مع مجلة العربي

مع مجلة العربي

عند‭ ‬الثانية‭ ‬عشرة‭ ‬من‭ ‬عمري‭ ‬أو‭ ‬قبلها‭ ‬بقليل،‭ ‬رأيت‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى‭ ‬مجلة‭ ‬العربي،‭ ‬ولم‭ ‬أكن‭ ‬أعرف‭ ‬قبل‭ ‬ذلك‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬المجلات‭ ‬ولا‭ ‬سمعت‭ ‬عنها،‭ ‬وكل‭ ‬درايتي‭ ‬يومها‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الموضوع‭ ‬كانت‭ ‬منحصرة‭ ‬في‭ ‬الكتب‭ ‬التراثية،‭ ‬المطبوعة‭ ‬أو‭ ‬المخطوطة،‭ ‬وذلك‭ ‬أيضاً‭ ‬كان‭ ‬حال‭ ‬رفاق‭ ‬عمري‭ ‬وشأن‭ ‬أسرتي‭ ‬كلها‭ ‬وأهل‭ ‬قريتي‭ ‬الصغيرة‭ ‬النائية‭ ‬في‭ ‬عمق‭ ‬الريف‭ ‬العماني،‭ ‬وكان‭ ‬جل‭ ‬اهتمامي‭ ‬حينذاك،‭ ‬بتوجيه‭ ‬الأهل‭ ‬وإشرافهم،‭ ‬الإلمام‭ ‬بشيء‭ ‬من‭ ‬مبادئ‭ ‬علوم‭ ‬العربية‭ ‬وقراءة‭ ‬بعض‭ ‬متون‭ ‬الفقه،‭ ‬مع‭ ‬حفظ‭ ‬قصائد‭ ‬الشعر‭.‬

‭ ‬فجأة‭ ‬عاد‭ ‬أحد‭ ‬أبناء‭ ‬القرية‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬من‭ ‬سفره‭ ‬ومعه‭ ‬مجلة‭ ‬العربي،‭ ‬التي‭ ‬أسعدني‭ ‬الحظ‭ ‬بتصفحها‭ ‬بحسبانها‭ ‬كتاباً‭ ‬يختلف‭ ‬عن‭ ‬الكتب‭ ‬الموجودة‭ ‬معنا‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬تبويبها‭ ‬ونوع‭ ‬مادتها‭ ‬والصور‭ ‬الملونة‭ ‬التي‭ ‬احتوتها،‭ ‬مما‭ ‬جعلني‭ ‬أنبهر‭ ‬بها‭ ‬وكنت‭ ‬آنذاك‭ ‬في‭ ‬بدايات‭ ‬شغفي‭ ‬بالقراءة،‭ ‬يدفعني‭ ‬الفضول‭ ‬للتعرف‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬جديد،‭ ‬فالتمست‭ ‬من‭ ‬الرجل‭ ‬إعارتي‭ ‬ذلك‭ ‬العدد‭ ‬المقطوعة‭ ‬بعض‭ ‬أوراقه،‭ ‬وعكفت‭ ‬على‭ ‬قراءته‭ ‬حتى‭ ‬أوشكت‭ ‬على‭ ‬حفظ‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬مواده‭.‬

‭ ‬وبعد‭ ‬حين‭ ‬غادرت‭ ‬قريتي‭ ‬الهادئة‭ ‬الساكنة‭ ‬المنغرسة‭ ‬في‭ ‬عزلتها‭ ‬مولياً‭ ‬وجهي‭ ‬إلى‭ ‬خارج‭ ‬وطني‭ ‬مع‭ ‬رفاق‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬عمري،‭ ‬سعياً‭ ‬كما‭ ‬قيل‭ ‬إلى‭ ‬مزيد‭ ‬من‭ ‬التعليم‭ ‬وفق‭ ‬الطرق‭ ‬الحديثة،‭ ‬المختلف‭ ‬عن‭ ‬المتاح‭ ‬للأجيال‭ ‬الصغيرة‭ ‬في‭ ‬عمان‭ ‬وقتها،‭ ‬وقد‭ ‬وجدت‭ ‬خارج‭ ‬الوطن‭ ‬بين‭ ‬أشياء‭ ‬كثيرة‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬مألوفة‭ ‬لدي‭ ‬‮«‬العربي‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬عرفت‭ ‬أنها‭ ‬مجلة‭ ‬وليست‭ ‬كتاباً‭ ‬كما‭ ‬ظننت‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬وأن‭ ‬المجلات‭ ‬من‭ ‬طبيعتها‭ ‬الصدور‭ ‬بصفة‭ ‬دورية،‭ ‬وذاك‭ ‬أحد‭ ‬ما‭  ‬يميزها‭ ‬عن‭ ‬الكتب،‭ ‬وأنها‭ ‬تصدر‭ ‬كل‭ ‬مرة‭ ‬بصورة‭ ‬مغايرة‭ ‬في‭  ‬الشكل‭ ‬والمضمون،‭ ‬وبالضبط‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬حال‭ ‬‮«‬العربي‮»‬‭ ‬التي‭ ‬يتكرر‭ ‬صدورها‭ ‬مطلع‭ ‬كل‭ ‬شهر،‭ ‬ومنذ‭ ‬ذاك‭ ‬تعززت‭ ‬صلتي‭ ‬
بـ‭ ‬‮«‬العربي‮»‬‭ ‬وألفتها‭ ‬وأدمنت‭ ‬على‭ ‬قراءتها‭ ‬ونشأت‭ ‬بيني‭ ‬وبينها‭ ‬رابطة‭ ‬لم‭ ‬أقو‭ ‬على‭ ‬الانفكاك‭ ‬عنها،‭ ‬ولم‭ ‬أستطع‭ ‬مغادرتها‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬اللحظة‭ ‬وصرت‭ ‬من‭ ‬عشاقها‭ ‬الدائمين‭ ‬لا‭ ‬صبر‭ ‬لي‭ ‬عنها،‭ ‬أنتظرها‭ ‬أول‭ ‬الشهر‭ ‬بلهفة‭ ‬وشوق‭ ‬شديد،‭ ‬حالي‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬حال‭ ‬الألوف‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬الوطن‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬مشرقه‭ ‬ومغربه،‭ ‬وإن‭ ‬فاتني‭ ‬عدد‭ ‬منها‭ ‬لنفاد‭ ‬النسخ‭ ‬من‭ ‬السوق‭ ‬بسبب‭ ‬كثرة‭ ‬المتابعين،‭ ‬تظل‭ ‬نفسي‭ ‬متوترة‭ ‬يعكر‭ ‬صفوها‭ ‬القلق‭ ‬حتى‭ ‬أجده‭ ‬بعد‭ ‬بذل‭ ‬أقصى‭ ‬الطاقة‭ ‬من‭ ‬الجهد‭ ‬للظفر‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬مكتبات‭ ‬المدينة‭ ‬التي‭ ‬أقيم‭ ‬فيها،‭ ‬فإن‭ ‬لم‭ ‬يتيسر‭ ‬فبإرسال‭ ‬القيمة‭ ‬وأجرة‭ ‬البريد‭ ‬لإدارة‭ ‬‮«‬العربي‮»‬‭ ‬في‭ ‬الكويت‭ ‬أو‭ ‬وكيلها‭ ‬في‭ ‬بيروت‭ ‬أو‭ ‬بطلبه‭ ‬من‭ ‬إخواني‭ ‬طلبة‭ ‬عمان‭ ‬الدارسين‭ ‬في‭ ‬بغداد‭ ‬والقاهرة‭ ‬ودمشق،‭ ‬وأظل‭ ‬مهموماً‭ ‬تضطرب‭ ‬دواخلي‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يصلني‭.‬

