«القدس عام 1845».. ليون غينفراس (أول رحّالة كاثوليكي كندي إلى المشرق)

«القدس عام 1845».. ليون غينفراس (أول رحّالة كاثوليكي كندي إلى المشرق)

سمعت‭ ‬عن‭ ‬خطة‭ ‬هجرات‭ ‬كثيفة‭ ‬من‭ ‬أوربا‭ ‬نحو‭ ‬يهودا‭ (‬منطقة‭ ‬جبلية‭ ‬جنوب‭ ‬فلسطين‭ ‬تشمل‭ ‬القدس‭ ‬والخليل‭ ‬وبئر‭  ‬السبع‭)‬،‭ ‬هو‭ ‬غزو‭ ‬جديد‭ ‬بلا‭ ‬سلاح‭ ‬قاتل،‭ ‬أداته‭ ‬المال،‭ ‬وهذا‭ ‬أجمل‭ ‬غزو‭ ‬سمعت‭ ‬به،‭ ‬ولن‭ ‬يقدم‭ ‬لنا‭ ‬الدهر‭ ‬أفضل‭ ‬منه‭ ‬أبداً‭.‬

تحزّ‭ ‬في‭ ‬نفسي‭ ‬البلادة‭ ‬الكاثوليكية،‭ ‬إنهم‭ ‬يتركون‭ ‬الأرض‭ ‬تلك‭ ‬لليهود،‭ ‬لماذا؟‭ ‬لماذا‭ ‬ليسوا‭ ‬غيارى‭ ‬هم‭ ‬أيضاً؟‭ ‬لماذا‭ ‬يتركون‭ ‬أبناء‭ ‬إسرائيل‭ ‬يسبقونهم،‭ ‬سيلحقهم‭ ‬العار‭ ‬إلى‭ ‬الأبد‭.‬

وأبناء‭ ‬يعقوب‭ ‬في‭ ‬يهودا‭ ‬يأكلون‭ ‬خبزهم‭ ‬بألم‭ ‬ويشربون‭ ‬ماءهم‭ ‬بخوف‭ ‬منتظرين‭ ‬أن‭ ‬يحصلوا‭ ‬على‭ ‬مساحة‭ ‬صغيرة‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الأرض‭ ‬–‭ ‬عاجلاً‭ ‬أو‭ ‬آجلاً‭ ‬–‭ ‬كي‭ ‬يضمّوا‭ ‬رفاتهم‭ ‬إلى‭ ‬من‭ ‬سبقوهم‭ ‬من‭ ‬أجدادهم‭ ‬الراقدين‭ ‬فيها‭ ‬منتظرين‭ ‬يوم‭ ‬الدينونة‭.‬

شوارع‭ ‬القدس‭ ‬لا‭ ‬ينقصها‭ ‬التنظيم،‭ ‬فأكثرها‭ ‬مستقيم،‭ ‬ولبعضها‭ ‬أرصفة،‭ ‬أمّا‭ ‬البيوت‭ ‬فقد‭ ‬وصل‭ ‬عددها‭ ‬إلى‭ ‬ألف‭ ‬وخمسمئة‭ ‬بيت‭ ‬تقريباً،‭ ‬أكثرها‭ ‬من‭ ‬طابقين‭ ‬أو‭ ‬ثلاثة،‭ ‬نوافذها‭ ‬قليلة،‭ ‬سُـيّجت‭ ‬بالشعريّات‭ ‬بدافع‭ ‬الغيرة‭ ‬الإسلامية،‭ ‬فبدت‭ ‬الأبنية‭ ‬شبيهة‭ ‬بالحصون‭.‬

 

سجن‭ ‬واسع

والبيوت‭ ‬عموماً‭ ‬مبنيّة‭ ‬بالحجارة‭ ‬بلا‭ ‬زخارف‭ ‬ولا‭ ‬تزيين،‭ ‬أبوابها‭ ‬ضيّقة‭ ‬ومنخفضة‭ ‬تُلزم‭ ‬الداخل‭ ‬بأن‭ ‬يحني‭ ‬جسمه‭ ‬حتى‭ ‬منتصفه‭ ‬للمرور‭ ‬منها،‭ ‬فإذا‭ ‬سرنا‭ ‬في‭ ‬شوارعها‭ ‬خيّل‭ ‬إلينا‭ ‬أننا‭ ‬نجتاز‭ ‬أروقة‭ ‬طويلة‭ ‬في‭ ‬سجن‭ ‬واسع‭.‬

