الشعر بين الغموض والإبهام

الشعر بين الغموض والإبهام

مسألة‭ ‬فهم‭ ‬الشعر‭ ‬أو‭ ‬عدم‭ ‬فهمه‭ ‬ليست‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬العربي،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬قديمة‭. ‬وجواب‭ ‬الشاعر‭ ‬أبي‭ ‬تمّام‭ ‬على‭ ‬مَن‭ ‬سأله‭: ‬‮«‬لماذا‭ ‬لا‭ ‬تقول‭ ‬ما‭ ‬يُفهم»؟‭ ‬كان‭ ‬بسؤال‭ ‬يوجّه‭ ‬إلى‭ ‬القارئ‭ ‬أو‭ ‬السامع‭ ‬وهو‭: ‬‮«‬لماذا‭ ‬لا‭ ‬تفهم‭ ‬ما‭ ‬يُقال؟‭!‬‮»‬،‭ ‬يدلّ‭ ‬على‭ ‬قِدم‭ ‬هذه‭ ‬المشكلة‭ ‬وعلى‭ ‬الجدل‭ ‬أو‭ ‬الغبار‭ ‬الذي‭ ‬أُثير‭ ‬ولا‭ ‬يزال‭ ‬يُثار‭ ‬حولها؛‭ ‬أي‭: ‬هل‭ ‬العلّة‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬أم‭ ‬أنها‭ ‬في‭ ‬المتلقي؟‭!‬

منذ‭ ‬ظهور‭ ‬المدرســــة‭ ‬السُرياليّة‭ ‬في‭ ‬فرنسا‭ ‬سنة‭ ‬1924‭ ‬في‭ ‬أعقاب‭ ‬نظريات‭ ‬فرويد‭ (‬1856‭/‬1939‭) ‬التي‭ ‬كشفت‭ ‬خفايا‭ ‬النفس‭ ‬البشرية،‭ ‬والدعوة‭ ‬قائمة‭ ‬إلى‭ ‬الحلم‭ ‬والغموض‭ ‬والهذيان‭ ‬المحموم‭ ‬واللاوعي‭ ‬والصور‭ ‬المفكَّكة‭ ‬في‭ ‬حقلي‭ ‬الفن‭ ‬والأدب،‭ ‬والتي‭ ‬تركّز‭ ‬على‭ ‬تشويه‭ ‬الواقع‭ ‬والقول‭ ‬بتداعي‭ ‬الأفكار،‭ ‬إلى‭ ‬ظهور‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر‭.‬

الغموض‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬مرغوب‭ ‬فيه؛‭ ‬لأنه‭ ‬يتيح‭ ‬للقارئ‭ ‬مشاركة‭ ‬الشاعر‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬الخلق‭ ‬والإبداع،‭ ‬حيث‭ ‬يستطيع‭ ‬أحياناً‭ ‬أن‭ ‬يرى‭ ‬أشياء‭ ‬لم‭ ‬يرها‭ ‬الشاعر،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬يكتشف‭ ‬في‭ ‬النص‭ ‬الشعري‭ ‬أشياء‭ ‬جديدة‭ ‬لم‭ ‬يقصدها‭ ‬الشاعر،‭ ‬فيذهب‭ ‬أبعد‭ ‬منه‭.‬

فالسهولة‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬مرفوضة‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬تجعل‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬كلاماً‭ ‬مسطّحاً‭ ‬لا‭ ‬يقول‭ ‬شيئاً،‭ ‬أو‭ ‬أنَّ‭ ‬ما‭ ‬يقوله‭ ‬ليس‭ ‬ذا‭ ‬قيمة؛‭ ‬كمثل‭ ‬قول‭ ‬الشاعر‭ ‬القديم‭:‬

كأننا‭ ‬والماءُ‭ ‬من‭ ‬حولنَا

قومٌ‭ ‬جلوسٌ‭ ‬حولَهُمْ‭ ‬ماءُ

أو‭ ‬قول‭ ‬أمير‭ ‬الشعراء‭ ‬أحمد‭ ‬شوقي‭:‬

وكلُّ‭ ‬مسافرٍ‭ ‬سيعودُ‭ ‬يوماً

إذا‭ ‬رُزقَ‭ ‬السلامةَ‭ ‬والإيابا

فهذا‭ ‬الشعر‭ ‬لا‭ ‬يقول‭ ‬شيئاً؛‭ ‬لأنه‭ ‬واضح،‭ ‬بل‭ ‬شديد‭ ‬الوضوح،‭ ‬فيصحّ‭ ‬أن‭ ‬نقول‭ ‬عن‭ ‬الشاعر‭: ‬وفسّرَ‭ ‬الماءَ‭ ‬بعد‭ ‬الجُهدِ‭ ‬بالماءِ‭! ‬ولكن‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬نميّز‭ ‬بين‭ ‬الغموض‭ ‬والإبهام‭.‬

