يوم واحد لا يكفي
لاستقراء ذلك التاريخ البعيد والحافل لمدينة رشيد التاريخية من خلال كتاب العمران
المفتوح، يوم واحد لا يكفي لاقتفاء الأثر التاريخي من خلال تلك الشواهد التي بقيت
متحدية راسخة، والتي لم تعبث يد البلى إلا بالقليل منها، إنها ليست أطلالا، ولكنها
سجل تاريخي مفتوح لمن يدفعه فضوله ليبحر في صفحات التاريخ المطمور، إن رشيد لم تكن
هامشا تاريخيا بل كانت متنا من أهم متونه، فرشيد (هي التاريخ إلا
قليلا).
ولعل رغبتي في
قراءة (دراما التاريخ) هي التي شكلت دافعا قويا لزيارة هذا المسرح التاريخي الصغير
الذي احتشدت عليه أحداث أثرت في تاريخ مصر كلها. ولعلها دفعتني أيضا لزيارة رشيد
مرتين، ولعله يجدر بي أن أنوه للفترة الأولى حيث شهدت رشيد اهتماما ملحوظا من
القائمين على هيئة الآثار مما جعلها تحصل على جائزة المدن الإسلامية بطنجة "يناير
1990 ".
في المرة الثانية
دخلت إلى رشيد من البوابة الشرقية وبدعوة وصحبة (مقبل عيطة) أحد مواطنيها المتحمسين
لتاريخها، حيث صحبني لزيارة المتحف وأهداني كتابا تذكاريا عن مقتنياته. وفي
الزيارتين كنت أتفحص وجوه المارة، وأفتش في ملامحهم عن الأنساب التاريخية البعيدة،
ومررت من شارع دهليز الملك وعشت بمخيلتي وقائع المقاومة الشعبية ضد حملة
فريزر.
البحث عن زبيدة
البواب
كلما رأيت وجه
جميلة، أسأل عن زبيدة البواب، لا يجيب أحد، يراوغونني وتظل علامات الاستفهام معلقة،
يكتنفها الغموض، فأعود لأسأل عن مقابر شهاب، لأقرأ ما كتب على الشاهد الرخامي لقبر
الصديقتين (لورا) الإنجليزية، و (زبيدة) الرشيدية "هذا قبر الشهيدتين" تلك الجملة
التي ختم بها (على الجارم) قصته المأساوية عن زبيدة (غادة رشيد). لا أحد يلبي
رغبتي، ويضحكون مني: "يبدو أنك رومانسي بعض الشيء"، لا أحد يساعدني لإعادة قراءة
كتاب الحزن القديم، وكأن في الأمر حرجا ما. رشيد، تقفز إلى خاطري أسماء ووقائع،
ومعارك، فأجدني، وقد احتشدت بمخيلتي العديد من المشاهد التي لم يسق التاريخ منها
إلا نتفا يسيرة مدفـوعا إلى البحث والمحاولة.. ويقول لك هذه بلد زبيدة الجميلة التي
تزوجت من ثالث قادة الحملة الفرنسية (مينو)، أو ليقول لك هي تلك المدينة التي
اكتشفوا فيها (حجر رشيد) المفتاح الأول للحضارة الإنسانية، أو ليقول لك هذه مدينة
المليون نخلة (والحقيقة أنها مدينة المليون وربع المليون نخلة).
ويمكن لأهالي
رشيد البسطاء أن يعدوا لك مناقب هذه المدينة في يسر، فهم يعرفون عنها شفاهة، ما بطن
في ذاكرة ذلك التاريخ المكتوب، وما ظهر. بينما كنت أشق شوارعها الضيقة وجدت العديد
من المواطنين وهم يعملون بأيديهم وأقدامهم (وأسنانهم) يشقون جريد النخيل بمهارة
فائقة توارثوها..الأمر لا يعدو كونه معرضا مفتوحا للمقاعد والكنب وأقفاص الدواجن
والعديد من الأثاثات المنزلية.
