في مديح قابلة السينما المصرية
تبدأ الحياة بانزلاق ثم صرخة على يد الداية (القابلة) التي خوّفتنا منها السينما المصرية، ففي فيلم الزوجة الثانية للمخرج صلاح أبوسيف عام 1967، كانت الخالة نظيمة التي قامت بدورها الفنانة الراحلة نعمات الصغير، (داية القرية) التي أصبحت سمت كل الدايات على الشاشة، فغالباً ما تكون امرأة سمينة، كل ما فيها فظ، وجهها مثقوب بعينين تهيجان ببريق مرعب، وخصلات بيضاء هاربة من تحت غطاء الرأس الأسود، وكأنها هيبة الولادة هي التي تضفي على القابلة ذلك المنظر القاسي، والثبات الذي نراه كلما تطل علينا بوجهها الجامد، ربما الإفراط في التأثّر يفقدها اتزانها، ويمنعها من أداء عملها بشكل صحيح.
كانت للداية مهام تجعلها أهم صديقة لنساء الدار، هي من تُضاء لها البيوت وتفتح أرحامها، فتعرف الأسرار وتستنجد بها العائلات للبحث عن عريس أو عروس، أو في أحيانٍ أُخر للتأكيد على شرف بناتهن بكشف العذرية المقيت. فهي الأمينة الموثوق بها دون طبيب الوحدة، والتي لا يستنكف الزوج من كشف عورة امرأته عليها.
أما عن قوانينها فلها من الخيال ما يربط الواقع به، دون أن يكون لهذا الترابط أي وجود منطقي. تعليماتها يجب أن تتّبع، فمن تلد لا يدخل عليها زوجها حليق الذقن، وإلا فإنها لن تنجب مرة أخرى حتى تتحمم بليفة رجلٍ توفي حديثاً. ومن تأخر حملها فهي «مكبوسة»، يجب أن تفك كبستها في حقل مزروع بالباذنجان الأسود، ولذلك يرجعون سبب مرارة طعم الباذنجان إلى تلك الفِعْلة التي تتم ليلاً.
طقوس غريبة، لكن أعجبها هو الاحتفاظ بـ «الخلاص» (المشيمة) للمولود في مكان أمين بالبيت، كي لا يتوه في حياته حين يكبر، أو للسيطرة عليه فلا يخرج عن طوع الأم.
طقسٌ غريب لعادة لها أسطورة في الخيال الشعبي بجنوب الصعيد، أسطورة تحكي عن معاناة زوجة كي تنجب، استسلمت للوصفات بدءاً من زيارة الأولياء الصالحين، مروراً بطقس «الخضة»، كما فعلت سناء جميل في مواجهة القطار في فيلم الزوجة الثانية، امتثالاً لوصفة الخالة نظيمة الداية، حتى وصل اليأس إلى منتهاه بفعل «الكحروتة»، ذلك التقليد البائس، الذي تتقّلب فيه المرأة على الأرض فوق قبور الموتى. حتى وإن تم لها ما أرادت وحملت بعد فترة، وجاء الولد، فوضعت خلاصه في جَرّة من الفخّار، وحين اشتد عوده جحد الولد أمه وأهانها، فكسرت الزلعة فمات.
اللحم والدم قرينا القسوة، ففي تجسُّد لوجهٍ آخر، في فيلم رنّة الخلخال عام 1955، للمخرج محمود ذوالفقار، وتأليف أمين يوسف غراب، كانت الراحلة المخيفة نجمة إبراهيم تقوم بدور الداية، الخالة أم بدوي، ليتقرر لقب الخالة على كل دايات السينما المصرية.
تستجيب أم بدوي لمؤامرة لواحظ (برلنتي عبدالحميد)، التي ترى الخالة في عينيها الحرمان، حرمان لزوجة لعوب يرقد في مخدعها عجوز غبي، هو الحاج عامر (عبدالوارث عسر)، فيدفع الجشع الداية لوضع جثة وليد ميت واستبدال الحي به، وتكتمل الأحداث لتثبت أن هناك من النساء من يتفوقن في إجرامهن على الرجال، إجرامٌ بسبب الحاجة، أو بؤس لامرأة مأزومة تحت ضغط العادات والتقاليد، التي لها من التأثير النفسي والجسدي على المرأة ما يجعلها مستسلمة ومنكسرة أمام الحاجة إلى الإنجاب، فهو من الأهمية لها كي يمنحها مكانتها في المجتمع، وكي تتجنب اللقب المقيت «أم غايب» لمن تأخر حملها. ألم وحرمان خلقا مكاناً فسيحاً للداية، أعطياها سطوة وحظوة، فهي أول من تعرف بحمل الزوجة، تتابعها وتنصحها حتى في طرائق اللقاء الزوجي، وعندما يحين أوان المخاض تكون مستعدة لصوت المنادي، فتحمل كرسي الولادة الذي كان يستخدم قديماً لجلوس المرأة لينزلق المولود من مقعدته المجوفة، لكنه الآن كرسي خشبي صغير، يُوضع أمام الدار فقط للإشارة إلى أن في البيت امرأة تلد فيدعو الناس لها.
الداية المصرية تجعل من الصرخة زغرودة واحتفالاً للعائلة، وتُقاس بركة الداية بعدد البشارات التي تزفها لأهل البيت، بشارات بقدوم الذكر، فتتشّرط وتتدّلل وتأخذ نفحاتٍ من الجميع كما تريد، فهي التي ستتابع المولود حتى يتم الأربعين، تحمّمه وتقمطه في ألبسة لتحفظ صحته.
أما خبر النكد بقدوم الأنثى، ففي الغالب يكون قاسياً، ليس على الزوج فحسب، بل لأهل البيت، نساء ورجالاً، ربما تكون ردة فعل الرجل بعيدة عن قواعد المنطق أو حتى خارج حدود الأدب، وفي حالات أخرى ربما تصل إلى الطلاق أو الهجران أو العنف، الذي تتحايل عليه الداية بالجملة الخالدة «البنات رزق ووسع من ربنا».
في وجهٍ آخر لصورة الداية بالسينما المصرية، نرى «أم السعد» في فيلم الآنسة حنفي عام 1954، للمخرج فطين عبدالوهاب، وتأليف جليل البنداري، حين يصرخ إسماعيل ياسين من ألم المخاض، ويستنجد بأم السعد، الداية والخاطبة التي قامت بدورها الراحلة جمالات زايد، وجهٌ على النقيض من الجدّية والجمود، مفعم بالكوميديا وسذاجة موقف لا يحتمل السخرية من لحظة الميلاد، لكنها السينما على أي حال، التي تصور ما لا يمكن قراءته أو مشاهدته في الحياة دون خيال، خيال يتأرجح ما بين الميلاد والوداع، من خلال تسوية عابرة لاستجابتين مختلفتين، طول بقاء في الدنيا وسرعة زوال منها، وتختفي الداية من على شاشة السينما، باختفاء العادة القديمة أمام حداثة واقع لا تصلح معه الأنماط المتوارثة في التعامل مع جمهور الشاشة الجديد ■