مع مجلة العربي

عند الثانية عشرة من عمري أو قبلها بقليل، رأيت للمرة الأولى مجلة العربي، ولم أكن أعرف قبل ذلك ما هي المجلات ولا سمعت عنها، وكل درايتي يومها عن هذا الموضوع كانت منحصرة في الكتب التراثية، المطبوعة أو المخطوطة، وذلك أيضاً كان حال رفاق عمري وشأن أسرتي كلها وأهل قريتي الصغيرة النائية في عمق الريف العماني، وكان جل اهتمامي حينذاك، بتوجيه الأهل وإشرافهم، الإلمام بشيء من مبادئ علوم العربية وقراءة بعض متون الفقه، مع حفظ قصائد الشعر.
فجأة عاد أحد أبناء القرية في تلك الفترة من سفره ومعه مجلة العربي، التي أسعدني الحظ بتصفحها بحسبانها كتاباً يختلف عن الكتب الموجودة معنا من حيث تبويبها ونوع مادتها والصور الملونة التي احتوتها، مما جعلني أنبهر بها وكنت آنذاك في بدايات شغفي بالقراءة، يدفعني الفضول للتعرف على كل جديد، فالتمست من الرجل إعارتي ذلك العدد المقطوعة بعض أوراقه، وعكفت على قراءته حتى أوشكت على حفظ كثير من مواده.
وبعد حين غادرت قريتي الهادئة الساكنة المنغرسة في عزلتها مولياً وجهي إلى خارج وطني مع رفاق في مثل عمري، سعياً كما قيل إلى مزيد من التعليم وفق الطرق الحديثة، المختلف عن المتاح للأجيال الصغيرة في عمان وقتها، وقد وجدت خارج الوطن بين أشياء كثيرة لم تكن مألوفة لدي «العربي»، التي عرفت أنها مجلة وليست كتاباً كما ظننت من قبل، وأن المجلات من طبيعتها الصدور بصفة دورية، وذاك أحد ما يميزها عن الكتب، وأنها تصدر كل مرة بصورة مغايرة في الشكل والمضمون، وبالضبط كان ذلك حال «العربي» التي يتكرر صدورها مطلع كل شهر، ومنذ ذاك تعززت صلتي
بـ «العربي» وألفتها وأدمنت على قراءتها ونشأت بيني وبينها رابطة لم أقو على الانفكاك عنها، ولم أستطع مغادرتها إلى هذه اللحظة وصرت من عشاقها الدائمين لا صبر لي عنها، أنتظرها أول الشهر بلهفة وشوق شديد، حالي في ذلك حال الألوف من أبناء الوطن العربي في مشرقه ومغربه، وإن فاتني عدد منها لنفاد النسخ من السوق بسبب كثرة المتابعين، تظل نفسي متوترة يعكر صفوها القلق حتى أجده بعد بذل أقصى الطاقة من الجهد للظفر به في مكتبات المدينة التي أقيم فيها، فإن لم يتيسر فبإرسال القيمة وأجرة البريد لإدارة «العربي» في الكويت أو وكيلها في بيروت أو بطلبه من إخواني طلبة عمان الدارسين في بغداد والقاهرة ودمشق، وأظل مهموماً تضطرب دواخلي إلى أن يصلني.
ومن حينها أصبحت «العربي» رفيقة دروبي المختلفة المتباينة، ملازمة لي في أي جهة عشت مع رفيقات أُخر لها ذوات مقاصد وتوجهات أخرى تعرفت عليها، منها الأدبي البحت، ومنها الثقافي العام والسياسي والفكري، لعل من أبرزها «الآداب» «والأديب» و«الحوادث» و«روز اليوسف» وغيرها، وقد عشت سنواتي تلك التي أعتبرها جميلة برغم صعوبتها وفظاظتها مع موضوعات «العربي» الشائقة، ابتداء من «حديث الشهر» الذي كان يكتبه العلاَّمة د. أحمد زكي أول رئيس تحرير للمجلة، وبعد وفاته خلفه الأستاذ أحمد بهاء الدين الكاتب السياسي المعروف، ثم د. محمد الرميحي ومن تلاه، وكذلك الاستطلاعات المدهشة التي تميزت بها «العربي» لمدن الوطن العربي تحت عنوان معبِّر «اعرف وطنك أيها العربي»، ثم لمدن العالم المختلفة من شتى القارات، ومثل ذلك اللقاءات الثرية مع كبار المفكرين والكتاب وموضوعات عديدة متنوعة، ومقالات كثيرة مفيدة استمر تقديمها على صفحات المجلة مرحلة بعد مرحلة من أول التأسيس وحتى اليوم.
ولا أظن أن كاتباً من أعلام الكتابة العربية لم تنشر له المجلة أو تستضيفه ابتداء من د. طه حسين والعقاد ورفاق جيلهما والأقلام التي تلتهم على توالي السنوات جيلاً بعد جيل في مختلف ألوان الإبداع، الشعر والقصة والمقالة وغير ذلك، وبهذا التنوع الواسع الغزير المتميز أحرزت «العربي» هذه المكانة العالية في الوطن العربي، وأصبحت مدرسة كبرى نشأ على أنوار معارفها الألوف من أبناء العرب الذين نهلوا العلم من صفحاتها وتتلمذوا على كتابها، وأعتبر نفسي واحداً من هؤلاء الذين يسر لهم الحظ الطيب الاستفادة من هذه المجلة والأخذ من عطائها الثقافي الوافر الخصب.