 

كلمات‭ ‬أصبحت‭ ‬غريبة

الصعوبة‭ ‬في‭ ‬فهم‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬القديم؛‭ ‬أي‭: ‬الشعر‭ ‬الجاهلي‭ ‬خاصة،‭ ‬كامنة‭ ‬في‭ ‬فهم‭ ‬معاني‭ ‬الكلمات؛‭ ‬لأن‭ ‬هذه‭ ‬الكلمات‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬مستعملة‭ ‬في‭ ‬يومنا،‭ ‬أي‭ ‬إنها‭ ‬أصبحت‭ ‬غريبة‭ ‬وحوشيّة‭ ‬وغير‭ ‬مألوفة،‭ ‬لذلك‭ ‬يجب‭ ‬شرح‭ ‬معاني‭ ‬مفردات‭ ‬هذا‭ ‬الشعر‭ ‬لكي‭ ‬نستطيع‭ ‬أن‭ ‬نفهمه‭: ‬ففي‭ ‬الصفحة‭ ‬غالباً‭ ‬بيتان‭ ‬أو‭ ‬ثلاثة‭ ‬أبيات‭ ‬من‭ ‬الشعر،‭ ‬وبقية‭ ‬الصفحة‭ ‬شرح‭ ‬هذين‭ ‬البيتين‭ ‬أو‭ ‬الأبيات‭ ‬الثلاثة،‭ ‬فإذا‭ ‬أخذنا‭ ‬شرح‭ ‬المعلقات‭ ‬السبع‭ ‬للزوزني‭ ‬مثلاً،‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬الحيّز‭ ‬الأكبر‭ ‬من‭ ‬الصفحة‭ ‬مكرّس‭ ‬لشرح‭ ‬معاني‭ ‬مفردات‭ ‬الأبيات‭.‬

أما‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬الحديث‭ ‬فالمشكلة‭ ‬ليست‭ ‬في‭ ‬معاني‭ ‬المفردات،‭ ‬لأن‭ ‬معانيها‭ ‬مألوفة‭ ‬وواضحة،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬ماذا‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يقوله‭ ‬الشاعر‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬هذه‭ ‬الكلمات‭ ‬المألوفة‭ ‬المعاني؛‭ ‬أي‭: ‬ماذا‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يوصله‭ ‬إلى‭ ‬القارئ؟

يقول‭ ‬الشاعر‭ ‬محمود‭ ‬درويش‭ (‬1941‭/‬2008‭)‬،‭ ‬وهو‭ ‬أحد‭ ‬كبار‭ ‬الشعراء‭ ‬العرب‭ ‬المعاصرين‭: ‬‮«‬المعنى‭ ‬الوحيد‭ ‬للشعر‭ ‬هو‭ ‬ألا‭ ‬يكون‭ ‬للشعر‭ ‬معنى‮»‬‭! ‬هذا‭ ‬كلام‭ ‬خطير‭ ‬إذا‭ ‬أخذناه‭ ‬بحرفيَّته‭. ‬فكيف‭ ‬يكون‭ ‬الشعر‭ ‬شعراً‭ ‬إذا‭ ‬فرغ‭ ‬من‭ ‬المعنى؟‭! ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬الشعر‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬معنى،‭ ‬فما‭ ‬الفائدة‭ ‬من‭ ‬نظمه؟

في‭ ‬فن‭ ‬الرسم‭ ‬يستطيع‭ ‬الرسام‭ ‬أن‭ ‬يرسم‭ ‬خطوطاً‭ ‬بألوان‭ ‬مختلفة‭ ‬ويدّعي‭ ‬أنه‭ ‬يرسم‭ ‬‮«‬لوحة‭ ‬فنية‮»‬‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬تقول‭ ‬شيئاً،‭ ‬ولكنها‭ ‬تبدو‭ ‬للعين‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬توحي‭ ‬بشيء‭ ‬من‭ ‬الجمال‭. ‬ولكن‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬الذي‭ ‬مادته‭ ‬‮«‬الكلمة‮»‬،‭ ‬فإن‭ ‬رمي‭ ‬كلمات‭ ‬متنافرة‭ ‬وغير‭ ‬مترابطة‭ ‬لا‭ ‬يجمع‭ ‬فيما‭ ‬بينها‭ ‬معنى،‭ ‬يكون‭ ‬ضرباً‭ ‬من‭ ‬الهذيان‭ ‬والأحاجي‭ ‬والهلوسة‭.‬

 

