قصيدة النثر وصراع المصطلحات

قصيدة النثر وصراع المصطلحات

إنّ‭ ‬الشعر‭ ‬العاري‭ ‬من‭ ‬الوزن‭ ‬والقافية‭ ‬الذي‭ ‬سمّاه‭ ‬بعضهم‭ ‬الشعر‭ ‬الطليق،‭ ‬وسمّاه‭ ‬بعضٌ‭ ‬آخر‭ ‬الشعر‭ ‬الحرّ‭ (‬وهو‭ ‬مصطلح‭ ‬متنازع‭ ‬فيه‭)‬،‭ ‬وسمّاه‭ ‬بعض‭ ‬ثالث‭ ‬الشعر‭ ‬المنثور،‭ ‬وسماه‭ ‬بعض‭ ‬رابع‭ ‬النثر‭ ‬الشعريّ،‭ ‬وسمّاه‭ ‬بعض‭ ‬خامس‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر،‭ ‬يبدو‭ ‬ميدان‭ ‬صراع‭ ‬بين‭ ‬مصطلحات،‭ ‬وأحياناً‭ ‬ساحة‭ ‬خلاف‭ ‬بين‭ ‬مترجِمين،‭ ‬ليس‭ ‬إلاّ،‭ ‬باسثناء‭ ‬مصطلح‭ ‬القصيدة‭ ‬الصحافيّة‭ ‬الذي‭ ‬ابتكره‭ ‬نزار‭ ‬قباني‭ (‬1923‭ ‬‭- ‬1998‭ ‬م‭)‬،‭ ‬ولا‭ ‬نعرف‭ ‬له‭ ‬أصلاً‭ ‬سابقاً‭ ‬في‭ ‬اللغة‭ ‬العربيّة‭ ‬وفي‭ ‬اللغات‭ ‬الأجنبيّة‭.‬

وكما‭ ‬غلب‭ ‬على‭ ‬الظنّ‭ ‬أنّ‭ ‬الشعر‭ ‬القديم‭ ‬تطوير‭ ‬للنثر‭ ‬المسجوع،‭ ‬كذلك‭ ‬يبدو‭ ‬الشعر‭ ‬المنثور‭ ‬ومرادفاته،‭ ‬تطويراً‭ ‬للنثر‭ ‬الخالص،‭ ‬غير‭ ‬المقيّد‭ ‬بالسجع‭. ‬أي‭ ‬أنّه‭ ‬خطوة‭ ‬مشابهة‭ ‬للانتقال‭ ‬من‭ ‬النثر‭ ‬الخالص‭ ‬إلى‭ ‬النثر‭ ‬المسجوع‭. ‬فهو‭ ‬إذن‭ ‬ازدهار‭ ‬للنثر‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬قدّره‭ ‬الشاعر‭ ‬الفرنسيّ‭ ‬ستيفان‭ ‬ملاّرميه‭ (‬1842‭ ‬‭- ‬1898‭ ‬م‭). ‬لكنّ‭ ‬الخلاف‭ ‬بين‭ ‬الانتقال‭ ‬من‭ ‬النثر‭ ‬الخالص‭ ‬إلى‭ ‬السجع،‭ ‬والانتقال‭ ‬من‭ ‬النثر‭ ‬الخالص‭ ‬نفسه‭ ‬إلى‭ ‬الشعر‭ ‬المنثور،‭ ‬هو‭ ‬أنّ‭ ‬النثر‭ ‬الذي‭ ‬يمتاز‭ ‬عادة‭ ‬بالوضوح‭ ‬وبحريّة‭ ‬الجملة‭ ‬وبقبوله‭ ‬التطويل‭ ‬والاستطراد‭ ‬والتحليل‭ ‬والشرح،‭ ‬صار‭ ‬بالسجع‭ ‬مقيّداً‭ ‬بما‭ ‬يشبه‭ ‬القوافي،‭ ‬وصار‭ ‬بالشعر‭ ‬المنثور‭ ‬مكثّفاً‭ ‬يُعنى‭ ‬بالصورة‭ ‬الغامضة،‭ ‬والإيحاء‭ ‬والتخييل‭. ‬ففي‭ ‬السجع‭ ‬أُدخلت‭ ‬القافية‭ ‬دون‭ ‬الوزن‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬شروط‭ ‬خاصّة‭ ‬بالصورة،‭ ‬وفي‭ ‬الشعر‭ ‬المنثور‭ ‬وضعت‭ ‬شروط‭ ‬للصورة‭ ‬وحجمها‭ ‬وأثرها‭ ‬النفسي‭ ‬وأُهمل‭ ‬قيدا‭ ‬الوزن‭ ‬والقافية‭ ‬معاً‭. ‬والملحوظ‭ ‬أن‭ ‬الانتقال‭ ‬المفترض‭ ‬من‭ ‬السجع‭ ‬إلى‭ ‬الشعر‭ ‬الموزون‭ ‬المقفّى‭ ‬كان‭ ‬انتقالاً‭ ‬ممّا‭ ‬هو‭ ‬مقفّى‭ ‬متعدّد‭ ‬القافية‭ ‬إلى‭ ‬موحَّدها،‭ ‬ومن‭ ‬غير‭ ‬الموزون‭ - ‬إلاّ‭ ‬عرَضاً‭ - ‬إلى‭ ‬الموحّد‭ ‬الوزن؛‭ ‬أمّا‭ ‬الانتقال‭ ‬من‭ ‬النثر‭ ‬الخالص‭ ‬إلى‭ ‬الشعر‭ ‬المنثور،‭ ‬فهو‭ ‬بقاء‭ ‬في‭ ‬غير‭ ‬المقيَّد،‭ ‬أي‭ ‬في‭ ‬المتحرّر‭ ‬من‭ ‬قيد‭ ‬الوزن‭ ‬والقافية،‭ ‬ودخولٌ‭ ‬في‭ ‬قيد‭ ‬آخر‭ ‬هو‭ ‬قيد‭ ‬الصورة‭ ‬المكثّفة‭ ‬الموحية‭. ‬

 