‭ ‬ومن‭ ‬حينها‭ ‬أصبحت‭ ‬‮«‬العربي‮»‬‭ ‬رفيقة‭ ‬دروبي‭ ‬المختلفة‭ ‬المتباينة،‭ ‬ملازمة‭ ‬لي‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬جهة‭ ‬عشت‭ ‬مع‭ ‬رفيقات‭ ‬أُخر‭ ‬لها‭ ‬ذوات‭ ‬مقاصد‭ ‬وتوجهات‭ ‬أخرى‭ ‬تعرفت‭ ‬عليها،‭ ‬منها‭ ‬الأدبي‭ ‬البحت،‭ ‬ومنها‭ ‬الثقافي‭ ‬العام‭ ‬والسياسي‭ ‬والفكري،‭ ‬لعل‭ ‬من‭ ‬أبرزها‭ ‬‮«‬الآداب‮»‬‭ ‬‮«‬والأديب‮»‬‭ ‬و«الحوادث‮»‬‭ ‬و«روز‭ ‬اليوسف‮»‬‭ ‬وغيرها،‭ ‬وقد‭ ‬عشت‭ ‬سنواتي‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬أعتبرها‭ ‬جميلة‭ ‬برغم‭ ‬صعوبتها‭ ‬وفظاظتها‭ ‬مع‭ ‬موضوعات‭ ‬‮«‬العربي‮»‬‭ ‬الشائقة،‭ ‬ابتداء‭ ‬من‭ ‬‮«‬حديث‭ ‬الشهر‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يكتبه‭ ‬العلاَّمة‭ ‬د‭. ‬أحمد‭ ‬زكي‭ ‬أول‭ ‬رئيس‭ ‬تحرير‭ ‬للمجلة،‭ ‬وبعد‭ ‬وفاته‭ ‬خلفه‭ ‬الأستاذ‭ ‬أحمد‭ ‬بهاء‭ ‬الدين‭ ‬الكاتب‭ ‬السياسي‭ ‬المعروف،‭ ‬ثم‭ ‬د‭. ‬محمد‭ ‬الرميحي‭ ‬ومن‭ ‬تلاه،‭ ‬وكذلك‭ ‬الاستطلاعات‭ ‬المدهشة‭ ‬التي‭ ‬تميزت‭ ‬بها‭ ‬‮«‬العربي‮»‬‭ ‬لمدن‭ ‬الوطن‭ ‬العربي‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭ ‬معبِّر‭ ‬‮«‬اعرف‭ ‬وطنك‭ ‬أيها‭ ‬العربي‮»‬،‭ ‬ثم‭ ‬لمدن‭ ‬العالم‭ ‬المختلفة‭ ‬من‭ ‬شتى‭ ‬القارات،‭ ‬ومثل‭ ‬ذلك‭ ‬اللقاءات‭ ‬الثرية‭ ‬مع‭ ‬كبار‭ ‬المفكرين‭ ‬والكتاب‭ ‬وموضوعات‭ ‬عديدة‭ ‬متنوعة،‭ ‬ومقالات‭ ‬كثيرة‭ ‬مفيدة‭ ‬استمر‭ ‬تقديمها‭ ‬على‭ ‬صفحات‭ ‬المجلة‭ ‬مرحلة‭ ‬بعد‭ ‬مرحلة‭ ‬من‭ ‬أول‭ ‬التأسيس‭ ‬وحتى‭ ‬اليوم‭.‬

‭ ‬ولا‭ ‬أظن‭ ‬أن‭ ‬كاتباً‭ ‬من‭ ‬أعلام‭ ‬الكتابة‭ ‬العربية‭ ‬لم‭ ‬تنشر‭ ‬له‭ ‬المجلة‭ ‬أو‭ ‬تستضيفه‭ ‬ابتداء‭ ‬من‭ ‬د‭. ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬والعقاد‭ ‬ورفاق‭ ‬جيلهما‭ ‬والأقلام‭ ‬التي‭ ‬تلتهم‭ ‬على‭ ‬توالي‭ ‬السنوات‭ ‬جيلاً‭ ‬بعد‭ ‬جيل‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬ألوان‭ ‬الإبداع،‭ ‬الشعر‭ ‬والقصة‭ ‬والمقالة‭ ‬وغير‭ ‬ذلك،‭ ‬وبهذا‭ ‬التنوع‭ ‬الواسع‭ ‬الغزير‭ ‬المتميز‭ ‬أحرزت‭ ‬‮«‬العربي‮»‬‭ ‬هذه‭ ‬المكانة‭ ‬العالية‭ ‬في‭ ‬الوطن‭ ‬العربي،‭ ‬وأصبحت‭ ‬مدرسة‭ ‬كبرى‭ ‬نشأ‭ ‬على‭ ‬أنوار‭ ‬معارفها‭ ‬الألوف‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬العرب‭ ‬الذين‭ ‬نهلوا‭ ‬العلم‭ ‬من‭ ‬صفحاتها‭ ‬وتتلمذوا‭ ‬على‭ ‬كتابها،‭ ‬وأعتبر‭ ‬نفسي‭ ‬واحداً‭ ‬من‭ ‬هؤلاء‭ ‬الذين‭ ‬يسر‭ ‬لهم‭ ‬الحظ‭ ‬الطيب‭ ‬الاستفادة‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬المجلة‭ ‬والأخذ‭ ‬من‭ ‬عطائها‭ ‬الثقافي‭ ‬الوافر‭ ‬الخصب‭.‬