صعوبة‭ ‬الحفظ‭ ‬

إن‭ ‬بعض‭ ‬ما‭ ‬يُسوَّق‭ ‬اليوم‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬‮«‬شعر‭ ‬حديث‮»‬‭ ‬من‭ ‬المتعذَّر‭ ‬أن‭ ‬يحفظ‭ ‬المرء‭ ‬‮«‬بيتاً‮»‬‭ ‬منه‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يستشهد‭ ‬به‭ ‬عند‭ ‬الضرورة،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬يجد‭ ‬فيه‭ ‬شيئاً‭ ‬يرسخ‭ ‬في‭ ‬الذهن‭ ‬فكأنه‭ ‬يملأ‭ ‬الفراغ‭ ‬بمثله‭!‬

يقول‭ ‬المتنبي‭ ‬في‭ ‬قصيدته‭ ‬في‭ ‬سيف‭ ‬الدولة‭ ‬التي‭ ‬مطلعها‭: ‬‮«‬الرأيُ‭ ‬قبلَ‭ ‬شجاعةِ‭ ‬الشجعانِ‮»‬‭ ‬يصف‭ ‬شدّة‭ ‬القتال‭:‬

في‭ ‬جَحْفلٍ‭ ‬سَتَرَ‭ ‬العيونَ‭ ‬غبارُه

فكأنما‭ ‬يُبْصِرنَ‭ ‬بالآذانِ

فجعل‭ ‬الأُذن،‭ ‬وهي‭ ‬أداة‭ ‬السَّمع،‭ ‬تحلّ‭ ‬محلّ‭ ‬العين‭ ‬أداة‭ ‬النظر‭! ‬فإذا‭ ‬تعذرت‭ ‬الرؤية‭ ‬بسبب‭ ‬غبار‭ ‬المعركة،‭ ‬فإن‭ ‬الأُذن‭ ‬تستطيع‭ ‬أن‭ ‬‮«‬تشاهد‮»‬‭ ‬صخب‭ ‬القتال‭ ‬وضراوته‭ ‬وصيحات‭ ‬الرجال‭ ‬وصهيل‭ ‬الخيول‭ ‬وقرقعة‭ ‬السلاح‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬تقوله‭ ‬الرمزية‭ ‬في‭ ‬اختلاط‭ ‬الحواس‭.‬

يرى‭ ‬البعض‭ ‬أن‭ ‬الغموض‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬ناجم‭ ‬عن‭ ‬عدم‭ ‬رويّة‭ ‬القارئ‭ ‬أو‭ ‬مرده‭ ‬إلى‭ ‬نقص‭ ‬في‭ ‬مؤهلاته،‭ ‬أو‭ ‬إلى‭ ‬عدم‭ ‬اعتياده‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬الصعب‭ ‬من‭ ‬الأدب‭. ‬وفئة‭ ‬أخرى‭ ‬ترى‭ ‬أن‭ ‬الغموض‭ ‬يرجع‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬معنى‭ ‬القصيدة‭ ‬يتحول‭ ‬بحسب‭ ‬الزمن‭ ‬والظروف؛‭ ‬لأن‭ ‬الشعر‭ ‬في‭ ‬رسالته‭ ‬يحمل‭ ‬حالة‭ ‬نفسية،‭ ‬لا‭ ‬يستوعبها‭ ‬القارئ‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬برهة‭ ‬معينة‭ ‬مواتية‭.‬والذين‭ ‬يقولون‭ ‬بالغموض‭ ‬يرون‭ ‬أن‭ ‬الوضوح‭ ‬قد‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬المَلَل‭. ‬ولأن‭ ‬التفسير‭ ‬والشرح‭ ‬ليسا‭ ‬من‭ ‬رسالة‭ ‬الشعر،‭ ‬بل‭ ‬الإيماء‭ ‬والإشارة‭. ‬وأن‭ ‬مهمة‭ ‬الشعر‭ ‬أن‭ ‬يضعك‭ ‬في‭ ‬الحالة‭ ‬الشعرية،‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬الشاعر‭ ‬الفرنسي‭ ‬بول‭ ‬فاليري‭ (‬1871‭/‬1945‭). ‬هنا‭ ‬يأتي‭ ‬دور‭ ‬الإيحاء؛‭ ‬أي‭ ‬أن‭ ‬اللغة‭ ‬ليست‭ ‬مجرد‭ ‬وسيلة‭ ‬لنقل‭ ‬المعاني‭ ‬المحددة،‭ ‬بل‭ ‬وسيلة‭ ‬للإيحاء؛‭ ‬أي‭ ‬أن‭ ‬تنقل‭ ‬حالة‭ ‬الشاعر‭ ‬إلى‭ ‬القارئ‭.‬

 

القصيدة‭ ‬الرمزية

لعلَّ‭ ‬قصيدة‭ ‬بشر‭ ‬فارس‭ (‬1907‭/‬1963‭) ‬‮«‬إلى‭ ‬زائرة‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬نُشرت‭ ‬في‭ ‬أربعينيات‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬والتي‭ ‬وُضعت‭ ‬جائزة‭ ‬لمن‭ ‬يفسّرها‭ ‬خير‭ ‬دليل‭ ‬على‭ ‬غموض‭ ‬القصيدة‭. ‬

