أستاذي حسين نصار... وداعاً

أستاذي حسين نصار... وداعاً

شعرت‭ ‬بالألم‭ ‬عندما‭ ‬ودّعت‭ ‬أستاذي‭ ‬حسين‭ ‬نصار؛‭ ‬فقد‭ ‬شعرت‭ ‬بأنني‭ ‬أودع‭ ‬أبي‭ ‬مرة‭ ‬أخرى،‭ ‬وآخر‭ ‬أستاذ‭ ‬من‭ ‬جيل‭ ‬الأساتذة‭ ‬الأجلاء‭ ‬الذين‭ ‬تتلمذت‭ ‬عليهم‭ ‬في‭ ‬قسم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬بكلية‭ ‬الآداب‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬القاهرة‭.‬

فقد‭ ‬رحل‭ ‬الأساتذة‭ ‬الذين‭ ‬تشرفت‭ ‬بالتلمذة‭ ‬عليهم‭ ‬بعد‭ ‬طه‭ ‬حسين؛‭ ‬ابتداءً‭ ‬من‭ ‬سهير‭ ‬القلماوي،‭ ‬وشوقي‭ ‬ضيف،‭ ‬وخليل‭ ‬يحيى‭ ‬نامي،‭ ‬وعبدالعزيز‭ ‬الأهواني،‭ ‬وشكري‭ ‬عياد،‭ ‬وعبدالمحسن‭ ‬طه‭ ‬بدر،‭ ‬وغيرهم‭ ‬من‭ ‬الأساتذة‭ ‬الذين‭ ‬كان‭ ‬آخرهم‭ ‬أستاذي‭ ‬حسين‭ ‬نصار‭ ‬الذي‭ ‬ودعته‭ ‬في‭ ‬صباح‭ ‬الجمعة‭ ‬الموافق‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬ديسمبر‭ ‬2017‭. ‬

الحق‭ ‬أن‭ ‬د‭. ‬نصار‭ ‬فتح‭ ‬لي‭ ‬الأبواب‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬أطرقها‭ ‬قبله،‭ ‬من‭ ‬علم‭ ‬اللغويات‭ ‬والدرس‭ ‬المعجمي‭ ‬وتحقيق‭ ‬النصوص‭ ‬والدراسة‭ ‬الأسلوبية‭ ‬للقرآن‭ ‬الكريم‭ ‬وإعجازه،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬أستاذي‭ ‬نصار‭ ‬آخر‭ ‬الأساتذة‭ ‬الموسوعيين‭ ‬في‭ ‬قسم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية؛‭ ‬فهو‭ ‬مترجم‭ ‬ومحقق‭ ‬ودارس‭ ‬بارز‭ ‬في‭ ‬تخصصات‭ ‬متعددة،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬صاحب‭ ‬أولى‭ ‬أطروحات‭ ‬الدكتوراه‭ ‬في‭ ‬دراسة‭ ‬المعجم‭ ‬العربي‭ ‬وتطوره،‭ ‬
ولا‭ ‬تزال‭ ‬هذه‭ ‬الدراسة‭ ‬نموذجاً‭ ‬للدراسات‭ ‬المنهجية‭ ‬إلى‭ ‬اليوم،‭ ‬ورغم‭ ‬إكمال‭ ‬د‭. ‬حسين‭ ‬نصار‭ ‬للدراسات‭ ‬التي‭ ‬بدأها‭ ‬في‭ ‬أطروحة‭ ‬الدكتوراه‭ ‬بما‭ ‬أضافه‭ ‬إليها‭ ‬من‭ ‬بحوث‭ ‬عديدة‭ ‬ودراسات‭ ‬متواصلة‭ ‬وكشوف‭ ‬عن‭ ‬مجاهل‭ ‬تاريخ‭ ‬الأدب‭ ‬المصري،‭ ‬تواصلاً‭ ‬مع‭ ‬النظرية‭ ‬الإقليمية‭ ‬التي‭ ‬نقلها‭ ‬عن‭ ‬أستاذه‭ ‬أمين‭ ‬الخولي،‭ ‬فإنني‭ ‬أضيف‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬كله‭ ‬ما‭ ‬اقترن‭ ‬باسم‭ ‬حسين‭ ‬نصار‭ ‬من‭ ‬تحقيقات‭ ‬لدواوين‭ ‬شعرية،‭ ‬تشهد‭ ‬بمكانته‭ ‬العلمية‭ ‬الرفيعة‭ ‬في‭ ‬علوم‭ ‬التحقيق‭ ‬ونشر‭ ‬المخطوطات‭.‬

وحسبه‭ ‬فخراً‭ ‬أنه‭ ‬استكمل‭ ‬التحقيق‭ ‬الأول‭ ‬المتكامل‭ ‬والمدقق‭ ‬لديوان‭ ‬ابن‭ ‬الرومي‭ ‬بأجزائه‭ ‬الستة،‭ ‬باذلاً‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬جهد‭ ‬مُضنٍ‭ ‬مع‭ ‬تلامذته‭ ‬ما‭ ‬يشهد‭ ‬بعلو‭ ‬كعبه‭ ‬ومكانته‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬تحقيق‭ ‬المخطوطات‭ ‬القديمة‭.‬

وكان‭ ‬هذا‭ ‬التحقيق‭ ‬إضافته‭ ‬الكبرى‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬سبق‭ ‬أن‭ ‬نشره‭ ‬من‭ ‬دواوين‭ ‬حققها‭ ‬أو‭ ‬جمع‭ ‬نصوصها‭ ‬من‭ ‬كتب‭ ‬التراث‭ ‬القديم،‭ ‬وله‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬ديوان‭ ‬‮«‬ابن‭ ‬وكيع‭ ‬التنيسي‭... ‬شاعر‭ ‬الزهر‭ ‬والخمر‮»‬‭ (‬مكتبة‭ ‬مصر‭ ‬1953‭)‬،‭ ‬وظافر‭ ‬الحداد‭ ‬الشاعر‭ ‬المصري‭ ‬البارز‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الفاطمي‭ (‬هيئة‭ ‬الكتاب‭ ‬1975‭)‬،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬دواوين‭ ‬عبيد‭ ‬بن‭ ‬الأبرص،‭ ‬والخرنق،‭ ‬وابن‭ ‬مطروح،‭ ‬وسراقة‭ ‬البارقي،‭ ‬وجميل‭ ‬بثينة،‭ ‬وقيس‭ ‬بن‭ ‬ذريح،‭ ‬وابن‭ ‬الصوفي‭.‬

