النقد والسيميائيات الثقافيان

النقد والسيميائيات الثقافيان

النقد‭ ‬والسيميائيات‭ ‬الثقافيان‭ ‬حقلان‭ ‬معرفيان‭ ‬متداخلان‭ ‬وملتبسان‭. ‬فعندما‭ ‬نتحدث‭ ‬عن‭ ‬سيميائيات‭ ‬الثقافة،‭ ‬فإننا‭ ‬نتحدث‭ ‬عن‭ ‬اتجاه‭ ‬سيميائي‭ ‬قائم‭ ‬بذاته،‭ ‬بلور‭ ‬صرحه‭ ‬النظري‭ ‬والإجرائي‭ ‬صفوة‭ ‬من‭ ‬الباحثين‭ ‬الكبار،‭ ‬أمثال‭ ‬أمبرتو‭ ‬إيكو‭ ‬في‭ ‬إيطاليا،‭ ‬ويوري‭ ‬لوتمان‭ ‬في‭ ‬روسيا،‭ ‬الذي‭ ‬أسس‭ ‬مدرسة‭ ‬موسكو‭ - ‬تارتو‭ ‬الشهيرة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال،‭ ‬وشكل‭ ‬اتجاه‭ ‬سيميائيات‭ ‬الثقافة‭ ‬المحطة‭ ‬الثانية‭ ‬من‭ ‬اهتمامه‭ ‬السيميائي‭ ‬خلال‭ ‬ثمانينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬ينتقل‭ ‬إلى‭ ‬الاشتغال‭ ‬بما‭ ‬سماه‭ ‬‮«‬سيماء‭ ‬الكون‮»‬،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬رولان‭ ‬بارث‭ ‬في‭ ‬فرنسا،‭ ‬الذي‭ ‬قدّم‭ ‬قراءاتٍ‭ ‬سيميائيةً‭ ‬لعدد‭ ‬من‭ ‬الأنساق‭ ‬الثقافية‭ (‬اللباس،‭ ‬الموضة،‭ ‬أعمال‭ ‬بلزاك‭...)‬،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬معظم‭ ‬الباحثين‭ ‬يصنفونه‭ ‬ضمن‭ ‬اتجاه‭ ‬سيميائيات‭ ‬الدلالة‭. ‬

يهدف‭ ‬هذا‭ ‬الاتجاه،‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬قلة‭ ‬الدراسات‭ ‬التي‭ ‬اهتمت‭ ‬به‭ ‬مقارنة‭ ‬مع‭ ‬الاتجاهات‭ ‬الأخرى‭ (‬التواصل‭ ‬والدلالة‭)‬،‭ ‬في‭ ‬مجمله‭ ‬إلى‭ ‬الخروج‭ ‬من‭ ‬دائرة‭ ‬المقاربة‭ ‬البنيوية‭ ‬المغلقة‭ ‬التي‭ ‬اعتمدها‭ ‬سيمائيو‭ ‬الدلالة،‭ ‬وذلك‭ ‬بفتح‭ ‬النصوص‭ ‬وكل‭ ‬الظواهر‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬الظواهر‭ ‬المرئية‭ ‬على‭ ‬آفاق‭ ‬واسعة‭ ‬من‭ ‬التحليل،‭ ‬تسعف‭ ‬القارئ‭ ‬الذي‭ ‬أعلت‭ ‬نظرية‭ ‬التلقي‭ ‬من‭ ‬شأنه،‭ ‬في‭ ‬الانتقال‭ ‬من‭ ‬وضعية‭ ‬الاستهلاك‭ ‬للنص‭ ‬أو‭ ‬الفرجة،‭ ‬إلى‭ ‬وضعية‭ ‬الإنتاج‭ ‬عبر‭ ‬الممارسة‭ ‬النقدية‭ ‬التي‭ ‬تستند‭ ‬إلى‭ ‬الخلفية‭ ‬الثقافية‭ ‬الثاوية‭ ‬خلف‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يُعرض‭ ‬ويُكتب‭.‬

على‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬يلاحظ‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬اتجاه‭ ‬سيميائيات‭ ‬الثقافة‭ ‬كثيراً‭ ‬ما‭ ‬يلتبس‭ ‬بمفهوم‭ ‬النقد‭ ‬الثقافي‭ ‬الذي‭ ‬يعتبر،‭ ‬إلى‭ ‬حدّ‭ ‬ما،‭ ‬حقلاً‭ ‬جديداً‭ ‬على‭ ‬منجزنا‭ ‬النقدي‭. ‬لذا‭ ‬سنسعى‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المقال‭ ‬إلى‭ ‬رصد‭ ‬بعض‭ ‬الفروق‭ ‬الجوهرية‭ ‬بين‭ ‬النقد‭ ‬الثقافي‭ ‬وسيميائيات‭ ‬الثقافة،‭ ‬وذلك‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تعريف‭ ‬الثقافة‭ ‬نفسها،‭ ‬باعتبارها‭ ‬قاسماً‭ ‬مشتركاً‭ ‬بين‭ ‬هذين‭ ‬الحقلين‭ ‬المعرفيين‭.‬

‭ ‬

1-‭ ‬مفهوم‭ ‬الثقافة

لا‭ ‬أحد‭ ‬يجادل‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬الثقافة‭ ‬مفهوم‭ ‬شائك،‭ ‬له‭ ‬دلالات‭ ‬عديدة،‭ ‬وتعريفات‭ ‬متعددة،‭ ‬قدمت‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬لدُن‭ ‬علماء‭ ‬السياسة،‭ ‬وعلماء‭ ‬الاجتماع،‭ ‬وعلماء‭ ‬الأنثربولوجيا،‭ ‬والفلاسفة،‭ ‬وغيرهم‭. ‬

وليس‭ ‬بوسعنا‭ ‬هنا‭ ‬استقصاء‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬التعاريف‭ ‬لتمحيصها‭ ‬ونقدها،‭ ‬لأن‭ ‬المجال‭ ‬لا‭ ‬يسمح‭ ‬بذلك‭. ‬لذلك‭ ‬سنقتصر‭ ‬على‭ ‬تعريفين‭ ‬مختلفين‭ ‬لمفهوم‭ ‬الثقافة،‭ ‬كما‭ ‬ورد‭ ‬تحديدهما‭ ‬حديثاً‭.‬

فهناك‭ ‬من‭ ‬ذهب‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الثقافة‭ ‬‮«‬تتكون‭ ‬من‭ ‬القيم‭ ‬والمعتقدات‭ ‬والمعايير‭ ‬والتفسيرات‭ ‬العقلية‭ ‬والرموز‭ ‬والأيديولوجيات،‭ ‬وما‭ ‬شاكلها‭ ‬من‭ ‬المنتجات‭ ‬العقلية‮»‬،‭ ‬وهناك‭ ‬من‭ ‬يرى‭ ‬أنها‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يشير‭ ‬‮«‬إلى‭ ‬النمط‭ ‬الكلي‭ ‬لحياة‭ ‬شعب‭ ‬ما،‭ ‬والعلاقات‭ ‬الشخصية‭ ‬بين‭ ‬أفراده‭ ‬وكذلك‭ ‬توجهاتهم‮»‬‭. ‬

إذا‭ ‬كان‭ ‬التعريف‭ ‬الأول‭ ‬يتداوله‭ ‬علماء‭ ‬السياسة،‭ ‬والتعريف‭ ‬الثاني‭ ‬يميل‭ ‬إلى‭ ‬استعماله‭ ‬علماء‭ ‬الأنثروبولوجيا،‭ ‬فإن‭ ‬ما‭ ‬يهمنا‭ ‬نحن‭ ‬هو‭ ‬استخلاص‭ ‬أهم‭ ‬خصائص‭ ‬ومميزات‭ ‬الثقافة‭ ‬كما‭ ‬يرصدها‭ ‬التعريفان‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬التعصب‭ ‬لأي‭ ‬تعريف‭ ‬منهما‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬الآخر‭.‬

نلاحظ‭ ‬حسب‭ ‬التعريف‭ ‬الأول‭ ‬أن‭ ‬الثقافة‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬بنية‭ ‬مركّبة‭ ‬من‭ ‬عناصر‭ ‬مادية‭ (‬الرموز،‭ ‬المعمار،‭ ‬الآثار‭...)‬،‭ ‬وعناصر‭ ‬أخرى‭ ‬لامادية‭ (‬المعتقدات،‭ ‬القيم،‭ ‬الأيديولوجيات،‭ ‬التفسيرات‭ ‬العقلية،‭ ‬العُرف‭...)‬،‭ ‬ونلاحظ‭ ‬حسب‭ ‬التعريف‭ ‬الثاني‭ ‬أن‭ ‬الثقافة‭ ‬مفهوم‭ ‬مرتبط‭ ‬بالمجتمع،‭ ‬إذ‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬الثقافة‭ ‬دون‭ ‬استحضار‭ ‬خصوصيات‭ ‬المجتمع‭ ‬وأنماط‭ ‬عيشه‭ ‬التي‭ ‬تختلف‭ ‬باختلاف‭ ‬طبقاته‭ ‬وفئاته‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الانتماء‭ ‬واللغة‭ ‬والمعتقد،‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬مظاهر‭ ‬الاختلاف‭ ‬الأخرى‭.‬

وتبعاً‭ ‬للملاحظتين،‭ ‬نستنتج‭ ‬أن‭ ‬الثقافة‭ ‬هي‭ ‬مزيج‭ ‬من‭ ‬عدة‭ ‬عناصر‭ ‬مختلفة‭ ‬ومتنوعة؛‭ ‬وهذا‭ ‬التنوع‭ ‬الناتج‭ ‬عن‭ ‬الاختلاف‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يجعل‭ ‬لكل‭ ‬مجتمع‭ ‬ثقافة‭ ‬خاصة‭ ‬به،‭ ‬يعرفها‭ ‬ويتواصل‭ ‬بها‭.‬

ولما‭ ‬كانت‭ ‬العلامات‭ ‬والرموز‭ ‬من‭ ‬نتاج‭ ‬الثقافة،‭ ‬فإن‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬يبرر‭ ‬اختلافها‭ ‬من‭ ‬ثقافة‭ ‬إلى‭ ‬أخرى،‭ ‬ويزكي‭ ‬أن‭ ‬تحليلها‭ ‬واستيعابها‭ ‬يستدعيان‭ ‬الإلمام‭ ‬بالثقافة‭ ‬التي‭ ‬أنتجتها،‭ ‬وكذلك‭ ‬تلقيها‭ ‬الذي‭ ‬يختلف‭ ‬هو‭ ‬الآخر‭ ‬باختلاف‭ ‬الثقافات‭ ‬واختلاف‭ ‬المتلقين‭ ‬داخل‭ ‬الثقافة‭ ‬الواحدة،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يهدف‭ ‬إليه‭ ‬اتجاه‭ ‬سيميائيات‭ ‬الثقافة‭ ‬بشكل‭ ‬عام‭. ‬

في‭ ‬المقابل،‭ ‬نجد‭ ‬النقد‭ ‬الثقافي‭ ‬يقدم‭ ‬تعريفاً‭ ‬آخر‭ ‬للثقافة،‭ ‬فهي‭ ‬‮«‬ليست‭ ‬مجرد‭ ‬حزمة‭ ‬من‭ ‬أنماط‭ ‬السلوك‭ ‬المحسوسة،‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬التصور‭ ‬العام‭ ‬لها،‭ ‬كما‭ ‬أنها‭ ‬ليست‭ ‬العادات‭ ‬والتقاليد‭ ‬والأعراف،‭ ‬ولكن‭ ‬الثقافة‭ ‬بمعناها‭ ‬الأنثروبولوجي‭ ‬الذي‭ ‬يتبناه‭ ‬كيرتز‭ ‬هي‭ ‬آليات‭ ‬الهيمنة،‭ ‬من‭ ‬خطط‭ ‬وقوانين‭ ‬وتعليمات،‭ ‬كالطبخة‭ ‬الجاهزة،‭ ‬التي‭ ‬تشبه‭ ‬ما‭ ‬يسمى‭ ‬بالبرامج‭ ‬في‭ ‬علم‭ ‬الحاسوب،‭ ‬ومهمتها‭ ‬هي‭ ‬التحكم‭ ‬في‭ ‬السلوك‮»‬‭. ‬

يتبين‭ ‬أن‭ ‬النقد‭ ‬الثقافي‭ ‬يهدف‭ ‬إلى‭ ‬استخلاص‭ ‬الأنساق‭ ‬الثقافية‭ ‬المخبأة‭ ‬خلف‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬جمالي‭ ‬في‭ ‬النصوص‭ ‬تحديداً،‭ ‬بغية‭ ‬الكشف‭ ‬عن‭ ‬آليات‭ ‬الهيمنة‭ ‬التي‭ ‬تتستر‭ ‬وراء‭ ‬الجماليات‭ ‬للتحكم‭ ‬في‭ ‬البنية‭ ‬الذهنية‭ ‬للجنس‭ ‬البشري‭. ‬

