الكاتب التونسي عزالدين المدني: الكتابة المسرحية أدب وصناعة مخصوصة وتكنولوجيا

الكاتب التونسي عزالدين المدني: الكتابة المسرحية أدب وصناعة مخصوصة وتكنولوجيا

إذا‭ ‬كان‭ ‬الكاتب‭ ‬الطليعي‭ ‬التونسي‭ ‬عزالدين‭ ‬المدني‭ ‬قد‭ ‬اشتهر‭ ‬كاتباً‭ ‬مسرحياً‭ ‬بما‭ ‬قدم‭ ‬من‭ ‬أعمال‭ ‬فريدة‭ ‬في‭ ‬موضوعاتها،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬بنائها‭ ‬الفني،‭ ‬فإن‭ ‬كتاباته‭ ‬النقدية،‭ ‬والتنظيرية،‭ ‬تبدو،‭ ‬لمن‭ ‬يقرأه‭ ‬متكاملاً،‭ ‬وكأنها‭ ‬تعزيز‭ ‬لاتجاهه‭/ ‬توجهه‭ ‬هذا‭ ‬بما‭ ‬تفتح‭ ‬أمام‭ ‬القارئ‭ ‬من‭ ‬رؤية‭ ‬واسعة‭ ‬لما‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬عليه‭ ‬المسرح‭ ‬في‭ ‬نهايات‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬وبدايات‭ ‬الألفية‭ ‬الثالثة‭. ‬فإليه‭ ‬يُنسب‭ ‬الاهتمام‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬هوية‭ ‬المسرح‮»‬،‭ ‬تأسيساً،‭ ‬وتجريباً،‭ ‬وتأصيلاً،‭ ‬فهو‭ ‬من‭ ‬الداعين‭ ‬إلى‭ ‬كتابة‭ ‬مسرحية‭ ‬حديثة،‭ ‬وقد‭ ‬وضع‭ ‬الأسس‭ ‬الأولى‭ ‬لـ‭ ‬‮«‬نظرية‭ ‬مسرحية‭ ‬عربية‭ ‬جديدة‮»‬،‭ ‬تعتمد‭ ‬تفعيل‭ ‬التراث‭ ‬بطريقة‭ ‬إبداعية‭ ‬هادفة‭ ‬قوامها‭: ‬التجديد،‭ ‬وتحقيق‭ ‬الحداثة‭ ‬الفعلية‭.‬

فضلاً‭ ‬عن‭ ‬هذا،‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬دور‭ ‬ثقافي‭ ‬بارز‭ ‬في‭ ‬مجالات‭ ‬متعددة‭ ‬من‭ ‬الحياة‭ ‬الثقافية‭ ‬في‭ ‬تونس،‭ ‬أبرزها‭ ‬إسناد‭ ‬إدارة‭ ‬‮«‬أيام‭ ‬قرطاج‭ ‬المسرحية‮»‬‭ ‬إليه‭ ‬في‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬دورة‭ ‬من‭ ‬دوراته،‭ ‬وقيامه‭ ‬بمهمة‭ ‬الأمين‭ ‬العام‭ ‬لجائزة‭ ‬أبي‭ ‬القاسم‭ ‬الشابي،‭ ‬وهي‭ ‬جائزة‭ ‬عربية،‭ ‬تشمل‭ ‬فنون‭ ‬الإبداع‭ ‬كافة‭.‬

  ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬حصل‭ ‬على‭ ‬الصنف‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬وسام‭ ‬الاستحقاق‭ ‬الثقافي‭ ‬في‭ ‬تونس،‭ ‬فإن‭ ‬ذلك‭ ‬سيتعزز‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬جائزة‭ ‬الدولة‭ ‬التونسية‭ ‬للآداب‮»‬‭ ‬العام‭ ‬1989،‭ ‬حيث‭ ‬قاربت‭ ‬أعماله‭ ‬في‭ ‬التأليف‭ ‬المسرحي‭ ‬الخمسة‭ ‬عشر‭ ‬عملاً،‭ ‬جمعت‭ ‬بين‭ ‬التاريخ‭ ‬والتراث،‭ ‬والموضوعات‭ ‬الشعبية‭ ‬المستمدة‭ ‬من‭ ‬واقع‭ ‬الحياة‭ ‬التونسية،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬المجاميع‭ ‬القصصية،‭ ‬والكتب‭ ‬النقدية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬طليعتها‭ ‬كتابه‭ ‬الرائد‭ ‬في‭ ‬مجاله‭: ‬‮«‬الأدب‭ ‬التجريبي‮»‬‭.‬

 

كتاب‭ ‬المسرحية‭ ‬قليلون

‭ ‬‭●‬‭ ‬هل‭ ‬كنت‭ ‬تفكّر‭ ‬بالتّأسيس‭ ‬لتوجّه‭ ‬مسرحي‭ ‬له‭ ‬خصوصيّته‭ ‬الفنيّة‭ ‬والموضوعية‭ ‬حين‭ ‬بدأ‭ ‬توجّهك‭ ‬هذا‭ ‬في‭ ‬كتابة‭ ‬أعمالك‭ ‬المسرحية‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬النّحو؟‭ ‬

‭- ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أفكّر‭ ‬في‭ ‬تأسيس‭ ‬أيّ‭ ‬شيء‭! ‬أعود،‭ ‬بطبيعة‭ ‬الحال‭ ‬إلى‭ ‬بداية‭ ‬سّنوات‭ ‬السّتّينيات‭ ‬وأواسطها‭. ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬بالي‭ ‬يومئذٍ،‭ ‬ولايزال‭ ‬راسباً‭ ‬في‭ ‬نفسي،‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬الكتابة‭ ‬المسرحية‭ ‬صعبة،‭ ‬بل‭ ‬شديدة‭ ‬الصّعوبة،‭ ‬تتجاوز‭ ‬في‭ ‬صعوبتها‭ ‬صعوبة‭ ‬كتابة‭ ‬القصّة،‭ ‬أو‭ ‬كتابة‭ ‬الرواية،‭ ‬أو‭ ‬كتابة‭ ‬الشّعر‭. ‬فكُتَّاب‭ ‬المسرحيّة‭ ‬في‭ ‬تونس،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬البلاد‭ ‬العربيّة‭ ‬اليوم،‭ ‬قليلون‭ ‬بالقياس‭ ‬إلى‭ ‬الكثرة‭ ‬الكاثرة‭ ‬من‭ ‬أعداد‭ ‬كُتّاب‭ ‬الشّعر‭ ‬والقصّة‭ ‬والرّواية‭ ‬والمقال‭.‬

هذا‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬أمّا‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى،‭ ‬فكنتُ‭ ‬لا‭ ‬أفرّق‭ ‬يومئذٍ‭ ‬بين‭ ‬أجناس‭ ‬الأدب‭ ‬وفنونه‭. ‬لكن‭ ‬برامج‭ ‬التّعليم‭ ‬الثانوي‭ ‬والعالي‭ ‬تفرّق‭ ‬اليوم‭ ‬بين‭ ‬المسرحية‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬والأجناس‭ ‬الأدبية‭ ‬والفنية‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى،‭ ‬وهذا‭ ‬غلط‭ ‬شنيع‭ ‬وسوء‭ ‬فهم‭ ‬للإبداع‭ ‬الأدبي،‭ ‬وهو‭ ‬شيء‭ ‬لا‭ ‬يتصوّره‭ ‬إلاّ‭ ‬صغار‭ ‬العقول‭.‬

كنت‭ ‬أتحدّى‭ ‬نفسي‭ ‬متسائلاً‭: ‬هل‭ ‬أستطيع‭ ‬أن‭ ‬أكتب‭ ‬مسرحيّة‭ ‬وأن‭ ‬أنجح‭ ‬في‭ ‬كتابتها‭ ‬شكلاً‭ ‬وموضوعاً‭ ‬ولغة‭ ‬وأسلوباً‭ ‬وإقناعاً‭ ‬بلاغياً؟

