كيف تكون «العربية» لغتنا الأم؟

كيف تكون «العربية» لغتنا الأم؟

لا‭ ‬أعرف‭ ‬لماذا‭ ‬تردّد‭ ‬في‭ ‬خاطري،‭ ‬وأنا‭ ‬أدوّن‭ ‬ملاحظاتي‭ ‬التمهيدية‭ ‬لكتابة‭ ‬هذه‭ ‬الكلمة،‭ ‬المثَل‭ ‬العربي‭ ‬المعروف‭: ‬‮«‬ومنَ‭ ‬الحُبّ‭ ‬ما‭ ‬قتل‮»‬‭. ‬

نعم،‭ ‬إنّ‭ ‬بين‭ ‬محبّي‭ ‬العربية‭ ‬ثلاثة‭ ‬يحفرون‭ ‬قبرها‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬يوم‭: ‬جاهلٌ‭ ‬ومهملٌ‭ ‬ويائس‭.  ‬من‭ ‬الجهلة‭ ‬فئة‭ ‬تردّد‭ ‬أنّ‭ ‬‮«‬العربية‮»‬‭ ‬اتسعت‭ ‬في‭ ‬الماضي‭ ‬لكلّ‭ ‬العلوم،‭ ‬وبإمكانها‭ ‬أن‭ ‬تستوعب‭ ‬اليوم‭ ‬كلّ‭ ‬العلوم‭. ‬وكأن‭ ‬‮«‬العربية‮»‬‭ ‬ليست‭ ‬نظاماً‭ ‬من‭ ‬العلامات‭ ‬اللسانية‭ ‬يتسع‭ ‬إذا‭ ‬وسّع‭ ‬مستخدموها‭ ‬آفاق‭ ‬فكرهم‭ ‬وآدابهم‭ ‬وطوّروا‭ ‬علومهم‭ ‬وفنونهم‭ ‬وطوّعوا‭ ‬لغتهم‭ ‬لحاجاتهم،‭ ‬ويضيق‭ ‬إنْ‭ ‬أضاع‭ ‬أهلُها‭ ‬بوصلة‭ ‬الزمن‭ ‬فتوقفوا‭ ‬حيث‭ ‬هم‭ ‬لا‭ ‬يملكون‭ ‬غيرَ‭ ‬قديمهم‭.‬

من‭ ‬الجهلة‭ ‬فئة‭ ‬تردّد‭ ‬أنّ‭ ‬‮«‬العربية‮»‬‭ ‬لغة‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم،‭ ‬فتعمى‭ ‬عن‭ ‬أنّ‭ ‬تقديس‭ ‬اللغة‭ ‬بربطها‭ ‬بالوحي‭ ‬القرآني‭ ‬يجمّدها‭ ‬على‭ ‬حالتها،‭ ‬ويمنع‭ ‬تطويرها،‭ ‬ويحوّلها‭ ‬إلى‭ ‬تمثال‭ ‬جميل‭. ‬

ومن‭ ‬الجهلة‭ ‬فئة‭ ‬لا‭ ‬تعرف‭ ‬سوى‭ ‬لغتها،‭ ‬ولا‭ ‬تدرك‭ ‬معنى‭ ‬الثراء‭ ‬المعجمي‭ ‬في‭ ‬اللسانيات‭ ‬التعاقبية،‭ ‬فلا‭ ‬تتوقف‭ ‬عن‭ ‬المفاخرة‭ ‬بأن‭ ‬‮«‬العربية‮»‬‭ ‬أوسع‭ ‬اللغات‭ ‬لأنها‭ ‬تحوي‭ ‬مئات‭ ‬الألفاظ‭ ‬الخاصة‭ ‬بالبعير‭ ‬ومثلها‭ ‬للأسد‭... ‬إلخ،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تطرح‭ ‬على‭ ‬نفسها‭ ‬السؤال‭ ‬عن‭ ‬مدى‭ ‬حاجتها‭ ‬اليوم‭ ‬إلى‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الكلمات،‭ ‬بعدما‭ ‬تخلى‭ ‬العرب‭ ‬عموما‭ ‬عن‭ ‬الإبل،‭ ‬وكاد‭ ‬الأسد‭ ‬ينقرض‭ ‬من‭ ‬بلادهم‭. ‬كما‭ ‬لم‭ ‬تسأل‭ ‬نفسها‭ ‬عن‭ ‬عدد‭ ‬الألفاظ‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الحاسوب‭ ‬والكتابة‭ ‬الرقمية‭ ‬والفيزياء‭ ‬والفلسفة‭ ‬ونقد‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحداثة،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬برع‭ ‬العرب‭ ‬فيه‭ ‬في‭ ‬الماضي‭ ‬وأنتجوا‭ ‬دراسات‭ ‬عميقة‭ ‬ومبدعة،‭ ‬أقصد‭ ‬مجال‭ ‬اللغة‭. ‬

ومن‭ ‬الجهلة‭ ‬أساتذة‭ ‬يدرّسون‭ ‬طلابهم‭ ‬ما‭ ‬هم‭ ‬تعلموه،‭ ‬فاللغة‭ ‬عندهم‭ ‬إرث‭ ‬يورّث‭ ‬لا‭ ‬ثروة‭ ‬تستثمر،‭ ‬وقواعدها‭ ‬عندهم‭ ‬شعرٌ‭ ‬يحفظه‭ ‬الصبية‭ ‬عن‭ ‬ظهر‭ ‬قلب‭ ‬من‭ ‬‮«‬ألفية‭ ‬ابن‭ ‬مالك‮»‬،‭ ‬وبلاغتها‭ ‬لا‭ ‬تستقيم‭ ‬إلا‭ ‬نقلاً‭ ‬من‭ ‬‮«‬تلخيص‮»‬‭ ‬القزويني‭. ‬