‭ ‬ولن‭ ‬أكون‭ ‬مبالغاً‭ ‬لو‭ ‬قلت‭ ‬إن‭ ‬تكوننا‭ ‬الثقافي‭ ‬والمعرفي‭ ‬نحن‭ ‬معشر‭ ‬ذلك‭ ‬الجيل‭ ‬يعود‭ ‬الفضل‭ ‬في‭ ‬جانب‭ ‬غير‭ ‬هين‭ ‬منه‭ ‬إلى‭ ‬مجلة‭ ‬العربي،‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬مائدتها‭ ‬الغنية‭ ‬النافعة‭ ‬تبرز‭ ‬شهرياً‭ ‬مقدمة‭ ‬لكل‭ ‬عربي‭ ‬أينما‭ ‬كان‭ ‬أطايب‭ ‬ألوان‭ ‬الفكر‭ ‬وصنوف‭ ‬الثقافة‭ ‬المتعددة‭ ‬في‭ ‬سهولة‭ ‬ويسر‭. ‬

وهي‭ ‬مجلة‭ ‬متوازنة‭ ‬أبعد‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬عن‭ ‬التفلسف‭ ‬الفارغ‭ ‬والتعقيدات‭ ‬الأيديولوجية‭ ‬والنظريات‭ ‬المثيرة‭ ‬الملتبسة،‭ ‬تدنو‭ ‬لقارئها‭ ‬لينال‭ ‬من‭ ‬منوعاتها‭ ‬ما‭ ‬يرضي‭ ‬ذوقه‭ ‬ويُشبع‭ ‬نهمه‭ ‬ويجعله‭ ‬يتوق‭ ‬باستمرار‭ ‬إلى‭ ‬نيل‭ ‬فوائدها‭ ‬والارتواء‭ ‬من‭ ‬عذوبة‭ ‬ينابيعها‭ ‬الصافية‭. ‬

وقد‭ ‬ظلت‭ ‬الأجيال‭ ‬العربية‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬نصف‭ ‬قرن‭ ‬قريبة‭ ‬من‭ ‬‮«‬العربي‮»‬‭ ‬منسجمة‭ ‬معها‭ ‬وراغبة‭ ‬فيها،‭ ‬آخذة‭ ‬من‭ ‬فكرها‭ ‬وثقافتها‭ ‬تنتظرها‭ ‬بداية‭ ‬الشهر‭ ‬متابعة‭ ‬لما‭ ‬تحتويه‭ ‬أبوابها‭ ‬ومستمتعة‭ ‬بشائق‭ ‬موضوعاتها،‭ ‬مندمجة‭ ‬مع‭ ‬روائع‭ ‬جديدها‭ ‬طوال‭ ‬الأسابيع‭ ‬والأيام‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يجيء‭ ‬الشهر‭ ‬اللاحق‭ ‬بالعدد‭ ‬الآخر،‭ ‬فتنتقل‭ ‬إليه‭ ‬في‭ ‬دورة‭ ‬سائرة‭ ‬من‭ ‬شهر‭ ‬إلى‭ ‬الذي‭ ‬يليه،‭ ‬والدورة‭ ‬ما‭ ‬زالت‭ ‬ماضية‭ ‬في‭ ‬مسيرتها‭ ‬تتغير‭ ‬أطيافها‭ ‬قليلاً‭ ‬بين‭ ‬رئيس‭ ‬تحرير‭ ‬وآخر‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬تبدل‭ ‬لجوهرها‭ ‬الثابت‭ ‬وخطها‭ ‬العام‭ ‬وحتى‭ ‬شكلها،‭ ‬فهي‭ ‬مع‭ ‬المؤسس‭ ‬د‭. ‬أحمد‭ ‬زكي‭ ‬لها‭ ‬طابع‭ ‬ومذاق‭ ‬ربما‭ ‬اختلف‭ ‬مع‭ ‬الأستاذ‭ ‬بهاء‭ ‬الدين،‭ ‬ولعله‭ ‬كذلك‭ ‬تغير‭ ‬مع‭ ‬
د‭. ‬الرميحي،‭ ‬وقد‭ ‬يكون‭ ‬أصابه‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬التبدل‭ ‬مع‭ ‬من‭ ‬تسلَّم‭ ‬بعده،‭ ‬وتلك‭ ‬هي‭ ‬سنّة‭ ‬الحياة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تجيز‭ ‬الجمود‭ ‬على‭ ‬حال‭ ‬بذاته،‭ ‬لأن‭ ‬الجمود‭ ‬هو‭ ‬الموت‭ ‬والتجدد‭ ‬هو‭ ‬الحياة‭.‬