قصيدة‭ ‬النثر‭ ‬عند‭ ‬العرب

ومن‭ ‬هنا‭ ‬صحّ‭ ‬أن‭ ‬يَعُدّ‭ ‬مصطفى‭ ‬صادق‭ ‬الرافعيّ‭ (‬1880‭ ‬‭- ‬1937م‭) ‬بعض‭ ‬نثره‭ ‬شعراً،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬استبعاد‭ ‬نازك‭ ‬الملائكة‭ ‬
‭(‬1923‭ ‬‭- ‬2007‭ ‬م‭)‬،‭ ‬في‭ ‬كتابها‭: ‬قضايا‭ ‬الشعر‭ ‬المعاصر‭ - ‬وتعني‭ ‬به‭ ‬الشعر‭ ‬العربيّ‭ ‬المعاصر‭ - ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬كتاب‭ ‬رسائل‭ ‬الأحزان‭ ‬للرافعي‭ ‬كذلك،‭ ‬وإن‭ ‬وصفت‭ ‬ما‭ ‬يكتبه‭ ‬بالنثر‭ ‬‮«‬الشعريّ‮»‬‭ ‬جاعلة‭ ‬صفة‭ ‬الشعريّ‭ ‬بين‭ ‬مزدوجين،‭ ‬ربما‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬التحفّظ؛‭ ‬ولعلّها‭ ‬لم‭ ‬تدر‭ ‬أنها‭ ‬استعملت‭ ‬ما‭ ‬استعمله‭ ‬الشاعر‭ ‬الفرنسي‭ ‬الشهير‭ ‬شارل‭ ‬بودلير‭ (‬1821‭ ‬‭- ‬1861م‭) ‬وصفاً‭ ‬لقصائده‭ ‬النثريّة،‭ ‬وما‭ ‬ستستعمله‭ ‬السيدة‭ ‬خزامى‭ ‬صبري‭ (‬التي‭ ‬يقال‭ ‬إنّها‭ ‬خالدة‭ ‬السعيد‭ ‬زوجة‭ ‬الشاعر‭ ‬أدونيس‭)‬،‭ ‬وصفاً‭ ‬لشعر‭ ‬الأديب‭ ‬السوريّ‭ ‬محمّد‭ ‬الماغوط‭ (‬1934‭ ‬‭- ‬2006‭ ‬م‭). ‬

ورفْض‭ ‬جمهور‭ ‬الشعر‭ ‬العربيّ‭ ‬للقصيدة‭ ‬النثريّة‭ ‬نابع‭ ‬على‭ ‬الأكثر‭ ‬من‭ ‬رفض‭ ‬المصطلح،‭ ‬كالذي‭ ‬عند‭ ‬نازك‭ ‬الملائكة‭ ‬نفسها،‭ ‬التي‭ ‬ترى‭ ‬أن‭ ‬الكلام‭ ‬إمّا‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬شعراً‭ ‬أو‭ ‬نثراً،‭ ‬ولا‭ ‬توسّط‭ ‬بين‭ ‬الفنين؛‭ ‬وهو‭ ‬نابع‭ ‬أحياناً‭ ‬من‭ ‬إنكار‭ ‬الأسلوب‭ ‬الشعريّ‭ ‬الجديد‭ ‬الذي‭ ‬قد‭ ‬يوحي‭ ‬تبعيّة‭ ‬للغرب‭ ‬وإلغاءً‭ ‬للتاريخ‭ ‬الشعريّ‭ ‬العربيّ‭. ‬

لكنّ‭ ‬الذين‭ ‬رفضوا‭ ‬ذلك‭ ‬الأسلوب‭ ‬لم‭ ‬يرفضوا‭ ‬ما‭ ‬سبق‭ ‬شعر‭ ‬الماغوط‭ ‬وأشباهه‭ ‬من‭ ‬نثر‭ ‬تمتّع‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬الخصائص‭ ‬الشعريّة‭ ‬التي‭ ‬تمتّع‭ ‬بها‭ ‬شعر‭ ‬الماغوط،‭ ‬ونخصّ‭ ‬بالذكر‭ ‬نثر‭ ‬جبران‭ ‬خليل‭ ‬جبران‭ (‬1883‭ ‬‭- ‬1931م‭)‬،‭ ‬ولاسيّما‭ ‬المترجَم‭ ‬من‭ ‬أدبه‭ ‬الإنجليزيّ،‭ ‬ونثر‭ ‬مصطفى‭ ‬صادق‭ ‬الرافعيّ‭. ‬لكنّهم‭ ‬أخذوا‭ ‬على‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر،‭ ‬مع‭ ‬ذلك،‭ ‬غرابة‭ ‬صورها‭ ‬وانتماء‭ ‬تلك‭ ‬الصور‭ ‬إلى‭ ‬بيئات‭ ‬أجنبيّة،‭ ‬ولاسيّما‭ ‬أنّ‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬شعراء‭ ‬ذلك‭ ‬النوع‭ ‬تأثّروا‭ ‬بالشعر‭ ‬الأجنبيّ،‭ ‬وعلى‭ ‬الأخصّ‭ ‬بقصائد‭ ‬شارل‭ ‬بودلير،‭ ‬حتى‭ ‬بدا‭ ‬شعرهم‭ ‬ضرباً‭ ‬من‭ ‬الترجمة‭ ‬أو‭ ‬السرقة‭ ‬من‭ ‬الأجانب،‭ ‬لا‭ ‬عملاً‭ ‬أدبيّاً‭ ‬عربيّاً،‭ ‬وبدا‭ ‬تعبيراً‭ ‬عمّا‭ ‬يسمّونه‭ ‬عقدة‭ ‬الدونيّة،‭ ‬ومحاولة‭ ‬بدء‭ ‬تاريخ‭ ‬الشعر‭ ‬العربيّ‭ ‬الحديث‭ ‬من‭ ‬الإبداع‭ ‬الغربيّ،‭ ‬ولذلك‭ ‬لقي‭ ‬المترجَم‭ ‬منه‭ ‬قبولاً‭ ‬عند‭ ‬الغربيّين،‭ ‬خلافاً‭ ‬لما‭ ‬لقيه‭ ‬هو‭ ‬نفسه‭ ‬عند‭ ‬العرب‭.‬

 