ومن‭ ‬المهمِلين‭ ‬حكّام‭ ‬لا‭ ‬يدركون‭ ‬أن‭ ‬اللغة‭ ‬مادة‭ ‬سياسية،‭ ‬ولا‭ ‬يفطنون‭ ‬إلى‭ ‬أثرها‭ ‬في‭ ‬اقتصادهم‭ ‬وثقافة‭ ‬شعبهم،‭ ‬ولا‭ ‬يرون‭ ‬الأخطار‭ ‬التي‭ ‬تتهدّدها‭ ‬ولا‭ ‬الفشل‭ ‬في‭ ‬تعليمها‭ ‬الذي‭ ‬يأكل‭ ‬من‭ ‬رصيدها‭ ‬عند‭ ‬أهلها،‭ ‬فيتركونها‭ ‬على‭ ‬قديمها،‭ ‬علّ‭ ‬الناس‭ ‬يعتادون‭ ‬على‭ ‬حالتها‭ ‬كأنها‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬طبيعتها‭. ‬

ومن‭ ‬اليائسين‭ ‬أناسٌ‭ ‬حلموا‭ ‬بتطوير‭ ‬اللغة،‭ ‬فطرحوا‭ ‬الأفكار،‭ ‬ودبّجوا‭ ‬الدراسات،‭ ‬وأجروا‭ ‬الأبحاث‭ ‬الميدانية،‭ ‬ونشروا‭ ‬النظريات،‭ ‬فانتهت‭ ‬دراساتهم‭ ‬إلى‭ ‬الخزائن‭ ‬المقفلة‭ ‬والرفوف‭ ‬الصفراء،‭ ‬فيئسوا‭ ‬من‭ ‬إمكان‭ ‬الإصلاح،‭ ‬لا‭ ‬في‭ ‬اللغة،‭ ‬بل‭ ‬بكل‭ ‬شيء‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬البلاد‭. 

فهل‭ ‬بقيتْ‭ ‬لنا‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬ندوة‭ ‬نقيمها‭ ‬أو‭ ‬مؤتمر‭ ‬نعقده‭ ‬فيما‭ ‬نحن‭ ‬واثقون‭ ‬بأن‭ ‬كلماتنا‭ ‬ستضيع‭ ‬في‭ ‬الهواء،‭ ‬وأوراقنا‭ ‬سيأكلها‭ ‬الغبار؟

‭ ‬في‭ ‬العاشر‭ ‬من‭ ‬مارس‭ ‬عام‭ ‬2003‭ ‬نشرت‭ ‬منظمة‭ ‬اليونسكو‭ ‬تقريراً‭ ‬مهماً‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬حيوية‭ ‬اللغات‭ ‬وموتها‮»‬،‭ ‬أشارت‭ ‬فيه‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬عدد‭ ‬لغات‭ ‬العالم‭ ‬يتقلّص‭ ‬تدريجياً،‭ ‬وأن‭ ‬اللغات‭ ‬المحلية‭ ‬تتلاشى‭ ‬لمصلحة‭ ‬اللغات‭ ‬الأوسع‭ ‬انتشاراً،‭ ‬وأن‭ ‬97‭ ‬في‭ ‬المائة‭ ‬من‭ ‬البشر‭ ‬يستخدمون‭ ‬اليوم‭ ‬4‭ ‬في‭ ‬المائة‭ ‬من‭ ‬اللغات‭ ‬فقط،‭ ‬وأن‭ ‬تقدير‭ ‬الخبراء‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬90‭ ‬في‭ ‬المائة‭ ‬من‭ ‬اللغات‭ ‬ستزول‭ ‬قبل‭ ‬نهاية‭ ‬القرن،‭ ‬ولن‭ ‬يبقى‭ ‬سوى‭ ‬اللغات‭ ‬العالمية‭ ‬القليلة‭ ‬الحية‭. ‬

ما‭ ‬يمكننا‭ ‬استنتاجه‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الإحصاء‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬الانفتاح‭ ‬المتزايد‭ ‬بين‭ ‬الشعوب‭ ‬واتساع‭ ‬مساحة‭ ‬التبادل‭ ‬التجاري‭ ‬والسياسي‭ ‬والحضاري‭ ‬والثقافي،‭ ‬سيقودان‭ ‬العالم‭ ‬عملياً‭ ‬إلى‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬لغة‭ ‬مشتركة،‭ ‬أو‭ ‬إلى‭ ‬الاكتفاء‭ ‬بعدد‭ ‬قليل‭ ‬من‭ ‬اللغات،‭ ‬هي‭ ‬بالتأكيد‭ ‬لغات‭ ‬الشعوب‭ ‬الأوسع‭ ‬ثقافة‭ ‬والأقوى‭ ‬اقتصاداً‭ ‬في‭ ‬العالم‭. ‬

في‭ ‬ظلّ‭ ‬هذا‭ ‬الاتجاه‭ ‬وهذه‭ ‬التوقعات،‭ ‬ماذا‭ ‬ينبغي‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬نفعل،‭ ‬أننتظر‭ ‬حلول‭ ‬المقدّر‭ ‬ونملأ‭ ‬الوقت‭ ‬الضائع‭ ‬بالمواقف‭ ‬الصوتية‭ ‬التي‭ ‬وقفناها‭ ‬إزاء‭ ‬قضايانا‭ ‬جميعاً،‭ ‬أم‭ ‬ننهض‭ ‬إلى‭ ‬العمل‭ ‬ونسعى‭ ‬إلى‭ ‬تشخيص‭ ‬الواقع‭ ‬ووضع‭ ‬الخطط‭ ‬التي‭ ‬تحمي‭ ‬‮«‬العربية‮»‬‭ ‬من‭ ‬خطر‭ ‬الزوال؟

لعل‭ ‬أوّل‭ ‬ما‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬ينتبه‭ ‬إليه‭ ‬الناهضون‭ ‬إلى‭ ‬العمل‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬الأخطار‭ ‬التي‭ ‬تهدّد‭ ‬اللغة‭ ‬لا‭ ‬تأتي‭ ‬من‭ ‬الخارج‭. ‬فهي‭ ‬داخلية‭ ‬أكثر‭ ‬منها‭ ‬خارجية‭. ‬فالأمّية‭ ‬هي‭ ‬أبرز‭ ‬الأخطار،‭ ‬ومثلها‭ ‬التخلّف،‭ ‬وقعود‭ ‬الحكومات‭ ‬العربية‭ ‬عن‭ ‬تطوير‭ ‬مناهج‭ ‬التعليم‭ ‬وفق‭ ‬روح‭ ‬العصر،‭ ‬وينسحب‭ ‬التخلف‭ ‬على‭ ‬موقف‭ ‬النخبة‭ ‬التي‭ ‬صارت‭ ‬تجد‭ ‬في‭ ‬استخدام‭ ‬اللغة‭ ‬الأجنبية‭ ‬علامة‭ ‬على‭ ‬انتسابها‭ ‬إلى‭ ‬الطبقة‭ ‬الراقية‭. ‬