 

مكانة‭ ‬علمية‭ ‬رفيعة

أضف‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬تحقيق‭ ‬معجم‭ ‬تيمور‭ ‬الكبير‭ ‬في‭ ‬الألفاظ‭ ‬العامية،‭ ‬ورحلة‭ ‬ابن‭ ‬جبير،‭ ‬والجزأين‭ ‬السادس‭ ‬والثالث‭ ‬عشر‭ ‬من‭ ‬معجم‭ ‬تاج‭ ‬العروس‭ ‬للزبيدي‭.‬

وما‭ ‬ذكرته‭ ‬هو‭ ‬بعض‭ ‬لا‭ ‬كل‭ ‬تحقيقاته‭ ‬التي‭ ‬تجمع‭ ‬بين‭ ‬دواوين‭ ‬الشعراء‭ ‬ومعاجم‭ ‬اللغة‭ ‬والموشحات‭ ‬وكتب‭ ‬غريب‭ ‬اللغة‭ ‬والدراسات‭ ‬اللغوية‭ ‬للقرآن‭ ‬الكريم،‭ ‬مثل‭: ‬الوقف‭ ‬على‭ ‬‮«‬كلا‮»‬‭ ‬و«بلا‮»‬‭ ‬في‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬لمكي‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬طالب‭ ‬القيسي‭.‬

وقد‭ ‬أعد‭ ‬زميلنا‭ ‬د‭. ‬حسام‭ ‬أحمد‭ ‬عبدالظاهر‭ ‬ببليوجرافيا‭ ‬وافية،‭ ‬قدم‭ ‬لها‭ ‬زميلي‭ ‬العزيز‭ ‬عبدالستار‭ ‬الحلوجي،‭ ‬وأصدرتها‭ ‬مطبعة‭ ‬دار‭ ‬الكتب‭ ‬منذ‭ ‬عامين‭. ‬وهي‭ ‬ببليوجرافيا‭ ‬غزيرة‭ ‬تؤكد‭ ‬المكانة‭ ‬العلمية‭ ‬لأستاذي،‭ ‬الذي‭ ‬حالت‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬عضوية‭ ‬مجمع‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬نوازع‭ ‬التعصب‭ ‬الذي‭ ‬يخلط‭ ‬العلم‭ ‬بالدين،‭ ‬وينحاز‭ ‬إلى‭ ‬خريجي‭ ‬‮«‬دار‭ ‬العلوم‮»‬‭ ‬من‭ ‬ذوي‭ ‬الميول‭ ‬الإخوانية‭ ‬الذين‭ ‬استبدلوا‭ ‬العصبية‭ ‬بالعلم،‭ ‬فما‭ ‬ربحت‭ ‬تجارتهم،‭ ‬وحالوا‭ ‬بين‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬الجليل‭ ‬وعضوية‭ ‬المجمع‭ ‬الذي‭ ‬دخل‭ ‬تحت‭ ‬مظلة‭ ‬الإخوان‭ ‬وحلفائهم‭. ‬وليس‭ ‬هذا‭ ‬سوى‭ ‬التفسير‭ ‬المعقول‭ ‬الوحيد‭ ‬لمنع‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬الجليل‭ ‬من‭ ‬دخول‭ ‬مجمع‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬سيشرفه‭ ‬وجود‭ ‬حسين‭ ‬نصار‭ ‬بين‭ ‬أعضائه‭.‬

وقد‭ ‬ظل‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬تاركاً‭ ‬أثراً‭ ‬من‭ ‬الحزن‭ ‬العميق‭ ‬في‭ ‬نفْس‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬الجليل‭ ‬الذي‭ ‬تعوّد‭ ‬على‭ ‬نسيان‭ ‬حزنه‭ ‬بالعمل‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يتوقف‭ ‬في‭ ‬المجالات‭ ‬القريبة‭ ‬إلى‭ ‬نفسه،‭ ‬ومنها‭ ‬الدراسات‭ ‬القرآنية‭ ‬التي‭ ‬ترك‭ ‬منها‭ ‬الكثير‭ ‬الذي‭ ‬نشره‭ ‬في‭ ‬أماكن‭ ‬عدة،‭ ‬وفي‭ ‬دراسات‭ ‬كثيرة‭ ‬في‭ ‬علوم‭ ‬القرآن،‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬إعجازه‭ ‬الذي‭ ‬نشر‭ ‬كتاباً‭ ‬خاصاً‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬مكتبة‭ ‬مصر‭ ‬سنة‭ ‬1999‭ (‬وهما‭ ‬كتابان‭ ‬في‭ ‬مجلد‭ ‬واحد‭) ‬و«الصَّرْفَة‭ ‬والإنباء‭ ‬بالغيب‮»‬،‭ ‬الذي‭ ‬صدر‭ ‬سنة‭ ‬2000،‭ ‬وبعده‭ ‬جاء‭ ‬‮«‬الإبهام‭ ‬في‭ ‬القرآن‭ ‬والإعجاز‭ ‬العددي‮»‬‭ (‬سنة‭ ‬2011‭)‬،‭ ‬وقبله‭ ‬‮«‬التكرار‮»‬‭ (‬2002‭)‬،‭ ‬و«المتشابه‮»‬‭ (‬2003‭)‬،‭ ‬وفي‭ ‬العام‭ ‬نفسه‭ ‬‮«‬فواتح‭ ‬سور‭ ‬القرآن‮»‬‭ ‬وقبله‭ ‬‮«‬الإعجاز‭ ‬العلمي‭ ‬في‭ ‬القرآن‮»‬‭ (‬الهلال‭ ‬2000‭) ‬و«القسم‮»‬‭ ‬و«الأمثال‮»‬‭ (‬2002‭)‬،‭ ‬وأخيراً‭ ‬‮«‬الناسخ‭ ‬والمنسوخ‮»‬‭ (‬2011‭).‬

