الفرحة الأولى

الفرحة الأولى

كيف‭ ‬مضت‭ ‬ستون‭ ‬عاماً‭ ‬حقاً‭ ‬على‭ ‬إصدار‭ ‬مجلة‭ ‬العربي؟‭ ‬أعرف‭ ‬ذلك‭ ‬حين‭ ‬أنظر‭ ‬إلى‭ ‬نفسي‭ ‬وكيف‭ ‬أصبحت‭ ‬كاتباً‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬مجلة‭ ‬العربي‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬المصير‭ ‬الذي‭ ‬دفعنا‭ ‬ومازلنا‭ ‬ندفع‭ ‬ثمنه‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬الذي‭ ‬أردنا،‭ ‬كما‭ ‬علمتنا‭ ‬مجلة‭ ‬العربي،‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬في‭ ‬موقع‭ ‬أفضل‭. ‬

لا‭ ‬أنسى‭ ‬أبداً‭ ‬فرحتي‭ ‬بأول‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬المجلة‭ ‬عام‭ ‬1958‭. ‬كنت‭ ‬تلميذاً‭ ‬صغيراً‭ ‬في‭ ‬السنة‭ ‬الأولى‭ ‬الإعدادية،‭ ‬أحب‭ ‬قراءة‭ ‬كتب‭ ‬الأطفال‭ ‬وأشتري‭ ‬بمصروفي‭ ‬القليل‭ ‬إحدى‭ ‬الصحف‭ ‬المصرية‭ ‬بين‭ ‬دهشة‭ ‬زملائي‭.‬

وفي‭ ‬أحد‭ ‬الأيام‭ ‬وجدت‭ ‬على‭ ‬‮«‬فرشة‮»‬‭ ‬بائع‭ ‬الكتب‭ ‬أمام‭ ‬المدرسة‭ ‬الإعدادية‭ ‬العدد‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬مجلة‭ ‬العربي‭. ‬جذبني‭ ‬غلافها‭ ‬وحجمها،‭ ‬فأمسكت‭ ‬بها‭ ‬أقلبها‭ ‬لأجد‭ ‬أسماء‭ ‬كتّاب‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬أكثرهم،‭ ‬وسمعت‭ ‬فقط‭ ‬ببعضهم‭ ‬من‭ ‬المصريين،‭ ‬وعلى‭ ‬رأسهم‭ ‬د‭. ‬أحمد‭ ‬زكي‭ ‬رئيس‭ ‬التحرير‭. ‬كان‭ ‬سعرها‭ ‬خمسة‭ ‬أو‭ ‬عشرة‭ ‬قروش‭. ‬لا‭ ‬أتذكر‭ ‬بالضبط‭. ‬فوقفت‭ ‬متحسراً‭ ‬وأعدتها‭ ‬إلى‭ ‬مكانها،‭ ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬معي‭ ‬ثمنها‭. ‬وهكذا‭ ‬كل‭ ‬شهر‭ ‬أنظر‭ ‬إليها‭ ‬متمنياً‭ ‬شراءها‭ ‬ولا‭ ‬أستطيع‭. ‬لكنني‭ ‬عرفت‭ ‬أنها‭ ‬تصدر‭ ‬من‭ ‬الكويت‭. ‬

ربما‭ ‬في‭ ‬آخر‭ ‬سنة‭ ‬من‭ ‬المرحلة‭ ‬الإعدادية‭ ‬وجدتها‭ ‬في‭ ‬مكتبة‭ ‬المدرسة‭ ‬وأخذت‭ ‬أقرأها‭. ‬اختلف‭ ‬الأمر‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬الثانوية،‭ ‬فصرت‭ ‬قادراً‭ ‬على‭ ‬شرائها‭ ‬ومواظباً‭ ‬عليها‭ ‬في‭ ‬فرح،‭ ‬بل‭ ‬صرت‭ ‬مواظباً‭ ‬على‭ ‬شراء‭ ‬ما‭ ‬يأتي‭ ‬من‭ ‬الكويت،‭ ‬وخاصة‭ ‬سلسلة‭ ‬من‭ ‬المسرح‭ ‬العالمي‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تفارقني‭ ‬كتبها،‭ ‬وبعدها‭ ‬طبعاً‭ ‬سلسلة‭ ‬‮«‬عالم‭ ‬المعرفة‮»‬،‭ ‬ثم‭ ‬المجلة‭ ‬العظيمة‭ ‬‮«‬عالم‭ ‬الفكر‮»‬،‭ ‬وهكذا‭ ‬صارت‭ ‬الكويت‭ ‬حاضنة‭ ‬لروح‭ ‬الصبي‭ ‬الذي‭ ‬أصبح‭ ‬شاباً‭ ‬يطمح‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬كاتباً،‭ ‬وخاصة‭ ‬أنها‭ ‬توافرت‭ ‬لنا‭ ‬بقروش‭ ‬زهيدة‭. ‬صار‭ ‬ما‭ ‬يأتي‭ ‬من‭ ‬الكويت‭ ‬الرافد‭ ‬الكبير‭ ‬في‭ ‬الثقافة،‭ ‬وكنت‭ ‬أعرف‭ ‬أنه‭ ‬ليس‭ ‬بالنسبة‭ ‬إليّ‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬كل‭ ‬الكتّاب‭ ‬ولكل‭ ‬القراء‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭.‬