ولن أكون مبالغاً لو قلت إن تكوننا الثقافي والمعرفي نحن معشر ذلك الجيل يعود الفضل في جانب غير هين منه إلى مجلة العربي، التي كانت مائدتها الغنية النافعة تبرز شهرياً مقدمة لكل عربي أينما كان أطايب ألوان الفكر وصنوف الثقافة المتعددة في سهولة ويسر.
وهي مجلة متوازنة أبعد ما تكون عن التفلسف الفارغ والتعقيدات الأيديولوجية والنظريات المثيرة الملتبسة، تدنو لقارئها لينال من منوعاتها ما يرضي ذوقه ويُشبع نهمه ويجعله يتوق باستمرار إلى نيل فوائدها والارتواء من عذوبة ينابيعها الصافية.
وقد ظلت الأجيال العربية على مدى نصف قرن قريبة من «العربي» منسجمة معها وراغبة فيها، آخذة من فكرها وثقافتها تنتظرها بداية الشهر متابعة لما تحتويه أبوابها ومستمتعة بشائق موضوعاتها، مندمجة مع روائع جديدها طوال الأسابيع والأيام إلى أن يجيء الشهر اللاحق بالعدد الآخر، فتنتقل إليه في دورة سائرة من شهر إلى الذي يليه، والدورة ما زالت ماضية في مسيرتها تتغير أطيافها قليلاً بين رئيس تحرير وآخر من دون تبدل لجوهرها الثابت وخطها العام وحتى شكلها، فهي مع المؤسس د. أحمد زكي لها طابع ومذاق ربما اختلف مع الأستاذ بهاء الدين، ولعله كذلك تغير مع
د. الرميحي، وقد يكون أصابه شيء من التبدل مع من تسلَّم بعده، وتلك هي سنّة الحياة التي لا تجيز الجمود على حال بذاته، لأن الجمود هو الموت والتجدد هو الحياة.
ولكن هذا التنقل في «العربي» لا يمس الثوابت ولا يذهب بالقواعد ولا يمحو الأساسات، إنما هو مسلك يرتقي بها من حال إلى حال حسب سنّة التطور من دون الخروج على المرتكزات والضوابط، ومن دون إلغاء لما سبق أو مسح للمستقر، فهي تسير على الطريق ذاته، مهتدية بمعالمه الأولى التي تمسك لها خصوصيتها وتبقيها ضمن أطر مؤسسيها مشرقة بنمطها نفسه الذي ظهر به عددها الأول في ديسمبر 1958م، وذاك هو الذي حفظ لها روابطها القوية مع كتّابها وقرّائها ومتابعيها الملتصقين بها والموفين لعهدها والمنحازين لها والمنتظرين صدورها أوائل كل شهر.
مجلة أمضت أكثر من نصف قرن وما زالت نضرة بهية يتجدد شبابها ويتدفق ألقها وتزهو محاسنها، تابعها الجد لحظة ميلادها ففتنته وأسرته واستمر ممسكاً بها وانجذب إليها الولد فما استطاع تركها ومفارقتها وعشقها الحفيد فما رام الانفلات منها ولا رغب التحول عنها، ولم يزل الثلاثة كلهم معها يقلبون صفحاتها ويقرأون كتاباتها ويحرصون على عدم التفريط فيها، تتنافس أجيال الناس على اقتنائها ومتابعة ما فيها من جميل القول ورقي الفكر وعميق المعنى عدداً بعد عدد.
وأذكر مرة وأنا في مدينة القيروان التونسية غضبة شديدة على الموزع من شاب وجد كل الأعداد مبيعة من دون أن يحجز له ذلك الموزع العدد الذي اعتاد أخذه منه، وشبيه بهذا الموقف ما حدثني صديق عنه وقع في مدينة تريم بحضرموت في اليمن.
مجلة ولدت منذ البداية ناضجة تلفت النظر وتستحوذ على قلوب القراء، وظلت في كل سنوات عقودها الستة على مستواها الرفيع ذاته حتى غدت ربما من غير مبالغة واحدة من الأشياء التي اتفق معظم العرب عليها واجتمعوا حولها.
وفي سلطنة عُمان كما في كل ديار العرب، نالت «العربي» الحظوة والقبول الواسع والإعجاب الشديد، واحتفظ كثير من العُمانيين، وأنا أحدهم، بأعدادها كاملة، ورّثها بعضهم لأبنائهم مرددين مطلع قصيدة الشاعر الكويتي العروبي المعروف أحمد السقاف المنشورة في المجلة أواخر ستينيات القرن العشرين التي يقول فيها:
كل شبر من التراب العماني
هو قلبي ومهجتي وكياني
سلام على «العربي» وتهنئة نزجيها إليها وهي تودع ستين عاماً من عمرها، والجةً عاماً جديداً من عمرها المديد بعزم مكين وهمة صادقة وإرادة راسخة وخطوات وثابة نحو الغد المنتظر والمستقبل المبهج والأمل الباسم، واثقة قوية تعيش ناشئة العرب القادمة في ظلها الوارف، ناهلة من معينها العذب كما فعلت أسلافها من قبل على مدى أكثر من نصف قرن مضى بكل ما فيه من إخفاقات وطموحات، ليكون غدها الآتي أكثر بهاءً وجمالاً في عمرها الممتد، منتقلاً بأمة العرب نحو الآفاق العليا والمكانة الأسمى بين أمم العالمين، متصدرة الحضارة الكونية لإنجاز التقدم والسلام وفعل الخير كما هو ميراثها الخالد الذي أرساه الأوائل من أجدادها عبر الأزمنة والدهور ■