ولن‭ ‬أنسى‭ ‬أنه‭ ‬عندما‭ ‬جاوز‭ ‬الثمانين‭ ‬من‭ ‬عمره‭ ‬بعام‭ ‬أو‭ ‬عامين‭ ‬دعاني‭ ‬إلى‭ ‬لقائه‭ ‬بعد‭ ‬وعكة‭ ‬ألمّت‭ ‬به‭. ‬وأدخلني‭ ‬إلى‭ ‬غرفة‭ ‬مكتبه‭ ‬وفتح‭ ‬أمامي‭ ‬عدة‭ ‬أدراج،‭ ‬ونظر‭ ‬إليّ‭ ‬في‭ ‬جدية‭ ‬قائلاً‭: ‬هذه‭ ‬دراساتي‭ ‬عن‭ ‬الإعجاز‭ ‬القرآني،‭ ‬فتذكر‭ ‬موضعها،‭ ‬لأني‭ ‬أوصيك‭ ‬بنشرها‭ ‬إذا‭ ‬اختارني‭ ‬الله‭ ‬للرحيل‭ ‬عن‭ ‬دنياكم‭. ‬فدعوت‭ ‬له‭ ‬بالعمر‭ ‬الطويل،‭ ‬وأن‭ ‬يتولى‭ ‬هو‭ ‬نشر‭ ‬هذه‭ ‬الأعمال‭. ‬وبالفعل‭ ‬مد‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬عمره،‭ ‬ونشر‭ ‬كل‭ ‬مخطوطاته‭ ‬عن‭ ‬النص‭ ‬القرآني‭. ‬وعندما‭ ‬جلست‭ ‬معه‭ ‬لآخر‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬غرفة‭ ‬مكتبه،‭ ‬كانت‭ ‬الأدراج‭ ‬خاوية،‭ ‬وأرفف‭ ‬غرفة‭ ‬المكتب‭ ‬فارغة،‭ ‬وعرفت‭ ‬منه‭ ‬أنه‭ ‬أهدى‭ ‬كتبه‭ ‬كلها‭ ‬إلى‭ ‬مكتبة‭ ‬جامعة‭ ‬أسيوط،‭ ‬وفاءً‭ ‬للمدينة‭ ‬التي‭ ‬ولد‭ ‬فيها،‭ ‬وأكمل‭ ‬تعليمه‭ ‬قبل‭ ‬الجامعي‭ ‬في‭ ‬مدارسها‭.‬

 

انفتاح‭ ‬على‭ ‬الثقافات‭ ‬الأجنبية

والحق‭ ‬أن‭ ‬انفتاح‭ ‬نصار‭ ‬على‭ ‬الثقافات‭ ‬الأجنبية‭ ‬كان‭ ‬وراء‭ ‬رحابة‭ ‬أفقه‭ ‬ومرونته‭ ‬في‭ ‬تقبّل‭ ‬الجديد‭. ‬ولذلك‭ ‬لم‭ ‬يتردد‭ ‬في‭ ‬الترجمة‭ ‬التي‭ ‬أثرت‭ ‬المكتبة‭ ‬بدراسات‭ ‬عن‭ ‬الموسيقى‭ ‬العربية‭ ‬إجمالاً‭ ‬والموسيقى‭ ‬والغناء‭ ‬في‭ ‬ألف‭ ‬ليلة‭ ‬لـ‭ ‬‮«‬فارمر‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬ترجم‭ ‬عن‭ ‬ابن‭ ‬الرومي‭ ‬لـروفون‭ ‬جست،‭ ‬وعن‭ ‬المؤرخين‭ ‬لمرجليوث،‭ ‬وعن‭ ‬المغازي‭ ‬الأولى‭ ‬ومؤلفيها‭ ‬لهوروفنتس،‭ ‬وأرض‭ ‬السّحرة‭ ‬لبرنارد‭ ‬لويس،‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يخفى‭ ‬عليه‭ ‬تعصبه‭.‬

وهو‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬يكشف‭ ‬عن‭ ‬صفة‭ ‬أخرى‭ ‬كانت‭ ‬تشدني‭ ‬إلى‭ ‬عقلية‭ ‬حسين‭ ‬نصار،‭ ‬وهي‭ ‬احترامه‭ ‬لاختلاف‭ ‬الآخرين‭ ‬عنه‭ ‬أو‭ ‬اختلافه‭ ‬هو‭ ‬عنهم‭. ‬ولذلك‭ ‬علّمنا‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬عملي‭ ‬أن‭ ‬الحكمة‭ ‬كالمعرفة‭ ‬هي‭ ‬ضالة‭ ‬المؤمن‭ ‬ومقصده،‭ ‬مهما‭ ‬تباعدت‭ ‬المسافات‭ ‬الجغرافية،‭ ‬أو‭ ‬الحدود‭ ‬الزمنية‭.‬

ولن‭ ‬أنسى‭ ‬تواضعه‭ ‬الجم‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق،‭ ‬وهو‭ ‬التواضع‭ ‬الذي‭ ‬جعله‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬الإفادة‭ ‬مني‭ ‬في‭ ‬مقدمة‭ ‬كتابه‭ ‬عن‭ ‬‮«‬الطبيعة‭ ‬والشاعر‮»‬،‭ ‬وكنت‭ ‬وقتها‭ ‬معيداً‭ ‬لم‭ ‬أحصل‭ ‬بعد‭ ‬على‭ ‬درجة‭ ‬الدكتوراه‭. ‬وما‭ ‬أكثر‭ ‬ما‭ ‬تعلمت‭ ‬من‭ ‬تواضعه،‭ ‬وأدركت‭ ‬أنه‭ ‬بزيادة‭ ‬التعمق‭ ‬في‭ ‬المعرفة‭ ‬يزداد‭ ‬تواضع‭ ‬الإنسان‭ ‬وشعوره‭ ‬بأن‭ ‬أمامه‭ ‬الكثير‭ ‬ليتعلم‭. ‬وكم‭ ‬أحببت‭ ‬تواضعه‭ ‬وزهده‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬التي‭ ‬تبعده‭ ‬عن‭ ‬كتبه‭. ‬