وأزعم‭ ‬أن‭ ‬أي‭ ‬سلاسل‭ ‬أو‭ ‬مجلات‭ ‬عربية‭ ‬لم‭ ‬تحقق‭ ‬نجاحاً‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬العالم‭ ‬العربي،‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬حققت‭ ‬مجلة‭ ‬العربي‭ ‬وما‭ ‬يصدر‭ ‬من‭ ‬المجلس‭ ‬الوطني‭ ‬للثقافة‭ ‬والفنون‭ ‬والآداب‭.‬

كان‭ ‬طبيعياً‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أطمح‭ ‬إلى‭ ‬النشر‭ ‬فيها،‭ ‬وكان‭ ‬أكثر‭ ‬ما‭ ‬نشرته‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬الكاتب‭ ‬القدير‭ ‬د‭. ‬محمد‭ ‬الرميحي‭ ‬في‭ ‬تسعينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭. ‬وهنا‭ ‬حكاية‭ ‬لطيفة؛‭ ‬كان‭ ‬الصديقان‭ ‬محمد‭ ‬المنسي‭ ‬قنديل‭ ‬ومحمد‭ ‬المخزنجي‭ ‬يعملان‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬العربي‮»‬‭ ‬في‭ ‬الكويت،‭ ‬وفي‭ ‬مصر‭ ‬كان‭ ‬يدير‭ ‬المكتب‭ ‬الكاتب‭ ‬الكبير‭ ‬الراحل‭ ‬أبوالمعاطي‭ ‬أبوالنجا‭. ‬واقترح‭ ‬عليَّ‭ ‬قنديل‭ ‬أن‭ ‬أكتب‭ ‬للأطفال‭ ‬في‭ ‬‮«‬العربي‭ ‬الصغير‮»‬،‭ ‬وفعلت‭ ‬شهرياً‭.‬

صرت‭ ‬أكتب‭ ‬سيناريو‭ ‬لرحلة‭ ‬العربي‭ ‬الصغير‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬لكن‭ ‬أيضاً،‭ ‬وبترشيح‭ ‬من‭ ‬المنسي‭ ‬قنديل‭ ‬كذلك،‭ ‬وافق‭ ‬د‭. ‬الرميحي‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬أكتب‭ ‬شيئاً‭ ‬آخر‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬أحد‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭ ‬أني‭ ‬كنت‭ ‬كاتبه،‭ ‬وهو‭ ‬تحرير‭ ‬الحِكَم‭ ‬والأمثال‭ ‬والمقتطفات‭ ‬الشعرية‭ ‬والنثرية‭ ‬من‭ ‬أعمال‭ ‬الكتّاب‭ ‬على‭ ‬مر‭ ‬التاريخ،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬ينشر‭ ‬في‭ ‬الهامش‭ ‬أسفل‭ ‬موضوعات‭ ‬المجلة‭.‬

أصبحت‭ ‬أكتب‭ ‬لـ‭ ‬‮«‬العربي‭ ‬الصغير‮»‬‭ ‬‮«‬ستربس‮»‬‭ ‬يتم‭ ‬رسمه،‭ ‬ولـ‭ ‬‮«‬العربي‮»‬‭ ‬هذه‭ ‬المقتطفات‭ ‬التي‭ ‬كنت‭ ‬أستقيها‭ ‬مما‭ ‬أقرأ،‭ ‬والأهم‭ ‬من‭ ‬كتاب‭ ‬ضخم‭ ‬اشتريته‭ ‬عام‭ ‬1996‭ ‬من‭ ‬إحدى‭ ‬مكتبات‭ ‬شيكاجو‭ ‬في‭ ‬أمريكا،‭ ‬به‭ ‬مقتطفات‭ ‬من‭ ‬أعمال‭ ‬المؤلفين‭ ‬الأجانب،‭ ‬كنت‭ ‬أترجمها‭.‬

وكان‭ ‬هذا‭ ‬النشر‭ ‬شهرياً‭. ‬وكان‭ ‬عائده‭ ‬المادي‭ ‬يكفيني‭ ‬ألا‭ ‬أكتب‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬مكان‭ ‬آخر‭. ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬تفرغت‭ ‬لكتابة‭ ‬الرواية‭ ‬الكبيرة‭ ‬‮«‬لا‭ ‬أحد‭ ‬ينام‭ ‬في‭ ‬الإسكندرية‮»‬،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬أرهق‭ ‬نفسي‭ ‬بالبحث‭ ‬عن‭ ‬المال‭ ‬لحياتي‭ ‬الأسرية،‭ ‬وبعدها‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬طيور‭ ‬العنبر‮»‬،‭ ‬وبينهما‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬قناديل‭ ‬البحر‮»‬‭.‬