وبِشر‭ ‬فارس‭ ‬لبناني‭ ‬عاش‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬وكان‭ ‬رمزيّاً‭. ‬وهذه‭ ‬القصيدة‭ ‬من‭ ‬ثمانية‭ ‬أبيات،‭ ‬وهي‭ ‬غامضة؛‭ ‬لأن‭ ‬الشاعر‭ ‬لم‭ ‬يُفصح‭ ‬عمّن‭ ‬هي‭ ‬‮«‬الزائرة‮»‬‭ ‬التي‭ ‬يتكلم‭ ‬عنها‭ ‬في‭ ‬القصيدة‭. ‬فقيل‭ ‬في‭ ‬تفسيرها‭: ‬إنه‭ ‬يتحدث‭ ‬عن‭ ‬امرأة‭ ‬عرفها‭ ‬في‭ ‬شبابه،‭ ‬وكانت‭ ‬على‭ ‬قدرٍ‭ ‬من‭ ‬الجمال،‭ ‬ولكنه‭ ‬لما‭ ‬عاد‭ ‬والتقاها‭ ‬وجدها‭ ‬قد‭ ‬أصبحت‭ ‬عجوزاً‭ ‬وقد‭ ‬زال‭ ‬جمالها،‭ ‬فنفر‭ ‬منها‭. ‬

وهناك‭ ‬من‭ ‬رأى‭ ‬أنه‭ ‬يقصد‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬الزائرة‮»‬‭ ‬القصيدة‭ ‬الرمزية‭ ‬التي‭ ‬تهبط‭ ‬على‭ ‬وجدان‭ ‬الشاعر،‭ ‬وإليك‭ ‬القصيدة‭:‬

لو‭ ‬كنتِ‭ ‬ناصعةَ‭ ‬الجبين

ما‭ ‬روعةُ‭ ‬اللفظِ‭ ‬المُبين

ظِلٌ‭ ‬على‭ ‬وهجِ‭ ‬الحنين

خطٌ‭ ‬تساقطَ‭ ‬كالحزين

ماذا‭ ‬بوَجدِ‭ ‬المُحْصَنين

غيَّبتِ‭ ‬في‭ ‬العَجبِ‭ ‬الدفين

دُرًّا‭ ‬يفوتُ‭ ‬الناظمين

خطواتُ‭ ‬وسواسٍ‭ ‬رزين

هيهاتِ‭ ‬تنقضني‭ ‬الزيارة

السحرُ‭ ‬من‭ ‬وحي‭ ‬العبارة

رسمته‭ ‬معجزةُ‭ ‬الإشارة

أرخى‭ ‬على‭ ‬العزمِ‭ ‬انكساره

صوتٌ‭ ‬شَجٍ‭ ‬خلفَ‭ ‬الستارة

معنىً‭ ‬براعته‭ ‬البكارة

ونهضتِ‭ ‬تُهديني‭ ‬بِحاره

وَهبٌ‭ ‬تعمّيه‭ ‬الطهارة

فالشاعر‭ ‬يقول‭: ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬القصيدة‭ ‬واضحة‭ ‬لما‭ ‬أثارت‭ ‬اهتمامه،‭ ‬فالكلام‭ ‬الواضح‭ ‬لا‭ ‬يثير‭ ‬الدهشة‭. ‬الشاعر‭ ‬لا‭ ‬يشرح‭ ‬أو‭ ‬يوضح‭ ‬ما‭ ‬يرمي‭ ‬إليه،‭ ‬ويترك‭ ‬للقارئ‭ ‬أن‭ ‬يجتهد‭ ‬في‭ ‬فهم‭ ‬المعاني‭ ‬التي‭ ‬يرمي‭ ‬إليها‭.‬

والستارة‭ ‬هنا‭ ‬ترمز‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬الحجاب‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬يحجب‭ ‬المعنى‭ ‬ولا‭ ‬يظهره‭ ‬بوضوح‭. ‬المهم‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬المعنى‭ ‬مبتكراً‭ ‬وغير‭ ‬مألوف،‭ ‬وليس‭ ‬مكرّراً‭ ‬أو‭ ‬مُجتراً‭. ‬والمعنى‭ ‬كالدر‭ ‬كامن‭ ‬في‭ ‬أعماق‭ ‬البحار‭ ‬يجب‭ ‬على‭ ‬الشاعر‭ ‬أن‭ ‬يغوص‭ ‬لاكتشافه،‭ ‬فهو‭ ‬ليس‭ ‬معنى‭ ‬مسطحاً‭ ‬واضحاً‭ ‬يمكن‭ ‬فهمه‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬بذل‭ ‬أي‭ ‬جهد‭.‬

