سيكولوجية السلوك المستدام
نظراً إلى أن السلوكيات البشرية وراء معظم المشكلات البيئية كتلوث الهواء والماء والتغير المناخي والتصحر وفقدان التنوع الـــحيوي وســــوى ذلك، تحاول البحوث والدراســات فـــي عـــلم النفس تقديم المساعدة من أجل فهم دوافع السلوكيات غير المستدامــة، وتـــحديد مــــعوقات السلوكيات المستدامة، ووضع وتنفيذ استراتيجيات وسياسات لتحفيز التغيير ومناصرة البيئة.
وتسعى تلك البحوث والدراسات للإجابة عن أسئلة مهمة مثل: لماذا يتصرف الناس على هذا النحو المسيء للبيئة، برغم معرفتهم بالتبعات السلبية؟ ولماذا يتراجع البعض ممن اقتنعوا بالتحول إلى سلوكيات مستدامة عن قراراتهم ليعودوا أدراجهم إلى أساليب حياة غير مستدامة؟ وكيف يمكن إثارة الحماس والدافعية لمساعدة الأفراد على العمل والعيش في إطار مبادئ التنمية المستدامة؟ ولماذا لا تكون قراراتنا منطقية دائماً؟
قرار بين نظامين
تقول د. كريستي ماننيغ، المتخصصة في الدراسات البيئية وعلم النفس، إن عديداً من قراراتنا يكون آلياً، أي عملية غير واعية قائمة على قاعدة معلومات لا يعرفها وعينا، ولا تعلم عقولنا المنطقية الكثير عنها.
فالتفكير ناتج نظامين منفصلين من التفكير الواعي: نظام قائم على القاعدة وهو واع، ومنطقي ومدروس؛ ونظام ترابطي، غير واعٍ وتلقائي ومنقاد بالأحاسيس والمشاعر.
ويعمل هذان النظامان بصورة متوازية، غير أنهما لا يتفقان دائماً. فالأول يعمل ببطء ويتخذ قراراته بعناية في ضوء الحقائق والأدلة؛ بينما يكون النظام الثاني خارج سيطرة الوعي، واستجاباته وردود أفعاله انفعالية ومتأثرة بصور ذهنية زائلة. وعادة ما تخفي خبرتنا الواعية تأثير النظام الترابطي على قراراتنا اليومية، ونشعر كما لو أننا نتخذ قراراتنا بعد تفكير مستند إلى حقائق لا ريب فيها؛ لكن الحقيقة غير ذلك، حيث يلعب هذا النظام غير الواعي دوراً رئيساً في كل حركة نقوم بها.
ومع الأسف، لا يروق له السلوك المستدام، فإذا عرف بعزمنا على هجر نوع مضر من الطعام، أو المشي بدلاً من استخدام السيارة، مثلاً، لن يتقبل الفكرة، وسيعترض لا محالة.
وواحدة من طرق تمكين الناس من التصرف بإيجابية نحو البيئة، جعل السلوكيات المستدامة جذابة لهذا النظام الانفعالي؛ وإثارة انتباه النظام الأول، المنطقي الواعي، حتى يؤكد نفسه ويصمد أمام رفض النظام الترابطي غير المنطقي للسلوك المستدام.
نصائح مشجعة
قدمت ماننيغ - وهي من مؤلفي كتاب علم النفس للاستدامة، الذي صدر في 2016 وأعيدت طباعته للمرة الرابعة - مجموعة من النصائح لخلق الظروف المشجعة للتحول نحو أساليب حياة مستدامة كالتالي:
تشجيع السلوك المستدام على مستوى المجتمع
وذلك بتوفير فرص تمكّن الناس من فهم معنى الاستدامة والتعرف إلى السلوكيات المستدامة، ومواجهة ارتباك المتفرج الذي يسمع ويشهد الحديث عن الممارسات المستدامة، ويكتفي بالفرجة إما لشك يسكنه أو لعدم معرفته بما يتعين عليه عمله.
وذلك عبر تنظيم فعاليات وتجمعات كالمعارض والندوات والزيارات الخاصة للمدارس وجهات العمل لنشر الوعي بأهمية اتباع أساليب حياة مستدامة.