والطريف‭ ‬أني‭ ‬كنت‭ ‬أرى‭ ‬ما‭ ‬تنشره‭ ‬‮«‬العربي‮»‬‭ ‬من‭ ‬مقتطفات‭ ‬أنا‭ ‬محررها‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يعرفه‭ ‬أحد‭ ‬منشوراً‭ ‬في‭ ‬أسفل‭ ‬مقالات‭ ‬بعض‭ ‬الصحفيين‭ ‬المصريين‭. ‬كنت‭ ‬أضحك‭ ‬وأسكت‭ ‬ولا‭ ‬أتكلم‭. ‬وبين‭ ‬هذه‭ ‬الكتابة‭ ‬كانت‭ ‬سعادتي‭ ‬كبيرة‭ ‬بعروض‭ ‬كتب‭ ‬أجنبية‭ ‬أقوم‭ ‬بها‭ ‬للمجلة‭ ‬على‭ ‬أوقات‭ ‬متباعدة،‭ ‬أو‭ ‬مقالات‭ ‬مثل‭ ‬مقال‭ ‬كبير‭ ‬عن‭ ‬فيلم‭ ‬تيتانيك،‭ ‬وآخر‭ ‬عن‭ ‬الكاتب‭ ‬الكبير‭ ‬إبراهيم‭ ‬الكوني،‭ ‬وغيرها‭.  ‬هذه‭ ‬المقالات‭ ‬طبعاً‭ ‬احتفظت‭ ‬بها‭. ‬ومنذ‭ ‬عام‭ ‬2000‭ ‬تقريباً‭ ‬لم‭ ‬أعد‭ ‬منتظماً‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬فيها‭ ‬ولا‭ ‬في‭ ‬‮«‬العربي‭ ‬الصغير‮»‬،‭ ‬وقلّت‭ ‬كتاباتي‭ ‬كثيراً‭ ‬لانشغالي‭ ‬مرة‭ ‬بالدراما‭ ‬التلفزيونية‭ ‬ومرات‭ ‬بالرواية،‭ ‬والأهم‭ ‬بالحياة‭ ‬التي‭ ‬واجهتني‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬الآلام‭ ‬التي‭ ‬مرت‭ ‬والحمد‭ ‬لله‭. ‬لكن‭ ‬سعادتي‭ ‬ظلت‭ ‬تمشي‭ ‬معي‭ ‬محمّلة‭ ‬بالفرح‭ ‬القديم‭. ‬نشرت‭ ‬فيها‭ ‬قليلاً‭ ‬سعيداً‭ ‬ورئيس‭ ‬تحريرها‭ ‬د‭. ‬سليمان‭ ‬العسكري،‭ ‬وساهمت‭ ‬مرتين‭ ‬في‭ ‬تحكيم‭ ‬مسابقة‭ ‬القصة‭ ‬القصيرة‭ ‬بالمجلة،‭ ‬ومازلت‭ ‬سعيداً‭ ‬بالمجلة‭ ‬العظيمة‭ ‬سعادتي‭ ‬بقراءتها‭ ‬في‭ ‬مكتبة‭ ‬المدرسة‭ ‬صبياً‭ ‬صغيراً،‭ ‬وسعادتي‭ ‬بالكتابة‭ ‬فيها‭ ‬مازال‭ ‬صداها‭ ‬في‭ ‬روحي،‭ ‬والأهم‭ ‬سعادتي‭ ‬بقراءتها‭ ‬وقراءة‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يصدر‭ ‬عن‭ ‬المجلس‭ ‬الوطني‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭.‬

دور‭ ‬مجلة‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬أعظم‭ ‬الأدوار‭ ‬التي‭ ‬قامت‭ ‬بها‭ ‬مجلة‭ ‬ما‭ ‬لقيمة‭ ‬كتّابها‭ ‬وتوافرها‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬البلاد،‭ ‬وسهولة‭ ‬الحصول‭ ‬عليها‭ ‬لمن‭ ‬لا‭ ‬يملك‭ ‬ما‭ ‬يكفي‭ ‬لشراء‭ ‬المجلات،‭ ‬وأنا‭ ‬على‭ ‬يقين‭ ‬بأن‭ ‬الآلاف‭ ‬مثلي‭ ‬تعلموا‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬المجلة‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬الملايين‭ ‬عبر‭ ‬الزمن،‭ ‬وحين‭ ‬يذكر‭ ‬اسم‭ ‬الكويت‭ ‬فلابد‭ ‬أن‭ ‬مجلة‭ ‬العربي‭ ‬ستتقدم‭ ‬المشهد‭ ‬مع‭ ‬الإصدارات‭ ‬الأخرى‭ ‬التالية‭ ‬التي‭ ‬أشرت‭ ‬إليها‭. ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الإصدارات‭ ‬كانت‭ ‬تنشد‭ - ‬ولا‭ ‬تزال‭ - ‬وطناً‭ ‬عربياً‭ ‬أجمل،‭ ‬فهل‭ ‬تسمع‭ ‬الأوطان؟■