الخلاف‭ ‬الاصطلاحيّ

فالخلاف‭ ‬كائن‭ ‬غالباً‭ ‬في‭ ‬المصطلح،‭ ‬وفي‭ ‬ما‭ ‬ينجم‭ ‬عنه‭ ‬من‭ ‬بُعد‭ ‬نفسيّ‭ ‬وإيديولوجيّ‭. ‬وسببه‭ ‬أن‭ ‬للشعر‭ ‬عند‭ ‬العرب،‭ ‬حتى‭ ‬الربع‭ ‬الثالث‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬على‭ ‬الأقلّ،‭ ‬مكانة‭ ‬خاصّة،‭ ‬تكاد‭ ‬تكون‭ ‬قدسيّة؛‭ ‬وقد‭ ‬اكتسب‭ ‬أهميّة‭ ‬إضافيّة‭ ‬في‭ ‬المعركة‭ ‬التي‭ ‬أثارها‭ ‬كتاب‭ ‬طه‭ ‬حسين‭: ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬الجاهليّ‭ (‬1926‭ ‬م‭)‬،‭ ‬لكون‭ ‬الشعر‭ ‬الجاهليّ‭ ‬‮«‬ممّا‭ ‬يُرجع‭ ‬إليه‭ ‬في‭ ‬فهم‭ ‬القرآن‮»‬‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬قرّرته‭ ‬لجنة‭ ‬العلماء‭ ‬في‭ ‬الأزهر‭ ‬حينئذ؛‭ ‬ولذلك‭ ‬رفض‭ ‬العرب‭ ‬أن‭ ‬يُدخلوا‭ ‬في‭ ‬نَسَب‭ ‬الشعر‭ ‬العربيّ‭ ‬ما‭ ‬يرونه‭ ‬غريباً‭ ‬عنه‭ ‬أو‭ ‬هجيناً،‭ ‬كما‭ ‬رفضوا‭ ‬أن‭ ‬ينـزلوا‭ ‬عن‭ ‬صورته‭ ‬المعروفة‭ ‬المؤسَّسة‭ ‬على‭ ‬الوزن‭ ‬والقافية‭. ‬وحين‭ ‬جرؤ‭ ‬بعض‭ ‬الشعراء‭ ‬على‭ ‬نشر‭ ‬الشعر‭ ‬الحرّ،‭ ‬بالمفهوم‭ ‬الآخر‭ ‬لهذا‭ ‬المصطلح‭ (‬أي‭ ‬الشعر‭ ‬الملتزم‭ ‬للوزن‭ ‬والقافية،‭ ‬لكن‭ ‬المتصرّف‭ ‬في‭ ‬عدد‭ ‬التفاعيل،‭ ‬وفي‭ ‬عدد‭ ‬القوافي‭)‬،‭ ‬احتاطوا‭ ‬بأن‭ ‬زعموا‭ ‬أنّ‭ ‬عملهم‭ ‬تطوير‭ ‬للعَروض‭ ‬العربيّة،‭ ‬وتصرّف‭ ‬بالقافية؛‭ ‬أي‭ ‬أنهم‭ ‬ظلّوا‭ ‬في‭ ‬حيّز‭ ‬تطوير‭ ‬الشعر‭ ‬القديم،‭ ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬رفض‭ ‬المحافظون‭ ‬مزاعمهم،‭ ‬فكيف‭ ‬سيكون‭ ‬موقف‭ ‬هؤلاء‭ ‬المحافظين‭ ‬ممّن‭ ‬انقلبوا‭ ‬كليّة‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬الشعر‭ ‬وجعلوا‭ ‬مصدرهم‭ ‬النظريّ‭ ‬والتصويريّ‭ ‬أجنبيّاً‭: ‬أميركيّاً‭ ‬أو‭ ‬أوربياً؟‭ ‬

إنّ‭ ‬أصحاب‭ ‬الشعر‭ ‬النثريّ‭ ‬لو‭ ‬ترفّقوا‭ ‬لَدُنْ‭ ‬اتّباعهم‭ ‬الشعراء‭ ‬الأجانب‭ ‬ونظريّاتهم،‭ ‬وأيّدوا‭ ‬عملهم‭ ‬بآراء‭ ‬بعض‭ ‬قدماء‭ ‬العرب‭ ‬والمستعربيّن،‭ ‬فذكروا،‭ ‬مثلاً،‭ ‬رأي‭ ‬مسكويه‭ (‬ت‭ ‬421‭ ‬هـ‭) ‬في‭ ‬كون‭ ‬الوزن‭ ‬حلية‭ ‬زائدة،‭ ‬ورأي‭ ‬أبي‭ ‬حيّان‭ ‬التوحيديّ‭ (‬ت‭ ‬بعد‭ ‬421‭ ‬هـ‭) ‬في‭ ‬نفي‭ ‬فضل‭ ‬الشعر‭ ‬على‭ ‬النثر‭ ‬أو‭ ‬العكس،‭ ‬وفي‭ ‬جعلِه‭ ‬مدار‭ ‬التفضيل‭ ‬بينهما‭ ‬‮«‬اجتلاب‭ ‬الحلاوة‭ ‬المذوقة‭ ‬بالطبع،‭ ‬واجتناب‭ ‬النبْوة‭ ‬الممجوجة‭ ‬في‭ ‬السمع‮»‬،‭ ‬إنّهم‭ ‬لو‭ ‬فعلوا‭ ‬ذلك،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬استندوا‭ ‬إلى‭ ‬مصطفى‭ ‬صادق‭ ‬الرافعيّ‭ ‬في‭ ‬اعتباره‭ ‬الوزن‭ ‬والقافية‭ ‬عاملين‭ ‬مساعدين‭ ‬في‭ ‬إظهار‭ ‬موسيقى‭ ‬الشعر‭ ‬وليسا‭ ‬أساساً‭ ‬في‭ ‬الشعر،‭ ‬فربما‭ ‬تحاشوا‭ ‬الصدام‭ ‬مع‭ ‬الرأي‭ ‬العام‭ ‬الأدبيّ‭ ‬العربيّ،‭ ‬أو‭ ‬خفّفوا‭ ‬من‭ ‬أثر‭ ‬الصدمة،‭ ‬على‭ ‬الأقل‭. ‬لكنّهم‭ ‬كانوا‭ ‬ميّالين‭ ‬إلى‭ ‬الشجار‭ ‬وإلى‭ ‬ما‭ ‬يعدّونه‭ ‬ثورة،‭ ‬فبدت‭ ‬ثورتهم‭ ‬وكأنّها‭ ‬تمرّد‭ ‬بتحريض‭ ‬خارجيّ،‭ ‬أو‭ ‬هجمة‭ ‬استعماريّة‭ ‬على‭ ‬التراث‭ ‬العربيّ،‭ ‬إذا‭ ‬صحّ‭ ‬التعبير،‭ ‬واستكمال،‭ ‬في‭ ‬تصوّر‭ ‬بعضهم،‭ ‬للحرب‭ ‬على‭ ‬الشعر‭ ‬الجاهليّ‭ ‬التي‭ ‬بدأها‭ ‬المستشرقون‭ ‬وتلميذهم‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الحديث،‭ ‬فرُفضت‭ ‬ثورتهم‭ ‬تلك‭ ‬وصادفت‭ ‬مقاومة‭ ‬عنيفة‭. ‬والدليل‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬أنّ‭ ‬المحافظين‭ ‬قبلوا‭ ‬تسمية‭ ‬النثر‭ ‬الفنيّ‭ ‬لمثل‭ ‬تلك‭ ‬الأعمال‭ ‬الأدبيّة،‭ ‬لكنّهم‭ ‬رفضوا‭ ‬مصطلح‭ ‬الشعر‭ ‬المنثور‭ ‬وأشباهه‭ ‬وسخروا‭ ‬منه‭.‬

