مي وجبران بين المدّ والجزر أو الحب الملتبس

مي وجبران بين المدّ والجزر  أو الحب الملتبس

رسائل‭ ‬جبران‭ ‬ومي‭ ‬زيادة‭ ‬نعمة‭ ‬على‭ ‬الأدب‭ ‬والشعر‭ ‬بشكل‭ ‬عام،‭ ‬وفن‭ ‬الرسائل‭ ‬بشكل‭ ‬خاص،‭ ‬فقد‭ ‬قدم‭ ‬هذا‭ ‬النسيج‭ ‬العاطفي‭ ‬العلائقي‭ ‬الإنساني‭ ‬الاجتماعي‭ ‬سمطاً‭ ‬من‭ ‬الأدب‭ ‬الجميل‭ ‬الراقي،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يتجول‭ ‬بين‭ ‬القاهرة‭ ‬ونيويورك،‭ ‬حاملاً‭ ‬المشاعر‭ ‬والأحاسيس‭ ‬والقصص‭ ‬والحِكم،‭ ‬وغير‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬صنوف‭ ‬المعارف‭ ‬والآداب‭... ‬فإلى‭ ‬أي‭ ‬حد‭ ‬لعب‭ ‬هذا‭ ‬النسيج‭ ‬الأدبي‭ ‬العاطفي‭ ‬دوره‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬مي‭ ‬وجبران؟

استعرت‭ ‬العلاقات‭ ‬العاطفية‭ ‬برغم‭ ‬البعد‭ ‬الشاسع‭ ‬بين‭ ‬الكاتبة‭ ‬الفلسطينية‭ - ‬اللبنانية‭ ‬مي‭ ‬زيادة،‭ ‬والأديب‭ ‬اللبناني‭ ‬المقيم‭ ‬في‭ ‬نيويورك‭ (‬آنذاك‭) ‬جبران‭ ‬خليل‭ ‬جبران،‭ ‬وقد‭ ‬ترجمت‭ ‬هذه‭ ‬العلاقات‭ ‬بمجموعة‭ ‬الرسائل‭ ‬التي‭ ‬تبادلها‭ ‬الحبيبان‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬عشرين‭ ‬عاماً‭ ‬تقريباً،‭ ‬ولم‭ ‬تنقطع‭ ‬سنة‭ ‬واحدة،‭ ‬وفي‭ ‬علم‭ ‬الذين‭ ‬يحسنون‭ ‬تفسير‭ ‬الأحلام،‭ ‬كان‭ ‬أول‭ ‬منام‭ ‬يراه‭ ‬جبران‭ ‬منذ‭ ‬الوهلة‭ ‬الأولى‭ ‬مقلقاً‭ ‬ومتعباً،‭ ‬يحمل‭ ‬القادم‭ ‬المتاعب‭ ‬والصعاب،‭ ‬يقول‭ ‬جبران‭ ‬في‭ ‬رسالة‭ ‬بعثها‭ ‬لها‭:‬

‮«‬يا‭ ‬صديقتي‭ ‬مي،‭ ‬استيقظت‭ ‬على‭ ‬حلم‭ ‬غريب‭ ‬ورأيتك‭ ‬تقولين‭ ‬كلمات‭ ‬حلوة‭ ‬ولكنْ‭ ‬بلهجة‭ ‬موجعة،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬يزعجني‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الحلم‭ ‬هو‭ ‬أني‭ ‬رأيت‭ ‬في‭ ‬جبهتك‭ ‬جرحاً‭ ‬صغيراً‭ ‬يقطر‭ ‬دماً،‭ ‬وهذا‭ ‬نذير‭ ‬شؤم،‭ ‬إن‭ ‬هذا‭ ‬يوحي‭ ‬بحصول‭ ‬شيء‭ ‬سيئ‭ ‬في‭ ‬المستقبل‮»‬‭. ‬وبقراءة‭ ‬عامة‭ ‬لرسائل‭ ‬جبران‭ ‬ومي،‭ ‬تتضح‭ ‬طبيعة‭ ‬هذه‭ ‬العلاقات‭ ‬التي‭ ‬انتهت‭ ‬بموتها،‭ ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬نصيبهما‭ ‬ألا‭ ‬يلتقيا‭ ‬في‭ ‬الحياة،‭ ‬فلربما‭ ‬يلتقيان‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬الآخر،‭ ‬وكم‭ ‬دعته‭ ‬لزيارة‭ ‬القاهرة‭ ‬‮«‬تعال‭ ‬يا‭ ‬جبران،‭ ‬زُرنا‭ ‬في‭ ‬القاهرة،‭ ‬لماذا‭ ‬لا‭ ‬تأتي‭ ‬وأنت‭ ‬فتى‭ ‬هذه‭ ‬البلاد‭ ‬التي‭ ‬تناديك،‭ ‬تعال‭ ‬يا‭ ‬صديقي‭ ‬تعال،‭ ‬فالحياة‭ ‬قصيرة،‭ ‬وسهرة‭ ‬على‭ ‬النيل‭ ‬توازي‭ ‬عمراً‭ ‬حافلاً‭ ‬بالمجد‭ ‬والحب،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬جبران‭ ‬لم‭ ‬يستجب‮»‬‭.‬

