«القدس عام 1845».. ليون غينفراس (أول رحّالة كاثوليكي كندي إلى المشرق)
سمعت عن خطة هجرات كثيفة من أوربا نحو يهودا (منطقة جبلية جنوب فلسطين تشمل القدس والخليل وبئر السبع)، هو غزو جديد بلا سلاح قاتل، أداته المال، وهذا أجمل غزو سمعت به، ولن يقدم لنا الدهر أفضل منه أبداً.
تحزّ في نفسي البلادة الكاثوليكية، إنهم يتركون الأرض تلك لليهود، لماذا؟ لماذا ليسوا غيارى هم أيضاً؟ لماذا يتركون أبناء إسرائيل يسبقونهم، سيلحقهم العار إلى الأبد.
وأبناء يعقوب في يهودا يأكلون خبزهم بألم ويشربون ماءهم بخوف منتظرين أن يحصلوا على مساحة صغيرة في هذه الأرض – عاجلاً أو آجلاً – كي يضمّوا رفاتهم إلى من سبقوهم من أجدادهم الراقدين فيها منتظرين يوم الدينونة.
شوارع القدس لا ينقصها التنظيم، فأكثرها مستقيم، ولبعضها أرصفة، أمّا البيوت فقد وصل عددها إلى ألف وخمسمئة بيت تقريباً، أكثرها من طابقين أو ثلاثة، نوافذها قليلة، سُـيّجت بالشعريّات بدافع الغيرة الإسلامية، فبدت الأبنية شبيهة بالحصون.
سجن واسع
والبيوت عموماً مبنيّة بالحجارة بلا زخارف ولا تزيين، أبوابها ضيّقة ومنخفضة تُلزم الداخل بأن يحني جسمه حتى منتصفه للمرور منها، فإذا سرنا في شوارعها خيّل إلينا أننا نجتاز أروقة طويلة في سجن واسع.
وبعــــــض شوارع القدس مظـــلّل بقبب للحماية من شمس الصـــيف الحارقة، وهذه الشوارع ليست من الذوق بشيء، إذ تكاد تشبه الأنفاق، والضجة السائدة فيها مزعجة، تدفع من قلّة النظافة العامة إلى الإسراع بالخروج منها.
أمّا الحدائق التي تلف البيوت فلا نجد فيها مساحة غير مستــــعملة، وعـــبثاً نفتش في المدينة عن مكان للاستعمال العام، فالشوارع هي أسواق للجميع، لذلك برغم ضـــــيق مــساحة المدينة فهي تنغلق على كثافة سكانية تقارب الثلاثين ألفاً، (ورد في دفتر النفوس لتعداد عام 1849م لرعايا الباب الــعالي أن عدد سكان مدينة القدس وصل ذلك العام إلى 11682 نسمة. أمّا بن آريه فقد أورد في كـــتـــابه تقديرات سكان القدس عام 1850م بـ15.000 نسمة).
والمدينة محصنة جداً، لارتفاع أسوارها وسماكتها، («... أمّا السور الحالي فقد جدّده السلطان العثماني سليمان القانوني واستغرق ذلك خمسة أعوام (1536 – 1540) وله 34 برجاً طوله من الشمال 3930 قدماً، ومن الشرق 2755 قدماً، ومن الغرب 2086 قدماً، ومن الجنوب 3245 قدماً، وارتفاعه 40 قدماً، وينغمس أساسه نحو 35 قدماً أخرى في الأساس، وحجارته ضخمة وأبوابه مشيّد عليها أبراج عالية لحمايتها». «القدس عبر التاريخ، ميخائيل مكسي اسكندر»).
تستطيع الصمود طويلاً أمام الغزوات، برغم أن هذا لم يمنعها أن تسقط غالباً، بشهادة القرون التسعة عشر السابقة.
تحرك مثمر
وبعد دخول الجيوش المصرية أخيراً إلى المدينة، تحوّلت البلاد كلها إلى عصر آخر، فتوقّف البدو عن قطع الطرقات، وعمّ الأمن، والهدوء، حتى إن المرور في شوارعها بلا رفقة، أو بلا سلاح، صار أمراً مأموناً.