 

مصطلح‭ ‬ملتبس‭ ‬وغايات‭ ‬مبهمة

ثم‭ ‬إنّ‭ ‬مصطلح‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر،‭ ‬مثلاً،‭ ‬ملتبس‭ ‬جداً،‭ ‬فهو‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬تحتمل‭ ‬القصيدة‭ ‬مختلف‭ ‬الفنون‭ ‬النثريّة،‭ ‬فتكون‭ ‬خارجة،‭ ‬إذن،‭ ‬عن‭ ‬الشعر؛‭ ‬وهو‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى‭ ‬تسمية‭ ‬شكليّة‭ ‬تعني‭ ‬تحرير‭ ‬القصيدة‭ ‬من‭ ‬الوزن‭ ‬والقافية‭ ‬ليس‭ ‬غير؛‭ ‬والشرطان‭ ‬الأولان‭ ‬اللذان‭ ‬وُضعا‭ ‬لها،‭ ‬أعني‭ ‬شرطي‭ ‬الوحدة‭ ‬والإيجاز‭ ‬يصحّان‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬عامّة،‭ ‬العَروضيّ‭ ‬وغير‭ ‬العَروضيّ،‭ ‬لا‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر‭ ‬وحدها‭. ‬بل‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يصحّا‭ ‬في‭ ‬الأعمال‭ ‬النثرية،‭ ‬حتى‭ ‬العلميّ‭ ‬منها‭. ‬لكن‭ ‬يبقى‭ ‬شرط‭ ‬ثالث،‭ ‬وهو‭ ‬شرط‭ ‬جديد‭ ‬ومميز،‭ ‬هو‭ ‬شرط‭ ‬المجّانيّة‭ (‬gratuité‭)‬،‭ ‬التي‭ ‬تعني‭ ‬الامتناع‭ ‬من‭ ‬توظيف‭ ‬الكتابة‭ ‬لغاية‭ ‬تواصلية‭ ‬أو‭ ‬نفعية،‭ ‬وتحريرها‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬نُظم‭ ‬أو‭ ‬قواعد‭. ‬هذا‭ ‬الشرط‭ ‬يرمي‭ ‬إلى‭ ‬تمييز‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر‭ ‬من‭ ‬النثر‭ ‬الشعري‭ ‬الذي‭ ‬قد‭ ‬نجده‭ ‬في‭ ‬الروايات‭ ‬وغيرها،‭ ‬وإلى‭ ‬إعفائها‭ ‬من‭ ‬قيود‭ ‬العَروض‭ ‬والقافية،‭ ‬ومن‭ ‬قواعد‭ ‬الفن‭ ‬التي‭ ‬وضعها‭ ‬أرسطو‭ ‬وسائر‭ ‬أعلام‭ ‬الكلاسيكية‭.‬

لكن‭ ‬شرط‭ ‬المجّانيّة‭ ‬شرط‭ ‬غريب‭ ‬وغير‭ ‬منطقيّ،‭ ‬فهو‭ ‬كالتعريف‭ ‬بالنفي‭. ‬إنه‭ ‬نهي‭ ‬عن‭ ‬أشياء‭ ‬وعدم‭ ‬الأمر‭ ‬بغيرها،‭ ‬إلا‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬خصائص‭ ‬الفنون‭ ‬المنهي‭ ‬عنها،‭ ‬نعني‭ ‬الوحدة‭ ‬والإيجاز‭. ‬وتلك‭ ‬المجانيّة‭ ‬ضرب‭ ‬من‭ ‬البوهيمية،‭ ‬لأنّه‭ ‬إلغاء‭ ‬للنظام،‭ ‬وطموح‭ ‬إلى‭ ‬شاعر‭ ‬غير‭ ‬سوي‭ ‬من‭ ‬الناحية‭ ‬الإنسانية،‭ ‬لا‭ ‬وظيفة‭ ‬لشعره،‭ ‬ولا‭ ‬باعث‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬خارجه‭ ‬أو‭ ‬خارج‭ ‬نفس‭ ‬الشاعر،‭ ‬ولا‭ ‬غاية‭ ‬له؛‭ ‬وما‭ ‬من‭ ‬عمل‭ ‬أدبيّ‭ ‬يحتمل‭ ‬هذه‭ ‬الصفات‭ ‬السلبيّة‭. ‬إنّ‭ ‬مجرّد‭ ‬القيام‭ ‬بعمل‭ ‬فنّي‭ ‬فعل‭ ‬إيجابيّ،‭ ‬أي‭ ‬غير‭ ‬مجّانيّ‭. ‬ومجرد‭ ‬اشتراط‭ ‬الوحدة‭ ‬يعني‭ ‬طلب‭ ‬النظام‭ ‬وترك‭ ‬المجانيّة،‭ ‬وإلا‭ ‬دخلت‭ ‬القصيدة‭ ‬في‭ ‬حقول‭ ‬فنية‭ ‬أخرى‭ ‬غير‭ ‬محدودة‭. ‬وتفسير‭ ‬المجّانيّة‭ ‬بكون‭ ‬الشعر‭ ‬يكتب‭ ‬لذاته‭ ‬لا‭ ‬لشيء‭ ‬آخر‭ ‬يُدخل‭ ‬الأمر‭ ‬في‭ ‬مقولة‭ ‬الفنّ‭ ‬للفنّ‭ ‬المختلَف‭ ‬في‭ ‬صحّتها‭ ‬وإمكانها‭. ‬لذلك‭ ‬بدت‭ ‬هذه‭ ‬المجّانيّة‭ ‬التي‭ ‬تعني‭ ‬العدم‭ ‬الفكريّ‭ ‬بصورة‭ ‬من‭ ‬الصور،‭ ‬غير‭ ‬مقنعة،‭ ‬حتى‭ ‬رأينا‭ ‬أندريه‭ ‬بروتون‭ (‬1896‭ ‬‭- ‬1966‭ ‬م‭)‬،‭ ‬الشاعر‭ ‬السرياليّ‭ ‬المشهور‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬إنّ‭ ‬الشعر‭ ‬المكتوب‭ ‬يفقد‭ ‬يوماً‭ ‬بعد‭ ‬يوم‭ ‬مسوّغات‭ ‬بقائه‭ (...) ‬فليس‭ ‬من‭ ‬فائدة‭ ‬للشعر‭ ‬في‭ ‬رأيي‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬أتوقّع‭ ‬اقتراحه‭ ‬لبعض‭ ‬أصدقائي‭ ‬ولي‭ ‬حلاًّ‭ ‬خاصّاً‭ ‬لمشكلة‭ ‬حياتنا‮»‬‭.‬