ولو‭ ‬تتبّعنا‭ ‬سياق‭ ‬الرسائل‭ ‬لرأينا‭ ‬في‭ ‬معظمها‭ ‬تقريعاً‭ ‬أو‭ ‬لوماً‭ ‬أو‭ ‬موقفاً‭ ‬من‭ ‬مي‭ ‬تجاه‭ ‬جبران،‭ ‬علاوة‭ ‬على‭ ‬إشارات‭ ‬من‭ ‬ردودها‭ ‬تظهر‭ ‬أنها‭ ‬تخاف‭ ‬الحب،‭ ‬تقول‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬الرسائل‭ ‬‮«‬لم‭ ‬أفهم‭ ‬الأسباب‭ ‬الحقيقية‭ ‬التي‭ ‬دعتك‭ ‬إلى‭ ‬استخدام‭ ‬الشر‭ ‬ضدي‮»‬‭.‬

لقد‭ ‬كان‭ ‬الحب‭ ‬بينهما‭ ‬جافاً‭ ‬جارحاً‭ ‬بل‭ ‬مستغرباً‭ ‬بعض‭ ‬الأحيان،‭ ‬وتظهر‭ ‬الحيرة‭ ‬والقلق‭ ‬والضياع‭ ‬في‭ ‬تقاسيم‭ ‬مي‭ ‬زيادة‭ ‬منذ‭ ‬الرسالة‭ ‬الأولى،‭ ‬فهي‭ ‬عائمة‭ ‬فوق‭ ‬بحر‭ ‬من‭ ‬القلق‭ ‬والحيرة،‭ ‬وقد‭ ‬رافق‭ ‬هذا‭ ‬الأسلوب‭ ‬معظم‭ ‬رسائل‭ ‬جبران‭. ‬

كانت‭ ‬الرسائل‭ ‬ميداناً‭ ‬يكشف‭ ‬فيه‭ ‬جبران‭ ‬عن‭ ‬مشاعره‭ ‬الدفينة،‭ ‬ففي‭ ‬نفسه‭ ‬قلق‭ ‬حيرة‭ ‬وشك‭. ‬وبرغم‭ ‬أن‭ ‬كليهما‭ ‬أديب‭ ‬وشاعر‭ ‬وفنان،‭ ‬إلا‭ ‬أنهما‭ ‬لم‭ ‬يستطيعا‭ ‬تحقيق‭ ‬الحلم‭ ‬الذي‭ ‬رسماه‭ ‬على‭ ‬الورق‭ ‬وفي‭ ‬المخيلة،‭ ‬وظل‭ ‬حلماً‭ ‬في‭ ‬البال‭. ‬

 