فهو،‭ ‬إذن،‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬أشياء‭ ‬أخرى‭ ‬يسميها‭ ‬الباحث‭ ‬السعودي‭ ‬عبدالله‭ ‬الغذامي‭ ‬‮«‬القبحيات‮»‬،‭ ‬أو‭ ‬علم‭ ‬العلل‭ ‬غير‭ ‬الجماليات‭ ‬التي‭ ‬تستهوينا‭ ‬وتغرينا،‭ ‬وتدفعنا‭ ‬إلى‭ ‬قراءة‭ ‬النص‭ ‬من‭ ‬بدايته‭ ‬إلى‭ ‬نهايته‭. ‬

إن‭ ‬القيام‭ ‬بالمهمة‭ ‬النقدية‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬إمكان‭ ‬الجميع،‭ ‬وليس‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬يقرأ‭ ‬النصوص‭ ‬يستطيع‭ ‬الإحاطة‭ ‬بمدلولها‭ ‬العام،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬ذلك‭ ‬يبقى‭ ‬من‭ ‬اختصاص‭ ‬القارئ‭ ‬النموذجي‭ ‬المحصن‭ ‬بمعرفة‭ ‬موسوعية‭ ‬تؤهله‭ ‬للقيام‭ ‬بهذه‭ ‬المهمة‭ ‬المضنية،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬تبحث‭ ‬سيميائيات‭ ‬الثقافة‭ ‬في‭ ‬الجماليات‭ ‬نفسها‭ ‬لتفسرها‭ ‬وتعطيها‭ ‬دلالاتها،‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬متعارف‭ ‬عليها‭ ‬لدى‭ ‬فئات‭ ‬المجتمع‭.‬

كما‭ ‬أنها‭ ‬تبحث‭ ‬في‭ ‬المرئي‭ ‬وغير‭ ‬المرئي،‭ ‬بل‭ ‬إنها‭ ‬تركز‭ ‬على‭ ‬المرئي‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬النصي،‭ ‬عكس‭ ‬النقد‭ ‬الثقافي‭ ‬الذي‭ ‬مازال،‭ ‬إلى‭ ‬حدّ‭ ‬ما،‭ ‬يركز‭ ‬على‭ ‬النصوص‭ ‬التراثية‭ ‬بشكل‭ ‬خاص‭ ‬نحو‭ ‬ما‭ ‬نجده‭ ‬في‭ ‬مشروع‭ ‬الغذامي‭ ‬النقدي،‭ ‬الذي‭ ‬نحت‭ ‬مفاهيم‭ ‬جديدة‭ ‬يستبدل‭ ‬بها‭ ‬المفاهيم‭ ‬النقدية‭ ‬المتداولة‭ ‬في‭ ‬النقد‭ ‬الأدبي‭.‬

فهو‭ ‬يتحدث‭ ‬عن‭ ‬الجملة‭ ‬الثقافية‭ ‬باعتبارها‭ ‬بديلاً‭ ‬للجملة‭ ‬النحوية،‭ ‬وعلم‭ ‬القبحيات‭ ‬عِوض‭ ‬عِلم‭ ‬الجماليات،‭ ‬والمؤلف‭ ‬المزدوج‭ ‬في‭ ‬مقابل‭ ‬المؤلف‭ ‬العادي،‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬المفاهيم‭ ‬الأخرى‭ ‬التي‭ ‬أسس‭ ‬وقعّد‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬النقد‭ ‬الثقافي‭... ‬قراءة‭ ‬في‭ ‬الأنساق‭ ‬الثقافية‮»‬‭.‬

 

2-‭ ‬أوجه‭ ‬الائتلاف‭ ‬والاختلاف

أ‭-  ‬أوجه‭ ‬الائتلاف‭:‬‭ ‬بناء‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬سبق،‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬المفهومين‭ ‬يشتركان‭ ‬فيما‭ ‬يلي‭:‬

‭- ‬ينتميان‭ ‬معاً‭ ‬إلى‭ ‬حقل‭ ‬الدراسات‭ ‬الثقافية،‭ ‬وهو‭ ‬حقل‭ ‬يندرج‭ ‬ضمن‭ ‬خطاب‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬البنيوية‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحداثة،‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬يسميه‭ ‬الغذامي‭ ‬مرحلة‭ ‬‮«‬ما‭ ‬بعد‭ ‬النقدية‮»‬‭.‬

