النقد والسيميائيات الثقافيان
النقد والسيميائيات الثقافيان حقلان معرفيان متداخلان وملتبسان. فعندما نتحدث عن سيميائيات الثقافة، فإننا نتحدث عن اتجاه سيميائي قائم بذاته، بلور صرحه النظري والإجرائي صفوة من الباحثين الكبار، أمثال أمبرتو إيكو في إيطاليا، ويوري لوتمان في روسيا، الذي أسس مدرسة موسكو - تارتو الشهيرة في هذا المجال، وشكل اتجاه سيميائيات الثقافة المحطة الثانية من اهتمامه السيميائي خلال ثمانينيات القرن الماضي، قبل أن ينتقل إلى الاشتغال بما سماه «سيماء الكون»، إضافة إلى رولان بارث في فرنسا، الذي قدّم قراءاتٍ سيميائيةً لعدد من الأنساق الثقافية (اللباس، الموضة، أعمال بلزاك...)، وإن كان معظم الباحثين يصنفونه ضمن اتجاه سيميائيات الدلالة.
يهدف هذا الاتجاه، بالرغم من قلة الدراسات التي اهتمت به مقارنة مع الاتجاهات الأخرى (التواصل والدلالة)، في مجمله إلى الخروج من دائرة المقاربة البنيوية المغلقة التي اعتمدها سيمائيو الدلالة، وذلك بفتح النصوص وكل الظواهر بما فيها الظواهر المرئية على آفاق واسعة من التحليل، تسعف القارئ الذي أعلت نظرية التلقي من شأنه، في الانتقال من وضعية الاستهلاك للنص أو الفرجة، إلى وضعية الإنتاج عبر الممارسة النقدية التي تستند إلى الخلفية الثقافية الثاوية خلف كل ما يُعرض ويُكتب.
على أن ما يلاحظ هو أن اتجاه سيميائيات الثقافة كثيراً ما يلتبس بمفهوم النقد الثقافي الذي يعتبر، إلى حدّ ما، حقلاً جديداً على منجزنا النقدي. لذا سنسعى في هذا المقال إلى رصد بعض الفروق الجوهرية بين النقد الثقافي وسيميائيات الثقافة، وذلك من خلال تعريف الثقافة نفسها، باعتبارها قاسماً مشتركاً بين هذين الحقلين المعرفيين.
1- مفهوم الثقافة
لا أحد يجادل في أن الثقافة مفهوم شائك، له دلالات عديدة، وتعريفات متعددة، قدمت له من لدُن علماء السياسة، وعلماء الاجتماع، وعلماء الأنثربولوجيا، والفلاسفة، وغيرهم.
وليس بوسعنا هنا استقصاء كل هذه التعاريف لتمحيصها ونقدها، لأن المجال لا يسمح بذلك. لذلك سنقتصر على تعريفين مختلفين لمفهوم الثقافة، كما ورد تحديدهما حديثاً.
فهناك من ذهب إلى أن الثقافة «تتكون من القيم والمعتقدات والمعايير والتفسيرات العقلية والرموز والأيديولوجيات، وما شاكلها من المنتجات العقلية»، وهناك من يرى أنها كل ما يشير «إلى النمط الكلي لحياة شعب ما، والعلاقات الشخصية بين أفراده وكذلك توجهاتهم».
إذا كان التعريف الأول يتداوله علماء السياسة، والتعريف الثاني يميل إلى استعماله علماء الأنثروبولوجيا، فإن ما يهمنا نحن هو استخلاص أهم خصائص ومميزات الثقافة كما يرصدها التعريفان من دون التعصب لأي تعريف منهما على حساب الآخر.
نلاحظ حسب التعريف الأول أن الثقافة عبارة عن بنية مركّبة من عناصر مادية (الرموز، المعمار، الآثار...)، وعناصر أخرى لامادية (المعتقدات، القيم، الأيديولوجيات، التفسيرات العقلية، العُرف...)، ونلاحظ حسب التعريف الثاني أن الثقافة مفهوم مرتبط بالمجتمع، إذ لا يمكن الحديث عن الثقافة دون استحضار خصوصيات المجتمع وأنماط عيشه التي تختلف باختلاف طبقاته وفئاته من حيث الانتماء واللغة والمعتقد، وغيرها من مظاهر الاختلاف الأخرى.
وتبعاً للملاحظتين، نستنتج أن الثقافة هي مزيج من عدة عناصر مختلفة ومتنوعة؛ وهذا التنوع الناتج عن الاختلاف هو الذي يجعل لكل مجتمع ثقافة خاصة به، يعرفها ويتواصل بها.