كيف‭ ‬بدأ‭ ‬التواصل‭ ‬بينهما؟‭ ‬

كانت‭ ‬مي‭ ‬منطلق‭ ‬التعارف،‭ ‬إذ‭ ‬خطت‭ ‬له‭ ‬أول‭ ‬رسالة‭ ‬بعد‭ ‬ذيوع‭ ‬صيته‭ ‬في‭ ‬أمريكا،‭ ‬تُعَرِّفُ‭ ‬فيها‭ ‬عن‭ ‬نفسها‭ ‬وتود‭ ‬التعرف‭ ‬إليه،‭ ‬ومما‭ ‬خاطبته‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الرسالة‭ ‬سيرة‭ ‬حياتها‭ ‬وخواطر‭ ‬عن‭ ‬نتاجها‭ ‬النثري‭ ‬والشعري‭ ‬وأسلوبها‭ ‬في‭ ‬الكتابة،‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬16‭ ‬مارس‭ ‬1912م،‭ ‬وقد‭ ‬بادل‭ ‬جبران‭ ‬الجميل‭ ‬بجميل،‭ ‬فبعث‭ ‬لها‭ ‬برسالة‭ ‬جوابية‭ ‬شاكراً‭ ‬اهتمامها،‭ ‬ومطرياً‭ ‬على‭ ‬حسن‭ ‬ذوقها،‭ ‬وأردف‭ ‬مع‭ ‬الرسالة‭ ‬نسخة‭ ‬من‭ ‬كتابه‭ ‬الصادر‭ ‬آنذاك‭ ‬‮«‬الأجنحة‭ ‬المتكسرة‮»‬‭. ‬

كانت‭ ‬مي‭ ‬آنذاك‭ ‬في‭ ‬السادسة‭ ‬عشرة‭ ‬وجبران‭ ‬في‭ ‬التاسعة‭ ‬عشرة،‭ ‬هكذا‭ ‬بدأ‭ ‬قطار‭ ‬التعارف‭ ‬‮«‬وانطفأت‭ ‬سكته‭ ‬عندما‭ ‬توفي‭ ‬جبران‭ ‬في‭ ‬نيويورك‭ ‬سنة‭ ‬1931م‮»‬،‭ ‬وبدأت‭ ‬الرسائل‭ ‬تتوالى‭ ‬بينهما‭ ‬منذ‭ ‬ذلك‭ ‬التاريخ،‭ ‬والتي‭ ‬كانت‭ ‬نعمة‭ ‬على‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬وعلامة‭ ‬مضيئة‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الشعر‭ ‬المهجري‭. ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬معظم‭ ‬الأدباء‭ ‬والمفكرين‭ ‬يبالغون‭ ‬في‭ ‬وصف‭ ‬علاقة‭ ‬جبران‭ ‬بمي‭ ‬ويعتبرونه‭ ‬فارس‭ ‬القلب‭ ‬والمخيلة‭ ‬وفتى‭ ‬أحلام‭ ‬لا‭ ‬يضارع‭. ‬ويدحض‭ ‬هذه‭ ‬الفرضية‭ ‬وقائع‭ ‬شتّى،‭ ‬منها‭: ‬أن‭ ‬مي‭ ‬وبعد‭ ‬رسالة‭ ‬عاطفية‭ ‬من‭ ‬جبران‭ ‬يعرض‭ ‬عليها‭ ‬فيها‭ ‬الزواج،‭ ‬قائلاً‭ ‬لها‭ ‬بالفمّ‭ ‬الملآن‭: ‬أنا‭ ‬ضباب‭ ‬يغمر‭ ‬الأشياء‭ ‬ولا‭ ‬يتحد‭ ‬وإياها،‭ ‬ومشكلتي‭ ‬بل‭ ‬مصيبتي‭ ‬هي‭ ‬أن‭ ‬الشباب‭ ‬وهو‭ ‬حقيقي‭ ‬يتوق‭ ‬إلى‭ ‬ضباب‭ ‬آخر،‭ ‬يتوق‭ ‬إلى‭ ‬سماع‭ ‬قائل‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬أنت‭ ‬لست‭ ‬وحدك‭ ‬نحن‭ ‬اثنان،‭ ‬أنا‭ ‬أعرف‭ ‬من‭ ‬أنت‮»‬،‭ ‬ثم‭ ‬تابع‭ ‬عارضاً‭ ‬عليها‭ ‬مشروع‭ ‬الزواج،‭ ‬لكنه‭ ‬فوجئ‭ ‬بموقف‭ ‬صاعق‭ ‬يتناقض‭ ‬مع‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يتوقعه‭ ‬منها،‭ ‬فقد‭ ‬سطّرت‭ ‬له‭ ‬جواباً‭ ‬اعتذرت‭ ‬فيه‭ ‬عن‭ ‬عدم‭ ‬قبول‭ ‬عرضه‭ ‬الزواج‭ ‬منها،‭ ‬وقالت‭ ‬له،‭ ‬أنت‭ ‬القريب‭ ‬الذي‭ ‬كنت‭ ‬لي‭ ‬أباً‭ ‬وأخاً‭ ‬وصديقاً،‭ ‬ثم‭ ‬تدعوه‭ ‬إلى‭ ‬زيارة‭ ‬القاهرة،‭ ‬قائلة‭: ‬لماذا‭ ‬لا‭ ‬تأتي‭ ‬وأنت‭ ‬فتى‭ ‬هذه‭ ‬البلاد؟‮»‬‭. ‬