ولذلك‭ ‬يصعب‭ ‬أن‭ ‬أنسى‭ ‬خوفه‭ ‬الحقيقي‭ ‬عندما‭ ‬أخبرته‭ ‬بقبولي‭ ‬منصب‭ ‬وزير‭ ‬الثقافة،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬يخشى‭ ‬أن‭ ‬يقضي‭ ‬‮«‬الوزير‮»‬‭ ‬على‭ ‬‮«‬الجامعي‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬يُؤثر‭ ‬العمل‭ ‬العلمي‭ ‬والبحث‭ ‬الأدبي‭ ‬في‭ ‬صمت‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬الضجيج‭. ‬لذلك‭ ‬استقبلني‭ ‬بفرحة‭ ‬الأب‭ ‬الذي‭ ‬عاده‭ ‬ابنه‭ ‬إلى‭ ‬دياره،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تركت‭ ‬الوزارة‭ ‬وبريقها‭ ‬الزائل‭. ‬

وقد‭ ‬تعلّمت‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬الجليل‭ ‬النزاهة‭ ‬العلمية‭ ‬والحياد‭ ‬الأكاديمي‭ ‬والاحتكام‭ ‬الدائم‭ ‬إلى‭ ‬العقل‭ ‬المنهجي‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يأبه‭ ‬بمتغيرات‭ ‬السياسة‭ ‬أو‭ ‬تقلبات‭ ‬الأمزجة‭ ‬الشخصية،‭ ‬بل‭ ‬يسعى‭ ‬دائماً‭ ‬وراء‭ ‬الحقيقة‭ ‬المنهجية،‭ ‬كاشفاً‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يظل‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬الكشف‭. ‬

وقد‭ ‬علَّمنا‭ ‬د‭. ‬نصار‭ ‬أن‭ ‬البحث‭ ‬المنهجي‭ ‬يحتاج‭ ‬دائماً‭ ‬إلى‭ ‬مواجهة‭ ‬الباحث‭ ‬لأفكاره‭ ‬هو،‭ ‬قبل‭ ‬أفكار‭ ‬غيره،‭ ‬وتصفية‭ ‬وعيه‭ ‬من‭ ‬بقايا‭ ‬ما‭ ‬ظل‭ ‬عالقاً‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬تقاليد‭ ‬بالية،‭ ‬دون‭ ‬خوف‭ ‬من‭ ‬أحد‭ ‬إلا‭ ‬الله‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يعرفه‭ ‬نصار،‭ ‬الذي‭ ‬كنا‭ ‬نقدر‭ ‬فيه‭ ‬إيمانه‭ ‬العميق‭ ‬وإحساسه‭ ‬الديني‭ ‬القويم،‭ ‬وإعزازه‭ ‬لكل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬إسلامي‭ ‬أصيل؛‭ ‬ولذلك‭ ‬ظللت‭ ‬على‭ ‬إعجابي‭ ‬بهذا‭ ‬الرجل،‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬عرفته‭ ‬في‭ ‬السنة‭ ‬الثالثة‭ ‬من‭ ‬دراستي‭ ‬الجامعية‭ ‬الأولى،‭ ‬عندما‭ ‬كنت‭ ‬طالباً‭ ‬في‭ ‬قسم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية،‭ ‬وظل‭ ‬الرجل‭ ‬يرعاني‭ ‬رعاية‭ ‬الأب‭ ‬الحاني‭ ‬طوال‭ ‬سنوات‭ ‬دراستي،‭ ‬ويشجع‭ ‬جهودي‭ ‬المتواصلة‭ ‬على‭ ‬التفوق،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬أصبحت‭ ‬معيداً‭ ‬في‭ ‬القسم‭ ‬الذي‭ ‬تولى‭ ‬رئاسته‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬لسنوات،‭ ‬وبعدها‭ ‬أصبح‭ ‬عميداً‭ ‬للكلية‭ ‬التي‭ ‬ينتسب‭ ‬إليها‭ ‬هذا‭ ‬القسم‭.‬

وكان‭ ‬طوال‭ ‬السنوات‭ ‬التي‭ ‬عرفته‭ ‬فيها‭ ‬أستاذاً‭ ‬ورئيساً‭ ‬للقسم‭ ‬وعميداً‭ ‬للكلية‭ ‬نموذجاً‭ ‬رفيعاً‭ ‬للخلق‭ ‬الكريم‭ ‬وللدأب‭ ‬العلمي‭ ‬النادر،‭ ‬منطوياً‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬الأحوال‭ ‬على‭ ‬روح‭ ‬العالم‭ ‬المدقق،‭ ‬وحرص‭ ‬المحقق‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬تفوته‭ ‬كلمة‭ ‬أو‭ ‬حرف‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬نص‭ ‬يقرأه،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬حنو‭ ‬الأب‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يكف‭ ‬عن‭ ‬رعايتي‭ ‬والاهتمام‭ ‬بأحوالي،‭ ‬حتى‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬شببت‭ ‬عن‭ ‬الطوق،‭ ‬فهو‭ ‬والمرحومة‭ ‬زوجه‭ ‬اللذان‭ ‬أسهما‭ ‬في‭ ‬انتقالي‭ ‬إلى‭ ‬عمارة‭ ‬جامعة‭ ‬القاهرة،‭ ‬كي‭ ‬أكون‭ ‬قريباً‭ ‬منهما‭. ‬

 