أما‭ ‬الأخطار‭ ‬الخارجية‭ ‬فتأتي‭ ‬من‭ ‬حاجتنا‭ ‬إلى‭ ‬تعلّم‭ ‬اللغات‭ ‬الأجنبية‭ ‬والتكلم‭ ‬بها،‭ ‬لا‭ ‬للتبادل‭ ‬التجاري،‭ ‬والسفر،‭ ‬بل‭ ‬للتخصص،‭ ‬والعمل،‭ ‬وحتى‭ ‬لاستخدام‭ ‬أبسط‭ ‬الأدوات‭ ‬الحديثة،‭ ‬لأن‭ ‬العربي‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬تقريباً‭ ‬مستهلك‭ ‬لا‭ ‬منتج‭. ‬هذا‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬التأثير‭ ‬المعنوي‭ ‬للغات‭ ‬الحيّة‭ ‬الكبرى،‭ ‬الذي‭ ‬يجذب‭ ‬الناس‭ ‬إلى‭ ‬تعلّمها‭ ‬كتذكرة‭ ‬دخول‭ ‬إلى‭ ‬العالم‭ ‬الواسع‭.‬

 

هل‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬مهدّدة‭ ‬بالموت؟‭ ‬

لنراجعْ‭ ‬تقريراً‭ ‬آخر‭ ‬لمنظمة‭ ‬اليونسكو‭ ‬التي‭ ‬استعانت‭ ‬خــــلال‭ ‬عـــامي‭ ‬2002‭ ‬و2003‭ ‬بفـــريق‭ ‬من‭ ‬المتخصصيــــن‭ ‬فــــي‭ ‬اللسانيات‭ ‬لوضــــع‭ ‬معايير‭ ‬تسمح‭ ‬بتقييم‭ ‬حيوية‭ ‬أيّ‭ ‬لغة،‭ ‬بغية‭ ‬رســــم‭ ‬ســـياسة‭ ‬تنموية‭ ‬تستجيب‭ ‬لحاجاتها‭. ‬وقد‭ ‬وضعت‭ ‬هذه‭ ‬المجموعة‭ ‬معايير‭ ‬للتقييم‭ ‬تؤخذ‭ ‬كمجـــموعة‭:‬

  1.  ‬انتقال‭ ‬هذه‭ ‬اللغة‭ ‬من‭ ‬جيل‭ ‬إلى‭ ‬جيل‭.‬
  2.  ‬العدد‭ ‬الإجمالي‭ ‬للناطقين‭ ‬بها‭.‬
  3.  ‬نسبة‭ ‬الناطقين‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬مجموع‭ ‬سكان‭ ‬البلاد‭.‬
  4.  ‬توافر‭ ‬المواد‭ ‬اللازمة‭ ‬لتدريسها‭ ‬ولمحو‭ ‬الأمية‭.‬
  5.  ‬استجابة‭ ‬هذه‭ ‬اللغة‭ ‬للمجالات‭ ‬المستحدثة‭ ‬ووسائل‭ ‬التواصل‭ ‬الجديدة‭.‬
  6.  ‬طراز‭ ‬ونوعية‭ ‬التوثيق‭ ‬فيها‭.‬
  7. ‬مواقف‭ ‬الحكومات‭ ‬والمؤسسات‭ ‬وسياساتها‭ ‬اللغوية،‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬المقرّر‭ ‬رسمياً‭ ‬والمطبّق‭ ‬فعلياً‭.‬
  8.  ‬مدى‭ ‬التراجع‭ ‬عن‭ ‬استخدام‭ ‬هذه‭ ‬اللغة‭ ‬لدى‭ ‬أبنائها‭.‬
  9.  ‬مواقف‭ ‬أفراد‭ ‬الشعب‭ ‬من‭ ‬لغتهم‭.‬

ولكن‭ ‬الباحثين‭ ‬عن‭ ‬أجوبة‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬الأسئلة‭ ‬سيرتكبون‭ ‬خطأ‭ ‬فادحاً‭ ‬إن‭ ‬هم‭ ‬لم‭ ‬ينتبهوا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬اللغة‭ ‬التي‭ ‬يتحدث‭ ‬عنها‭ ‬الفريق‭ ‬الأممي‭ ‬هي‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬يتكلم‭ ‬بها‭ ‬الناس‭. ‬فهل‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬هي‭ ‬اللغة‭ ‬التي‭ ‬يتكلم‭ ‬بها‭ ‬العرب‭ ‬في‭ ‬البيت‭ ‬والشارع‭ ‬وفي‭ ‬اللقاءات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والمؤتمرات‭ ‬ووسائل‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والتدريس،‭ ‬ويدونون‭ ‬بها‭ ‬أدبهم‭ ‬وأبحاثهم‭ ‬والأوراق‭ ‬الرسمية؟‭ ‬ليس‭ ‬الجواب‭ ‬واحداً‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬المعايير‭. ‬فالمثقف‭ ‬العربي‭ ‬يستخدم،‭ ‬في‭ ‬رأيي،‭ ‬أربع‭ ‬لغات‭: ‬

‭- ‬اللغة‭ ‬الأجنبية‭ ‬في‭ ‬المؤتمرات‭ ‬التي‭ ‬تعقد‭ ‬خارج‭ ‬البلاد‭ ‬العربية‭. ‬

‭- ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬الكتابية‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬وقراءة‭ ‬الأوراق‭ ‬البحثية‭ ‬والتعليم‭ ‬الجامعي‭ ‬والتأليف‭ ‬عموماً‭. ‬

‭- ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬التداولية‭ ‬في‭ ‬اللقاءات‭ ‬بين‭ ‬مثقفين‭ ‬ينتمون‭ ‬إلى‭ ‬بلدان‭ ‬عربية‭ ‬مختلفة،‭ ‬وفي‭ ‬الكتابة‭ ‬المسرحية‭.‬