كانت‭ ‬محصلة‭ ‬رسائل‭ ‬جبران‭ ‬موجات‭ ‬عاطفية‭ ‬كموج‭ ‬البحر،‭ ‬صاخباً‭ ‬حيناً‭ ‬وهادئاً‭ ‬حيناً‭ ‬آخر،‭ ‬إلاّ‭ ‬أنه‭ ‬ليس‭ ‬إلا‭ ‬زبد‭ ‬يتكسر‭ ‬على‭ ‬الصخور‭ ‬والمنعطفات،‭ ‬كان‭ ‬يرسل‭ ‬ما‭ ‬يكتبه‭ ‬مستمزجاً‭ ‬رأيها،‭ ‬وتلك‭ ‬خصيصة‭ ‬وتقدير‭ ‬منه‭ ‬إليها،‭ ‬كان‭ ‬يتحدث‭ ‬لها‭ ‬عن‭ ‬نفسه،‭ ‬وهو‭ ‬يرى‭ ‬أنهما‭ ‬التقيا،‭ ‬إنما‭ ‬بين‭ ‬الكلمات،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬مخاطبته‭ ‬لها‭: ‬ألا‭ ‬تذكرين‭ ‬ذهابنا‭ ‬معاً‭ ‬إلى‭ ‬المعرض،‭ ‬وانتقالنا‭ ‬من‭ ‬صورة‭ ‬إلى‭ ‬صورة،‭ ‬هل‭ ‬نسيتِ‭ ‬كيف‭ ‬سرنا‭ ‬ببطء‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬القاعة‭ ‬الواسعة،‭ ‬نستسقي‭ ‬ما‭ ‬وراء‭ ‬الألوان‭ ‬والخطوط‭ ‬من‭ ‬الرموز؟‭ ‬هل‭ ‬نسيتِ‭ ‬ذلك‭ ‬‮«‬إنه‭ ‬الذهاب‭ ‬واللقاء‭ ‬الروحيين»؟‭ ‬أنتِ‭ ‬حاقدة‭ ‬ناقمة‭ ‬عليّ،‭ ‬ولك‭ ‬الحق‭ ‬ومعك‭ ‬الحق،‭ ‬وما‭ ‬عليّ‭ ‬سوى‭ ‬الامتثال،‭ ‬وواضح‭ ‬كم‭ ‬تحمل‭ ‬هذه‭ ‬الكلمات‭ ‬من‭ ‬مرارة‭ ‬داخلية‭.‬

كان‭ ‬حبهماً‭ ‬جارحاً‭ ‬ومستغرباً،‭ ‬وتظهر‭ ‬الحيرة‭ ‬والقلق‭ ‬والضياع‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬مما‭ ‬كتبته‭ ‬مي،‭ ‬ومن‭ ‬يستعرض‭ ‬الرسائل‭ ‬ير‭ ‬هذا‭ ‬الواقع‭ ‬جلياً،‭ ‬ويبدو‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬الحب‭ ‬الذي‭ ‬يدّعيانه‭ ‬مسايرة‭ ‬ربما،‭ ‬فالرسائل‭ ‬المتبادلة‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬كافية‭ ‬لتُحَقّقَ‭ ‬معجزة‭ ‬الزواج،‭ ‬ومن‭ ‬يتأمل‭ ‬بعض‭ ‬أقوالها‭ ‬له‭ ‬ير‭ ‬صدق‭ ‬هذه‭ ‬التوجهات‭.‬