تشجيع‭ ‬دائم‭ ‬ورعاية‭ ‬علمية

لا‭ ‬أنسى‭ ‬أنه‭ ‬اشترك‭ ‬في‭ ‬المناقشة‭ ‬العلنية‭ ‬لأطروحتي‭ ‬لدرجة‭ ‬الدكتوراه‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تشرف‭ ‬عليها‭ ‬المرحومة‭ ‬سهير‭ ‬القلماوي،‭ ‬وكان‭ ‬معهما‭ ‬في‭ ‬لجنة‭ ‬المناقشة‭ ‬المرحوم‭ ‬الأستاذ‭ ‬الدكتور‭ ‬عبدالقادر‭ ‬القط‭. ‬وكان‭ ‬موقف‭ ‬د‭. ‬نصار‭ ‬في‭ ‬المناقشة‭ ‬هو‭ ‬موقف‭ ‬الأب‭ ‬الذي‭ ‬يتحمس‭ ‬دائماً‭ ‬لإنجازات‭ ‬ابنه‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬نزعة‭ ‬الأبوة‭ ‬المتأصلة‭ ‬فيه‭ ‬تدفعه‭ ‬إلى‭ ‬التسامح‭ ‬مع‭ ‬الأخطاء،‭ ‬وإلى‭ ‬الدفاع‭ ‬عما‭ ‬قد‭ ‬يظنه‭ ‬الآخرون‭ ‬أخطاء‭ ‬منهجية‭ ‬في‭ ‬أطروحة‭ ‬الابن‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬أنا‭.‬

واستمرت‭ ‬العلاقة‭ ‬بيننا‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬السنوات‭ ‬الطويلة‭ ‬تجمع‭ ‬بين‭ ‬حنو‭ ‬الأب‭ ‬ورعاية‭ ‬الأستاذ‭ ‬الجليل‭ ‬الذي‭ ‬يريد‭ ‬لتلميذه‭ ‬أن‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬درجات‭ ‬الكمال‭. ‬وظل‭ ‬على‭ ‬تشجيعه‭ ‬الدائم‭ ‬لي‭ ‬ورعايته‭ ‬العلمية‭ ‬التي‭ ‬جعلته‭ ‬لا‭ ‬يبخل‭ ‬عليّ‭ ‬بمشورة،‭ ‬ولا‭ ‬يحجز‭ ‬عني‭ ‬كتاباً‭ ‬طلبته‭ ‬من‭ ‬مكتبته‭ ‬العامرة‭.‬

وقد‭ ‬كانت‭ ‬الصفة‭ ‬الأساسية‭ ‬التي‭ ‬يتميز‭ ‬بها‭ ‬حسين‭ ‬نصار‭ ‬هي‭ ‬رحابة‭ ‬الأفق‭ ‬التي‭ ‬تجعله‭ ‬أسرع‭ ‬إلى‭ ‬تقبّل‭ ‬الجديد‭ ‬من‭ ‬غيره،‭ ‬وأكثر‭ ‬تسامحاً‭ ‬مع‭ ‬جذرية‭ ‬‮«‬الحداثة‮»‬‭ ‬عن‭ ‬أقرانه‭ ‬الذين‭ ‬حال‭ ‬تمسكهم‭ ‬بالتقاليد‭ ‬الجامدة‭ ‬دون‭ ‬أي‭ ‬تعاطف‭ ‬مع‭ ‬الجديد‭.‬

وأعتقد‭ ‬أن‭ ‬السبب‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬هو‭ ‬معرفته‭ ‬بلغة‭ ‬أجنبية‭ ‬واحدة‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬هي‭ ‬الإنجليزية،‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬ترجم‭ ‬عنها‭ ‬كتباً‭ ‬عدة،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الاستعراب‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الدرس‭ ‬التاريخي‭ ‬للتراث‭ ‬الموسيقي‭ ‬العربي‭. ‬وأظن‭ ‬أنه‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬عرف‭ ‬القراء‭ ‬بما‭ ‬كتبه‭ ‬فارمر‭ ‬عن‭ ‬الموسيقى‭ ‬العربية،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬مدى‭ ‬الانفتاح‭ ‬الرحب‭ ‬الذي‭ ‬جعله‭ ‬مرناً‭ ‬بما‭ ‬يتصل‭ ‬بقضايا‭ ‬التجديد‭ ‬وتحديات‭ ‬الحداثة‭ ‬على‭ ‬السواء‭. ‬

ولا‭ ‬أزال‭ ‬أذكر‭ ‬أنني‭ ‬داعبته‭ ‬يوماً‭ ‬بأن‭ ‬قرأت‭ ‬عليه‭ ‬عبارات‭ ‬الجاحظ‭ ‬التي‭ ‬تقول‭: ‬إن‭ ‬المتكلم‭ ‬لا‭ ‬يصير‭ ‬متكلماً‭ ‬بارعاً‭ ‬في‭ ‬فنون‭ ‬الكلام،‭ ‬إلا‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬ما‭ ‬يحسنه‭ ‬من‭ ‬علوم‭ ‬الدين‭ ‬في‭ ‬وزن‭ ‬ما‭ ‬يحسنه‭ ‬من‭ ‬علوم‭ ‬الفلسفة‭. ‬وكنت‭ ‬أقول‭ ‬له‭ ‬يا‭ ‬أستاذي‭ ‬إنك‭ ‬تشبه‭ ‬‮«‬المتكلم‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬يتحدث‭ ‬عنه‭ ‬الجاحظ،‭ ‬فأنت‭ ‬تحسن‭ ‬من‭ ‬علوم‭ ‬العرب‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬يسمح‭ ‬لك‭ ‬بالإحسان‭ ‬في‭ ‬علوم‭ ‬الأجانب‭ ‬والاطلاع‭ ‬على‭ ‬دراسات‭ ‬المستشرقين،‭ ‬وتجمع‭ ‬بين‭ ‬التحقيق‭ ‬والتأريخ‭ ‬وعلوم‭ ‬العرب‭ ‬والعجم‭ ‬أو‭ ‬الفرنجة،‭ ‬بما‭ ‬يجعلك‭ ‬أفضل‭ ‬من‭ ‬متكلمي‭ ‬الجاحظ‭.‬