أشق طريقي على
الكورنيش، أواجه العديد من الشواهد الأثرية التي تشي بعبق التاريخ البعيد والماضي
القريب، وكأنني أنصت لإيقاع سنابك الخيل وهي تشق طريقها قاصدة بيت القاضي على
الكورنيش.. خليط من عمائم ضخمة، وقبعات فرنسية، يتقدمها عبدالله باشا مينو لإنهاء
مراسيم إشهار الإسلام.. أو الزواج (زواج مينو من زبيدة). ما زلت محملا بتلك الهواجس
التاريخية، المحتشدة بالحقائق والوقائع التي تزفها نغمة رقيقة تدق على وتر
الحزن.
وأفيق من الموكب
التاريخي لمينو، على الموكب الرسمي الذي أسير فيه مع مسئولي مجلس المدينة، وعلى طول
الكورنيش نغمات متناسقة موقعة لأولئك الذين يشيدون مراكب الصيد (أيضا توارثوها عن
الأجداد)، وما زالوا يعملون بها، ويصدرون العديد منها للمدن الساحلية التي تمتطي
البحر بحثا عن الرزق، مراكب صيد صنعتها يد خبيرة لا فرجار ولا قلم ولا مسطرة ولا
آلة حاسبة، لكن كل شيء يمضي كما أريد له أن يمضي، بطول الشاطئ ورش ومصانع يمضي
دولابها في حركة منظومة مموسقة خلاقة. يقول لي (مقبل عيطة): تكون محظوظا.. لو زرتنا
يوم 15 يناير في أي عام. سألته: لماذا؟ قال: في هذا اليوم من كل عام تفتح قناطر
إدفينا (مدينـة قبل رشيد)، لو قدر لك زيارة رشيد في هذا التاريخ، لاستمتعت بمشـاهدة
أروع وأغرب الظواهر الطبيعية، عند التقاء مياه نهر النيل بمياه البحر المالحة، وقد
أخذت مياه النيل اتجاهين مختلفين، الأول مياهه خضراء عذبة والثانية مياهه زرقاء
مالحة دون فاصل بينهما، وكأنما نزل فيهما قول الحق: مرج البحرين يلتقيان.
حقائق تاريخية حول
المدينة
تقع رشيد في
محافظة البحيرة، على الضفة الغربية لفرع رشيد (أحد فرعي الدلتا) وقد كانت بحكم هذا
الموقع رابطا بين حضارتي الشمال والجنوب، ولقد تعددت الشهادات التاريخية حول
نشأتها، إلا أنها- في العموم- أكدت قدمها.. ولم تكن هناك غير شهادة واحدة تشكك في
قدم المدينة، هذه الشهادة تفيد بأن رشيد قد أسست في زمن الخليفة المتوكل على الله
العباسي عام (870 هـ)، ولكن باقي الشهادات جاءت لتدحض ذلك الزعم، فالعديد منها يؤكد
أن تأسيسها يرجع إلى ما قبل الأسرة الفرعونية الأولى.
فعندما زحف الملك
(نارمر) أو مينا قادما إلى رشيد من الصعيد سعيا وراء تحقيق الوحدة بين الوجهين
البحري والقبلي اصطدم بأهل هذه المدينة وهم طائفة كانت تدعى (رخيتو)
(Rechetoa) أي عامة الناس، وهي- كما نرى-
قريبة الشبه بكلمة (Rachit) رشيت القبطية
الأصل والتي تحولت إلى رشيد فيما بعد، فضلا. عما أكدته المتون التاريخية بأن مدينة
رشيد قد قامت على أنقاض مدينة (بولبتين) القديمة التي سمي باسمها (فرع بولبتين) فرع
رشيد حاليا.