في‭ ‬الرسالة‭ ‬الأولى‭ ‬يقول‭ ‬جبران‭ ‬معاتباً‭: ‬غير‭ ‬أنني‭ ‬لم‭ ‬أفهم‭ ‬الأسباب‭ ‬التي‭ ‬دعتكِ‭ ‬إلى‭ ‬استخدام‭ ‬الشر‭ ‬ضدي،‭ ‬فهلا‭ ‬تكرمت‭ ‬بإفهامي؟

وفي‭ ‬الرسالة‭ ‬الرابعة‭ ‬يقول‭ ‬جبران‭ ‬مخاطباً‭ ‬مي‭: ‬حديثك‭ ‬لي‭ ‬يتمايل‭ ‬بين‭ ‬العذوبة‭ ‬والتعنيف‭.‬

‭ ‬وفي‭ ‬الرسالة‭ ‬الخامسة‭ ‬يقول‭: ‬أنتِ‭ ‬حاقدة‭ ‬عليّ‭ ‬يا‭ ‬مي،‭ ‬ولكِ‭ ‬الحق‭ ‬ومعك‭ ‬الحق،‭ ‬إن‭ ‬ما‭ ‬يعرفه‭ ‬الحاضر‭ ‬يجهله‭ ‬الغائب‭.‬

وفي‭ ‬الثامنة‭: ‬ما‭ ‬اكتفت‭ ‬صديقتي،‭ ‬بل‭ ‬ظلت‭ ‬واقفة‭ ‬لي‭ ‬بالمرصاد،‭ ‬فلم‭ ‬أقل‭ ‬كلمة‭ ‬إلا‭ ‬وذيّلتها‭ ‬بالتعنيف،‭ ‬ولم‭ ‬أحدق‭ ‬بشيء‭ ‬إلا‭ ‬وأخفته‭ ‬وراء‭ ‬القناع،‭ ‬ولم‭ ‬أمدّ‭ ‬يداً‭ ‬إلا‭ ‬وثقبتها‭ ‬بمسمار،‭ ‬وبعد‭ ‬ذلك‭ ‬قنطت‭ ‬والقنوط‭ ‬يا‭ ‬مي‭ ‬عاطفة‭ ‬خرساء‭.‬

وفي‭ ‬الصفحة‭ ‬108‭ ‬يقول‭ ‬لها‭: ‬لا‭ ‬يا‭ ‬مي،‭ ‬ليس‭ ‬التوتر‭ ‬في‭ ‬اجتماعاتنا‭ ‬الضبابية‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬اجتماعاتنا‭ ‬الكلامية،‭ ‬الله‭ ‬يسامحكِ،‭ ‬لقد‭ ‬سلبتني‭ ‬راحة‭ ‬قلبي،‭ ‬ولولا‭ ‬تصلبي‭ ‬وعنادي‭ ‬لسلبتني‭ ‬إيماني،‭ ‬يجب‭ ‬ألا‭ ‬نتعاتب،‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬نتفاهم‭. ‬

 

حيرة‭ ‬وقلق

ويقول‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬الصفحة‭ ‬117‭ ‬مستسلماً‭ ‬لما‭ ‬هو‭ ‬فيه‭: ‬فلنتخاصم‭ ‬ما‭ ‬شاء‭ ‬الخصام،‭ ‬فأنت‭ ‬من‭ ‬إهدن‭ ‬وأنا‭ ‬من‭ ‬بشرّي‭. ‬

وليس‭ ‬معنى‭ ‬ما‭ ‬أشرنا‭ ‬إليه‭ ‬أن‭ ‬جميع‭ ‬رسائل‭ ‬مي‭ ‬وجبران‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬المنوال،‭ ‬فثمة‭ ‬رسائل‭ ‬يعبق‭ ‬منها‭ ‬الحب‭ ‬والرواء‭ ‬والانسجام،‭ ‬يقول‭ ‬جبران‭ ‬لمي‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬الرسائل‭: ‬ما‭ ‬أجمل‭ ‬رسائلك‭ ‬يا‭ ‬مي‭ ‬وما‭ ‬أشهاها‭! ‬فهي‭ ‬كنهر‭ ‬من‭ ‬الرحيق‭ ‬يتدفق‭ ‬من‭ ‬الأعالي،‭ ‬ويسير‭ ‬مترنماً‭ ‬في‭ ‬وادي‭ ‬أحلامي،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬كقيثارة‭ ‬أورنيوس‭ ‬تقرب‭ ‬البعيد‭ ‬وتبعد‭ ‬القريب‭. ‬