ويعود‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالدراسات‭ ‬الثقافية‭ ‬إلى‭ ‬فترة‭ ‬الثمانينيات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬حيث‭ ‬شكّل‭ ‬الاهتمام‭ ‬بسيميائيات‭ ‬الثقافة‭ ‬لدى‭ ‬لوتمان،‭ ‬باعتباره‭ ‬أحد‭ ‬رواد‭ ‬هذا‭ ‬الاتجاه،‭ ‬المرحلة‭ ‬الثانية‭ ‬كما‭ ‬أشرنا،‭ ‬وهي‭ ‬الفترة‭ ‬نفسها‭ ‬تقريباً‭ ‬التي‭ ‬بدأ‭ ‬فيها‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالنقد‭ ‬الثقافي‭ ‬لدى‭ ‬الغربيين‭ ‬أمثال‭: ‬دوجلاس‭ ‬كلنر‭ ‬وفانسان‭ ‬ليتش‭ ‬وغيرهما،‭ ‬لينتقل‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬ثقافتنا‭ ‬العربية‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬بعض‭ ‬الباحثين‭ ‬الذين‭ ‬اهتموا‭ ‬بهذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬الممارسة‭ ‬النقدية،‭ ‬ويأتي‭ ‬الغذامي‭ ‬في‭ ‬طليعتهم،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬الناقد‭ ‬الفلسطيني‭ ‬إدوارد‭ ‬سعيد‭.‬

‭- ‬يبحثان‭ ‬معاً‭ ‬في‭ ‬المضمر،‭ ‬ويهدفان‭ ‬إلى‭ ‬كشف‭ ‬ما‭ ‬وراء‭ ‬الجمالي،‭ ‬لكن‭ ‬بمقصدية‭ ‬مختلفة‭.‬

ب‭ -  ‬أوجه‭ ‬الاختلاف‭:‬‭ ‬في‭ ‬مقابل‭ ‬ذلك،‭ ‬تتمثل‭ ‬أوجه‭ ‬الاختلاف‭ ‬بينهما‭ ‬فيما‭ ‬يلي‭:‬

‭- ‬يهدف‭ ‬النقد‭ ‬الثقافي‭ ‬إلى‭ ‬الكشف‭ ‬عن‭ ‬العيوب‭ ‬والعلل،‭ ‬وتحرير‭ ‬الأدبية‭ ‬من‭ ‬سطوة‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬رسمي‭ ‬ومؤسساتي‭. ‬لذا‭ ‬نجده‭ ‬يولي‭ ‬أهمية‭ ‬كبيرة‭ ‬لثنائية‭ ‬الشعبي‭/ ‬الرسمي،‭ ‬ويعتبر‭ ‬إقصاء‭ ‬الشعبي‭ ‬أو‭ ‬الجماهيري‭ ‬الذي‭ ‬يعد‭ ‬أكثر‭ ‬تأثيراً‭ ‬من‭ ‬الممارسة‭ ‬النقدية‭ ‬مسألة‭ ‬غير‭ ‬بريئة،‭ ‬وكل‭ ‬نص‭ ‬لا‭ ‬يتوفّر‭ ‬على‭ ‬نسق‭ ‬مضمر‭ ‬مخبأ‭ ‬تحت‭ ‬العلني‭ ‬لا‭ ‬يدخل‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬النقد‭ ‬الثقافي،‭ ‬وفق‭ ‬الغذامي‭.‬

فالنقد‭ ‬الثقافي‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬الانتقاء‭ ‬والتمييز،‭ ‬وهو‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬نجده‭ ‬في‭ ‬سيميائيات‭ ‬الثقافة‭ ‬التي‭ ‬تُعنى‭ ‬بدراسة‭ ‬مختلف‭ ‬أنماط‭ ‬الخطاب؛‭ ‬سواء‭ ‬كانت‭ ‬نصية‭ ‬أم‭ ‬بصرية،‭ ‬رسمية‭ ‬أم‭ ‬شعبية،‭ ‬أدبية‭ ‬أم‭ ‬غير‭ ‬أدبية‭.‬