وربما من المفيد توزيع هدايا رمزية مشجعة وتشكيل الشبكات الاجتماعية والمجموعات الافتراضية المروجة لتجارب ومبادرات الاستدامة الناجحة، وتوفير فرص لاختلاط الأشخاص العاديين بمناصري الاستدامة والاستفادة من خبراتهم عبر أنشطة، أو مجرد طرح الأسئلة وتلقي الإجابات الموضحة. هذا إلى جانب توسيع نطاق الاهتمام بالتنمية المستدامة لأبعد من صفة الناشطين البيئيين، لاسيما أن هذا النوع من التنمية لجميع الناس في كل مكان.
تأكيد العلاقة الشخصية
عادة ما نهتم بما يتعلق بنا شخصياً، ولهذا قد لا نتحمس للتناول العلمي المنعزل لقضايا البيئة، ولكن من الممكن أن ننتبه إلى ما يمسنا مباشرة كالهواء الذي نتنفس، والماء الذي نشرب، والموارد الأخرى التي نعتمد عليها، ومستقبل أولادنا وأحفادنا. ولهذا ينبغي الحذر من استخدام الألقاب الرنانة، وتجنب ربط المبادرات المستدامة بشخصيات غير محببة كالسياسيين والناشطين البيئيين المتعصبين ممن لا يحب الناس التورط معهم، وبدلاً من ذلك الربط بإحصاءات أو بمواطنين مهمومين بالأمر. كما أنه من المهم تفهّم الرؤية الكونية للجمهور، حيث يرى كل شخص منا العالم بمنظوره الخاص ويفسره من واقع خلفيته ومعتقداته، وعلى هذا يصبح من الصعب تقبّل معلومات جديدة تتعارض مع ما نؤمن به، بينما نرحب بما ينسجم مع ما بداخلنا.
فمثلاً، من المتوقع ألا يميل الأشخاص الذين يؤمنون بالرفاهية المادية لفكرة تقليل الاستهلاك والحياة البسيطة المتقشفة. ولذا يجب التواصل مع الجماهير بفعالية وفقاً لاقتناعاتهم، ومن الضروري تفصيل الرسائل وحملات التوعية وفقاً لطبيعة المشاركين أو المستهدفين، وإيجاد أطر جديدة، بعيداً عن الاعتماد كلياً على تقديم الأدلة العلمية لإثبات جدية القضايا المطروحة.
فالأمر في الحقيقة مرهون بكيفية عرض القضايا والقدرة على وضعها في إطار سلس ومؤثر، كتوضيح علاقة السلوك المالي المستدام بتوفير المال وتحسين الصحة، وتحقيق العدالة الاجتماعية. ومن الناجع أيضاً، التركيز على القضايا المحلية، بحيث يلمس الناس الآثار المترتبة على السلوكيات غير المستدامة ويرونها في محيطهم، مما يمكن أن يزيد من فرص مشاركتهم وإسهاماتهم للتقليل من هذه الأضرار.
توضيح المعلومات الخفية
كثير من المشكلات البيئية يصعب علينا ملاحظتها، لأنها غير مرئية، أو لأنها تحدث ببطء، فليس من السهل، مثلاً، رؤية المواد السامة في الماء والهواء والغذاء، ولهذا قد نعتقد بأننا غير متأثرين شخصياً. ولهذا لابد من تجاوز معوقات الفهم الناتجة عن إدراكنا المحدود بحواسنا الخمس التي لا تستطيع الشعور بانبعاثات الغازات السامة؛ ومن الجيد استخدام كلمات معبّرة ورسوم بيانية ومتحركة وصور وأشكال توضيحية وفيديوهات وأفلام مجسدة للقضايا البيئية، وضرب أمثلة من الواقع، وتوزيع ملصقات للتذكير.
ويلعب بناء قنوات المعلومات والتغذية الاجتماعية الراجعة، التي تتراوح بين الإيجابية كتقديم الشكر لإطفاء الأنوار غير المستخدمة؛ والسلبية المحذرة من العقوبات، دوراً مهماً. فوفقاً لنظريات التعلم، تساهم مثل هذه التغذية الراجعة في تكوين الدماغ لروابط السبب/ الأثر. فإذا لمح شخص ملصقاً عليه ابتسامة عند مركز إعادة التدوير يتلقى تغذية إيجابية تعزز من تكرار سلوكه، ومن الممكن أن يكف عن السلوك غير المستدام إذا تعرّض لغرامة، أو قرأ مقارنة بين مميزات سلوك مستدام وآخر غير مستدام.