وفي‭ ‬رسالة‭ ‬متعددة‭ ‬الأهداف‭ ‬والمشاعر،‭ ‬يخاطب‭ ‬جبران‭ ‬صديقته‭ ‬مي‭ ‬قائلاً،‭ ‬ولعلها‭ ‬تلخص‭ ‬مشاعره‭ ‬العميقة‭ ‬وما‭ ‬يختلج‭ ‬في‭ ‬فؤاده‭ ‬من‭ ‬أسرار‭ ‬بحيث‭ ‬أن‭ ‬الحيرة‭ ‬والقلق‭ ‬لم‭ ‬يغادراه‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬رسائله‭ ‬لمي‭: ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬سكوتي‭ ‬في‭ ‬الأمس‭ ‬سوى‭ ‬سكوت‭ ‬الحيرة‭ ‬والالتباس،‭ ‬لقد‭ ‬جلست‭ ‬مرات‭ ‬لأحدثك‭ ‬وأعاتبك‭ ‬ولكن‭ ‬لم‭ ‬أجد‭ ‬ما‭ ‬أقوله‭ ‬لكِ‭ ‬يا‭ ‬مي،‭ ‬لأنني‭ ‬كنت‭ ‬أشعر‭ ‬أنك‭ ‬لم‭ ‬تتركي‭ ‬سبيلاً‭ ‬للكلام،‭ ‬ولأنني‭ ‬أحسست‭ ‬بأنك‭ ‬تريدين‭ ‬قطع‭ ‬الأسلاك‭ ‬الخطية‭ ‬التي‭ ‬تغزلها‭ ‬يد‭ ‬الغيب‭. ‬كنت‭ ‬تحدّقين‭ ‬وتهزين‭ ‬رأسك‭ ‬وتبتسمين‭ ‬ابتسامة‭ ‬مَن‭ ‬يجد‭ ‬لذة‭ ‬في‭ ‬تلبك‭ ‬وتشويش‭ ‬جليسه‭ (‬72‭).‬

إن‭ ‬هذه‭ ‬الرسائل‭ ‬بما‭ ‬اشتملت‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬صِدام‭ ‬دائم،‭ ‬علاوة‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬غنى‭ ‬عاطفي‭ ‬ومشاعر‭ ‬حسيّة‭ ‬متبادلة،‭ ‬وعدا‭ ‬عن‭ ‬قيمتها‭ ‬الأدبية‭ ‬والمعرفية،‭ ‬فهي‭ ‬تصوير‭ ‬لهذا‭ ‬التماثل‭ ‬والتشابه‭ ‬بين‭ ‬أدب‭ ‬المهجر‭ ‬وأدب‭ ‬المقيم،‭ ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬ترجمة‭ ‬لمستوى‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬آنذاك‭.‬

والمتابع‭ ‬للعلاقة‭ ‬الروحية‭ ‬والفكرية‭ ‬والأدبية،‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬مي‭ ‬كانت‭ ‬تسعى‭ ‬إلى‭ ‬توظيف‭ ‬المراسلة‭ ‬بينها‭ ‬وبين‭ ‬جبران،‭ ‬كي‭ ‬تجعلها‭ ‬عاملاً‭ ‬في‭ ‬تطورها‭ ‬الفكري‭ ‬والأدبي،‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬تتوقع‭ ‬أن‭ ‬تقع‭ ‬أسيرة‭ ‬كلماته،‭ ‬لكن‭ ‬ما‭ ‬إن‭ ‬أحسّت‭ ‬أن‭ ‬عواطفها‭ ‬بدأت‭ ‬تتحرك‭ ‬تجاه‭ ‬جبران‭ ‬حتى‭ ‬أخذت‭ ‬بالتهرب‭ ‬منها،‭ ‬وقد‭ ‬أنتجت‭ ‬مي‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬علاقتها‭ ‬بجبران‭ ‬كتباً‭ ‬كثيرة،‭ ‬منها‭ ‬‮«‬أزاهير‭ ‬حلم‭ ‬بالفرنسية‭ ‬وباحثة‭ ‬البادية‮»‬‭ ‬عام‭ ‬1920م،‭ ‬و«كلمات‭ ‬وإشارات‮»‬‭ ‬عام‭ ‬1922م،‭ ‬و«المساواة‭ ‬وظلمات‭ ‬وأشعة‮»‬‭ ‬عام‭ ‬1923،‭ ‬و«الصحائف‮»‬‭ ‬عام‭ ‬1924م‭. ‬