وهكذا‭ ‬يبدو‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬غياب‭ ‬الموضوع‭ ‬وغياب‭ ‬المعنى‭ ‬الذي‭ ‬يرمــــي‭ ‬إليــــه‭ ‬الشاعـــر‭ ‬يؤديان‭ ‬بالقارئ‭ ‬إلى‭ ‬الضياع‭ ‬وإلـــــى‭ ‬طـــــرح‭ ‬السؤال‭: ‬ماذا‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يقول؟‭ ‬بحيث‭ ‬تصبح‭ ‬لغة‭ ‬النص‭ ‬الشعري‭ ‬معزولة‭ ‬عـــن‭ ‬الســــياق‭ ‬الموضــــوعي،‭ ‬فيصـــــبح‭ ‬على‭ ‬القارئ‭ ‬أو‭ ‬المتلقي‭ ‬أن‭ ‬يجتهد‭ ‬في‭ ‬تأويل‭ ‬الكلام‭.‬

 

الغموض‭ ‬في‭ ‬شعر‭ ‬أدونيس

الشاعر‭ ‬أدونيس‭ ‬من‭ ‬الشعراء‭ ‬العرب‭ ‬المعاصرين‭ ‬الأكثر‭ ‬ثقافة‭ ‬والأكثر‭ ‬إثارة‭ ‬للجدل،‭ ‬وقد‭ ‬اختلف‭ ‬فيه‭ ‬الناس‭. ‬ولنضرب‭ ‬مثلاً‭ ‬على‭ ‬الغموض‭ ‬في‭ ‬شعر‭ ‬أدونيس‭ ‬قصيدته‭ ‬‮«‬الوقت‮»‬‭ ‬التي‭ ‬نُشرت‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬مجلة‭ ‬‮«‬مواقف‮»‬‭ ‬التي‭ ‬يُشرف‭ ‬عليها،‭ ‬في‭ ‬عدد‭ ‬45‭ ‬شتاء‭ ‬سنة‭ ‬1983،‭ ‬ثم‭ ‬نُشرت‭ ‬مع‭ ‬بعض‭ ‬التغيير‭ ‬في‭ ‬مجموعته‭ ‬‮«‬كتاب‭ ‬الحصار‮»‬‭ (‬يونيو‭ ‬1982،‭ ‬يونيو‭ ‬1985‭). ‬وهو‭ ‬يقول‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة،‭ ‬وهي‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬المجموعة،‭ ‬وقصيدة‭ ‬‮«‬إسماعيل‮»‬،‭ ‬الأخيرة‭ ‬فيها،‭ ‬إنهما‭ ‬الأصعب‭ ‬فيما‭ ‬نظم‭ ‬من‭ ‬شعر‭. ‬والقصيدتان‭ ‬صعبتان‭ ‬دون‭ ‬شك،‭ ‬بل‭ ‬فيهما‭ ‬غموض‭ ‬كثير‭ ‬واستخدام‭ ‬غريب‭ ‬للكلمات‭.‬