ولقد كانت
بولبتين- كما ذكر (هكتايتوس) و (ديودورس)- سوقا رائجة منذ العصرين الفرعوني
واليوناني في عهد الأسرة (26)، كما وردت في حديث (اسطفانوس) البيزنطي في القرن
الخامس أنه كان يصنع بها العجلات الحربية (الذائعة الصيت)، وعلى ضوء ذلك أكد
العلماء أن مدينة في مثل مساحتها لا بد أن تشتمل على معبد واحد كبير على أقل تقدير،
ولذا فإن اكتشاف حجر رشيد، وحل رموزه، جاء تأكيدا على هذه المقولة، كما ورد في
التاريخ القديم أنه في عهد الأسرة (19) أقام الملك منفتاح استحكاماته على الضفة
الغربية لفرع رشيد بعد هجمات الليبيين والإغريق الصقليين المتكررة حيث انتصر
المصريون في أول معركة لهم مع أوربا على أرض رشيد.
ولقد جاء في فتوح
الشام للواقدي أن عمرا كتب للخليفة عمر بن الخطاب يخبره بفتح مريوط والإسكندرية
ورشيد وفوه ودمنهور، وغيرها من بلاد الوجه البحري الأمر الذي يعني أن رشيد كانت
قائمة قبل الفتح الإسلامي لمصر.
الإسلام يدخل
رشيد
تحقق ذلك على يد
عمرو بن العاص عام 641 م، وعقد قزماس أو (قزمان)- حاكم رشيد القبطي آنذاك- معاهدة
مع عمرو بن العاص وأدى الجزية وظلت الكنائس على حالها لمن بقي على دينه دون أن
تمسها يد الفاتحين بسوء. وحين دخل عمرو بن العاص القاهرة، آثر بعض ممن كانوا معه من
الصحابة السكنى في رشيد فابتنوا المساجد وأقاموا البيوت وزرعوا الأرض، ومن بين
أولئك الصحابة (عبدالله بن الصامت)، وتوالت على رشيد فترات ازدهار اقتصادي وعمراني،
تخللتها فترات من الأفول والاضمحلال، وبعد الفتح الإسلامي أصبحت الفسطاط عاصمة لمصر
بدلا من الإسكندرية، فتقلص العمران في المدينة ولكن صاحب بناء القاهرة عام (969 م)
ضعف في الدور التجاري للإسكندرية حيث أصبحت لرشيد أهمية كبرى، كما ورد تاريخيا أن
اكتشاف رأس الرجاء الصالح كان له أثره البالغ على الملاحة التجارية في فرع رشيد.
وفي القرن الثاني عشر الميلادي ازدادت العناية بالمدينة، وكثر قدوم الحكام إليها
ليتفقدوا تحصيناتها، وأنشأ بها السلطان قايتباي قلعة كبيرة عرفت باسمه عام (1472م)
وبنى حولها سورا لحمايتها، كما قام السلطان الغوري ببناء سور للمدينة على شاطئ
البحر (1516 م) وأقام الأبراج لحمايتها، وتكرر الاهتمام بالمدينة بعد فتح
العثمانيين (1517م) فأصبحت أهم ثغور مصر.
ولعله من الأهمية
بمكان أن ننوه بكتاب وصف مصر الذي خلفته الحملة الفرنسية، حيث قدم أحد العلماء
المشاركين في الكتاب (جولوا) جزءا (كتابا) مستقلا عن هذه المدينة واصفا جغرافيتها،
ومبحرا في جذورها التاريخية، وعادات أهلها والتجارات والحرف التي يعملون بها،
والدور الاقتصادي والسياسي والحربي الذي لعبته المدينة خلال فصول التاريخ، كما تعرض
لمظاهر العمران فيها.