علاوة‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬كثيرة‭ ‬السفر‭ ‬طلباً‭ ‬للعلم‭ ‬والثقافة،‭ ‬فقد‭ ‬زارت‭ ‬بريطانيا‭ ‬وإيطاليا‭ ‬برغم‭ ‬وضعها‭ ‬الصحي‭ ‬الصعب‭. ‬

وما‭ ‬من‭ ‬شك‭ ‬أن‭ ‬نشاطاً‭ ‬بهذا‭ ‬المستوى‭ ‬كان‭ ‬عائقاً‭ ‬أمام‭ ‬حياتها‭ ‬العاطفية،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬مجلسها‭ ‬الأدبي‭ ‬الأسبوعي‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬حريصة‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يبقى‭ ‬منبرها‭ ‬فاعلاً‭ ‬وحيوياً،‭ ‬أضف‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬نشاطها‭ ‬الأدبي‭ ‬المتمثل‭ ‬في‭ ‬مقالاتها‭ ‬بالصحف‭ ‬اليومية‭ ‬والمجلات‭ ‬العربية،‭ ‬كالمقطم‭ ‬والأهرام‭ ‬والزهور‭ ‬والمحروسة‭ ‬والهلال‭ ‬والمقتطف،‭ ‬وهي‭ ‬بذلك‭ ‬خُلقَتْ‭ ‬أديبة‭ ‬وماتت‭ ‬أديبة،‭ ‬وتزوجت‭ ‬الأدب‭ ‬والفكر‭ ‬ولم‭ ‬تفضل‭ ‬أحداً‭ ‬عليهما،‭ ‬ومما‭ ‬ورد‭ ‬عنها‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الشأن‭ ‬قولها‭:‬

‮«‬أنا‭ ‬امرأة‭ ‬قضيت‭ ‬حياتي‭ ‬بين‭ ‬قلمي‭ ‬وكتبي‭ ‬وأدواتي‭ ‬ودراساتي،‭ ‬وقد‭ ‬انصرفت‭ ‬بكل‭ ‬تفكيري‭ ‬إلى‭ ‬المثالية‮»‬،‭ ‬لذلك‭ ‬كان‭ ‬جبران‭ ‬يحبها‭ ‬ويعتز‭ ‬بها‭.‬

 

الخوف‭ ‬من‭ ‬الحب

‭ ‬يقول‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أهدته‭ ‬كتابها‭ ‬‮«‬باحثة‭ ‬البادية‮»‬‭: ‬أنتِ‭ ‬يا‭ ‬مي‭ ‬صوت‭ ‬صادح‭ ‬في‭ ‬البرية،‭ ‬أنت‭ ‬صوت‭ ‬رباني‭ ‬يبقى‭ ‬حتى‭ ‬نهاية‭ ‬الزمن،‭ ‬وهي‭ ‬بناظره‭ ‬روح‭ ‬جميلة‭.‬

كانت‭ ‬محصلة‭ ‬رسائل‭ ‬جبران‭ ‬ومي‭ ‬موجات‭ ‬عاطفية‭ ‬كموج‭ ‬البحر،‭ ‬صاخبة‭ ‬حيناً‭ ‬وحيناً‭ ‬هادئة،‭ ‬وهذا‭ ‬يتناسب‭ ‬مع‭ ‬قولها‭ ‬الذي‭ ‬أشرنا‭ ‬إليه‭ ‬سابقاً‭ ‬‮«‬ما‭ ‬معنى‭ ‬هذا‭ ‬الذي‭ ‬أكتبه،‭ ‬إني‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬ماذا‭ ‬أعني‭ ‬به،‭ ‬لكني‭ ‬أعرف‭ ‬أنك‭ ‬محبوبي،‭ ‬إني‭ ‬أخاف‭ ‬الحب‮»‬‭.‬