‭- ‬اللغة‭ ‬العامية‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬تبقى‭ ‬من‭ ‬أيامه،‭ ‬في‭ ‬ساعات‭ ‬قيامه‭ ‬وفي‭ ‬ساعات‭ ‬نومه،‭ ‬فهو‭ ‬بها‭ ‬يتخيّل‭ ‬ويتذكّر‭ ‬وبها‭ ‬يحلم‭. ‬

هذه‭ ‬هي‭ ‬حال‭ ‬المثقف،‭ ‬فما‭ ‬حال‭ ‬الأمّي‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬الفصحى‭ ‬ولا‭ ‬ينطق‭ ‬بها،‭ ‬لا‭ ‬يقرأ‭ ‬بها‭ ‬ولا‭ ‬يكتب،‭ ‬لا‭ ‬يرثها‭ ‬ولا‭ ‬يورّثها،‭ ‬ولا‭ ‬تنتقل‭ ‬عبره‭ ‬من‭ ‬جيل‭ ‬إلى‭ ‬جيل؟

وإذا‭ ‬عرفنا‭ ‬أن‭ ‬التقرير‭ ‬الإقليمي‭ ‬الذي‭ ‬أعدته‭ ‬منظمة‭ ‬اليونسكو‭ ‬عن‭ ‬التعليم‭ ‬في‭ ‬الــــــدول‭ ‬العربية‭ ‬قد‭ ‬بيّن‭ ‬أن‭ ‬نسبة‭ ‬الأمية‭ ‬بين‭ ‬العرب‭ ‬ناهزت‭ ‬الستين‭ ‬في‭ ‬المائة،‭ ‬أصبح‭ ‬كل‭ ‬كلام‭ ‬عن‭ ‬أن‭ ‬الفصحى‭ ‬هي‭ ‬لغة‭ ‬العرب‭ ‬الأم‭ ‬لا‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬أساس‭. ‬

 

ما‭ ‬هي‭ ‬اللغة‭ ‬الأم‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحال؟‭ 

ليس‭ ‬لهذا‭ ‬المصطلح‭ ‬تعريف‭ ‬في‭ ‬معاجمنا‭ ‬العربية‭ ‬القديمة،‭ ‬ولا‭ ‬الحديثة،‭ ‬كالمعجم‭ ‬الوسيط‭ ‬ومحيط‭ ‬المحيط‭. ‬أما‭ ‬دائرة‭ ‬المعارف‭ ‬البريطانية‭ ‬فتذكر‭ ‬في‭ ‬مادة‭ ‬‮«‬لغة‮»‬‭ ‬أن‭ ‬الناس‭ ‬إجمالاً‭ ‬يكتسبون‭ ‬في‭ ‬البداية‭ ‬لغة‭ ‬واحدة‭ ‬هي‭ ‬لغتهم‭ ‬الأولى،‭ ‬اللغة‭ ‬التي‭ ‬يستخدمها‭ ‬أهلهم‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬ربوهم‭ ‬منذ‭ ‬الولادة‭. ‬ويتعلمون‭ ‬لاحقاً،‭ ‬في‭ ‬ظلّ‭ ‬ظروف‭ ‬مختلفة،‭ ‬لغات‭ ‬‮«‬ثانية‮»‬‭ ‬يصلون‭ ‬فيها‭ ‬إلى‭ ‬مستويات‭ ‬مختلفة‭ ‬من‭ ‬الكفاية‭. ‬

بهذا‭ ‬التحديد‭ ‬تكون‭ ‬لغتنا‭ ‬الأم‭ ‬هي‭ ‬العامية‭ ‬لا‭ ‬الفصحى،‭ ‬وتكون‭ ‬العربية‭ ‬الفصحى‭ ‬‮«‬لغة‭ ‬ثانية‮»‬‭ ‬عند‭ ‬أطفالنا،‭ ‬لأنهم‭ ‬يتعلمونها‭ ‬في‭ ‬المدرسة‭ ‬كما‭ ‬يتعلمون‭ ‬اللغات‭ ‬الثانية،‭ ‬ولا‭ ‬يتلقونها‭ ‬من‭ ‬أفواه‭ ‬أمهاتهم‭ ‬ولا‭ ‬يستخدمها‭ ‬أهلهم‭. ‬وربما‭ ‬يمكننا‭ ‬مقارنتها‭ ‬–‭ ‬جزئياً‭ - ‬باللغة‭ ‬اللاتينية‭ ‬التي‭ ‬بقيت‭ ‬بضعة‭ ‬قرون‭ ‬لغة‭ ‬فصحى‭ ‬يتعلمها‭ ‬الناس‭ ‬ولا‭ ‬يتكلمونها‭.‬

كانت‭ ‬لغة‭ ‬الثقافة‭ ‬والدين،‭ ‬وإليها‭ ‬ترجم‭ ‬المترجمون‭ ‬في‭ ‬إسبانيا‭ ‬علوم‭ ‬العربية‭ ‬وفلسفتها،‭ ‬وبقيت‭ ‬تدرّس‭ ‬عملياً‭ ‬إلى‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر،‭ ‬إذ‭ ‬كانت‭ ‬العائلات‭ ‬العريقة‭ ‬النسب‭ ‬في‭ ‬فرنسا‭ ‬تعلّمها‭ ‬لأولادها،‭ ‬فيما‭ ‬أولاد‭ ‬العائلات‭ ‬الأخرى‭ ‬يكتفون‭ ‬بالكتابة‭ ‬والقراءة‭ ‬والحساب‭ ‬بالفرنسية‭. ‬

ولكن‭ ‬الزمن‭ ‬لم‭ ‬يحمِ‭ ‬اللاتينية‭ ‬من‭ ‬الموت‭ ‬ومن‭ ‬قيام‭ ‬اللغات‭ ‬المحكية‭ ‬مكانها‭. ‬وما‭ ‬الأصوات‭ ‬الداعية‭ ‬إلى‭ ‬العامية‭ ‬اليوم‭ ‬والتي‭ ‬نسمعها‭ ‬هنا‭ ‬وهناك‭ ‬في‭ ‬البلاد‭ ‬العربية،‭ ‬خصوصاً‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬المغرب،‭ ‬سوى‭ ‬إنذار‭ ‬لذوي‭ ‬الفطنة‭ ‬ومتولي‭ ‬المسؤولية‭. ‬

 