إلاّ أن هذه الحالة لم تدم طويلاً، فما إن انتقلت السلطة إلى ابن محمد علي المطرود من سورية حتى ولت الطمأنينة، وعادت الفوضى نتيجة فقدان الأمن، وبات السائح أمام تحدّيات كبرى إذا رغب بالسفر وحده في هذه البلاد، لكنّ السفارة الفرنسية الجديدة في القدس (أول قنصلية فرنسية في القدس تعود إلى عام 1843، سبقتها القنصلية البريطانية عام 1838، والبروسية عام 1842) جاءت لتطفئ كل المخاوف حول هذا الموضوع، إذ استطاعت بتحركها المثمر أن تؤمن سهراً صارماً على مختلف أماكن الحج، وهذا العطف الإنساني لا يمكن أن يمرّ دون أن نحييه بحب وعرفان بالجميل، فنحن نتشرّف بودّ الكاثوليك في هذه المدينة، بل في العالم كله، إذ إنه منذ ذلك اليوم، صارت القدس أوربية، ولم يعد لممارسة الدين عوائق من جهة السلطة.
فمع وصول القنصل الفرنسي، تغيّر وجه المدينة، وصار المسيحيون اليوم مرتاحين، يرتادون الشوارع والبازارات، مختلطين بكل الناس دون خوف أو رهبة من تزمّت.
فمن وصل من إسطنبول يؤكد أن من يعيق حرية المسيحيين ينال عقاباً صارماً، وها هم كثيرون من المسيحيين افتتحوا فنادق مريحة تذكرنا بفنادق أوربا.
وسكان القدس خليط غير متجانس من يهود وأتراك وعرب ويونان وقبط وكاثوليك وأرمن وإثيوبيين، جاءوا من مختلف المناطق. (أمّا حول الأصول السكانية للقدس، فقد كان العنصر المحلي (عربي الجذور) هو السائد ما بين 139 و1850م. حيث كان الوجود اليوناني والروماني والفرنجي يتقلص بعد زوال الفترة التي حكموا فيها.
وفيما يتعلق باليهود فقد ظلوا أقلية في القدس بعد منعهم من الإقامة فيها حتى الخروج من الأندلس، حين سمح لهم المماليك ثم العثمانيون بالإقامة فيها.
ففي عام 1171م أحصي في القدس 3 عائلات يهــــودية وفي عام 1267 عائلتان فقط، أمّا في عام 1572 فقد ارتفع العدد إلى 115 عائلة (575 فرداً) وفي تعداد 1849 وصلوا إلى 1790 فرداً أو ما يعادل 15.3 في المئة من مجموع سكان القدس.
والأوربـــــيون يعدّون حوالي ثلاثمئة من كل الإرساليات التي تحاول منذ زمن تقديم الخدمات في المدينة.
والقدس لا تأمل بالتجارة ولا بالصناعة، بسبب عزلتها وإحاطتها بالجبال والصخور لمسافات طويلة، فهــــــل قدَرُ هذه المدينـــة أن تعيش من صدقات الحجاج الذين قد يعطون، أحيانا، بسخاء وفرح؟! فهنا تعيش كل ملّة مسيحية في منطقتها ووفق معتقدها، وهكذا نرجو أن تقوى النصرانية بتعاضد كل أبناء هذه الملل.
اليهود يسكنون في الحيّ الأقل نظافة في المدينة، وهو الأقرب إلى باب المغاربة، (زار مصطفى أسعد اللقيمي الدمياطي القدس عام 1831، ووصف بواباتها في رحلته المخطوطة المسمّاة: «موانح الأنس برحلتي لوادي القدس» فقال: «وللمدينة سور محكم البنيان، بديع الشكل في الصناعة والإتقان له ستة أبواب منيعة غريبة في الوضع بديعة هي: باب الأسباط، باب السامرة، باب العمود، باب الخليل، باب النبي داود، باب المغاربة». «بوابات القدس محمد هاشم موسى غوشه»).