وبعــــــض‭ ‬شوارع‭ ‬القدس‭ ‬مظـــلّل‭ ‬بقبب‭ ‬للحماية‭ ‬من‭ ‬شمس‭ ‬الصـــيف‭ ‬الحارقة،‭ ‬وهذه‭ ‬الشوارع‭ ‬ليست‭ ‬من‭ ‬الذوق‭ ‬بشيء،‭ ‬إذ‭ ‬تكاد‭ ‬تشبه‭ ‬الأنفاق،‭ ‬والضجة‭ ‬السائدة‭ ‬فيها‭ ‬مزعجة،‭ ‬تدفع‭ ‬من‭ ‬قلّة‭ ‬النظافة‭ ‬العامة‭ ‬إلى‭ ‬الإسراع‭ ‬بالخروج‭ ‬منها‭.‬

أمّا‭ ‬الحدائق‭ ‬التي‭ ‬تلف‭ ‬البيوت‭ ‬فلا‭ ‬نجد‭ ‬فيها‭ ‬مساحة‭ ‬غير‭ ‬مستــــعملة،‭ ‬وعـــبثاً‭ ‬نفتش‭ ‬في‭ ‬المدينة‭ ‬عن‭ ‬مكان‭ ‬للاستعمال‭ ‬العام،‭ ‬فالشوارع‭ ‬هي‭ ‬أسواق‭ ‬للجميع،‭ ‬لذلك‭ ‬برغم‭ ‬ضـــــيق‭ ‬مــساحة‭ ‬المدينة‭ ‬فهي‭ ‬تنغلق‭ ‬على‭ ‬كثافة‭ ‬سكانية‭ ‬تقارب‭ ‬الثلاثين‭ ‬ألفاً،‭ (‬ورد‭ ‬في‭ ‬دفتر‭ ‬النفوس‭ ‬لتعداد‭ ‬عام‭ ‬1849م‭ ‬لرعايا‭ ‬الباب‭ ‬الــعالي‭ ‬أن‭ ‬عدد‭ ‬سكان‭ ‬مدينة‭ ‬القدس‭ ‬وصل‭ ‬ذلك‭ ‬العام‭ ‬إلى‭ ‬11682‭ ‬نسمة‭. ‬أمّا‭ ‬بن‭ ‬آريه‭ ‬فقد‭ ‬أورد‭ ‬في‭ ‬كـــتـــابه‭ ‬تقديرات‭ ‬سكان‭ ‬القدس‭ ‬عام‭ ‬1850م‭ ‬بـ15‭.‬000‭ ‬نسمة‭).‬

‭ ‬والمدينة‭ ‬محصنة‭ ‬جداً،‭ ‬لارتفاع‭ ‬أسوارها‭ ‬وسماكتها،‭ (‬‮«‬‭... ‬أمّا‭ ‬السور‭ ‬الحالي‭ ‬فقد‭ ‬جدّده‭ ‬السلطان‭ ‬العثماني‭ ‬سليمان‭ ‬القانوني‭ ‬واستغرق‭ ‬ذلك‭ ‬خمسة‭ ‬أعوام‭ (‬1536‭ ‬–‭ ‬1540‭) ‬وله‭ ‬34‭ ‬برجاً‭ ‬طوله‭ ‬من‭ ‬الشمال‭ ‬3930‭ ‬قدماً،‭ ‬ومن‭ ‬الشرق‭ ‬2755‭ ‬قدماً،‭ ‬ومن‭ ‬الغرب‭ ‬2086‭ ‬قدماً،‭ ‬ومن‭ ‬الجنوب‭ ‬3245‭ ‬قدماً،‭ ‬وارتفاعه‭ ‬40‭ ‬قدماً،‭ ‬وينغمس‭ ‬أساسه‭ ‬نحو‭ ‬35‭ ‬قدماً‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬الأساس،‭ ‬وحجارته‭ ‬ضخمة‭ ‬وأبوابه‭ ‬مشيّد‭ ‬عليها‭ ‬أبراج‭ ‬عالية‭ ‬لحمايتها‮»‬‭. ‬‮«‬القدس‭ ‬عبر‭ ‬التاريخ،‭ ‬ميخائيل‭ ‬مكسي‭ ‬اسكندر‮»‬‭). ‬