ولما كانت العلامات والرموز من نتاج الثقافة، فإن هذا هو ما يبرر اختلافها من ثقافة إلى أخرى، ويزكي أن تحليلها واستيعابها يستدعيان الإلمام بالثقافة التي أنتجتها، وكذلك تلقيها الذي يختلف هو الآخر باختلاف الثقافات واختلاف المتلقين داخل الثقافة الواحدة، وهذا ما يهدف إليه اتجاه سيميائيات الثقافة بشكل عام.
في المقابل، نجد النقد الثقافي يقدم تعريفاً آخر للثقافة، فهي «ليست مجرد حزمة من أنماط السلوك المحسوسة، كما هو التصور العام لها، كما أنها ليست العادات والتقاليد والأعراف، ولكن الثقافة بمعناها الأنثروبولوجي الذي يتبناه كيرتز هي آليات الهيمنة، من خطط وقوانين وتعليمات، كالطبخة الجاهزة، التي تشبه ما يسمى بالبرامج في علم الحاسوب، ومهمتها هي التحكم في السلوك».
يتبين أن النقد الثقافي يهدف إلى استخلاص الأنساق الثقافية المخبأة خلف كل ما هو جمالي في النصوص تحديداً، بغية الكشف عن آليات الهيمنة التي تتستر وراء الجماليات للتحكم في البنية الذهنية للجنس البشري.
فهو، إذن، يبحث عن أشياء أخرى يسميها الباحث السعودي عبدالله الغذامي «القبحيات»، أو علم العلل غير الجماليات التي تستهوينا وتغرينا، وتدفعنا إلى قراءة النص من بدايته إلى نهايته.
إن القيام بالمهمة النقدية ليس في إمكان الجميع، وليس كل من يقرأ النصوص يستطيع الإحاطة بمدلولها العام، بل إن ذلك يبقى من اختصاص القارئ النموذجي المحصن بمعرفة موسوعية تؤهله للقيام بهذه المهمة المضنية، في حين تبحث سيميائيات الثقافة في الجماليات نفسها لتفسرها وتعطيها دلالاتها، كما هو متعارف عليها لدى فئات المجتمع.
كما أنها تبحث في المرئي وغير المرئي، بل إنها تركز على المرئي أكثر من النصي، عكس النقد الثقافي الذي مازال، إلى حدّ ما، يركز على النصوص التراثية بشكل خاص نحو ما نجده في مشروع الغذامي النقدي، الذي نحت مفاهيم جديدة يستبدل بها المفاهيم النقدية المتداولة في النقد الأدبي.
فهو يتحدث عن الجملة الثقافية باعتبارها بديلاً للجملة النحوية، وعلم القبحيات عِوض عِلم الجماليات، والمؤلف المزدوج في مقابل المؤلف العادي، وغيرها من المفاهيم الأخرى التي أسس وقعّد لها في كتابه «النقد الثقافي... قراءة في الأنساق الثقافية».
2- أوجه الائتلاف والاختلاف
أ- أوجه الائتلاف: بناء على ما سبق، لا بد من الإشارة إلى أن المفهومين يشتركان فيما يلي:
- ينتميان معاً إلى حقل الدراسات الثقافية، وهو حقل يندرج ضمن خطاب ما بعد البنيوية أو ما بعد الحداثة، أو ما يسميه الغذامي مرحلة «ما بعد النقدية».
ويعود الاهتمام بالدراسات الثقافية إلى فترة الثمانينيات من القرن الماضي، حيث شكّل الاهتمام بسيميائيات الثقافة لدى لوتمان، باعتباره أحد رواد هذا الاتجاه، المرحلة الثانية كما أشرنا، وهي الفترة نفسها تقريباً التي بدأ فيها الاهتمام بالنقد الثقافي لدى الغربيين أمثال: دوجلاس كلنر وفانسان ليتش وغيرهما، لينتقل بعد ذلك إلى ثقافتنا العربية عن طريق بعض الباحثين الذين اهتموا بهذا النوع من الممارسة النقدية، ويأتي الغذامي في طليعتهم، إلى جانب الناقد الفلسطيني إدوارد سعيد.
- يبحثان معاً في المضمر، ويهدفان إلى كشف ما وراء الجمالي، لكن بمقصدية مختلفة.
ب - أوجه الاختلاف: في مقابل ذلك، تتمثل أوجه الاختلاف بينهما فيما يلي:
- يهدف النقد الثقافي إلى الكشف عن العيوب والعلل، وتحرير الأدبية من سطوة كل ما هو رسمي ومؤسساتي. لذا نجده يولي أهمية كبيرة لثنائية الشعبي/ الرسمي، ويعتبر إقصاء الشعبي أو الجماهيري الذي يعد أكثر تأثيراً من الممارسة النقدية مسألة غير بريئة، وكل نص لا يتوفّر على نسق مضمر مخبأ تحت العلني لا يدخل في مجال النقد الثقافي، وفق الغذامي.