تبدأ‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬الوقت‮»‬‭ ‬بــ‭: ‬

حاضِناً‭ ‬سنبلةَ‭ ‬الوقتِ‭ ‬ورأسي‭ ‬برجُ‭ ‬نارٍ‭: ‬

ما‭ ‬الدّمُ‭ ‬الضّاربُ‭ ‬في‭ ‬الرّملِ،‭ ‬وما‭ ‬هذا‭ ‬الأفولُ؟

قُلْ‭ ‬لنا،‭ ‬يا‭ ‬لَهَبَ‭ ‬الحاضرِ،‭ ‬ماذا‭ ‬سنقولُ؟

مِزَقُ‭ ‬التاريخِ‭ ‬في‭ ‬حنجرتي

وعلى‭ ‬وجهي‭ ‬أَماراتُ‭ ‬الضحيّة

ما‭ ‬أمَرَّ‭ ‬اللغة‭ ‬الآنَ‭ ‬وما‭ ‬أضيقَ‭ ‬بابَ‭ ‬الأبجديّة‭.‬

ولمّا‭ ‬كنت‭ ‬أُدرِّس‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة،‭ ‬ذهبت‭ ‬إلى‭ ‬أدونيس‭ ‬أسأله‭ ‬عما‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يقول‭ ‬فيها؟‭ ‬فكان‭ ‬جوابه‭: ‬‮«‬أنا‭ ‬لا‭ ‬أُحسن‭ ‬أن‭ ‬أفسّر‭ ‬شعري‮»‬‭. ‬قلت‭ ‬له‭: ‬ماذا‭ ‬تقصد‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬سنبلة‭ ‬الوقت‮»‬؟‭ ‬ولماذا‭ ‬لا‭ ‬تضع‭ ‬كلمة‭ ‬أخرى‭ ‬تؤلّف‭ ‬قرينة‭ ‬مع‭ ‬كلمة‭ ‬‮«‬وقت‮»‬،‭ ‬كأن‭ ‬تقول‭ ‬‮«‬طاحونة‭ ‬الوقت‮»‬،‭ ‬أو‭ ‬‮«‬منفضة‭ ‬الوقت‮»‬،‭ ‬أو‭ ‬‮«‬طنجرة‭ ‬الوقت‮»‬‭ ‬–‭ ‬أقصد‭ ‬–‭ ‬ما‭ ‬يُعرف‭ ‬‮«‬بطنجرة‭ ‬الضغط‮»‬،‭ ‬أو‭ ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬غير‭ ‬ذلك؟‭! ‬فكان‭ ‬جوابه‭ ‬أنه‭ ‬أراد‭ ‬أن‭ ‬يدل‭ ‬على‭ ‬‮«‬الهشاشة‮»‬‭ ‬هشاشة‭ ‬الوقت‭ ‬و«السنبلة‮»‬‭ ‬خير‭ ‬ما‭ ‬يعبّر‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭. ‬ولكن‭ ‬ماذا‭ ‬يجمع‭ ‬بين‭ ‬‮«‬السنبلة‮»‬‭ ‬و«الوقت»؟

في‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬الوقت‮»‬‭ ‬يتحدث‭ ‬أدونيس‭ ‬عن‭ ‬سنوات‭ ‬الحرب‭ ‬التي‭ ‬عاشها‭ ‬في‭ ‬بيروت‭ ‬أو‭ ‬عاش‭ ‬قسماً‭ ‬كبيراً‭ ‬منها،‭ ‬ويتناول‭ ‬فيها‭ ‬ثلاثة‭ ‬محاور‭: (‬الله‭ ‬–‭ ‬الموت‭ ‬–‭ ‬الزمن‭).‬

همّ‭ ‬أدونيس‭ ‬الأســـاس‭ ‬أن‭ ‬يُغيّر‭ ‬لغة‭ ‬الكتابة‭ ‬وأفق‭ ‬الكتابة‭ ‬لكي‭ ‬يأتي‭ ‬النص‭ ‬الشعري‭ ‬اختراقاً‭.‬

إن‭ ‬بعض‭ ‬ما‭ ‬يُسوّق‭ ‬ويُروَّج‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬‮«‬شعر‮»‬‭ ‬إنما‭ ‬هو‭ ‬شعر‭ ‬خالٍ‭ ‬من‭ ‬الشعر،‭ ‬هو‭ ‬شعر‭ ‬مسحوب‭ ‬منه‭ ‬الشعر،‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬الحليب‭ ‬المجفف‮»‬،‭ ‬الخالي‭ ‬من‭ ‬الدسم‭.‬

وبعد،‭ ‬الشعر‭ ‬عمل‭ ‬جادٌ‭ ‬مضنٍ‭ ‬وهو‭ ‬رأس‭ ‬الفنون‭ ‬كلها،‭ ‬وهو‭ ‬الفن‭ ‬الوحيد‭ ‬الذي‭ ‬يُدرك‭ ‬بالحاستين‭ ‬الأهم‭ ‬عند‭ ‬الإنسان‭ ‬هما‭: ‬النظر‭ ‬والسمع،‭ ‬لأنك‭ ‬تستطيع‭ ‬أن‭ ‬تقرأ‭ ‬الشعر‭ ‬بعينيك‭ ‬وتسمعه‭ ‬بأُذنيك،‭ ‬وهذا‭ ‬لا‭ ‬يصح‭ ‬على‭ ‬أي‭ ‬فن‭ ‬آخر؛‭ ‬كالرسم‭ ‬والنحت‭ ‬والرقص،‭ ‬التي‭ ‬تدرك‭ ‬بالنظر‭ ‬فقط،‭ ‬والموسيقى‭ ‬التي‭ ‬تدرك‭ ‬بالسمع‭ ‬وحده‭.‬

فبتنا‭ ‬نسمع‭ ‬بـــ‭ ‬‮«‬قصيدة‭ ‬النثر‮»‬‭ ‬و«قصيدة‭ ‬البياض‮»‬،‭ ‬وشعر‭ ‬الصمت‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يقول‭ ‬شيئاً،‭ ‬و«تفجير‭ ‬اللغة‮»‬‭ ‬و«اختراقها‮»‬‭ ‬و«تحطيمها‮»‬‭ ‬إذا‭ ‬شئتم‭!‬

فالشعر‭ ‬شعر‭ ‬والنثر‭ ‬نثر‭. ‬لماذا‭ ‬هذا‭ ‬الخداع‭ ‬والتزوير،‭ ‬ولماذا‭ ‬هذا‭ ‬الهجين‭ ‬الذي‭ ‬نسميه‭ ‬‮«‬قصيدة‭ ‬النثر»؟‭ ‬هناك‭ ‬نثر‭ ‬أجمل‭ ‬من‭ ‬الشعر؛‭ ‬كنثر‭ ‬الجاحظ‭ ‬وأمين‭ ‬نخلة‭ ‬وسواهما‭.‬

