إذ إن الحصار التركي لفيينا عام 1638 أضر كثيراً بالقصر، لكن عصر ماريا تريزا توّج هيبته بما يستحقها، ويكون رمزاً لفيينــــا يسيــر إليه الملايين كل عام.
كان اسم ماريـــا تريزا يتكـرر كــــثيراً عبــــر الغرف والممرات والصـــور، الإمبـــراطــورة التــــي يشار إليها بالبنان في التاريخ النمــساوي، وبنفوذها الـــقوي في القارة الشقراء، هي والدة ملكـــة فرنسا ماري أنطــوانيت، ووالـــــدها الإمبراطور تشارلز السادس الذي أصــــدر «مرســــوم الأمر العالي» القاضــــي بأن ترث ماريا أراضيه، لكنها وجدت مــن ينازعــــها فيــــها، فطالبت بروسيا وبافاريا وفرنسا وإسبانيا بأجزاء من أراضي ماريا تريزا، برغــم أنها وعدت بعدم المساس بهذا الميراث الإمبراطوري... فكانت حرب الخلافة النمساوية، التي انتهت عام 1748 بمعاهدة تسمى «إكس لا شابل».
خلف القصر كانت الحديقة مفتوحة على جمال آخر، كلّما صعدنا تلاً عليه لوحة من جمال ترى القصر فيها، يأتيك تل آخر ترى فيه الشونبرون في لوحة أشمل.
بقي نهار واحد، عليّ واجب تجاه هذه المدينة، أن أراها ولو عبوراً على شوارعها، وكانت الفكرة «الباص السياحي المفتوح» المنساب في شرايين فيينا متوقفاً أمام معالمها الشهيرة ليتيح لركّابه فرصة زيارتها، وهناك حافلة تعبر الأمكنة كل ربع / ثلث ساعة، ليكمل السائح الدورة التي يريدها.
وما أكثر الأمكنة الضاجة بالثراء (تاريخياً وجمالياً) في مدينة ليس بغريب أن تنال كل تلك الصفات كجميلة تعيش «فخامة إمبراطورية» لكنها تتنزه على نهر الدانوب بثوب عصري بالغ الزهو■
القفول على جسر نهر السالز، مشهد متكرر في مدن عدة تغلق على الحب أقفالاً وتلقي المفاتيح في النهر
بيت موزارت يستقطب السياح القادمين إلى سالزبورج
في ساحة بمدينة سالزبورج يجمع النقود بطريقة مثقفة
مدينة سالزبورج كما تبدو من قلعتها