‭ ‬ولكن‭ ‬هذا‭ ‬التنقل‭ ‬في‭ ‬‮«‬العربي‮»‬‭ ‬لا‭ ‬يمس‭ ‬الثوابت‭ ‬ولا‭ ‬يذهب‭ ‬بالقواعد‭ ‬ولا‭ ‬يمحو‭ ‬الأساسات،‭ ‬إنما‭ ‬هو‭ ‬مسلك‭ ‬يرتقي‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬حال‭ ‬إلى‭ ‬حال‭ ‬حسب‭ ‬سنّة‭ ‬التطور‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬الخروج‭ ‬على‭ ‬المرتكزات‭ ‬والضوابط،‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬إلغاء‭ ‬لما‭ ‬سبق‭ ‬أو‭ ‬مسح‭ ‬للمستقر،‭ ‬فهي‭ ‬تسير‭ ‬على‭ ‬الطريق‭ ‬ذاته،‭ ‬مهتدية‭ ‬بمعالمه‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬تمسك‭ ‬لها‭ ‬خصوصيتها‭ ‬وتبقيها‭ ‬ضمن‭ ‬أطر‭ ‬مؤسسيها‭ ‬مشرقة‭ ‬بنمطها‭ ‬نفسه‭ ‬الذي‭ ‬ظهر‭ ‬به‭ ‬عددها‭ ‬الأول‭ ‬في‭ ‬ديسمبر‭ ‬1958م،‭ ‬وذاك‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬حفظ‭ ‬لها‭ ‬روابطها‭ ‬القوية‭ ‬مع‭ ‬كتّابها‭ ‬وقرّائها‭ ‬ومتابعيها‭ ‬الملتصقين‭ ‬بها‭ ‬والموفين‭ ‬لعهدها‭ ‬والمنحازين‭ ‬لها‭ ‬والمنتظرين‭ ‬صدورها‭ ‬أوائل‭ ‬كل‭ ‬شهر‭. ‬

مجلة‭ ‬أمضت‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬نصف‭ ‬قرن‭ ‬وما‭ ‬زالت‭ ‬نضرة‭ ‬بهية‭ ‬يتجدد‭ ‬شبابها‭ ‬ويتدفق‭ ‬ألقها‭ ‬وتزهو‭ ‬محاسنها،‭ ‬تابعها‭ ‬الجد‭ ‬لحظة‭ ‬ميلادها‭ ‬ففتنته‭ ‬وأسرته‭ ‬واستمر‭ ‬ممسكاً‭ ‬بها‭ ‬وانجذب‭ ‬إليها‭ ‬الولد‭ ‬فما‭ ‬استطاع‭ ‬تركها‭ ‬ومفارقتها‭ ‬وعشقها‭ ‬الحفيد‭ ‬فما‭ ‬رام‭ ‬الانفلات‭ ‬منها‭ ‬ولا‭ ‬رغب‭ ‬التحول‭ ‬عنها،‭ ‬ولم‭ ‬يزل‭ ‬الثلاثة‭ ‬كلهم‭ ‬معها‭ ‬يقلبون‭ ‬صفحاتها‭ ‬ويقرأون‭ ‬كتاباتها‭ ‬ويحرصون‭ ‬على‭ ‬عدم‭ ‬التفريط‭ ‬فيها،‭ ‬تتنافس‭ ‬أجيال‭ ‬الناس‭ ‬على‭ ‬اقتنائها‭ ‬ومتابعة‭ ‬ما‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬جميل‭ ‬القول‭ ‬ورقي‭ ‬الفكر‭ ‬وعميق‭ ‬المعنى‭ ‬عدداً‭ ‬بعد‭ ‬عدد‭. ‬

وأذكر‭ ‬مرة‭ ‬وأنا‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬القيروان‭ ‬التونسية‭ ‬غضبة‭ ‬شديدة‭ ‬على‭ ‬الموزع‭ ‬من‭ ‬شاب‭ ‬وجد‭ ‬كل‭ ‬الأعداد‭ ‬مبيعة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يحجز‭ ‬له‭ ‬ذلك‭ ‬الموزع‭ ‬العدد‭ ‬الذي‭ ‬اعتاد‭ ‬أخذه‭ ‬منه،‭ ‬وشبيه‭ ‬بهذا‭ ‬الموقف‭ ‬ما‭ ‬حدثني‭ ‬صديق‭ ‬عنه‭ ‬وقع‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬تريم‭ ‬بحضرموت‭ ‬في‭ ‬اليمن‭. ‬