تستطيع‭ ‬الصمود‭ ‬طويلاً‭ ‬أمام‭ ‬الغزوات،‭ ‬برغم‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬لم‭ ‬يمنعها‭ ‬أن‭ ‬تسقط‭ ‬غالباً،‭ ‬بشهادة‭ ‬القرون‭ ‬التسعة‭ ‬عشر‭ ‬السابقة‭.‬

 

تحرك‭ ‬مثمر

وبعد‭ ‬دخول‭ ‬الجيوش‭ ‬المصرية‭ ‬أخيراً‭ ‬إلى‭ ‬المدينة،‭ ‬تحوّلت‭ ‬البلاد‭ ‬كلها‭ ‬إلى‭ ‬عصر‭ ‬آخر،‭ ‬فتوقّف‭ ‬البدو‭ ‬عن‭ ‬قطع‭ ‬الطرقات،‭ ‬وعمّ‭ ‬الأمن،‭ ‬والهدوء،‭ ‬حتى‭ ‬إن‭ ‬المرور‭ ‬في‭ ‬شوارعها‭ ‬بلا‭ ‬رفقة،‭ ‬أو‭ ‬بلا‭ ‬سلاح،‭ ‬صار‭ ‬أمراً‭ ‬مأموناً‭.‬

إلاّ‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭ ‬لم‭ ‬تدم‭ ‬طويلاً،‭ ‬فما‭ ‬إن‭ ‬انتقلت‭ ‬السلطة‭ ‬إلى‭ ‬ابن‭ ‬محمد‭ ‬علي‭ ‬المطرود‭ ‬من‭ ‬سورية‭ ‬حتى‭ ‬ولت‭ ‬الطمأنينة،‭ ‬وعادت‭ ‬الفوضى‭ ‬نتيجة‭ ‬فقدان‭ ‬الأمن،‭ ‬وبات‭ ‬السائح‭ ‬أمام‭ ‬تحدّيات‭ ‬كبرى‭ ‬إذا‭ ‬رغب‭ ‬بالسفر‭ ‬وحده‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬البلاد،‭ ‬لكنّ‭ ‬السفارة‭ ‬الفرنسية‭ ‬الجديدة‭ ‬في‭ ‬القدس‭ (‬أول‭ ‬قنصلية‭ ‬فرنسية‭ ‬في‭ ‬القدس‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬عام‭ ‬1843،‭ ‬سبقتها‭ ‬القنصلية‭ ‬البريطانية‭ ‬عام‭ ‬1838،‭ ‬والبروسية‭ ‬عام‭ ‬1842‭) ‬جاءت‭ ‬لتطفئ‭ ‬كل‭ ‬المخاوف‭ ‬حول‭ ‬هذا‭ ‬الموضوع،‭ ‬إذ‭ ‬استطاعت‭ ‬بتحركها‭ ‬المثمر‭ ‬أن‭ ‬تؤمن‭ ‬سهراً‭ ‬صارماً‭ ‬على‭ ‬مختلف‭ ‬أماكن‭ ‬الحج،‭ ‬وهذا‭ ‬العطف‭ ‬الإنساني‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يمرّ‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬نحييه‭ ‬بحب‭ ‬وعرفان‭ ‬بالجميل،‭ ‬فنحن‭ ‬نتشرّف‭ ‬بودّ‭ ‬الكاثوليك‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المدينة،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬كله،‭ ‬إذ‭ ‬إنه‭ ‬منذ‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم،‭ ‬صارت‭ ‬القدس‭ ‬أوربية،‭ ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬لممارسة‭ ‬الدين‭ ‬عوائق‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬السلطة‭.‬

فمع‭ ‬وصول‭ ‬القنصل‭ ‬الفرنسي،‭ ‬تغيّر‭ ‬وجه‭ ‬المدينة،‭ ‬وصار‭ ‬المسيحيون‭ ‬اليوم‭ ‬مرتاحين،‭ ‬يرتادون‭ ‬الشوارع‭ ‬والبازارات،‭ ‬مختلطين‭ ‬بكل‭ ‬الناس‭ ‬دون‭ ‬خوف‭ ‬أو‭ ‬رهبة‭ ‬من‭ ‬تزمّت‭.‬

‭ ‬فمن‭ ‬وصل‭ ‬من‭ ‬إسطنبول‭ ‬يؤكد‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬يعيق‭ ‬حرية‭ ‬المسيحيين‭ ‬ينال‭ ‬عقاباً‭ ‬صارماً،‭ ‬وها‭ ‬هم‭ ‬كثيرون‭ ‬من‭ ‬المسيحيين‭ ‬افتتحوا‭ ‬فنادق‭ ‬مريحة‭ ‬تذكرنا‭ ‬بفنادق‭ ‬أوربا‭.‬

وسكان‭ ‬القدس‭ ‬خليط‭ ‬غير‭ ‬متجانس‭ ‬من‭ ‬يهود‭ ‬وأتراك‭ ‬وعرب‭ ‬ويونان‭ ‬وقبط‭ ‬وكاثوليك‭ ‬وأرمن‭ ‬وإثيوبيين،‭ ‬جاءوا‭ ‬من‭ ‬مختلف‭ ‬المناطق‭. (‬أمّا‭ ‬حول‭ ‬الأصول‭ ‬السكانية‭ ‬للقدس،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬العنصر‭ ‬المحلي‭ (‬عربي‭ ‬الجذور‭) ‬هو‭ ‬السائد‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬139‭ ‬و1850م‭. ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬الوجود‭ ‬اليوناني‭ ‬والروماني‭ ‬والفرنجي‭ ‬يتقلص‭ ‬بعد‭ ‬زوال‭ ‬الفترة‭ ‬التي‭ ‬حكموا‭ ‬فيها‭. ‬

وفيما‭ ‬يتعلق‭ ‬باليهود‭ ‬فقد‭ ‬ظلوا‭ ‬أقلية‭ ‬في‭ ‬القدس‭ ‬بعد‭ ‬منعهم‭ ‬من‭ ‬الإقامة‭ ‬فيها‭ ‬حتى‭ ‬الخروج‭ ‬من‭ ‬الأندلس،‭ ‬حين‭ ‬سمح‭ ‬لهم‭ ‬المماليك‭ ‬ثم‭ ‬العثمانيون‭ ‬بالإقامة‭ ‬فيها‭. ‬

ففي‭ ‬عام‭ ‬1171م‭ ‬أحصي‭ ‬في‭ ‬القدس‭ ‬3‭ ‬عائلات‭ ‬يهــــودية‭ ‬وفي‭ ‬عام‭ ‬1267‭ ‬عائلتان‭ ‬فقط،‭ ‬أمّا‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1572‭ ‬فقد‭ ‬ارتفع‭ ‬العدد‭ ‬إلى‭ ‬115‭ ‬عائلة‭ (‬575‭ ‬فرداً‭) ‬وفي‭ ‬تعداد‭ ‬1849‭ ‬وصلوا‭ ‬إلى‭ ‬1790‭ ‬فرداً‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬يعادل‭ ‬15.3‭ ‬في‭ ‬المئة‭ ‬من‭ ‬مجموع‭ ‬سكان‭ ‬القدس‭. ‬

والأوربـــــيون‭ ‬يعدّون‭ ‬حوالي‭ ‬ثلاثمئة‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬الإرساليات‭ ‬التي‭ ‬تحاول‭ ‬منذ‭ ‬زمن‭ ‬تقديم‭ ‬الخدمات‭ ‬في‭ ‬المدينة‭.‬