وللسيدة‭ ‬سوزان‭ ‬برنار‭ (‬1932‭ ‬‭- ‬2007‭ ‬م‭) ‬صاحبة‭ ‬الكتاب‭ ‬الأطروحة‭: ‬قصيدة‭ ‬النثر‭ ‬من‭ ‬بودلير‭ ‬حتى‭ ‬أيّامنا،‭ ‬مأخذ‭ ‬آخر‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الموضوع‭ ‬وهو‭ ‬‮«‬أنّ‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر‭ ‬تبغي‭ ‬أن‭ ‬تذهب‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الكلام،‭ ‬وهي‭ ‬تستعمل‭ ‬الكلام؛‭ ‬وأن‭ ‬تكسر‭ ‬الشكل،‭ ‬وهي‭ ‬تنشئ‭ ‬أشكالاً؛‭ ‬وأن‭ ‬تخرج‭ ‬عن‭ ‬الأدب،‭ ‬وها‭ ‬هي‭ ‬نوع‭ ‬أدبيّ‭ ‬مصنف‭. ‬إنّ‭ ‬هذا‭ ‬التناقض‭ ‬الداخليّ،‭ ‬هذا‭ ‬التعارض‭ ‬الأساسيّ،‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يمنحها‭ ‬خصوصيّة‭ ‬الفن‭ ‬الفاقع،‭ ‬الميّال‭ ‬إلى‭ ‬التجاوز‭ ‬المستحيل‭ ‬للذات،‭ ‬وإلى‭ ‬نفي‭ ‬شروط‭ ‬البقاء‭ ‬الخاصّة‭ ‬بها‮»‬‭. ‬فلا‭ ‬غرو‭ ‬أن‭ ‬تصف‭ ‬أَليزبتّة‭ ‬سيبيليو،‭ ‬الباحثة‭ ‬الإيطالية‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬كَسّينو،‭ ‬مصطلحَ‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر‭ ‬
بالـ‭ ‬oxymoron‭ ‬أي‭ ‬التركيب‭ ‬المتضادّ‭ ‬الطرفين،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬تصفه‭ ‬بالمفارقة‭. ‬

 

استحالة‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر‭ ‬إلى‭ ‬موقف‭ ‬إيديولوجيّ

ولا‭ ‬شكّ‭ ‬في‭ ‬أنّ‭ ‬دعوة‭ ‬منظِّري‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر‭ ‬إلى‭ ‬الثورة‭ ‬والتمرّد‭ ‬وتبديل‭ ‬اللغة‭ ‬دعوة‭ ‬إيديولوجيّة،‭ ‬تشبه‭ ‬دعوات‭ ‬الرومنسيّين‭ ‬الذين‭ ‬امتزج‭ ‬الأدب‭ ‬عندهم‭ ‬بالسياسة،‭ ‬وليست‭ ‬دعوة‭ ‬أدبيّة‭ ‬محضة؛‭ ‬وهذا‭ ‬يتعارض‭ ‬مع‭ ‬دعوتهم‭ ‬إلى‭ ‬المجّانيّة‭. ‬بل‭ ‬يحسن‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬الرومنسيّين‭ ‬هم‭ ‬من‭ ‬بدأوا‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬ترجمة‭ ‬الأغاني‭ ‬الشعبيّة‭ ‬لليونان‭ ‬الحديثة‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬دو‭ ‬فلوريال‭ (‬وذلك‭ ‬سنة‭ ‬1824‭ ‬‭- ‬1825‭ ‬م‭)‬،‭ ‬وكذلك‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تقديم‭ ‬بروسبار‭ ‬ماريميه‭ ‬قصائدَ‭ ‬كُرْواتيّة‭ ‬خياليّة‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭: ‬الربابة‭ (‬وذلك‭ ‬سنة‭ ‬1827م‭)‬،‭ ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬كتابات‭ ‬أخرى‭. ‬وقد‭ ‬استعاض‭ ‬شارل‭ ‬بودلير‭ ‬المعروف‭ ‬أنّه‭ ‬رومنسيّ‭ ‬مشرب‭ ‬بالرمزيّة،‭ ‬من‭ ‬عنوان‭: ‬قصائد‭ ‬ليليّة،‭ ‬بعنوان‭: ‬قصائد‭ ‬نثريّة‭ ‬صغيرة‭ (‬سنة‭ ‬1867‭)‬،‭ ‬يريد‭ ‬بذلك‭ ‬القصائد‭ ‬التي‭ ‬وصفها‭ ‬بالنثر‭ ‬الشعريّ‭ ‬المتميّز‭ ‬بالتحرّر‭ ‬من‭ ‬الوزن‭ ‬والقافية،‭ ‬وبالطواعية‭ ‬والتنافر‭ ‬والغنائيّة‭ ‬وقفزات‭ ‬وعي‭ ‬مفاجئة،‭ ‬وارتباط‭ ‬بالمدن‭ ‬الكبرى‭. ‬بل‭ ‬لعل‭ ‬مصطلح‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر‭ ‬يرجع‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬ذلك،‭ ‬نعني‭ ‬إلى‭ ‬الكاتب‭ ‬الفرنسيّ‭ ‬الكلاسيكي‭ ‬نقولا‭ ‬بوالو‭ (‬1636‭ ‬‭- ‬1711م‭) ‬الذي‭ ‬جعل‭ ‬قصائد‭ ‬النثر‭ ‬مرادفة‭ ‬للروايات‭. ‬فالحدود‭ ‬التي‭ ‬حاول‭ ‬المتأخّرون‭ ‬في‭ ‬عصرنا‭ ‬أن‭ ‬يجعلوها‭ ‬بين‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر‭ ‬والنثر‭ ‬الشعريّ،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬قائمة‭ ‬في‭ ‬البداية،‭ ‬بدليل‭ ‬أن‭ ‬الاثنين‭ ‬يبدوان‭ ‬شيئاً‭ ‬واحداً‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬تعبير‭ ‬بوالو،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬تعبير‭ ‬بودلير‭. ‬وشيء‭ ‬آخر‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬بودلير‭ ‬لم‭ ‬يكن،‭ ‬إذن،‭ ‬أوّل‭ ‬من‭ ‬استعمل‭ ‬مصطلح‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر،‭ ‬خلافاً‭ ‬لما‭ ‬يوحيه‭ ‬عنوان‭ ‬أطروحة‭ ‬سوزان‭ ‬برنار‭ ‬ومَن‭ ‬تأثّر‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬شعراء‭ ‬الحداثة‭ ‬العرب،‭ ‬بل‭ ‬إنّ‭ ‬ذلك‭ ‬المصطلح‭ ‬قديم‭ ‬نسبيّاً،‭ ‬وكان‭ ‬يطلق‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬تعبير‭ ‬خيالي‭ ‬مجنّح،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬ما‭ ‬ورد‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬خطبة‭ ‬أو‭ ‬جاء‭ ‬مستقلاً‭.‬