ما‭ ‬الذي‭ ‬علينا‭ ‬فعله‭ ‬لنجعل‭ ‬اللغة‭ ‬الفصحى‭ ‬لغتنا‭ ‬الأولى‭... ‬أي‭ ‬لغتنا‭ ‬الأم؟‭ ‬

لقد‭ ‬بينت‭ ‬الدراسات‭ ‬النفسية‭ ‬اللسانية‭ ‬أن‭ ‬بإمكان‭ ‬الطفل‭ ‬أن‭ ‬يتعلم‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬لغة‭ ‬واحدة،‭ ‬أي‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬له‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬لغة‭ ‬أم‭.‬

فالطفل‭ ‬يفهم‭ ‬لغة‭ ‬أمه‭ ‬ولغة‭ ‬أبيه‭ ‬إن‭ ‬كانتا‭ ‬مختلفتين،‭ ‬ويتكلم‭ ‬بهما‭ ‬معاً‭ ‬منذ‭ ‬سن‭ ‬الثالثة،‭ ‬أي‭ ‬قبل‭ ‬دخوله‭ ‬المدرسة‭. ‬ويمكننا‭ ‬البناء‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬إن‭ ‬أردنا‭ ‬أن‭ ‬نجعل‭ ‬العربية‭ ‬فعلاً‭ ‬اللغة‭ ‬الأم‭ ‬لأطفالنا‭. ‬

وإذا‭ ‬كانت‭ ‬الفصحى‭ ‬لغة‭ ‬ثانية‭ ‬لدى‭ ‬الأطفال‭ ‬العرب،‭ ‬فإن‭ ‬وضعها‭ ‬مختلف‭ ‬عن‭ ‬وضع‭ ‬اللغات‭ ‬الثانية‭ ‬الأجنبية‭. ‬فهي‭ ‬أقرب‭ ‬منها‭ ‬كلها‭ ‬إلى‭ ‬عامياتنا،‭ ‬سواء‭ ‬بمفرداتها‭ ‬أو‭ ‬بتراكيبها،‭ ‬وهي‭ ‬الحاضرة‭ ‬الكبرى‭ ‬في‭ ‬مواد‭ ‬الدراسة‭ ‬غير‭ ‬اللغوية‭ ‬التي‭ ‬سيتابعها‭ ‬الأطفال‭ ‬في‭ ‬الصفوف‭ ‬المدرسية،‭ ‬وهي‭ ‬المستخدمة‭ ‬في‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬الرسمية‭ ‬التي‭ ‬سيسمعها‭ ‬الطفل‭ ‬حين‭ ‬يكبر،‭ ‬وهي،‭ ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬الأهم،‭ ‬اللغة‭ ‬الرسمية‭ ‬للبلاد‭. ‬

إن‭ ‬أول‭ ‬ما‭ ‬ينبغي‭ ‬فعله‭ ‬هو‭ ‬التخطيط‭ ‬للبناء،‭ ‬ولا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬نسأل‭ ‬أنفسنا‭: ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬يجعل‭ ‬اللغات‭ ‬الأجنبية‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬ذائقة‭ ‬التلامذة‭ ‬الصغار‭ ‬من‭ ‬اللغة‭ ‬الفصحى؟‭ ‬ومن‭ ‬الجواب‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬السؤال‭ ‬سنتبين‭ ‬جوانب‭ ‬القصور‭ ‬والنقص‭ ‬في‭ ‬لغتنا‭ ‬التي‭ ‬تمنعها‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬محبّبة‭ ‬لصغارنا‭. ‬لقد‭ ‬سبقتنا‭ ‬الدول‭ ‬الأجنبية‭ ‬كثيراً‭ ‬إلى‭ ‬تحديث‭ ‬طرق‭ ‬تعليم‭ ‬لغاتها‭ ‬ووضع‭ ‬القواعد‭ ‬للتأليف‭ ‬المدرسي‭ ‬ولكتابة‭ ‬قصص‭ ‬الأطفال‭ ‬والأولاد‭. ‬وما‭ ‬كان‭ ‬بوسعها‭ ‬أن‭ ‬تنجح‭ ‬لو‭ ‬لم‭ ‬تبدأ‭ ‬أولاً‭ ‬باستخراج‭ ‬أساسيات‭ ‬لغاتها‭. ‬

إن‭ ‬العمل‭ ‬على‭ ‬استخراج‭ ‬ما‭ ‬يسمى‭ ‬‮«‬العربية‭ ‬الأساسية‮»‬‭ ‬هو‭ ‬المدخل‭ ‬الصحيح‭ ‬لكل‭ ‬إصلاح‭ ‬في‭ ‬تعليم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭. ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬اختبرته‭ ‬الأمم‭ ‬المتطورة،‭ ‬وبنت‭ ‬على‭ ‬نتائجه‭ ‬سلّماً‭ ‬تربوياً‭ ‬علمياً‭ ‬لتعليم‭ ‬اللغة‭ ‬يحدّد‭ ‬سلفاً‭ ‬القواعد‭ ‬التي‭ ‬يحتاج‭ ‬إليها‭ ‬التلميذ‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مستوى‭ ‬والألفاظ‭ ‬التي‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يتعلمها‭ ‬والتراكيب‭ ‬النحوية‭ ‬التي‭ ‬بإمكانه‭ ‬أن‭ ‬يستخرجها‭ ‬ويكتب‭ ‬على‭ ‬هَدْيها‭.‬

هذا‭ ‬التدرّج‭ ‬المدروس‭ ‬في‭ ‬تعليم‭ ‬اللغة‭ ‬وفق‭ ‬المستويات‭ ‬والأعمار‭ ‬والحاجات‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬تفتقده‭ ‬‮«‬العربية‮»‬‭. ‬ولقد‭ ‬فشلت‭ ‬المحاولات‭ ‬الفردية‭ ‬الكثيرة‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬تغيير‭ ‬يذكر،‭ ‬رغم‭ ‬خبرة‭ ‬أصحابها،‭ ‬لأن‭ ‬هذا‭ ‬العمل‭ ‬التأسيسي‭ ‬هو‭ ‬عمل‭ ‬دولة‭ ‬لا‭ ‬أفراد‭. ‬فاللغة‭ ‬مسؤولية‭ ‬جماعية،‭ ‬أي‭ ‬مسؤولية‭ ‬الدولة‭ ‬التي‭ ‬تستطيع‭ ‬أن‭ ‬تجمع‭ ‬الخبراء‭ ‬وتموّل‭ ‬الأبحاث‭ ‬وتؤمّن‭ ‬المدارس‭ ‬لإجراء‭ ‬الاختبارات‭ ‬وتبني‭ ‬البرامج‭ ‬على‭ ‬هَدْي‭ ‬النتائج،‭ ‬وتُلزم‭ ‬بها‭ ‬الجميع‭. ‬