والقدس‭ ‬لا‭ ‬تأمل‭ ‬بالتجارة‭ ‬ولا‭ ‬بالصناعة،‭ ‬بسبب‭ ‬عزلتها‭ ‬وإحاطتها‭ ‬بالجبال‭ ‬والصخور‭ ‬لمسافات‭ ‬طويلة،‭ ‬فهــــــل‭ ‬قدَرُ‭ ‬هذه‭ ‬المدينـــة‭ ‬أن‭ ‬تعيش‭ ‬من‭ ‬صدقات‭ ‬الحجاج‭ ‬الذين‭ ‬قد‭ ‬يعطون،‭ ‬أحيانا،‭ ‬بسخاء‭ ‬وفرح؟‭! ‬فهنا‭ ‬تعيش‭ ‬كل‭ ‬ملّة‭ ‬مسيحية‭ ‬في‭ ‬منطقتها‭ ‬ووفق‭ ‬معتقدها،‭ ‬وهكذا‭ ‬نرجو‭ ‬أن‭ ‬تقوى‭ ‬النصرانية‭ ‬بتعاضد‭ ‬كل‭ ‬أبناء‭ ‬هذه‭ ‬الملل‭.‬

اليهود‭ ‬يسكنون‭ ‬في‭ ‬الحيّ‭ ‬الأقل‭ ‬نظافة‭ ‬في‭ ‬المدينة،‭ ‬وهو‭ ‬الأقرب‭ ‬إلى‭ ‬باب‭ ‬المغاربة،‭ (‬زار‭ ‬مصطفى‭ ‬أسعد‭ ‬اللقيمي‭ ‬الدمياطي‭ ‬القدس‭ ‬عام‭ ‬1831،‭ ‬ووصف‭ ‬بواباتها‭ ‬في‭ ‬رحلته‭ ‬المخطوطة‭ ‬المسمّاة‭: ‬‮«‬موانح‭ ‬الأنس‭ ‬برحلتي‭ ‬لوادي‭ ‬القدس‮»‬‭ ‬فقال‭: ‬‮«‬وللمدينة‭ ‬سور‭ ‬محكم‭ ‬البنيان،‭ ‬بديع‭ ‬الشكل‭ ‬في‭ ‬الصناعة‭ ‬والإتقان‭ ‬له‭ ‬ستة‭ ‬أبواب‭ ‬منيعة‭ ‬غريبة‭ ‬في‭ ‬الوضع‭ ‬بديعة‭ ‬هي‭: ‬باب‭ ‬الأسباط،‭ ‬باب‭ ‬السامرة،‭ ‬باب‭ ‬العمود،‭ ‬باب‭ ‬الخليل،‭ ‬باب‭ ‬النبي‭ ‬داود،‭ ‬باب‭ ‬المغاربة‮»‬‭. ‬‮«‬بوابات‭ ‬القدس‭ ‬محمد‭ ‬هاشم‭ ‬موسى‭ ‬غوشه‮»‬‭). ‬

لكنهم‭ ‬أغنياء‭ ‬في‭ ‬معظمهم،‭ ‬يلبسون‭ ‬بأناقة‭ ‬تفوق‭ ‬أناقة‭ ‬غيرهم‭ ‬من‭ ‬السكان،‭ ‬والتربية‭ ‬التي‭ ‬يتلقونها‭ ‬ليست‭ ‬رديئة،‭ ‬إذ‭ ‬لا‭ ‬تنقصهم‭ ‬المعارف،‭ ‬ويتكلم‭ ‬معظمهم‭ ‬الإسبانية‭ ‬والإيطالية،‭ ‬وهم‭ ‬يقدّرون‭ ‬العمل،‭ ‬ووقتهم‭ ‬كلّه‭ ‬مكرّس‭ ‬للصناعات‭ ‬الصغيرة‭ ‬المفيدة،‭ ‬لذلك‭ ‬لا‭ ‬تجد‭ ‬يهودياً‭ ‬متسولاً‭ ‬يطلب‭ ‬الصدقة‭. ‬ويهود‭ ‬القدس‭ ‬موجودون‭ ‬فيها‭ ‬منذ‭ ‬مئة‭ ‬سنة،‭ ‬وربما‭ ‬منذ‭ ‬مئة‭ ‬وعشرين‭ ‬سنة‭ ‬فقط‭.‬

 