 

جماعة‭ ‬شعراء‭ ‬لا‭ ‬مدرسة

وقد‭ ‬حاول‭ ‬القائلون‭ ‬بقصيدة‭ ‬النثر‭ ‬أن‭ ‬يجعلوا‭ ‬أنفسهم‭ ‬مدرسة،‭ ‬ولا‭ ‬يستقيم‭ ‬الأمر،‭ ‬لأنّهم‭ ‬جماعة‭ ‬شعراء‭ ‬فحسب،‭ ‬ذلك‭ ‬أنّك‭ ‬تستطيع‭ ‬أن‭ ‬تتخلّى‭ ‬عن‭ ‬قيود‭ ‬الوزن‭ ‬والقافية‭ ‬وتكتب‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬بأسلوب‭ ‬كلاسيكيّ‭ ‬أو‭ ‬رومنسيّ‭ ‬أو‭ ‬رمزيّ‭ ‬أو‭ ‬سرياليّ؛‭ ‬والدليل‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬قصائد‭ ‬بودلير‭ ‬النثريّة‭ ‬الآنفة‭ ‬الذكر‭. ‬ولذلك‭ ‬لا‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يُزعم‭ ‬وجود‭ ‬قواعد‭ ‬وصِفات‭ ‬لهذا‭ ‬الضرب‭ ‬من‭ ‬القصائد،‭ ‬بل‭ ‬يكفي‭ ‬اعتباره‭ ‬تحلّلاً‭ ‬من‭ ‬القيود‭ ‬العَروضية‭. ‬ومِثْل‭ ‬الفرنسيّين‭ ‬الذين‭ ‬رأوا‭ ‬في‭ ‬القِصص‭ ‬ذات‭ ‬الروح‭ ‬الشعريّة‭ ‬قصائد‭ ‬نثر،‭ ‬يمكن‭ ‬للعرب‭ ‬أن‭ ‬يعدّوا‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬المقاطع‭ ‬النثريّة‭ ‬القصصيّة‭ ‬وغير‭ ‬القصصيّة‭ ‬التي‭ ‬وردت‭ ‬في‭ ‬أعمال‭ ‬الأدباء‭ ‬العرب‭ ‬الكبار‭ ‬أمثال‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ (‬1889‭ ‬‭- ‬1973م‭) ‬وفؤاد‭ ‬سليمان‭ (‬1912‭ ‬‭- ‬1951‭ ‬م‭) ‬ومصطفى‭ ‬صادق‭ ‬الرافعيّ‭ ‬وسعيد‭ ‬عقل‭ (‬1912‭ ‬‭- ‬2014‭ ‬م‭) ‬قصائد‭ ‬نثريّة‭. ‬فليس‭ ‬لقصيدة‭ ‬النثر،‭ ‬إذا‭ ‬أقْررنا‭ ‬المصطلح،‭ ‬أي‭ ‬خصائص‭ ‬مميّزة‭ ‬تفرقها‭ ‬عن‭ ‬الأنواع‭ ‬الشعريّة‭ ‬الأخرى،‭ ‬بل‭ ‬نستطيع‭ ‬القول‭ ‬إنّ‭ ‬غياب‭ ‬الوزن‭ ‬والقافية‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬الصعب‭ ‬وضع‭ ‬حدود‭ ‬لهذه‭ ‬القصيدة؛‭ ‬أي‭ ‬أنّنا‭ ‬لا‭ ‬نستطيع‭ ‬أن‭ ‬نضع‭ ‬مقياساً‭ ‬طبوغرافيّاً‭ ‬دقيقاً‭ ‬لتمييز‭ ‬القصيدة‭ ‬النثريّة‭ ‬من‭ ‬أعمال‭ ‬النثر‭ ‬الفنيّ‭ ‬ذات‭ ‬الصور‭ ‬الموحية،‭ ‬مثلاً،‭ ‬على‭ ‬حين‭ ‬أنّنا‭ ‬نستطيع‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬العَروضيّ،‭ ‬بسبب‭ ‬الوزن‭ ‬والقافية‭. 

والمؤسف‭ ‬أنّ‭ ‬الحريّة‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر‭ ‬فسحت‭ ‬المجال‭ ‬لكمّ‭ ‬هائل‭ ‬من‭ ‬المتطفّلين‭ ‬على‭ ‬الشعر‭ ‬لكي‭ ‬يقتحموا‭ ‬ميدانه،‭ ‬شجّعهم‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬بعض‭ ‬المسؤولين‭ ‬عن‭ ‬المجلاّت‭ ‬الأدبيّة،‭ ‬وعن‭ ‬الصفحات‭ ‬الثقافيّة‭ ‬للصحف‭ ‬السياسيّة،‭ ‬ممّن‭ ‬يؤمنون‭ ‬بالشعر‭ ‬المنثور‭ ‬ويعملون‭ ‬على‭ ‬نشره‭.‬