فالنقد الثقافي يقوم على الانتقاء والتمييز، وهو الأمر الذي لا نجده في سيميائيات الثقافة التي تُعنى بدراسة مختلف أنماط الخطاب؛ سواء كانت نصية أم بصرية، رسمية أم شعبية، أدبية أم غير أدبية.
بل إن البدايات الفعلية للسيميائيات السردية، باعتبارها فرعاً من فروع السيميائيات العامة، كانت مع الحكايات الشعبية التي درسها فلاديمير بروب، وتعد دراسته رائدة في هذا المجال.
- تستند سيميائيات الثقافة إلى المعطيات الثقافية لفك التشفير/ السنن الذي غالباً ما يكون خاضعاً لعلاقة يفهمها الباثّ والمتلقي، فالاستناد هنا يكون بهدف تفسير المعنى وتشكيله.
على خلاف ذلك، يرى النقد الثقافي أن ما نستهلكه لا يتناسب مع ما نتصوره عن أنفسنا وعن وظيفتنا في الوجود. فالنقد الثقافي موجّه، يستند إلى الثقافة للكشف عن العيوب، في حين تتوسل السيميائيات بالثقافة لتسهيل الفهم والكشف عن آليات التأثير، وبالتالي فهي ليست موجهة إلى نمط معيّن من النصوص أو الخطابات أو السلوكيات دون الأنماط الأخرى.
إن القراءة التي يقوم بها الناقد الثقافي تتأسس على الرفض بالدرجة الأولى، في حين تتأسس مقاربة السيميائي في مجال الثقافة على الرفض والتقبل، وهذا هو جوهر الاختلاف بين هاتين الدراستين المتقاربتين والمتباعدتين في الوقت نفسه.
لكن إذا انتقلنا إلى بعض التعريفات الأخرى التي خص بها السيميائيون الثقافة، فسنجدها تعني في نظر كلود ليفي ستراوس وبارث ولوتمان «مجموعة من النصوص».
فالثقافة، وفق هذا التعريف، تقتصر على العلامات اللفظية، وهذا ليس صحيحاً مقارنة مع التعاريف السابقة التي قدمناها، حيث تشمل الثقافة أيضاً، وفق رولان بوسني، الثقافة الاجتماعية والمادية والذهنية، وبالتالي فالثقافة تشمل العلامات اللفظية والعلامات غير اللفظية.
لكن المشكل هو أن هؤلاء ربطوا، كما يظهر من خلال عنوان المقال، سيميائيات الثقافة بالنصوص فقط، فحتى الأنساق البصرية مثل العلامات التي تكون على جانب الطريق وغيرها كما هو مبين في المقال نفسه، تعتبر نصوصاً مادامت تُوجه مسار السائق وتنبهه وتحذره.
وبعيداً عن هذا السجال الذي تعود بدايته الأولى إلى سؤال إشكالي ظهر مع مصطلح السيميائيات: مَن الأعم؛ السيميائيات أم اللسانيات؟ حيث برهن أنصار اللسانيات على موقفهم بما مفاده أن عديداً من الخطابات البصرية يحتاج إلى إيصال رسالتها للّغة، كما هو الشأن بالنسبة إلى اللوحة التشكيلية مثلاً.
وبعيداً عن هذا السجال، نؤكد أن الأساس في سيميائيات الثقافة هو أنها لا تقوم على مبدأ الانتقاء في دراستها لمختلف الظواهر التي تعد نصوصاً، حتى وإن كانت بصرية كما بيّنا، على خلاف النقد الثقافي الذي ينشغل بالبحث عن المقصدية، ويوجه البحث نحو نصوص التراث التي يعتبر أنها عملت على تدجين بنيات متلقيها الذهنية.
من هنا يتضح أن للنقد الثقافي جهازاً مفهومياً خاصاً به من قبيل: ما بعد النقدية، وما وراء الأدبية، والجملة الثقافية، والوظيفة النسقية، والمؤلف المزدوج، وسواها من المفاهيم الأخرى كثير، تماماً مثلما لسيميائيات الثقافة مفاهيمها الخاصة، نذكر منها مفهوم السنن/ الشفرة، الذي يعد مفهوماً أساسياً لدى الباحثين في هذا الاتجاه، وبذلك فهما حقلان يتقاطعان معرفياً ويختلفان منهجياً■