لقد‭ ‬اعتقد‭ ‬الناس‭ ‬طويلاً‭ ‬أن‭ ‬الطفل‭ ‬يتعلم‭ ‬لغته‭ ‬الأم‭ ‬فقط‭ ‬بتقليد‭ ‬الكلام‭ ‬الذي‭ ‬يسمعه‭ ‬من‭ ‬والديه‭. ‬ولكن‭ ‬هذا‭ ‬الاعتقاد‭ ‬ما‭ ‬لبث‭ ‬أن‭ ‬ظهر‭ ‬بطلانه‭ ‬نتيجة‭ ‬دراسات‭ ‬لسانية‭ ‬عدة‭ (‬من‭ ‬بينها‭ ‬دراسات‭ ‬نعوم‭ ‬تشومسكي‭) ‬بيّنت‭ ‬أن‭ ‬قابلية‭ ‬تعلّم‭ ‬اللغة‭ ‬مسألة‭ ‬فطرية‭ ‬يتميز‭ ‬بها‭ ‬الإنسان‭ ‬دون‭ ‬سواه‭.‬

وقد‭ ‬حدّد‭ ‬العلماء‭ ‬خمسَ‭ ‬مراحل‭ ‬يتدرّج‭ ‬فيها‭ ‬الطفل‭ ‬من‭ ‬الثغثغة‭ ‬إلى‭ ‬تأليف‭ ‬جملة‭ ‬مكتملة‭. ‬وتكتمل‭ ‬هذه‭ ‬المراحل‭ ‬كلّها‭ ‬في‭ ‬سنّ‭ ‬الخامسة‭. ‬وفي‭ ‬هذه‭ ‬السن‭ ‬المبكّرة‭ ‬لا‭ ‬تتكوّن‭ ‬لغة‭ ‬الطفل‭ ‬وحسب،‭ ‬بل‭ ‬تتكوّن‭ ‬معها‭ ‬أفكاره‭ ‬أيضاً‭. ‬فتطوّر‭ ‬الفكر‭ ‬لا‭ ‬ينفصل‭ ‬عن‭ ‬تطوّر‭ ‬اللغة‭. ‬فسواء‭ ‬كانت‭ ‬اللغة‭ ‬تتأسس‭ ‬على‭ ‬الأفكار،‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬بياجيه،‭ ‬أو‭ ‬كانت‭ ‬الأفكار‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تتأسس‭ ‬على‭ ‬اللغة،‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬فيغوتسكي،‭ ‬فإن‭ ‬النتيجة‭ ‬واحدة،‭ ‬وهي‭ ‬أن‭ ‬الفكر‭ ‬واللغة‭ ‬متلازمان‭. ‬وقد‭ ‬بينت‭ ‬‮«‬دروس‮»‬‭ ‬سوسور‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬دالّ‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬مدلول،‭ ‬ولا‭ ‬مدلول‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬دالّ‭.‬

ولكنّ‭ ‬هناك‭ ‬مسألة‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬من‭ ‬حسمها‭ ‬أيضاً‭ ‬حين‭ ‬نتصدى‭ ‬لتعليم‭ ‬الفصحى‭ ‬للصغار،‭ ‬وهي‭: ‬أي‭ ‬لغة‭ ‬عربية‭ ‬نريد‭ ‬تعليمها‭ ‬لصغارنا‭: ‬الكتابية‭ ‬أم‭ ‬التداولية؟‭ ‬

ليس‭ ‬بوسع‭ ‬العربية‭ ‬الكتابية،‭ ‬في‭ ‬رأيي،‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬لغة‭ ‬أولى‭ ‬لأطفالنا‭ ‬لأسباب‭ ‬كثيرة‭ ‬ليس‭ ‬هنا‭ ‬مجال‭ ‬مناقشتها‭. ‬‮«‬العربية‮»‬‭ ‬التي‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬نعمل‭ ‬لترسيخها‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬أطفالنا‭ ‬هي‭ ‬العربية‭ ‬التداولية،‭ ‬وهي‭ ‬لغة‭ ‬عربية‭ ‬فصحى‭ ‬مبسّطة‭ ‬خالية‭ ‬من‭ ‬الحركات‭ ‬الإعرابية،‭ ‬شبيهة‭ ‬بتلك‭ ‬التي‭ ‬أسماها‭ ‬عصام‭ ‬محفوظ‭ ‬‮«‬الفصحى‭ ‬الشعبية‮»‬،‭ ‬وفصّل‭ ‬مشروعها‭ ‬بهدف‭ ‬خلق‭ ‬لغة‭ ‬عربية‭ ‬مسرحية‭ ‬مشتركة‭. ‬ومحفوظ‭ ‬هو‭ ‬خاتمة‭ ‬سلسلة‭ ‬من‭ ‬الكتّاب‭ ‬الذين‭ ‬حاولوا،‭ ‬كلّ‭ ‬بمفرده‭ ‬وعلى‭ ‬طريقته،‭ ‬بناء‭ ‬جسر‭ ‬فوق‭ ‬هذه‭ ‬الهوة‭ ‬الفاصلة‭ ‬بين‭ ‬‮«‬العامية‮»‬‭ ‬و«الفصحى‮»‬‭. ‬