لكن‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬أعلن‭ ‬موت‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر،‭ ‬كالباحثة‭ ‬الإيطالية‭ ‬سيبيليو‭ ‬نفسها،‭ ‬التي‭ ‬رأت‭ ‬في‭ ‬المقالة‭ ‬التي‭ ‬سبقت‭ ‬الإشارة‭ ‬إليها‭ ‬أن‭ ‬ظروف‭ ‬الحياة‭ ‬التي‭ ‬ساعدت‭ ‬على‭ ‬نماء‭ ‬تلك‭ ‬القصيدة‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬موجودة،‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يعاد‭ ‬إنتاجها‭. ‬ولعل‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الرأي‭ ‬غلوّاً؛‭ ‬لأنّ‭ ‬العمل‭ ‬الفنيّ‭ ‬الجميل‭ ‬يظلّ‭ ‬جميلاً‭ ‬ما‭ ‬دام‭ ‬يراعي‭ ‬مقاييس‭ ‬الجمال‭ ‬المتعارف‭ ‬عليها‭ ‬في‭ ‬زمنه‭ ‬وبيئته،‭ ‬أو‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يتّخذ‭ ‬مقاييس‭ ‬جمال‭ ‬جديدة‭ ‬تروق‭ ‬القرّاء‭ ‬أو‭ ‬فئة‭ ‬منهم‭ ‬على‭ ‬الأقلّ‭. ‬وهو‭ ‬في‭ ‬الحالتين‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬مجّانيّاً،‭ ‬لأنّ‭ ‬المراعاة‭ ‬والاستحواذ‭ ‬على‭ ‬الرضا‭ ‬أو‭ ‬الإعجاب‭ ‬عملان‭ ‬إيجابيّان،‭ ‬وإن‭ ‬بصورة‭ ‬غير‭ ‬مباشرة‭. ‬ولا‭ ‬يهمّ‭ ‬أن‭ ‬نعرف‭ ‬حدود‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر‭ ‬ولا‭ ‬أن‭ ‬نتفق‭ ‬على‭ ‬المصطلح‭ ‬بعد‭ ‬ذلك،‭ ‬بل‭ ‬يكفي‭ ‬أن‭ ‬يكتب‭ ‬الشاعر‭ ‬نثراً‭ ‬تصويريّاً‭ ‬موحياً‭ ‬ورائعاً‭ ‬وليسمِّه‭ ‬ما‭ ‬يشاء‭: ‬نثراً‭ ‬فنيّاً‭ ‬أو‭ ‬شعريّاً‭ ‬أو‭ ‬شعراً‭ ‬منثوراً‭ ‬أو‭ ‬قصيدة‭ ‬نثر،‭ ‬فلا‭ ‬يضير‭ ‬الجميلة‭ ‬أن‭ ‬تسمَّى‭ ‬عفراء‭ ‬أو‭ ‬تماضر،‭ ‬ولا‭ ‬يزيد‭ ‬من‭ ‬جمالها‭ ‬أن‭ ‬تدعى‭ ‬حسناء‭ ‬أو‭ ‬بارعة‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬ذلك،‭ ‬فالجمال‭ ‬بمعزل‭ ‬عن‭ ‬الأسماء‭. ‬

بيد‭ ‬أنّ‭ ‬أدونيس‭ ‬بدا‭ ‬أكثر‭ ‬احتياطاً،‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الشأن،‭ ‬من‭ ‬سيبيليو،‭ ‬إذ‭ ‬أعلن‭ ‬أن‭ ‬معظم‭ ‬قصائد‭ ‬النثر‭ ‬أصبحت‭ ‬اليوم‭ ‬‮«‬جزءاً‭ ‬من‭ ‬النسق‭ ‬المفهوميّ‭ ‬الماضويّ‭ ‬السائد‮»‬‭. ‬وهذا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬تلك‭ ‬القصائد‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬ذا‭ ‬مفهوم‭ ‬حديث،‭ ‬ولا‭ ‬يزال‭ ‬حاضراً‭ ‬مستحسناً‭. ‬

إن‭ ‬من‭ ‬الخطأ‭ ‬الحكم‭ ‬بالإعدام‭ ‬على‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬أنواع‭ ‬الأدب،‭ ‬فمعظم‭ ‬المدارس‭ ‬والتيارات‭ ‬الأدبيّة‭ ‬التي‭ ‬راق‭ ‬لبعضهم‭ ‬إعلان‭ ‬وفاتها،‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬لها‭ ‬أنصار،‭ ‬ولا‭ ‬يزال‭ ‬يمارس‭ ‬قوانينها‭ ‬ويخضع‭ ‬لشروطها‭ ‬الفنيّة‭ ‬كثيرون،‭ ‬سواء‭ ‬القصيدة‭ ‬ذات‭ ‬الشطرين‭ ‬المتناظرين،‭ ‬أو‭ ‬القصيدة‭ ‬الرومنسيّة‭ ‬أو‭ ‬غيرها‭ ‬من‭ ‬القصائد‭.‬

 