بل‭ ‬إن‭ ‬البدايات‭ ‬الفعلية‭ ‬للسيميائيات‭ ‬السردية،‭ ‬باعتبارها‭ ‬فرعاً‭ ‬من‭ ‬فروع‭ ‬السيميائيات‭ ‬العامة،‭ ‬كانت‭ ‬مع‭ ‬الحكايات‭ ‬الشعبية‭ ‬التي‭ ‬درسها‭ ‬فلاديمير‭ ‬بروب،‭ ‬وتعد‭ ‬دراسته‭ ‬رائدة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭. ‬

‭- ‬تستند‭ ‬سيميائيات‭ ‬الثقافة‭ ‬إلى‭ ‬المعطيات‭ ‬الثقافية‭ ‬لفك‭ ‬التشفير‭/ ‬السنن‭ ‬الذي‭ ‬غالباً‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬خاضعاً‭ ‬لعلاقة‭ ‬يفهمها‭ ‬الباثّ‭ ‬والمتلقي،‭ ‬فالاستناد‭ ‬هنا‭ ‬يكون‭ ‬بهدف‭ ‬تفسير‭ ‬المعنى‭ ‬وتشكيله‭.‬

على‭ ‬خلاف‭ ‬ذلك،‭ ‬يرى‭ ‬النقد‭ ‬الثقافي‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬نستهلكه‭ ‬لا‭ ‬يتناسب‭ ‬مع‭ ‬ما‭ ‬نتصوره‭ ‬عن‭ ‬أنفسنا‭ ‬وعن‭ ‬وظيفتنا‭ ‬في‭ ‬الوجود‭. ‬فالنقد‭ ‬الثقافي‭ ‬موجّه،‭ ‬يستند‭ ‬إلى‭ ‬الثقافة‭ ‬للكشف‭ ‬عن‭ ‬العيوب،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬تتوسل‭ ‬السيميائيات‭ ‬بالثقافة‭ ‬لتسهيل‭ ‬الفهم‭ ‬والكشف‭ ‬عن‭ ‬آليات‭ ‬التأثير،‭ ‬وبالتالي‭ ‬فهي‭ ‬ليست‭ ‬موجهة‭ ‬إلى‭ ‬نمط‭ ‬معيّن‭ ‬من‭ ‬النصوص‭ ‬أو‭ ‬الخطابات‭ ‬أو‭ ‬السلوكيات‭ ‬دون‭ ‬الأنماط‭ ‬الأخرى‭. ‬

إن‭ ‬القراءة‭ ‬التي‭ ‬يقوم‭ ‬بها‭ ‬الناقد‭ ‬الثقافي‭ ‬تتأسس‭ ‬على‭ ‬الرفض‭ ‬بالدرجة‭ ‬الأولى،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬تتأسس‭ ‬مقاربة‭ ‬السيميائي‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الثقافة‭ ‬على‭ ‬الرفض‭ ‬والتقبل،‭ ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬جوهر‭ ‬الاختلاف‭ ‬بين‭ ‬هاتين‭ ‬الدراستين‭ ‬المتقاربتين‭ ‬والمتباعدتين‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭.‬

لكن‭ ‬إذا‭ ‬انتقلنا‭ ‬إلى‭ ‬بعض‭ ‬التعريفات‭ ‬الأخرى‭ ‬التي‭ ‬خص‭ ‬بها‭ ‬السيميائيون‭ ‬الثقافة،‭ ‬فسنجدها‭ ‬تعني‭ ‬في‭ ‬نظر‭ ‬كلود‭ ‬ليفي‭ ‬ستراوس‭ ‬وبارث‭ ‬ولوتمان‭ ‬‮«‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬النصوص‮»‬‭. ‬

فالثقافة،‭ ‬وفق‭ ‬هذا‭ ‬التعريف،‭ ‬تقتصر‭ ‬على‭ ‬العلامات‭ ‬اللفظية،‭ ‬وهذا‭ ‬ليس‭ ‬صحيحاً‭ ‬مقارنة‭ ‬مع‭ ‬التعاريف‭ ‬السابقة‭ ‬التي‭ ‬قدمناها،‭ ‬حيث‭ ‬تشمل‭ ‬الثقافة‭ ‬أيضاً،‭ ‬وفق‭ ‬رولان‭ ‬بوسني،‭ ‬الثقافة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والمادية‭ ‬والذهنية،‭ ‬وبالتالي‭ ‬فالثقافة‭ ‬تشمل‭ ‬العلامات‭ ‬اللفظية‭ ‬والعلامات‭ ‬غير‭ ‬اللفظية‭. ‬