‭***‬

نعود‭ ‬لنطرح‭ ‬هذا‭ ‬السؤال‭ ‬من‭ ‬جديد‭: ‬لماذا‭ ‬ينظم‭ ‬الشاعر‭ ‬شعره‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يقول‭ ‬شيئاً؟‭ ‬وإذا‭ ‬أراد‭ ‬أن‭ ‬يقول‭ ‬ما‭ ‬يقوله‭ ‬لماذا‭ ‬لا‭ ‬يقوله‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬إبهام؟‭ ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬الشاعر‭ ‬يخاطب‭ ‬الناس،‭ ‬فيجب‭ ‬أن‭ ‬يخاطبهـــــم‭ ‬بلغة‭ ‬قــــادرين‭ ‬على‭ ‬فهمها‭.‬

فهل‭ ‬المطلوب‭ ‬أن‭ ‬يصبح‭ ‬الشعر‭ ‬مجرد‭ ‬كلمات‭ ‬لا‭ ‬رابط‭ ‬معنوياً‭ ‬يجمعهـــا؟‭ ‬أم‭ ‬هل‭ ‬المطلوب‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬النص‭ ‬الشعري‭ ‬لغزاً‭ ‬مغلقاً؟‭ ‬اللغة‭ ‬هي‭ ‬العنصر‭ ‬المكوّن‭ ‬للشعر،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬اللون‭ ‬هو‭ ‬العنصر‭ ‬المكوّن‭ ‬للرسم،‭ ‬فكيف‭ ‬إذن‭ ‬للشعر‭ ‬أن‭ ‬ينهض‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬لغة‭ ‬ذات‭ ‬دلالة؛‭ ‬أي‭: ‬تحمل‭ ‬معنى‭ ‬يفهمــــه‭ ‬الناس؟

 

اللغة‭ ‬والشاعر‭ ‬الحديث

واللغة‭ ‬قد‭ ‬تُؤوّل‭ ‬أو‭ ‬تخضع‭ ‬للمجاز،‭ ‬أو‭ ‬تدل‭ ‬على‭ ‬رموز‭ ‬أو‭ ‬توحي‭ ‬بمعانٍ‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬تكون‭ ‬متطابقة‭ ‬عند‭ ‬جميع‭ ‬الناس،‭ ‬ولكن‭ ‬كيف‭ ‬يستطيع‭ ‬أحد‭ ‬أن‭ ‬يقول‭ ‬إنه‭ ‬يخلق‭ ‬لغة‭ ‬جديدة؟‭! ‬فللكلمات‭ ‬معانيها‭ ‬ومدلولاتها،‭ ‬وكل‭ ‬كلمة‭ ‬تحمل‭ ‬معنى‭ ‬محدوداً‭ ‬أو‭ ‬معاني‭ ‬محدّدة،‭ ‬وإلا‭ ‬حصلت‭ ‬الفوضى‭ ‬في‭ ‬المفاهيم‭.‬

قد‭ ‬يرى‭ ‬البعض‭ ‬أن‭ ‬اللغة‭ ‬القديمة‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬استيعاب‭ ‬رؤى‭ ‬الشاعر‭ ‬الحديث‭ ‬وأفكاره‭ ‬وخواطره‭ ‬المضطربة‭. ‬

ولكن‭ ‬هل‭ ‬نفهــــم‭ ‬من‭ ‬ذلــــك‭ ‬الدعـــوة‭ ‬إلى‭ ‬إقامة‭ ‬علاقات‭ ‬فريــدة‭ ‬وصـــادمة‭ ‬وغـــــير‭ ‬مألـــوفــــة‭ ‬بيـــــــن‭ ‬مفــــردات‭ ‬اللــــغة؟‭ ‬وهل‭ ‬يــــؤدي‭ ‬ذلـــك‭ ‬بالضــــرورة‭ ‬إلى‭ ‬خلق‭ ‬معانٍ‭ ‬جديدة؟‭ ‬هل‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬ذلك؟‭!‬

فإذا‭ ‬بالشاعر‭ ‬الذي‭ ‬يدّعي‭ ‬الحداثة‭ ‬يأتي‭ ‬بكلمات‭ ‬لا‭ ‬رابط‭ ‬بينها،‭ ‬وجُملٍ‭ ‬ومقاطع‭ ‬متنافرة‭ ‬بحيث‭ ‬لا‭ ‬نعرف‭ ‬عمَّا‭ ‬يتكلم‭. ‬وهل‭ ‬المقصود‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬مجرد‭ ‬كلام‭ ‬لا‭ ‬رابط‭ ‬بينه‭ ‬وألفاظ‭ ‬لا‭ ‬توضح‭ ‬شيئاً‭. ‬وهل‭ ‬يكفي‭ ‬أن‭ ‬نجيب‭ ‬بأن‭ ‬المعنى‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬الشاعر؟‭!‬