مساجد وبيوت
وطواحين
تتنوع شواهد
وآثار رشيد بين مساجد وبيوت وطواحين وقلاع وحمامات وأسبلة، ومن أشهر المساجد هناك
مساجد المشيد بالنور والعرابي والعباسي وأبي الريش والشيخ تقا والجندي وعلى المحلي
ودمقسيس المعلق والصامت، وأيضا مسجد زغلول أشهر المساجد فيها والذي انطلقت من
مئذنته إشارة البدء للمقاومة أثناء الحملة الإنجليزية. وأيضا مسجد أبي النضر
(أبومندور) الذي يحتل موقعا فريدا في المدينة حيث يمكننا الوصول إليه بعد رحلة
نيلية جميلة إلى أن نصل إلى الشاطئ الآخر لمنطقة رائعة تدعى (تل أبي منضور)، والتي
تأخذ شكل شبه جزيرة مثلثة الشكل وعبارة عن ربوة مرتفعة تأخذ في الانحدار حتى تكون
رأس المثلث مطلة على النيل يقوم عليها المسجد. ويمكنك أن تلمح على مرمى البصر
الآلاف من أشجار النخيل الباسقة الغنية بالثمار، وقد قيل عن أبي النضر إنه ينحدر من
سلالة علي بن أبي طالب، ومسجد زغلول ينسب إلى زغلول مملوك السيد هارون أحد أمراء
القرن الحادي عشر الهجري ويقع جنوب رشيد، وقد سقطت معظم قبابه أثناء الحملة
الإنجليزية بقيادة فريزر على رشيد إلى أن أعادت هيئة الآثار ترميم نصف المسجد
الضخم.
ومن آثار رشيد
الأخرى، طاحونة "أبو شاهين" ، وحمام عزوز ومن القلاع قلعة رشيد وقلعة قايتباي، وفي
رشيد العديد من المنازل الأثرية مثل منزل البقروللي وعثمان أغا الأمصيلي وعصفور
والمناديلي والقناديلي وثابت وطبق، ومنزل (عرب كلي) وهو من أشهر المنازل وقد تم
تحويله إلى متحف وطني ومنزل الميزوني أو (المازوني) وهو منزل السيد محمد البواب
المازوني والد زبيدة التي تزوجها مينو، ومنازل أخرى مثل منزل جلال ورمضان وحسيبة
غزال والتوقاتلي وأبوهم وكوهيه وبسيوني والجمل ورمضان ومحارم وعلوان، وكل هذه
الآثار يرجع تاريخ إنشائها إلى قرنين من الزمان على الأقل.
وقد استخدم الطوب
المنجور المطلي (المكحول) الأحمر والأسود في بناء منازل رشيد، وتتكون المنازل في
الغالب من ثلاثة أو أربعة طوابق- قسمت الطوابق بالكوابيل الخشبية- وتميزت معظم
المنازل بوجود الشادر (الوكالة) والاصطبل والسبيل، واشتركت في تخصيص الدور الثاني
للرجال (الدهليز) والثالث للحريم (الهدير)، واستخدام فراغات الحوائط في عمل دواليب
ووجود غرفة بالدور العلوي، تطل على الناحية البحرية (الشمالية) للإقامة الصيفية
(القصر العالي)، واستخدام المشربيات المحمولة على رجلين، واشتمال الدور الثالث على
حجرة اسمها (حجرة الأغاني) تغطى بالقاشاني في بعض الحالات.