‭ ‬ربما‭ ‬هنالك‭ ‬أسباب‭ ‬نفسية‭ ‬جسدية‭ ‬حياتية‭ ‬خاصة‭ ‬جعلت‭ ‬من‭ ‬الحب‭ ‬عند‭ ‬مي‭ ‬مأزقاً‭ ‬لا‭ ‬تقترب‭ ‬منه‭ ‬ولا‭ ‬تبتعد‭ ‬عنه‭.‬

كان‭ ‬موت‭ ‬جبران‭ ‬سنة‭ ‬1931‭ ‬على‭ ‬مي‭ ‬ثقيلاً،‭ ‬علاوة‭ ‬على‭ ‬فقد‭ ‬والديها‭ ‬وصديقها‭ ‬يعقوب‭ ‬صروف،‭ ‬القشّة‭ ‬التي‭ ‬قصمت‭ ‬ظهر‭ ‬البعير،‭ ‬فأظلمت‭ ‬الدنيا‭ ‬في‭ ‬وجهها‭ ‬واعتزلت‭ ‬الناس،‭ ‬وأصيبت‭ ‬بيأس‭ ‬العوانس‭ ‬واتُهمت‭ ‬بالجنون‭ ‬وأُدخلت‭ ‬مستشفى‭ ‬بريز‭ ‬في‭ ‬بيروت‭ ‬ثم‭ ‬مستشفى‭ ‬العصفورية،‭ ‬ولما‭ ‬تعافت‭ ‬قليلاً‭ ‬عادت‭ ‬إلى‭ ‬القاهرة،‭ ‬لكن‭ ‬المرض‭ ‬عاودها،‭ ‬فأدخلت‭ ‬مستشفى‭ ‬المعادي‭ ‬في‭ ‬القاهرة‭ ‬حيث‭ ‬توفيت‭ ‬سنة‭ ‬1941م‭.‬

تُرى‭ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يخيفها‭ ‬من‭ ‬الحب‭ ‬وهي‭ ‬القائلة‭ ‬عنه‭:‬

‮«‬قل‭ ‬لي‭ ‬أنت‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬وقل‭ ‬لي‭ ‬ما‭ ‬إذا‭ ‬كنت‭ ‬على‭ ‬ضلال‭ ‬أو‭ ‬هدى،‭ ‬فإني‭ ‬أثق‭ ‬بك‭ ‬وسواء‭ ‬أكنت‭ ‬مخطئة‭ ‬أم‭ ‬غير‭ ‬مخطئة‭ ‬فإن‭ ‬قلبي‭ ‬يسير‭ ‬إليك،‭ ‬وخير‭ ‬ما‭ ‬يفعل‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬يظل‭ ‬حائماً‭ ‬حواليك‭ ‬يحرسك‭ ‬ويحنو‭ ‬عليك‭.‬

غابت‭ ‬الشمس‭ ‬وراء‭ ‬الأفق‭ ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬السحب‭ ‬العجيبة‭ ‬الأشكال‭ ‬والألوان‭ ‬حصحصت‭ ‬نجمة‭ ‬لامعة‭ ‬واحدة‭ ‬هي‭ ‬الزهرة‭ ‬آلهة‭ ‬الحب،‭ ‬أترى‭ ‬يسكنها‭ ‬كأرضنا‭ ‬بشر‭ ‬يحبون‭ ‬ويتشوقون؟‭ ‬ربما‭ ‬وُجِدَ‭ ‬فيها‭ ‬بنت‭ ‬مثلي‭ ‬لها‭ ‬جبران‭ ‬واحد‮»‬‭. ‬

حال‭ ‬الحب‭ ‬مع‭ ‬مي‭ ‬كالفراشة‭ ‬والشمعة،‭ ‬فهي‭ ‬تدور‭ ‬حولها‭ ‬وتخاف‭ ‬إن‭ ‬التصقت‭ ‬بها‭ ‬أن‭ ‬تحترق،‭ ‬وأظن‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬هي‭ ‬مأساة‭ ‬مي‭ ‬وسرها‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يعرفه‭ ‬إلا‭ ‬هي‭ ‬وحدها‭ ‬دون‭ ‬جبران■