كراهية‭ ‬عميقة

وما‭ ‬يبديه‭ ‬اليونان‭ ‬من‭ ‬عدوانــــــية‭ ‬للاتين‭ ‬ينمّ‭ ‬عن‭ ‬كراهية‭ ‬عميقة،‭ ‬وهي‭ ‬كراهية‭ ‬غير‭ ‬مفهومة‭ ‬ولا‭ ‬مُبرّرة،‭ ‬إلا‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬آباء‭ ‬كنيستهم‭ ‬يلعبون‭ ‬دوراً‭ ‬مهماً‭ ‬في‭ ‬التأثير‭ ‬عليهم،‭ ‬إذ‭ ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬يُـنكر‭ ‬الذهب‭ ‬الذي‭ ‬يُغدقه‭ ‬السلطان‭ ‬مسايرة‭ ‬لهم‭ ‬لقاء‭ ‬تعدّيهم‭ ‬على‭ ‬الحجاج‭ ‬الكاثوليك‭.‬

ولا‭ ‬أستطيع‭ ‬أن‭ ‬أتابع‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬أشير‭ ‬إلى‭ ‬مكانة‭ ‬المدينة‭ ‬عالمياً،‭ ‬وهنا‭ ‬أراني‭ ‬أتذكّر‭ ‬قول‭ ‬موسى‭ ‬لشعبه،‭ ‬بأن‭ ‬الله‭ ‬سيدخلهم‭ ‬في‭ ‬أرض‭ ‬طيبة‭ ‬ملأى‭ ‬بالأنهار‭ ‬والينابيع،‭ ‬هذا‭ ‬الوعد‭ ‬الذي‭ ‬يعتبره‭ ‬الكفار‭ ‬الحاليون‭ ‬دجلاً،‭ ‬لأن‭ ‬يهودا‭ ‬تبدو‭ ‬صخرية‭ ‬جبلية‭ ‬غير‭ ‬خصبة،‭ ‬وعبثاً‭ ‬تفتش‭ ‬فيها‭ ‬عن‭ ‬أنهار‭ ‬الحليب‭ ‬والعسل‭ ‬كما‭ ‬وعد‭ ‬موسى‭ ‬أبناء‭ ‬إسرائيل؛‭ ‬هو‭ ‬اتهام‭ ‬خطير‭ ‬هذا،‭ ‬فالشواهد‭ ‬على‭ ‬خصب‭ ‬هذه‭ ‬البلاد‭ ‬وغناها‭ ‬عديدة،‭ ‬سطّرها‭ ‬زوار‭ ‬ومؤرخون‭ ‬منذ‭ ‬عهود‭ ‬قديمة،‭ ‬ففي‭ ‬فلسطين‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الأشجار‭ ‬المثمرة،‭ ‬والخصبُ‭ ‬مدهش‭: ‬هي‭ ‬أرض‭ ‬غنية،‭ ‬ويكفي‭ ‬أن‭ ‬نشير‭ ‬إلى‭ ‬احتفال‭ ‬الفصح‭ ‬الأخير،‭ ‬حيث‭ ‬قُـدّم‭ ‬مئتان‭ ‬وست‭ ‬وخمسون‭ ‬ألف‭ ‬حَمَل‭ ‬قرباناً،‭ ‬عدا‭ ‬ذبائح‭ ‬كلّ‭ ‬سنة،‭ ‬دون‭ ‬ذكر‭ ‬التضحيات‭ ‬الفردية‭... ‬نعم،‭ ‬الحليب‭ ‬والعسل‭ ‬متوافران‭ ‬بكثرة،‭ ‬والسكان‭ ‬يأكلون‭ ‬منهما‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬الوجبات‭.‬

 

هجرات‭ ‬كثيفة

لكن‭ ‬فلسطين‭ ‬اليوم‭ ‬يلفها‭ ‬البؤس،‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬إعادة‭ ‬هذا‭ ‬الخصب‭ ‬إلى‭ ‬أرضها،‭ ‬وتحتاج‭ ‬إلى‭ ‬حرية‭ ‬شعبها‭ ‬ولسلطة‭ ‬تحميهم،‭ ‬فبعد‭ ‬احتلال‭ ‬الأتراك‭ ‬صارت‭ ‬مسرحاً‭ ‬للفاقة،‭ ‬فأهملت‭ ‬الأرض‭ ‬وسحق‭ ‬الشعب‭ ‬وذهب‭ ‬الخصب،‭ ‬ونحن‭ ‬اليوم‭ ‬أقوياء،‭ ‬أما‭ ‬آن‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬نطالب‭ ‬بالأرض‭ ‬الموعودة،‭ ‬أرض‭ ‬المسيح‭ ‬وقبره؟‭ ‬