ولكن‭ ‬يبقى‭ ‬السؤال‭: ‬هل‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬كله‭ ‬‮«‬شعر‮»‬‭ ‬أم‭ ‬‮«‬صرعة‮»‬‭ ‬من‭ ‬الصرعات؟

وللذين‭ ‬يسمون‭ ‬أنفسهم‭ ‬بأنهم‭ ‬‮«‬شعراء‭ ‬طليعيون‮»‬‭ ‬نقول‭: ‬إن‭ ‬كلمة‭ ‬‮«‬طليعية‮»‬‭ ‬التي‭ ‬استخدمها‭ ‬الشاعر‭ ‬الفرنسي‭ ‬الكبيـــر‭ ‬شارل‭ ‬بودلير‭ (‬1821‭/‬1867‭)‬،‭ ‬أحد‭ ‬كبار‭ ‬شعراء‭ ‬الرمزية،‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى‭ ‬سنة‭ ‬1864‭ ‬تطبّق‭ ‬عموماً‭ ‬على‭ ‬الحركات‭ ‬التي‭ ‬برزت‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬أنحاء‭ ‬أوربا‭: ‬التكعيبية‭ ‬في‭ ‬فرنسا،‭ ‬التعبيرية‭ ‬في‭ ‬ألمانيا،‭ ‬التصويرية‭ ‬في‭ ‬بريطانيا،‭ ‬المستقبلية‭ ‬في‭ ‬إيطاليا،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬في‭ ‬روسيا،‭ ‬وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬الدادائية‭ ‬والسوريالية،‭ ‬جميعها‭ ‬طليعيات‭ ‬أوقعت‭ ‬الثقافة‭ ‬التقليدية‭ ‬في‭ ‬أزمة،‭ ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬هذه‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬تمثيل‭ ‬الواقع‭ ‬الراهن‭ ‬الذي‭ ‬تغيّر‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬بعيد‭ ‬إثر‭ ‬الغزو‭ ‬الصناعي‭ ‬والمديني‭ ‬للفضاء‭ ‬المجتمعي،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬ظهور‭ ‬أنظمة‭ ‬سياسية‭ ‬وقيم‭ ‬أخلاقية‭ ‬وأيديولوجية‭ ‬جديدة‭. ‬

يُروى‭ ‬عن‭ ‬الجنرال‭ ‬شارل‭ ‬ديغول‭ (‬1890‭/‬1970‭) ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬رئيساً‭ ‬للجمهورية‭ ‬الفرنسية‭ ‬أن‭ ‬وزير‭ ‬الثقافة‭ ‬في‭ ‬عهده‭ ‬أندريه‭ ‬مالرو‭ (‬1901‭/‬1976‭) ‬قال‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬جلسات‭ ‬مجلس‭ ‬الوزراء‭ ‬الفرنسي‭ ‬مخاطباً‭ ‬ديغول‭:‬

‮«‬سيدي‭ ‬الجنرال،‭ ‬إن‭ ‬شاعــرنا‭ ‬سان‭ ‬جون‭ ‬برس‭ (‬1887‭/‬1975‭) ‬–‭ ‬حائز‭ ‬جائــــزة‭ ‬نوبـــــل‭ ‬سنة‭ ‬1960‭ ‬–‭ ‬وهو‭ ‬شاعر‭ ‬ذو‭ ‬شـــهرة‭ ‬عالمــــية،‭ ‬ويستحق‭ ‬وساماً‭ ‬رفيعاً‭ ‬من‭ ‬أوسمـــة‭ ‬الدولة،‭ ‬لاسيما‭ ‬أن‭ ‬شعره‭ ‬قد‭ ‬ترجم‭ ‬إلى‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬لغات‭ ‬العالم‮»‬‭.‬

فابتسم‭ ‬الجنرال‭ ‬ديغول‭ ‬وقال‭ ‬لمالرو‭: ‬‮«‬ما‭ ‬تقوله‭ ‬صحيح،‭ ‬ولكن‭ ‬متى‭ ‬يترجم‭ ‬شعر‭ ‬سان‭ - ‬جون‭ ‬برس‭ ‬إلى‭ ‬اللغة‭ ‬الفرنسية»؟‭!‬

فمتى‭ ‬يترجم‭ ‬شعر‭ ‬هؤلاء‭ ‬الشعراء‭ ‬الذين‭ ‬يدّعون‭ ‬الحداثة‭ ‬عندنا‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬العربية‮»‬؟

وبعد‭... ‬ليست‭ ‬هـــــناك‭ ‬وصفــــة‭ ‬طبيّة‭ ‬للحداثة‭ ‬وللشعر‭ ‬الحديث‭. ‬الإبداع‭ ‬وحده‭ ‬هو‭ ‬سرّ‭ ‬البقاء■!