النتائج

والنتيجة‭ ‬أن‭ ‬قضية‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر‭ ‬أو‭ ‬الشعر‭ ‬المنثور‭ ‬تبدو‭ ‬قضية‭ ‬صوريّة‭ ‬بحتة،‭ ‬ونجد‭ ‬لها‭ ‬جذوراً‭ ‬بعيدة‭ ‬عند‭ ‬العرب،‭ ‬تمتد‭ ‬إلى‭ ‬الشاعر‭ ‬المخضرم‭ ‬بين‭ ‬الجاهليّة‭ ‬والإسلام،‭ ‬حسّان‭ ‬بن‭ ‬ثابت‭ (‬ت‭ ‬54‭ ‬هـ‭) ‬الذي‭ ‬صاح‭: ‬‮«‬قال‭ ‬ابني‭ ‬الشعرَ‭ ‬وربِّ‭ ‬الكعبة‮»‬،‭ ‬وذلك‭ ‬حين‭ ‬وصف‭ ‬ابنه‭ ‬عبد‭ ‬الرحمن‭ ‬الزنبور‭ ‬بعبارة‭ ‬بليغة‭ ‬غير‭ ‬خاضعة‭ ‬لميزان‭ ‬العَروض‭ ‬وهي‭: ‬‮«‬كأنّه‭ ‬ملتفّ‭ ‬في‭ ‬بُردَيْ‭ ‬حِبَرة‮»‬‭ (‬حِبَرة‭: ‬ثوب‭ ‬مُوشَّى‭ ‬مخطّط‭). ‬وقد‭ ‬علّل‭ ‬عبد‭ ‬القاهر‭ ‬الجرجانيّ‭ (‬ت‭ ‬471‭ ‬هـ‭) ‬كلام‭ ‬حسّان‭ ‬بأن‭ ‬التشبيه‭ ‬يفرق‭ ‬‮«‬بين‭ ‬الذهن‭ ‬المستعدّ‭ ‬للشعر،‭ ‬وغير‭ ‬المستعدّ‭ ‬له»؛‭ ‬أي‭ ‬تحدّث‭ ‬عن‭ ‬استعداد‭ ‬للشعر‭ ‬وليس‭ ‬عن‭ ‬التمكّن‭ ‬من‭ ‬قوله،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نسميه‭ ‬في‭ ‬التعبير‭ ‬الفلسفيّ‭: ‬الشاعريّة‭ ‬بالقوة‭ (‬أو‭ ‬بالاحتمال‭)‬،‭ ‬لكنّه‭ ‬أوحى‭ ‬أنّ‭ ‬التشبيه‭ ‬هو‭ ‬مناط‭ ‬الشعر‭. ‬وهذه‭ ‬العبارة‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تدخل‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬سوف‭ ‬يسمّيه‭ ‬
أبو‭ ‬نصر‭ ‬الفارابيّ‭ (‬ت‭ ‬339‭ ‬هـ‭) ‬قولاً‭ ‬شعريّاً،‭ ‬أي‭ ‬قولاً‭ ‬فيه‭ ‬محاكاة‭ ‬ولا‭ ‬وزن‭ ‬له؛‭ ‬فالمحاكاة‭ ‬هي‭ ‬العنصر‭ ‬الأساسيّ‭ ‬للشعر،‭ ‬عنده،‭ ‬فإذا‭ ‬كان‭ ‬القول‭ ‬الذي‭ ‬فيه‭ ‬محاكاة‭ ‬موزوناً‭ ‬كان‭ ‬شعراً،‭ ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬خلواً‭ ‬من‭ ‬الوزن‭ ‬فهو‭ ‬قول‭ ‬شعريّ؛‭ ‬أمّا‭ ‬القافية‭ ‬فعنصر‭ ‬عرَضيّ،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬شأنها‭ ‬تحسين‭ ‬الشعر‭. ‬ونذكّر‭ ‬هنا‭ ‬بأن‭ ‬المحاكاة‭ ‬عند‭ ‬الفارابيّ‭ ‬تعني‭ ‬الإيهام‭ ‬بالمشابهة،‭ ‬وأنها‭ ‬تكاد‭ ‬تكون‭ ‬هي‭ ‬التشبيه‭ ‬عينه‭ ‬عند‭ ‬ابن‭ ‬سينا‭ ‬
‭(‬ت‭ ‬428‭ ‬هـ‭) ‬وابن‭ ‬رشد‭ (‬ت‭ ‬595‭ ‬هـ‭) ‬وحازم‭ ‬القرطاجنّيّ‭ ‬
‭(‬ت‭ ‬684‭ ‬هـ‭). ‬

وجماع‭ ‬أمر‭ ‬الشعر‭ ‬المنثور‭ ‬أو‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر‭ ‬أنّها‭ ‬قصيدة‭ ‬غير‭ ‬مقيدة‭ ‬بالوزن‭ ‬والقافية،‭ ‬وبعبارة‭ ‬أخرى‭: ‬غير‭ ‬منتظمة،‭ ‬فهي‭ ‬حرّة‭ ‬طليقة،‭ ‬إلاّ‭ ‬من‭ ‬الوحدة‭ ‬والصورة‭ ‬المكثّفة‭. ‬لكن‭ ‬شرط‭ ‬الصورة‭ ‬وما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يطرح‭ ‬من‭ ‬مجّانيّة‭ ‬ووحدة،‭ ‬لا‭ ‬علاقة‭ ‬له‭ ‬بنظام‭ ‬القصيدة،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬شيء‭ ‬يدخل‭ ‬في‭ ‬أسلوب‭ ‬الشاعر،‭ ‬ويصحّ‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬بكل‭ ‬أنواعه،‭ ‬وفي‭ ‬النثر‭ ‬الفنيّ‭ ‬أيضاً‭. ‬فليس‭ ‬في‭ ‬الأمر‭ ‬مذهب‭ ‬شعريّ‭ ‬له‭ ‬قواعده‭ ‬الخاصّة،‭ ‬بل‭ ‬مجرد‭ ‬تفلّت‭ ‬من‭ ‬القيود‭. ‬

لكن‭ ‬يبقى‭ ‬أنّ‭ ‬هذا‭ ‬المنحى‭ ‬الشعريّ‭ ‬الذي‭ ‬جُوبه‭ ‬بمعارضة‭ ‬أدبيّة‭ ‬شديدة‭ ‬عند‭ ‬العرب،‭ ‬إنما‭ ‬جوبه‭ ‬بذلك‭ ‬بسبب‭ ‬سلوك‭ ‬دعاته‭ ‬المكتوب،‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يخلو‭ ‬من‭ ‬النـزق،‭ ‬وبسبب‭ ‬انغماسه‭ ‬في‭ ‬الروح‭ ‬الغربيّة‭ ‬وإيحائه‭ ‬بالتبعيّة‭ ‬والتنكّر‭ ‬للتاريخ‭ ‬الأدبيّ‭ ‬العربيّ‭ ‬والإسلاميّ،‭ ‬ولاسيّما‭ ‬أنّ‭ ‬أكثر‭ ‬حاملي‭ ‬لوائه‭ ‬وأبرزهم‭ ‬لم‭ ‬يكونوا‭ ‬يؤمنون‭ ‬بالقوميّة‭ ‬العربيّة‭ ‬ولا‭ ‬بالإسلام‭. ‬ولو‭ ‬أنّهم‭ ‬اختاروا‭ ‬مصطلحات‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬المعجم‭ ‬الأدبيّ‭ ‬العربيّ،‭ ‬ولم‭ ‬يكثروا‭ ‬الغرف‭ ‬من‭ ‬الآنية‭ ‬الأجنبيّة،‭ ‬ولم‭ ‬يكونوا‭ ‬عدوانيّين،‭ ‬لبدوا‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬القبول‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬الأدبيّ‭ ‬العربيّ،‭ ‬لأنّ‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬كانوا‭ ‬يدْعون‭ ‬دعوتهم‭ ‬الأدبيّة،‭ ‬وإن‭ ‬بأسلوب‭ ‬مختلف،‭ ‬ويكتبون‭ ‬على‭ ‬المثال‭ ‬الذي‭ ‬اختاروه،‭ ‬لكن‭ ‬دون‭ ‬تبجّح،‭ ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬كانوا‭ ‬مقبولين،‭ ‬بل‭ ‬تبوّأ‭ ‬بعضهم‭ ‬منـزلة‭ ‬أدبيّة‭ ‬رفيعة،‭ ‬وعُدّوا‭ ‬من‭ ‬القمم‭ ‬عند‭ ‬جمهور‭ ‬عربيّ‭ ‬واسع‭  ■‬