المتحف.. ذاكرة
المدينة
كان على أن أبدأ
بالمتحف، حيث الأبجديات التاريخية، التي سعيت لتنسيقها في ذاكرتي لأكون جملا مفيدة
ومكتملة. ومتحف رشيد هو نفسه منزل (عرب كلي) الذي أنشئ في القرن الثامن عشر
الميلادي منذ قرنين كاملين من عمر المدينة، وقد نسب لاسم مشيده (عرب كلي) محافظ
رشيد آنذاك، الذي استخدم أرقى الأساليب في بناء هذا البيت، وعني باختيار موقعه،
واتساع حجراته، وترتيب طوابقه الأربعة طبقا لمتطلباته ووظائفه. فالطابق الأرضي خصص
لأن يكون شادرا، سقفه على هيئة أقبية متقاطعة، وكانت نوافذ الطابق الثاني ذات
مصبعات حديدية تعلوها فتحات إنارة، وكان الطابق الثالث يحتوي على بهو ذي سقف خشبي
تتوسطه شخشيخة مثمنة الأضلاع، في قبتها مجموعة من النوافذ للتهوية والإنارة، وبه
حمام مسقوف بقبة ضحلة أسفلها حوض رخامي تخرج منه الماء على ممر به دكة. للاسترخاء
يتبعه باب حجرة النوم.
أما الدور الرابع
فقد خصص لكي يكون مقرا صيفيا لصاحب البيت، ويحتوي على غرفة ودورة مياه وتركت باقي
مساحته للتهوية، ولقد تغيرت الأغراض الخاصة بكل طابق- تماما- بعد تحويله إلى متحف.
أدخل البيت (المتحف) تواجهني نسمات التاريخ الرطبة وأرى الإضاءة المملوكية تغمر
أرجاءه وتنعكس على مقتنياته، وعلى وجوه الزائرين، فكأنما التماثيل تحدثك، والوثائق
تكشف عن أسرارها المخبوءة.
الطابق الأرضي
خصص لبيع الكتب والنماذج الأثرية الطابق الثاني يضم صورة ونموذجا (ماكيت) لقلعة
رشيد، ولوحات زيتية (بورتريهات) لعمر مكرم، وعلي السلانكلي وتمثالا نصفيا لمحمد علي
باشا، ونموذجا (بانوراميا) لأسرة رشيدية تأكل وجبة سمك فيما يهش عنهم الخادم
الحشرات الطائرة، ونموذجا لحجر رشيد، وصورة من وثيقتي إشهار إسلام مينو ثم زواجه من
زبيدة ابنة أحد أعيان رشيد، ووثيقة الإسلام مشطوبة تماما، ووثيقة باللغة التركية
لنص المعاهدة التي أبرمها محمد علي مع الإنجليز عام 1807 والتي بمقتضاها رحل
الإنجليز عن أرض الوطن.
كما يضم مجموعة
من السيوف التي ترجع إلى القرنين 18 و 19، و نموذجا لجندي بلباس الميدان على عهد
محمد علي ونماذج بانورامية مجسمة تجسد المقاومة الشعبية لحملة فريزر (1807 م)
وتمثالا نصفيا لشامبليون.
أما الطابق
الثالث فيضم بعض المقتنيات الفخارية والشمعدانات وبعض العملات، والصعود بين هذه
الطوابق يتم عبر سلالم حجرية في ممرات جانبية. بعد زيارتي للمتحف قررت على الفور أن
أزور قلعة قايتباي ذلك المكان الذي عثروا فيه على حجر رشيد، وأن أزور شارع دهليز
الملك.. أشهر مربع على مسرح الكفاح الشعبي. وبدأت (بدهليز
الملك).
رشيد تحارب
وحدها
ولهذه الملحمة
بطلان، الأول (علي بك السلانكلي) محافظ رشيد آنذاك والثاني الشيخ المجاهد (حسن
كريت)، أنصف التاريخ أولهما ولم يعط الثاني قدره من التقدير.
وكان الناس قد
رأوا من مئذنة مسجد زغلول سفن حملة فريزر مبحرة قاصدة شواطئ رشيد، فعلم على بك
السلانكلي بذلك وأحاط الشيخ حسن كريت بالأمر، وصرح له عن نيته في مواجهة هذا الغزو،
فالجرح الذي خلفه الفرنسيون- منذ وقت قريب- لم يندمل بعد، وكان فريزر قد دبر خطة
للاستيلاء على رشيد التي كانت تمثل عنق الزجاجة بين القاهرة والإسكندرية، لأن
الطريق النيلي آنذاك كان أكثر أمانا من الطريق الصحراوي.