وأذكر‭ ‬أنه‭ ‬قابل‭ ‬مداعبتي‭ ‬له‭ ‬بتواضع‭ ‬مبتسماً،‭ ‬وقد‭ ‬ظل‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬عهدته‭ ‬عليه‭ ‬محسناً‭ ‬كل‭ ‬الإحسان‭ ‬في‭ ‬علوم‭ ‬التراث‭ ‬القديم،‭ ‬وذلك‭ ‬بالقدر‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يتسم‭ ‬فيه‭ ‬بمرونة‭ ‬بالغة‭ ‬في‭ ‬تقبّل‭ ‬الجديد‭ ‬أو‭ ‬التفهم‭ ‬له،‭ ‬سواء‭ ‬قبله‭ ‬أو‭ ‬لم‭ ‬يقبله‭.‬

والحق‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يجذبني‭ ‬إليه‭ ‬دائماً،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬تجسيداً‭ ‬حياً‭ ‬للعقل‭ ‬الخلاق‭ ‬الذي‭ ‬يتميز‭ ‬بمرونة‭ ‬عالية‭ ‬تتيح‭ ‬له‭ ‬الاطلاع‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬جديد‭ ‬ومحاولة‭ ‬تفهّمه‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬ينزع‭ ‬قدميه‭ ‬الثابتتين‭ ‬والراسختين‭ ‬في‭ ‬جذور‭ ‬تراثه‭ ‬العربي‭ ‬والإسلامي‭ ‬على‭ ‬السواء،‭ ‬ولهذا‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬القلائل‭ ‬الذين‭ ‬يجمعون‭ ‬في‭ ‬إهابهم‭ ‬بين‭ ‬الأصالة‭ ‬والمعاصرة،‭ ‬وبين‭ ‬الجدة‭ ‬في‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬أفكار‭ ‬مبتكرة،‭ ‬والحرص‭ ‬على‭ ‬التقاليد‭ ‬الراسخة‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭. ‬

ولذلك‭ ‬لم‭ ‬يقف‭ ‬مرة‭ ‬واحدة‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬حاولته‭ ‬من‭ ‬محاولات‭ ‬لتجديد‭ ‬الدراسة‭ ‬المنهجية‭ ‬في‭ ‬النقد‭ ‬العربي‭ ‬قديماً‭ ‬أو‭ ‬حديثاً،‭ ‬ولم‭ ‬ألمح‭ ‬على‭ ‬وجهه‭ ‬نظرة‭ ‬استنكار‭ ‬واحدة‭ ‬لكل‭ ‬اختلاف‭ ‬لي‭ ‬مع‭ ‬بعض‭ ‬آرائه،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬دائماً‭ ‬يتقبل‭ ‬اختلافي‭ ‬معه‭ ‬بوجهه‭ ‬السمح‭ ‬واتزانه‭ ‬المتعقل‭ ‬وعقلانيته‭ ‬السمحة‭ ‬التي‭ ‬ترحب‭ ‬بكل‭ ‬جديد،‭ ‬شريطة‭ ‬ألا‭ ‬يقضي‭ ‬على‭ ‬الجذور‭ ‬العربية‭ ‬الراسخة،‭ ‬والأصيلة‭ ‬التي‭ ‬علّمنا‭ ‬الإيمان‭ ‬بها‭ ‬والحفاظ‭ ‬عليها‭. ‬

 

جوائز‭ ‬وأوسمة

علمت‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬معرفتي‭ ‬الوثيقة‭ ‬به،‭ ‬أنه‭ ‬ولد‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬أسيوط‭ ‬في‭ ‬الخامس‭ ‬والعشرين‭ ‬من‭ ‬أكتوبر‭ ‬سنة‭ ‬1925،‭ ‬وأنه‭ ‬حصل‭ ‬على‭ ‬الليسانس‭ ‬مع‭ ‬مرتبة‭ ‬الشرف‭ ‬من‭ ‬قسم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬واللغات‭ ‬الشرقية‭ ‬بجامعة‭ ‬القاهرة‭ ‬سنة‭ ‬1947،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬قسم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬قد‭ ‬انفصل‭ ‬عن‭ ‬قسم‭ ‬اللغات‭ ‬الشرقية،‭ ‬كما‭ ‬حدث‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭. ‬والحق‭ ‬أنني‭ ‬حسدته‭ ‬كما‭ ‬حسدت‭ ‬جيله‭ ‬على‭ ‬أنهم‭ ‬تتلمذوا‭ ‬على‭ ‬جيل‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬وأحمد‭ ‬أمين‭ ‬ومحمد‭ ‬كامل‭ ‬حسين‭ ‬وغيرهم‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬الرعيل‭ ‬الأول‭ ‬المؤسس‭ ‬لقسم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭.‬

وهو‭ ‬الرعيل‭ ‬الذي‭ ‬لحق‭ ‬حسين‭ ‬نصار‭ ‬بأحد‭ ‬أعلامه،‭ ‬وهو‭ ‬المرحوم‭ ‬مصطفى‭ ‬السقا‭ ‬الذي‭ ‬أشرف‭ ‬على‭ ‬أطروحته‭ ‬للماجستير‭ ‬عن‭ ‬‮«‬نشأة‭ ‬الكتابة‭ ‬الفنية‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‮»‬‭ ‬سنة‭ ‬1949،‭ ‬وعلى‭ ‬الدكتوراه‭ ‬عن‭ ‬‮«‬المعجم‭ ‬العربي‭... ‬نشأته‭ ‬وتطوره‮»‬‭ ‬سنة‭ ‬1953،‭ ‬متابعاً‭ ‬مسار‭ ‬الأدب‭ ‬القومي‭ ‬الذي‭ ‬أسس‭ ‬له‭ ‬محمد‭ ‬حسين‭ ‬هيكل،‭ ‬وجعله‭ ‬أمين‭ ‬الخولي‭ ‬‮«‬الأدب‭ ‬المصري‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬أصبح‭ ‬كرسياً‭ ‬مستقلاً،‭ ‬ارتقى‭ ‬إليه‭ ‬أستاذي‭ ‬على‭ ‬درجات‭ ‬السلم‭ ‬الجامعي‭ ‬عندما‭ ‬أصبح‭ ‬‮«‬أستاذ‭ ‬الأدب‭ ‬المصري‭ ‬في‭ ‬العهد‭ ‬الإسلامي‮»‬‭ ‬سنة‭ ‬1969‭.‬