لكنهم أغنياء في معظمهم، يلبسون بأناقة تفوق أناقة غيرهم من السكان، والتربية التي يتلقونها ليست رديئة، إذ لا تنقصهم المعارف، ويتكلم معظمهم الإسبانية والإيطالية، وهم يقدّرون العمل، ووقتهم كلّه مكرّس للصناعات الصغيرة المفيدة، لذلك لا تجد يهودياً متسولاً يطلب الصدقة. ويهود القدس موجودون فيها منذ مئة سنة، وربما منذ مئة وعشرين سنة فقط.
كراهية عميقة
وما يبديه اليونان من عدوانــــــية للاتين ينمّ عن كراهية عميقة، وهي كراهية غير مفهومة ولا مُبرّرة، إلا إذا كان آباء كنيستهم يلعبون دوراً مهماً في التأثير عليهم، إذ لا أحد يُـنكر الذهب الذي يُغدقه السلطان مسايرة لهم لقاء تعدّيهم على الحجاج الكاثوليك.
ولا أستطيع أن أتابع دون أن أشير إلى مكانة المدينة عالمياً، وهنا أراني أتذكّر قول موسى لشعبه، بأن الله سيدخلهم في أرض طيبة ملأى بالأنهار والينابيع، هذا الوعد الذي يعتبره الكفار الحاليون دجلاً، لأن يهودا تبدو صخرية جبلية غير خصبة، وعبثاً تفتش فيها عن أنهار الحليب والعسل كما وعد موسى أبناء إسرائيل؛ هو اتهام خطير هذا، فالشواهد على خصب هذه البلاد وغناها عديدة، سطّرها زوار ومؤرخون منذ عهود قديمة، ففي فلسطين عدد كبير من الأشجار المثمرة، والخصبُ مدهش: هي أرض غنية، ويكفي أن نشير إلى احتفال الفصح الأخير، حيث قُـدّم مئتان وست وخمسون ألف حَمَل قرباناً، عدا ذبائح كلّ سنة، دون ذكر التضحيات الفردية... نعم، الحليب والعسل متوافران بكثرة، والسكان يأكلون منهما في كل الوجبات.
هجرات كثيفة
لكن فلسطين اليوم يلفها البؤس، تحتاج إلى إعادة هذا الخصب إلى أرضها، وتحتاج إلى حرية شعبها ولسلطة تحميهم، فبعد احتلال الأتراك صارت مسرحاً للفاقة، فأهملت الأرض وسحق الشعب وذهب الخصب، ونحن اليوم أقوياء، أما آن لنا أن نطالب بالأرض الموعودة، أرض المسيح وقبره؟
والمسيحيون إذا استطاعوا الحصول على يهودا فسيتدفق الحجاج من كلّ صوب ليذرفوا الدموع على قبر السيد، وليقطفوا زهرة من على قبر أمه المقدسة.
القدس اليوم، كما كلّ يوم، تلمع فخراً، ولن يطفئ ذلك شيء أبداً، فهلموا إلى حمايتها من أيدي الأعداء ولنستعدْ الإمبراطورية.
حين كتبتُ هذه الأسطر لم أكن أعلم أن خطتي لاحتلال الأرض المقدسة ستشهد النور، وما يؤكد زوال وهمي هذا، هو ما سمعته عن خطة هجرات كثيفة من أوربا نحو يهودا، هو غزو جديد بلا سلاح قاتل، أداته المال، فالأراضي هنا ستشترى من أصحابها الحاليين، وهذا أجمل غزو سمعت به، ولن يقدّم لنا الدهر أفضل منه أبداً.
لكن شيئاً واحداً يحزّ في نفسي، وهو تلك البلادة الكاثوليكية، فالكاثوليك ليسوا سلبيين ولا إيجابيين، إنهم يتركون تلك الأرض لليهود، لماذا، لماذا ليسوا غيارى هم أيضاً؟ المؤمنون يجب أن يفكروا باستيطان يهودا، لماذا يتركون أبناء إسرائيل يسبقونهم؟ لقد ارتكبوا خطأ فادحاً، وسيلحقهم العار إلى الأبد. مذنبون هم في تركهم للملحدين أرض مخلّصهم، فالقوة اليوم ملكهم... وهو واجب تجاه المسيح، فأين الإقدام والكرم؟■