لجأ علي بك
السلانكلي للتخطيط مع الشيخ حسن كريت للإيقاع بالإنجليز في شرك المقاومة الشعبية في
شوارع رشيد الضيقة، فدبرا لاستدراج الإنجليز بالتظاهر بعدم المقاومة، فقام الشيخ
حسن كريت بإيهام قنصل إنجلترا في رشيد (بتروش) بضعف رشيد وعجز أهلها العزل إزاء تلك
البوارج بعدتها وعتادها وأن أهل رشيد ليس أمامهم خيار سوى الاستسلام لدرء الكارثة
وتجنب العواقب الوخيمة إن وقع الصدام غير المتكافئ، فقام (بتروش) بدوره بإبلاغ
فريزر بالأمر، بل وأغراه بسهولة جني ثمار النصر.
وكان الإنجليز قد
خططوا للانقضاض على رشيد من ثلاث جهات، فلما توغلوا في المدينة دون مقاومة من أهل
رشيد، تخلوا عن الفرقة التي تقوم بحماية مؤخرة الزحف فأصبحوا بمنأى عن مراكبهم
الراسية على الشاطئ.. فقام علي بك السلانكلي بإقصائها عن الشاطئ، ليستحيل فرار
الإنجليز إليها عند الضرورة، وقام الشيخ حسن كريت بقيادة صفوف المقاومة الشعبية،
وما أن توغل الجيش الإنجليزي في شرايين المدينة حتى أصدر الشيخ أوامره بالانقضاض
على الإنجليز، وبعد دقائق تحولت شوارع رشيد وعلى رأسها شارع (دهليز الملك) إلى مسرح
لحرب ضروس شارك فيها الأطفال والشيوخ والنساء والصبية والرجال، وشاع الذعر بين صفوف
الإنجليز وعمت الفوضى فقتل منهم المئات وأسر الباقون، وحاول بعضهم الفرار إلى
مراكبهم، فلم يجدوها.
لقد أرخ لهذه
الملحمة البغدادي في (إيضاح المكنون)، والرافعي في (تاريخ الحركة القومية)،
والمقريزي، والجبرتي وابن إياس أيضا، ولقد دخلت رشيد التاريخ منذ بدأت ثمار
انتصارها تصل للقاهرة عندما أخذ الشيخ يشحن في كل يوم عددا من رءوس القتلى إلى
بولاق فيطاف بها في القاهرة مرشوقة على (النبابيت) وسط بركة الأزبكية (ميدان
الأوبرا حاليا)، كما كانت تشق طريقها من باب النصر إلى باب الفتوح.. ولقد ألهبت هذه
الملحمة خيال الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، حينما كان طالبا.. فكتب قصته المعروفة
"في سبيل الحرية" ولكنها ظلت بلا نهاية، حتى قام بعض الكتاب بإكمالها وتقديمها في
عمل درامي للتلفزيون المصري.
حجر رشيد وفك رموز
اللغة الفرعونية
لا يمكن لزائر
رشيد أن يغفل زيارة قلعتها، حيث بدأ التاريخ فصوله الأولى فيها منذ عهد بطليموس
الخامس، وفيها اكتشف حجر رشيد وكانت محطة مرور محورية لكل عهد من العهود التي توالت
على المدينة، مسافة بعيدة قطعناها بالسيارة من أمام مجلس المدينة حتى استقرت بنا في
مواجهة القلعة التي تقع على الشاطئ الغربي للنيل شمال المدينة حوالي سبعة كيلو
مترات. في مدخلها على اليسار نموذج لحجر رشيد ولوحة بها ترجمة لما يتضمنه الحجر،
وتتمتع القلعة بتحصينات قوية.