لكن‭ ‬المشكل‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬هؤلاء‭ ‬ربطوا،‭ ‬كما‭ ‬يظهر‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬عنوان‭ ‬المقال،‭ ‬سيميائيات‭ ‬الثقافة‭ ‬بالنصوص‭ ‬فقط،‭ ‬فحتى‭ ‬الأنساق‭ ‬البصرية‭ ‬مثل‭ ‬العلامات‭ ‬التي‭ ‬تكون‭ ‬على‭ ‬جانب‭ ‬الطريق‭ ‬وغيرها‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬مبين‭ ‬في‭ ‬المقال‭ ‬نفسه،‭ ‬تعتبر‭ ‬نصوصاً‭ ‬مادامت‭ ‬تُوجه‭ ‬مسار‭ ‬السائق‭ ‬وتنبهه‭ ‬وتحذره‭.‬

وبعيداً‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬السجال‭ ‬الذي‭ ‬تعود‭ ‬بدايته‭ ‬الأولى‭ ‬إلى‭ ‬سؤال‭ ‬إشكالي‭ ‬ظهر‭ ‬مع‭ ‬مصطلح‭ ‬السيميائيات‭: ‬مَن‭ ‬الأعم؛‭ ‬السيميائيات‭ ‬أم‭ ‬اللسانيات؟‭ ‬حيث‭ ‬برهن‭ ‬أنصار‭ ‬اللسانيات‭ ‬على‭ ‬موقفهم‭ ‬بما‭ ‬مفاده‭ ‬أن‭ ‬عديداً‭ ‬من‭ ‬الخطابات‭ ‬البصرية‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬إيصال‭ ‬رسالتها‭ ‬للّغة،‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬الشأن‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬اللوحة‭ ‬التشكيلية‭ ‬مثلاً‭.‬

وبعيداً‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬السجال،‭ ‬نؤكد‭ ‬أن‭ ‬الأساس‭ ‬في‭ ‬سيميائيات‭ ‬الثقافة‭ ‬هو‭ ‬أنها‭ ‬لا‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬مبدأ‭ ‬الانتقاء‭ ‬في‭ ‬دراستها‭ ‬لمختلف‭ ‬الظواهر‭ ‬التي‭ ‬تعد‭ ‬نصوصاً،‭ ‬حتى‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬بصرية‭ ‬كما‭ ‬بيّنا،‭ ‬على‭ ‬خلاف‭ ‬النقد‭ ‬الثقافي‭ ‬الذي‭ ‬ينشغل‭ ‬بالبحث‭ ‬عن‭ ‬المقصدية،‭ ‬ويوجه‭ ‬البحث‭ ‬نحو‭ ‬نصوص‭ ‬التراث‭ ‬التي‭ ‬يعتبر‭ ‬أنها‭ ‬عملت‭ ‬على‭ ‬تدجين‭ ‬بنيات‭ ‬متلقيها‭ ‬الذهنية‭. ‬

من‭ ‬هنا‭ ‬يتضح‭ ‬أن‭ ‬للنقد‭ ‬الثقافي‭ ‬جهازاً‭ ‬مفهومياً‭ ‬خاصاً‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬قبيل‭: ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬النقدية،‭ ‬وما‭ ‬وراء‭ ‬الأدبية،‭ ‬والجملة‭ ‬الثقافية،‭ ‬والوظيفة‭ ‬النسقية،‭ ‬والمؤلف‭ ‬المزدوج،‭ ‬وسواها‭ ‬من‭ ‬المفاهيم‭ ‬الأخرى‭ ‬كثير،‭ ‬تماماً‭ ‬مثلما‭ ‬لسيميائيات‭ ‬الثقافة‭ ‬مفاهيمها‭ ‬الخاصة،‭ ‬نذكر‭ ‬منها‭ ‬مفهوم‭ ‬السنن‭/ ‬الشفرة،‭ ‬الذي‭ ‬يعد‭ ‬مفهوماً‭ ‬أساسياً‭ ‬لدى‭ ‬الباحثين‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الاتجاه،‭ ‬وبذلك‭ ‬فهما‭ ‬حقلان‭ ‬يتقاطعان‭ ‬معرفياً‭ ‬ويختلفان‭ ‬منهجياً■