والمسيحيون‭ ‬إذا‭ ‬استطاعوا‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬يهودا‭ ‬فسيتدفق‭ ‬الحجاج‭ ‬من‭ ‬كلّ‭ ‬صوب‭ ‬ليذرفوا‭ ‬الدموع‭ ‬على‭ ‬قبر‭ ‬السيد،‭ ‬وليقطفوا‭ ‬زهرة‭ ‬من‭ ‬على‭ ‬قبر‭ ‬أمه‭ ‬المقدسة‭. ‬

القدس‭ ‬اليوم،‭ ‬كما‭ ‬كلّ‭ ‬يوم،‭ ‬تلمع‭ ‬فخراً،‭ ‬ولن‭ ‬يطفئ‭ ‬ذلك‭ ‬شيء‭ ‬أبداً،‭ ‬فهلموا‭ ‬إلى‭ ‬حمايتها‭ ‬من‭ ‬أيدي‭ ‬الأعداء‭ ‬ولنستعدْ‭ ‬الإمبراطورية‭.‬

حين‭ ‬كتبتُ‭ ‬هذه‭ ‬الأسطر‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أعلم‭ ‬أن‭ ‬خطتي‭ ‬لاحتلال‭ ‬الأرض‭ ‬المقدسة‭ ‬ستشهد‭ ‬النور،‭ ‬وما‭ ‬يؤكد‭ ‬زوال‭ ‬وهمي‭ ‬هذا،‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬سمعته‭ ‬عن‭ ‬خطة‭ ‬هجرات‭ ‬كثيفة‭ ‬من‭ ‬أوربا‭ ‬نحو‭ ‬يهودا،‭ ‬هو‭ ‬غزو‭ ‬جديد‭ ‬بلا‭ ‬سلاح‭ ‬قاتل،‭ ‬أداته‭ ‬المال،‭ ‬فالأراضي‭ ‬هنا‭ ‬ستشترى‭ ‬من‭ ‬أصحابها‭ ‬الحاليين،‭ ‬وهذا‭ ‬أجمل‭ ‬غزو‭ ‬سمعت‭ ‬به،‭ ‬ولن‭ ‬يقدّم‭ ‬لنا‭ ‬الدهر‭ ‬أفضل‭ ‬منه‭ ‬أبداً‭. ‬

لكن‭ ‬شيئاً‭ ‬واحداً‭ ‬يحزّ‭ ‬في‭ ‬نفسي،‭ ‬وهو‭ ‬تلك‭ ‬البلادة‭ ‬الكاثوليكية،‭ ‬فالكاثوليك‭ ‬ليسوا‭ ‬سلبيين‭ ‬ولا‭ ‬إيجابيين،‭ ‬إنهم‭ ‬يتركون‭ ‬تلك‭ ‬الأرض‭ ‬لليهود،‭ ‬لماذا،‭ ‬لماذا‭ ‬ليسوا‭ ‬غيارى‭ ‬هم‭ ‬أيضاً؟‭ ‬المؤمنون‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يفكروا‭ ‬باستيطان‭ ‬يهودا،‭ ‬لماذا‭ ‬يتركون‭ ‬أبناء‭ ‬إسرائيل‭ ‬يسبقونهم؟‭ ‬لقد‭ ‬ارتكبوا‭ ‬خطأ‭ ‬فادحاً،‭ ‬وسيلحقهم‭ ‬العار‭ ‬إلى‭ ‬الأبد‭. ‬مذنبون‭ ‬هم‭ ‬في‭ ‬تركهم‭ ‬للملحدين‭ ‬أرض‭ ‬مخلّصهم،‭ ‬فالقوة‭ ‬اليوم‭ ‬ملكهم‭... ‬وهو‭ ‬واجب‭ ‬تجاه‭ ‬المسيح،‭ ‬فأين‭ ‬الإقدام‭ ‬والكرم؟■