وقد‭ ‬حصل‭ ‬أستاذي‭ ‬على‭ ‬وسام‭ ‬العلوم‭ ‬والفنون‭ ‬من‭ ‬الطبقة‭ ‬الأولى‭ ‬سنة‭ ‬1986،‭ ‬وجائزة‭ ‬الدولة‭ ‬التقديرية‭ ‬في‭ ‬الآداب‭ ‬في‭ ‬السنة‭ ‬نفسها،‭ ‬وجائزة‭ ‬الملك‭ ‬فيصل‭ ‬العالمية‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬واللغة‭ ‬سنة‭ ‬2004،‭ ‬وجائزة‭ ‬النيل‭ ‬سنة‭ ‬2007،‭ ‬وقد‭ ‬وصلت‭ ‬كتب‭ ‬أستاذي‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يماثل‭ ‬سنوات‭ ‬عمره‭ ‬أو‭ ‬يزيد،‭ ‬فقد‭ ‬منحه‭ ‬الله‭ ‬عمراً‭ ‬مديداً،‭ ‬فلم‭ ‬يفارقنا‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬جاوز‭ ‬الثانية‭ ‬والتسعين‭ ‬من‭ ‬عمره،‭ ‬تاركاً‭ ‬عشرات‭ ‬الكتب‭ ‬المؤلفة،‭ ‬وعشرات‭ ‬الدواوين‭ ‬المحققة،‭ ‬وكُتباً‭ ‬مترجمة،‭ ‬وعدداً‭ ‬لا‭ ‬حصر‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬المقالات‭ ‬التي‭ ‬حاول‭ ‬حصرها‭ ‬الكِتاب‭ ‬التذكاري‭ ‬الذي‭ ‬أصدره‭ ‬مركز‭ ‬تحقيق‭ ‬التراث،‭ ‬في‭ ‬مصر،‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬احتفاله‭ ‬بعيد‭ ‬ميلاده‭ ‬التسعين‭.‬

وقد‭ ‬ظللت‭ ‬على‭ ‬علاقة‭ ‬وثيقة‭ ‬بالرجل‭ ‬الذي‭ ‬كنت‭ ‬أعده‭ ‬أباً‭ ‬لي،‭ ‬فعلاً‭ ‬لا‭ ‬مجازاً،‭ ‬وصوتاً‭ ‬للعقل‭ ‬المتزن‭ ‬والمرجع‭ ‬العلمي‭ ‬الهادئ‭ ‬المدقق‭ ‬الذي‭ ‬أستند‭ ‬إليه‭.‬

فما‭ ‬من‭ ‬مرة‭ ‬من‭ ‬المرات‭ ‬واجهت‭ ‬مشكلة‭ ‬من‭ ‬المشكلات‭ ‬العلمية‭ ‬أو‭ ‬العملية‭ ‬إلا‭ ‬وكنت‭ ‬أذهب‭ ‬إليه،‭ ‬وأجلس‭ ‬في‭ ‬حضرته،‭ ‬وأفتح‭ ‬له‭ ‬صدري؛‭ ‬لكي‭ ‬أرتوي‭ ‬من‭ ‬نصائحه‭ ‬وآرائه‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬يبخل‭ ‬عليّ‭ ‬بها‭. ‬وقد‭ ‬زاد‭ ‬من‭ ‬حميمية‭ ‬العلاقة‭ ‬بيننا‭ ‬أننا‭ ‬نسكن‭ ‬في‭ ‬عمارة‭ ‬واحدة،‭ ‬هو‭ ‬بالدور‭ ‬السادس،‭ ‬وأنا‭ ‬بالدور‭ ‬الثاني‭ ‬عشر‭.‬

وما‭ ‬أكثر‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬حسين‭ ‬نصار‭ ‬يدلني‭ ‬على‭ ‬المصادر‭ ‬القديمة‭ ‬التراثية‭ ‬في‭ ‬الموضوعات‭ ‬التي‭ ‬كنت‭ ‬أهتم‭ ‬بها‭ ‬كل‭ ‬الاهتمام‭! ‬وكانت‭ ‬خبرته‭ ‬في‭ ‬المخطوطات‭ ‬العربية‭ ‬القديمة‭ ‬لا‭ ‬تقل‭ ‬موسوعية‭ ‬وعمقاً‭ ‬عن‭ ‬خبراته‭ ‬بكتابات‭ ‬التراث‭ ‬المطبوعة‭ ‬والمحققة‭.‬

وقد‭ ‬تتلمذ‭ ‬على‭ ‬الجيل‭ ‬الرائد‭ ‬لكبار‭ ‬المحققين،‭ ‬وعلى‭ ‬رأسهم‭ ‬المرحوم‭ ‬مصطفى‭ ‬السقا‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬أستاذاً‭ ‬له،‭ ‬وظل‭ ‬على‭ ‬علاقة‭ ‬وثيقة‭ ‬وحوار‭ ‬متصل‭ ‬بكبار‭ ‬المحققين‭ ‬في‭ ‬التراث‭ ‬من‭ ‬الذين‭ ‬فقدهم‭ ‬زماننا،‭ ‬ولا‭ ‬نزال‭ ‬نذكر‭ ‬تحقيقاتهم‭ ‬بكل‭ ‬الإجلال‭ ‬والتقدير،‭ ‬وأعد‭ ‬منهم‭ - ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬لا‭ ‬الحصر‭ - ‬المرحوم‭ ‬عبدالسلام‭ ‬هارون،‭ ‬والأستاذين‭ ‬أحمد‭ ‬ومحمود‭ ‬شاكر،‭ ‬والأستاذ‭ ‬فؤاد‭ ‬السيد،‭ ‬والدكتور‭ ‬محمد‭ ‬عبده‭ ‬عزام،‭ ‬ومحمد‭ ‬أبوالفضل‭ ‬إبراهيم،‭ ‬والأستاذ‭ ‬حسن‭ ‬كامل‭ ‬الصيرفي،‭ ‬والسيد‭ ‬أحمد‭ ‬محمد‭ ‬صقر‭ ‬وغيرهم‭ ‬من‭ ‬العلماء‭ ‬الأجلاء‭ ‬الذين‭ ‬ندين‭ ‬لهم‭ ‬بتحقيق‭ ‬كنوز‭ ‬التراث‭ ‬العربي،‭ ‬ونتأمل‭ ‬حولنا‭ ‬فلا‭ ‬نجد‭ ‬إلا‭ ‬القلة‭ ‬القليلة‭ ‬من‭ ‬تلامذتهم‭ ‬الذين‭ ‬يؤكدون‭ ‬أهمية‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬العناية‭ ‬بتراثنا‭ ‬المخطوط‭ ‬وتحقيقه‭ ‬في‭ ‬طبعات‭ ‬دقيقة‭ ‬ترى‭ ‬النور،‭ ‬لكي‭ ‬تعرف‭ ‬الأجيال‭ ‬الجديدة‭ ‬تراثها‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬علمي‭ ‬دقيق‭.‬