ولكي‭ ‬تكون‭ ‬العربية‭ ‬التداولية‭ ‬لغة‭ ‬أولى‭ ‬لصغارنا‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يتلقاها‭ ‬الطفل‭ ‬من‭ ‬فم‭ ‬أمه‭ ‬وأبيه،‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬يتولى‭ ‬تربيته‭. ‬إن‭ ‬الطفـــل‭ ‬كائن‭ ‬ناطق‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يبدأ‭ ‬بالكلام،‭ ‬وكائن‭ ‬مفكّر‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يعبّر‭ ‬عن‭ ‬الأفكار‭. ‬فهو‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يكتشف‭ ‬بُنى‭ ‬الجُمل‭ ‬اللغوية‭ ‬العميقة‭ ‬وأن‭ ‬يبني‭ ‬عليها‭ ‬جملاً‭ ‬من‭ ‬تأليفه‭ ‬لم‭ ‬يسمعها‭ ‬قط،‭ ‬وأن‭ ‬يعتمد‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬البُنى‭ ‬لاستـــــنتاج‭ ‬معاني‭ ‬الكلمات‭ ‬التي‭ ‬تتكرّر‭ ‬على‭ ‬مسمعه‭ ‬في‭ ‬سياقات‭ ‬مختلفة‭.‬

هذا‭ ‬الاستعداد‭ ‬الفطري‭ ‬وهذه‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬الاستنتاج‭ ‬يعطيان‭ ‬الأم‭ ‬دوراً‭ ‬كبيراً‭ ‬في‭ ‬اكتساب‭ ‬الطفل‭ ‬للغة‭. ‬فالطفل‭ ‬يتوجّه‭ ‬إلى‭ ‬الأم‭ ‬ليسمع‭ ‬منها‭ ‬الألفاظ،‭ ‬ويتوجّه‭ ‬إليها‭ ‬ليعرف‭ ‬صحّة‭ ‬استعماله‭ ‬لهذه‭ ‬الألفاظ‭ ‬عندما‭ ‬يبدأ‭ ‬بتركيب‭ ‬الجمل‭ ‬البسيطة‭. ‬وبقدْر‭ ‬ما‭ ‬تعطي‭ ‬الأم‭ ‬طفلها‭ ‬من‭ ‬الوقت‭ ‬والاهتمام‭ ‬تزداد‭ ‬ثروة‭ ‬الطفل‭ ‬اللفظية،‭ ‬وبالتالي‭ ‬الفكرية‭ ‬والثقافية‭. ‬

إن‭ ‬دور‭ ‬الدولة‭ ‬لا‭ ‬يكتمل‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يقترن‭ ‬بدور‭ ‬الأهل‭. ‬وهذا‭ ‬الدور‭ ‬يكون‭ ‬فعالاً‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬واعياً‭ ‬ومنظماً‭. ‬ولعل‭ ‬أبسط‭ ‬بداية‭ ‬لتنفيذه‭ ‬هي‭ ‬أن‭ ‬تخصّص‭ ‬الأم‭ ‬جزءاً‭ ‬من‭ ‬الوقت‭ ‬لتقرأ‭ ‬قصة‭ ‬لطفلها،‭ ‬قصة‭ ‬تناسب‭ ‬عمره‭ ‬وفهمه‭ ‬وتثير‭ ‬اهتمامه‭ ‬وتعلمه‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬ألفاظاً‭ ‬عربية‭ ‬ومعاني‭ ‬جديـــدة،‭ ‬ويــــمكن‭ ‬للأب‭ ‬أن‭ ‬يستعـــين‭ ‬بكتب‭ ‬مصـــوّرة‭ ‬للأطــــفال‭ ‬ويقرأها‭ ‬مع‭ ‬طفلــــه‭ ‬وهو‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬الصور‭ ‬لكي‭ ‬يساعده‭ ‬على‭ ‬ربط‭ ‬اللفظة‭ ‬بالمعنى‭ ‬وبالمرجع‭ ‬الحسي‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬الصورة‭. ‬

وهكذا‭ ‬يتدرج‭ ‬الأهل‭ ‬مع‭ ‬الطفل‭ ‬إلى‭ ‬اليوم‭ ‬الذي‭ ‬يتمكن‭ ‬فيه‭ ‬الطفل‭ ‬من‭ ‬القراءة،‭ ‬فيقرأ‭ ‬هو‭ ‬قصة‭ ‬لأهله‭. ‬وهكذا‭ ‬ينتقل‭ ‬الطفل‭ ‬من‭ ‬السماع‭ ‬إلى‭ ‬القراءة‭ ‬التي‭ ‬تنمي‭ ‬شخصيته‭ ‬وتزيد‭ ‬ثقته‭ ‬بنفسه،‭ ‬لأنها‭ ‬تضعه‭ ‬موضع‭ ‬الفاعل‭ ‬لا‭ ‬المنفعل،‭ ‬وينتقل‭ ‬الأهل‭ ‬إلى‭ ‬مهمة‭ ‬جديدة‭ ‬هي‭ ‬التشجيع‭ ‬بحسن‭ ‬الاستماع‭ ‬وتفسير‭ ‬معنى‭ ‬الجملة‭ ‬عند‭ ‬الحاجة‭. ‬

هذه‭ ‬العلاقة‭ ‬المتبادلة‭ ‬بين‭ ‬الطفل‭ ‬ووالديه،‭ ‬عدا‭ ‬عن‭ ‬نتائجها‭ ‬السيكولوجية‭ ‬الإيجابية،‭ ‬تمكّن‭ ‬الطفل‭ ‬بعد‭ ‬حين‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يقرأ‭ ‬الفصحى‭ ‬ويتكلم‭ ‬بها،‭ ‬ثم‭ ‬تعوّده‭ ‬على‭ ‬قراءة‭ ‬الكتب‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬تنمّي‭ ‬مخزونه‭ ‬اللغوي،‭ ‬ثم‭ ‬هي‭ ‬تنمي‭ ‬ذهنه‭ ‬فيصبح‭ ‬أكثر‭ ‬استيعاباً‭ ‬لدروسه‭ ‬المدرسية‭ ‬الأخرى،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬اتزان‭ ‬شخصيته‭ ‬وميله‭ ‬إلى‭ ‬التعاون‭ ‬والسلام‭ ‬مع‭ ‬أقرانه‭. ‬