مجلة‭ ‬ولدت‭ ‬منذ‭ ‬البداية‭ ‬ناضجة‭ ‬تلفت‭ ‬النظر‭ ‬وتستحوذ‭ ‬على‭ ‬قلوب‭ ‬القراء،‭ ‬وظلت‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬سنوات‭ ‬عقودها‭ ‬الستة‭ ‬على‭ ‬مستواها‭ ‬الرفيع‭ ‬ذاته‭ ‬حتى‭ ‬غدت‭ ‬ربما‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬مبالغة‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬الأشياء‭ ‬التي‭ ‬اتفق‭ ‬معظم‭ ‬العرب‭ ‬عليها‭ ‬واجتمعوا‭ ‬حولها‭.‬

وفي‭ ‬سلطنة‭ ‬عُمان‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬ديار‭ ‬العرب،‭ ‬نالت‭ ‬‮«‬العربي‮»‬‭ ‬الحظوة‭ ‬والقبول‭ ‬الواسع‭ ‬والإعجاب‭ ‬الشديد،‭ ‬واحتفظ‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬العُمانيين،‭ ‬وأنا‭ ‬أحدهم،‭ ‬بأعدادها‭ ‬كاملة،‭ ‬ورّثها‭ ‬بعضهم‭ ‬لأبنائهم‭ ‬مرددين‭ ‬مطلع‭ ‬قصيدة‭ ‬الشاعر‭ ‬الكويتي‭ ‬العروبي‭ ‬المعروف‭ ‬أحمد‭ ‬السقاف‭ ‬المنشورة‭ ‬في‭ ‬المجلة‭ ‬أواخر‭ ‬ستينيات‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬التي‭ ‬يقول‭ ‬فيها‭:‬

كل‭ ‬شبر‭ ‬من‭ ‬التراب‭ ‬العماني‭ ‬

هو‭ ‬قلبي‭ ‬ومهجتي‭ ‬وكياني

سلام‭ ‬على‭ ‬‮«‬العربي‮»‬‭ ‬وتهنئة‭ ‬نزجيها‭ ‬إليها‭ ‬وهي‭ ‬تودع‭ ‬ستين‭ ‬عاماً‭ ‬من‭ ‬عمرها،‭ ‬والجةً‭ ‬عاماً‭ ‬جديداً‭ ‬من‭ ‬عمرها‭ ‬المديد‭ ‬بعزم‭ ‬مكين‭ ‬وهمة‭ ‬صادقة‭ ‬وإرادة‭ ‬راسخة‭ ‬وخطوات‭ ‬وثابة‭ ‬نحو‭ ‬الغد‭ ‬المنتظر‭ ‬والمستقبل‭ ‬المبهج‭ ‬والأمل‭ ‬الباسم،‭ ‬واثقة‭ ‬قوية‭ ‬تعيش‭ ‬ناشئة‭ ‬العرب‭ ‬القادمة‭ ‬في‭ ‬ظلها‭ ‬الوارف،‭ ‬ناهلة‭ ‬من‭ ‬معينها‭ ‬العذب‭ ‬كما‭ ‬فعلت‭ ‬أسلافها‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬نصف‭ ‬قرن‭ ‬مضى‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬إخفاقات‭ ‬وطموحات،‭ ‬ليكون‭ ‬غدها‭ ‬الآتي‭ ‬أكثر‭ ‬بهاءً‭ ‬وجمالاً‭ ‬في‭ ‬عمرها‭ ‬الممتد،‭ ‬منتقلاً‭ ‬بأمة‭ ‬العرب‭ ‬نحو‭ ‬الآفاق‭ ‬العليا‭ ‬والمكانة‭ ‬الأسمى‭ ‬بين‭ ‬أمم‭ ‬العالمين،‭ ‬متصدرة‭ ‬الحضارة‭ ‬الكونية‭ ‬لإنجاز‭ ‬التقدم‭ ‬والسلام‭ ‬وفعل‭ ‬الخير‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬ميراثها‭ ‬الخالد‭ ‬الذي‭ ‬أرساه‭ ‬الأوائل‭ ‬من‭ ‬أجدادها‭ ‬عبر‭ ‬الأزمنة‭ ‬والدهور‭   ■