وقصة اكتشاف حجر
رشيد ترجع إلى عام 1799 م في شهر أغسطس، فبينما كان (بوشار) أحد ضباط الحملة
الفرنسية مكلفا بالعمل في قلعة (قايتباي) عثر على حجر في جدار قديم كان لا بد من
هدمه لوضع أساس قلعة جوليان (أحد ضباط الحملة الذي لقي حتفه في هذا المكان)، وسرعان
ما علم قنصل الإسكندرية (مستر هاريس) أن الجنرال (مينو) أمر باستحضار الحجر إلى
منزله بالإسكندرية، وبعد أن نظفوه واعتنوا به نقلوه إلى القاهرة، حيث ألقى عليه
نابليون نظرة إعجاب وأذيع خبره في العالم إلي أن نقل إلى لندن عام (1801م) بموجب
اتفاق بين فرنسا وإنجلترا وبقي هناك كواحد من أهم الآثار المعروضة بالمتحف
البريطاني حتى الآن، وبعد ما يقرب من ربع قرن من تاريخ العثور عليه كان (شامبليون)
قد استطاع- هو ونخبة من العلماء - حل رموز الحجر. والحجر الأصلي من البازلت الأسود
طوله 115 سم وعرضه 73 سم وسمكه 58 سم ومكتوب بثلاث لغات هي من أعلى إلى أسفل
(الهيروغليفية، والديموطيقية، واليونانية)، ويرجع تاريخ الحجر إلى (196 ق. م) في
عهد بطليموس الخامس (إيبيفانس) الذي حكم مصر بين سنتي 203 و 181 ق. م، والحجر عبارة
عن وثيقة تنص على أنه حين تدخل الرومان وثبتوا عرش بطليموس الخامس الذي قضى على
الفتنة وأعاد العطايا للناس، وأصدر عفوا عن السجناء ورد عليهم ممتلكاتهم، أقيم
احتفال كبير في (ممفيس) لشكره ومبايعته. وتم نقش محضر بذلك على الحجر، كان الحجر
أحد هذه النسخ من المرسوم البطليموسي.
غادة
رشيد
كيف لي أن أنسى
قصة على الجارم (غادة رشيد) التي عاشت معنا سني المراهقة والرومانسية وعشنا عليها
نقتات منها البراءة، وعذرية الحب أثناء تعليمنا الثانوي، كيف لي أن أنساهـا وهي
تحتشد بالحزن والحب والرومانسية.
في المتحف توقفت
طويلا أمام وثيقة إشهار إسلام ثالث قادة الحملة الفرنسية (جاك فرانسوا مينو) والذي
تحول اسمه - بمقتضاها- إلى (عبدالله باشا مينو) وهذه الوثيقة وثيقة زواجه من زبيدة
(كريمة السيد محمد البواب المازوني) أحد أعيان المدينة.