هذه‭ ‬الصورة‭ ‬الإيجابية‭ ‬التي‭ ‬رسمناها‭ ‬ينقضها،‭ ‬مع‭ ‬الأسف،‭ ‬واقعٌ‭ ‬غير‭ ‬مساعد‭.  ‬فالأم‭ ‬التي‭ ‬عليها‭ ‬أن‭ ‬تقرأ‭ ‬لطفلها‭ ‬وتسمعه‭ ‬وتحادثه‭ ‬وتخصّص‭ ‬له‭ ‬ما‭ ‬يحتاج‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬وقت‭ ‬واهتمام‭ ‬لا‭ ‬يوفّرها‭ ‬الواقع‭ ‬العربي‭ ‬المتخلّف‭. ‬فقد‭ ‬بيّنت‭ ‬تقارير‭ ‬منظمة‭ ‬اليونسكو‭ ‬أن‭ ‬أمية‭ ‬النساء‭ ‬في‭ ‬البلاد‭ ‬العربية‭ ‬ليست‭ ‬إلى‭ ‬انخفاض،‭ ‬فقد‭ ‬ارتفعت‭ ‬نسبتها‭ ‬من‭ ‬66‭ ‬في‭ ‬المائة‭ ‬عام‭ ‬2011‭ ‬إلى‭ ‬67‭ ‬في‭ ‬المائة‭ ‬عام‭ ‬2015‭. ‬

ويمكننا‭ ‬أن‭ ‬نتوقع‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬تخصّصه‭ ‬الأم‭ ‬العربية‭ ‬لطفلها‭ ‬معدوماً‭ ‬بسبب‭ ‬كثرة‭ ‬الأولاد‭ ‬في‭ ‬الأسرة‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬حرص‭ ‬الأهل‭ ‬على‭ ‬تمكين‭ ‬الطفل‭ ‬من‭ ‬اللغة‭ ‬الفصحى‭ ‬منذ‭ ‬عمره‭ ‬الباكر‭ ‬هو‭ ‬موقف‭ ‬قومي‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬وعي‭ ‬سياسي‭ ‬بالهوية‭ ‬والانتماء،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬نفتقده‭ ‬في‭ ‬بلادنا‭ ‬العربية،‭ ‬حيث‭ ‬يغيب‭ ‬الانتماء‭ ‬القومي‭ ‬ويقوم‭ ‬مكانه‭ ‬الانتماء‭ ‬إلى‭ ‬الاثنية‭ ‬أو‭ ‬المذهب‭ ‬أو‭ ‬الدين‭. ‬وهذه‭ ‬الانتماءات‭ ‬جميعاً‭ ‬تُخرج‭ ‬الفرد‭ ‬من‭ ‬دائرته‭ ‬العربية‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬أكبر‭ ‬منها‭ ‬أو‭ ‬أصغر‭ ‬ومختلف‭ ‬عنها‭ ‬في‭ ‬الحالين‭.‬

هذا‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬تـــقـــــرأه‭ ‬الأم‭ ‬أو‭ ‬الأب‭ ‬للطفل‭ ‬لا‭ ‬يتــــــوافر‭ ‬بالشــــكـــل‭ ‬المدروس‭ ‬في‭ ‬بلادنا،‭ ‬فقصص‭ ‬الأطفال‭ ‬تؤلَّف‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬قاعدة‭ ‬تربوية‭ ‬لغياب‭ ‬هذه‭ ‬القاعدة،‭ ‬كما‭ ‬ذكرنا،‭ ‬وليس‭ ‬لهذه‭ ‬الكتب‭ ‬هدف‭ ‬لغوي‭ ‬أو‭ ‬قومي‭ ‬أو‭ ‬ثقافي،‭ ‬بل‭ ‬هدفها‭ ‬هو‭ ‬الربح‭ ‬المادي‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬المدارس‭ ‬الابتدائية‭ ‬التي‭ ‬عليها‭ ‬أن‭ ‬تواكب‭ ‬الطفل‭ ‬وتتابع‭ ‬ما‭ ‬بدأه‭ ‬الأهل‭ ‬غير‭ ‬مجهزة‭ ‬بالوسائل‭ ‬المناسبة‭ ‬ولا‭ ‬بالمعلمين‭ ‬المدرّبين‭ ‬لمثل‭ ‬هذه‭ ‬المهمات‭ ‬الدقيقة‭. ‬

يسهل‭ ‬على‭ ‬الراسخين‭ ‬في‭ ‬العلم‭ ‬أن‭ ‬يرسموا‭ ‬الخطط‭ ‬لجعل‭ ‬العربية‭ ‬الفصحى‭ ‬اللغة‭ ‬الأم‭ ‬لأبناء‭ ‬البلاد‭ ‬العربية،‭ ‬ولكنْ‭ ‬يستحيل‭ ‬عليهم‭ ‬أن‭ ‬يحدّدوا‭ ‬الزمن‭ ‬الذي‭ ‬سيشهد‭ ‬التنفيذ،‭ ‬لأنه‭ ‬زمن‭ ‬الراسخين‭ ‬في‭ ‬السّلطة‭. ‬

لقد‭ ‬بدّد‭ ‬التخلف‭ - ‬والجهل‭ ‬والتعصب‭ ‬الديني‭ ‬والصراعات‭ ‬السياسية‭ ‬وتأبيد‭ ‬السلطة‭ - ‬أموالَ‭ ‬الأمة‭ ‬العربية‭ ‬وهجّر‭ ‬طاقاتها‭ ‬البشرية،‭ ‬ولم‭ ‬يبقَ‭ ‬اليوم‭ ‬من‭ ‬الأموال‭ ‬سوى‭ ‬القليل،‭ ‬ولم‭ ‬يبقَ‭ ‬من‭ ‬الطاقات‭ ‬الحقيقية‭ ‬سوى‭ ‬الأقل،‭ ‬فيما‭ ‬عدد‭ ‬الأفــواه‭ ‬الجائعة‭ ‬يزداد‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬مساحة‭ ‬هذه‭ ‬الأمة‭. ‬

فهل‭ ‬بإمكاننا‭ ‬بعدُ‭ ‬أن‭ ‬نحلُم‭ ‬بمجتمع‭ ‬عربي‭ ‬يفتخر‭ ‬بلغته‭ ‬ويحرص‭ ‬على‭ ‬تطويرها‭ ‬ولا‭ ‬يتكلم‭ ‬إلا‭ ‬بها،‭ ‬مثلما‭ ‬تفعل‭ ‬المجتمعات‭ ‬المتقدمة؟

إن‭ ‬علينا‭ ‬ذلك‭.‬

فماذا‭ ‬سنفعل‭ ‬لو‭ ‬توقفنا‭ ‬عن‭ ‬الحلم؟

بل‭ ‬ماذا‭ ‬سيفعل‭ ‬أولادنا؟■