ولا‭ ‬أزال‭ ‬أذكر‭ ‬المرة‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬صحبني‭ ‬فيها‭ ‬أستاذي‭ ‬للقاء‭ ‬الأستاذ‭ ‬محمود‭ ‬شاكر،‭ ‬وكنا‭ ‬في‭ ‬ذكرى‭ ‬المولد‭ ‬النبوي‭ ‬الشريف‭. ‬وكانت‭ ‬حلوى‭ ‬المولد‭ ‬تملأ‭ ‬صينية‭ ‬كبيرة‭ ‬معروضة‭ ‬للزائرين‭. ‬وكان‭ ‬يصحب‭ ‬المرحوم‭ ‬محمود‭ ‬شاكر‭ ‬الأستاذ‭ ‬الشاعر‭ ‬الكبير‭ ‬محمود‭ ‬حسن‭ ‬إسماعيل،‭ ‬والأديب‭ ‬الكبير‭ ‬يحيى‭ ‬حقي،‭ ‬وكان‭ ‬المرحوم‭ ‬محمود‭ ‬شاكر‭ ‬يقرأ‭ ‬عليهما‭ ‬إحدى‭ ‬المعلقات،‭ ‬وهما‭ ‬جالسان‭ ‬منه‭ ‬مجلس‭ ‬التلميذ‭ ‬من‭ ‬الأستاذ،‭ ‬فجلست‭ ‬مذعوراً‭ ‬محتمياً‭ ‬بأستاذي‭ ‬حسين‭ ‬نصار‭ ‬الذي‭ ‬قدّمني‭ ‬تقديماً‭ ‬أرضى‭ ‬محمود‭ ‬شاكر‭ ‬الذي‭ ‬أخذ‭ ‬في‭ ‬طرح‭ ‬الأسئلة‭ ‬عليّ‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬رضي‭ ‬عني،‭ ‬فابتسم‭ ‬ودعاني‭ ‬إلى‭ ‬تناول‭ ‬حلوى‭ ‬المولد‭.‬

ومنذ‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬البعيد‭ ‬أصبحت‭ ‬تلميذاً‭ ‬لمحمود‭ ‬شاكر،‭ ‬ومن‭ ‬حقي‭ ‬أن‭ ‬أذهب‭ ‬إلى‭ ‬بيته‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬مفتوحاً‭ ‬لكل‭ ‬طلاب‭ ‬العلم‭ ‬وأساتذته‭ ‬الذين‭ ‬يحترمهم‭ ‬شاكر،‭ ‬وعلى‭ ‬رأسهم‭ ‬أستاذي‭ ‬حسين‭ ‬نصار،‭ ‬رحمه‭ ‬الله‭.‬

ولن‭ ‬أنسى‭ ‬الساعة‭ ‬التي‭ ‬عرفت‭ ‬فيها‭ ‬بخبر‭ ‬وفاته،‭ ‬فنزلت‭ ‬إلى‭ ‬حيث‭ ‬يسكن،‭ ‬وفتح‭ ‬لي‭ ‬ابنه‭ ‬الكبير‭ ‬د‭. ‬أيمن‭ ‬الباب‭ ‬وعيناه‭ ‬مملوءتان‭ ‬بالدموع؛‭ ‬فاحتضنته‭ ‬وسألته‭ ‬عن‭ ‬أبيه‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬أبي،‭ ‬ودخلت‭ ‬إلى‭ ‬الغرفة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬جسده‭ ‬مسجى‭ ‬فيها،‭ ‬وأنا‭ ‬أقرأ‭ ‬القرآن‭ ‬مترحماً‭ ‬عليه‭ ‬ومودعاً‭ ‬إياه‭ ‬الوداع‭ ‬الأخير،‭ ‬قائلاً‭ ‬لنفسي‭: ‬

كل‭ ‬الأحبة‭ ‬يرتحلون

فترحل‭ ‬عن‭ ‬العين‭ - ‬شيئاً‭ ‬فشيئاً‭ - ‬ألفة‭ ‬هذا‭ ‬الوطن

رحمك‭ ‬اللهُ‭ ‬رحمةً‭ ‬واسعةً‭ ‬يا‭ ‬أُستاذِي؛‭ ‬فَقَدْ‭ ‬كُنْتَ‭ ‬نِعْمَ‭ ‬المُعَلِّم‭ ‬والأب‭ ‬والصَّديق‭ ‬والزميل‭ ‬الأكبر،‭ ‬وجزاك‭ ‬الله‭ ‬خير‭ ‬الجزاء‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬علّمتنا‭ ‬من‭ ‬معارف،‭ ‬وما‭ ‬أورثتنا‭ ‬إياه‭ ‬من‭ ‬قيم‭. ‬و«إنَّا‭ ‬لله‭ ‬وإنَّا‭ ‬إليه‭ ‬رَاجِعُون‮»‬‭ ‬■

د‭. ‬حسين‭ ‬نصار‭ ‬خلال‭ ‬ترأسه‭ ‬مناقشة‭ ‬إحدى‭ ‬رسائل‭ ‬الدكتوراه