وقفزت لذاكرتي
قصة علي الجارم (غادة رشيد) واحتشدت أحداثها في دقيقة داخل رأسي، مجسدة مأساة تلك
السيدة في قصة الجارم قدم وصفا رائعا لزبيدة وجمالها، وعرض لحبها لابن عمها محمود
العسال وإعراضها عن الزواج منه، حيث قرأت لها رابحة العرافة الطالع، وأطلعتها على
ما تقوله النجوم بأنها ستصبح حاكمة.. وملكة، فرفضت محمود (بطل القصة وابن البلد
الشهم القوي العاقل الوطني وكل الصفات الحميدة الأخرى).. تطلعا لما هو أبعد وأعظم
وكانت (لورا) كريمة (نيكسون) تاجر القماش الإنجليزي المهاجر لرشيد صديقة حميمة
لزبيدة، وتحب محمود ولم تفاتحه، إلا بعد أن طلب منها الزواج بعد رفض زبيدة له،
ويكون نابليون قد هرب لفرنسا في زي الصيادين وخلفه كليبر حاكما على مصر، وفي هذه
الفترة تزوج مينو من زبيدة (الفتاة البكر) وعندما اغتال سليمان الحلبي كليبر خلفه
مينو لتتحقق نبوءة زبيدة وتصبح زوجة الحاكم، وعندما رحل الفرنسيون عن مصر، يأخذ
مينو زوجته- التي أنجبت له طفلا أسماه (سليمان بك مراد) تشفيا في كليبر- ويرحل
لفرنسا ويتركها لينصرف لحياة المجون التي دأب عليها ويهملها ويعهد بولده (سليمان)
لإحدى الأسر النبيلة لتربيته.. ويحاول الإنجليز دخول رشيد فتتصدى لهم المقاومة
الشعبية بقيادة (محمود) ابن عم زبيدة وحبيبها ويموت، فتذهب لورا إلى قبره كل يوم
لتنثر عليه الورد وتظل كابية أمامه إلى أن يرخي الليل سدوله. وتعود زبيدة هاربة عبر
إيطاليا وتعلم بمقتل محمود فتذهب لقبره، وتفاجأ بحبيبته لورا وتموتان معا- في لحظة-
من هول المفاجأة، ويطوف أهالي رشيد بنعشيهما في شوارع البلدة ويدفنونهما في مقبرة
واحدة عليها رخامة مكتوب عليها (هذا قبر الشهيدتين).
بالمناسبة، فإن
أول ما سألت عنه عند وصولي لرشيد هو مدافن شهاب .. فقال لي أحد المواطنين: لم يعد
لها وجود. لقد كانت رشيد في انتظار زائر مهم وكانت المدافن تقع في الطريق فأزاحوها
بالجرافات!! مع الأسف!
ولكن لنعد إلى
الوثيقة في المتحف، تقع وثيقتا الزواج وإشهار الإسلام في الصفحة نفسها والفارق
الزمني بينهما يومان، وثيقة إشهار الإسلام مشطوبة ووثيقة الزواج سليمة تقرؤها دون
عناء ولسنا في حاجة هنا لترجمة كل ما تضمنته الوثيقتان، ولكن نسوق ثلاثة أسطر فقط
من الوثيقة.. تقول السطور: "تزوج عبدالله باشامينو المذكور بمخطوبته زبيدة المرأة
بنت محمد البواب التي كانت زوجا (لسليم أغا) وطلقها.. وانقضت عدتها.. وذلك على دين
الله الكريم وسنة نبيه الكريم" تكشف السطور الثلاثة والوثيقة عن حقائق.. منها أن
والد زبيدة اعتبر هذه الزيجة عارا عليه فلم يبارك الزواج، فالوثيقة لا تحمل توقيعه
ولم تذكره بين الحاضرين.. كما لم تقل الوثيقة زبيدة المرأة بنت (المرحوم).. كشأن
هذه الوثائق التي تلتزم الدقة في اللفظ. أيضا نصت الوثيقة على أن زبيدة كانت (زوجة
لسليم أغا) (وطلقها) و (انقضت عدتها) ثلاث عبارات قصيرة للغاية ولكنها كافية جدا
لتكون نواة لقصة أخرى أكثر واقعية وتشويقا ومأساوية ولكنها لن تكون رومانسية على أي
حال، ولكنها ستناسب مزاج المصريين الدرامي الحاد. هذه العبارات القصيرة تحمل في
طياتها العديد من الحقائق (سليم أغا) اسم مملوكي..طلقها قبل زواج مينو منها.. ولم
يتزوجها مينو إلا بعد انقضاء عدتها كلها أمور خطط لها وليست قدرية كرواية
الجارم.
المهم في هذه
الحقائق التاريخية أيضا.. أن (سليمان بك مراد) ابن مينو من زبيدة لم يعد لمصر..
ولكن بقي سؤال دون إجابة: هل ماتت زبيدة في فرنسا؟ أم أنها فرت إلى مصر لتدفن في
رشيد؟!.