تشجيع اليقظة
وفقا لدراسة أعدتها ماننيغ وزملاؤها، الأشخاص الذين يتمتعون باليقظة والوعي هم أكثر احتمالاً للتصرف على نحو مستدام، مقارنة بغير الواعين الذين يتسوقون على عجل ولا يقرأون الملصقات الموجودة على ما يشترون.
ولهذا ينصح باستخدام أمر مدهش، كمعلومات غير متوقعة معبّر عنها بإحصاءات أو صور. والاهتمام بأمر الانسجام مع القيم الشخصية، أو التذكير بها في زحمة الحياة وضغوطها، فهذه طريقة محتملة لتشجيع الناس على التفكير بقيم أعمق، وبطرح أسئلة مهمة قبل الشراء مثل «هل يتماشى هذا مع قيمي وأهدافي؟» وهنا، لا يهم الوصول إلى الوضع المثالي، بقدر ما يهم التأكيد على التحسن؛ وبدلاً من فرض قائمة السلوكيات المطلوبة، من الأفضل إيجاد طريقة تساعد على طرح مزيد من الأسئلة مثل: هل حقاً أريد هذا؟ وهل يمكن شراء بديل مستعمل؟ وهل يمكن التقليل من المخلفات؟ وهل هناك طريقة لاستهلاك قدر أقل من الطاقة؟
إتاحة الفرص لبناء القدرات
وإكساب المهارات والمعرفة
يحتاج الناس إلى مساعدة وإلى توافر خيارات معقولة في أمور مثل تعلّم إعداد السماد العضوي أو استخدام الحافلة، أو زراعة الخضراوات في بيئة آمنة، مع توفير مصادر تشرح كيفية التعلم خطوة خطوة؛ إضافة إلى فرص عملية لتجريب السلوكيات الجديدة، ووسائل لتلقي الأسئلة والإجابة عنها، والتواصل وتبادل الخبرات حول الممارسات الفعالة بشأن قضايا مثل إعادة التدوير أو خفض استهلاك الطاقة.
جعل التغيير ناتجاً مصاحباً لفعاليات أخرى
يمكن تكوين عادات مستدامة في إطار فعاليات تقدم خيارات مستدامة كفرض الانتقال بمواصلات جماعية أو تناول وجبات نباتية، أو الاستفادة من تغيير الظروف المحيطة مثل مكان السكن، أو العمل، أو تغيير السيارة، أو عند المرض، أو الزواج، أو قدوم مولود جديد لكسر العادات القديمة وتكوين عادات جديدة مستدامة.
الموازنة بين الجوانب السلبية والإيجابية
لو اقتصر ما نسمع على المخاوف والمحاذير، ربما تتعطل آليات الدفاع النفسية ويتراجع احتمال حل المشكلات، ولهذا، يفضل التركيز على الرؤية الإيجابية والحلول الواقعية المتاحة كالزراعة العضوية والطاقة النظيفة، وتقديم أدلة على تحسُّن أوضاع من جراء التدابير المستدامة.
كما يساعد تقسيم الأهداف والمهمات الكبرى إلى أجزاء صغيرة مشجعة على الإنجاز، ثم الاحتفاء بالانتصارات الصغيرة والكبيرة، فيشعر الناس أنهم مشاركون في حركة عالمية كبرى.
وختاماً، يعد تركيز علم النفس على العوامل المؤثرة في سلوك الفرد، سواء كفرد أو كجزء من المجموعة، لأن الاستدامة الفردية وسيلة لتعبيد الطريق نحو تغيير اجتماعي واسع النطاق. فالتغيير على مستوى الأفراد يعد صغيراً، لكن الكثير من القليل كثير، فلو أن كل شخص زرع نبتة صغيرة، أو قلل استهلاكه من اللحوم بضع جرامات، فإن الحصيلة الكلية ستساهم دون شك في التقليل من انبعاثات الكربون، ومن استهلاك المياه. وكلما تزايد عدد الأفراد الذين يعتمدون أساليب حياة مستدامة، يعتاد الناس على رؤية هذه الممارسات وتصبح عادية■.