كنت‭ ‬أقرأ‭ ‬المسرحيّة‭ ‬كما‭ ‬أقرأ‭ ‬الرّواية‭ ‬أو‭ ‬الشّعر‭ ‬أو‭ ‬السّيرة‭ ‬أو‭ ‬القصّة،‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬خارج‭ ‬برامج‭ ‬التّعليم‭ ‬المقرّرة،‭ ‬باللغتين‭ ‬العربيّة‭ ‬والفرنسيّة‭.‬

لكلّ‭ ‬جنس‭ ‬أدبي‭ ‬خصائص،‭ ‬فمن‭ ‬خصائص‭ ‬الكتابة‭ ‬المسرحيّة‭ ‬أنّ‭ ‬المسرحيّة‭ ‬لا‭ ‬تنغلق‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬تُكوّن‭ ‬حياة‭ ‬مادّية‭ ‬حيّة‭ ‬أيضاً‭ ‬نابضة‭ ‬بالفكر‭ ‬وبالمشاعر‭ ‬والأحاسيس‭ ‬بالجسد،‭ ‬وبالخيال‭ ‬والصّوت‭ ‬والحركة‭... ‬بالعالم،‭ ‬بالماضي،‭ ‬بالمستقبل،‭ ‬وبالآخر‭... ‬والكاتب‭ ‬إذا‭ ‬نجح‭ ‬في‭ ‬كتابة‭ ‬مسرحيّة‭ ‬على‭ ‬الصّعيد‭ ‬الفنّي‭ ‬المحض،‭ ‬فإنّ‭ ‬ذلك‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬أنّه‭ ‬ينجح‭ ‬في‭ ‬كسب‭ ‬النّجاح‭ ‬الجماهيري‭.‬

‭●‬‭ ‬هناك‭ ‬اتجاهات‭ ‬وتوجّهات‭ ‬أخرى‭ ‬على‭ ‬غير‭ ‬ما‭ ‬أنت‭ ‬عليه‭ ‬اليوم‭ ‬من‭ ‬توجّهات‭. ‬أودّ‭ ‬التّعرّف‭ ‬إلى‭ ‬موقفك‭ ‬النّقدي‭ ‬منها‭.‬

‭- ‬أنا‭ ‬أحترم‭ ‬جميع‭ ‬الاتّجاهات‭ ‬والتوجّهات‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬مختلفة‭ ‬عنّي،‭ ‬ما‭ ‬دامت‭ ‬صادقة،‭ ‬أصيلة،‭ ‬شريفة،‭ ‬نابعة‭ ‬من‭ ‬القلب،‭ ‬من‭ ‬الواقع،‭ ‬من‭ ‬صميمه‭ ‬العميق‭... ‬أحترمها‭ ‬وأعتبرها‭ ‬إثراءً‭ ‬للمسرح،‭ ‬إذ‭ ‬إن‭ ‬المسرح‭ ‬لا‭ ‬يعيش‭ ‬باتّجاه‭ ‬واحد‭ ‬أحد،‭ ‬بل‭ ‬بتعدد‭ ‬الاتجاهات،‭ ‬وبالتنوع‭.‬

 

نصف‭ ‬قرن‭ ‬من‭ ‬العطاء

‭●‬‭ ‬دعنا‭ ‬نتوقّف‭ ‬عند‭ ‬حصيلة‭ ‬نصف‭ ‬قرن‭ ‬من‭ ‬عطائك‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬المسرحيّة،‭ ‬حين‭ ‬تراجعها‭ ‬اليوم‭ ‬نقدياً،‭ ‬بماذا‭ ‬تخرج؟

‭- ‬بصراحة‭ ‬لا‭ ‬أراجع،‭ ‬ولا‭ ‬أحبّ‭ ‬أن‭ ‬أراجع‭ ‬ما‭ ‬كتَبته‭ ‬من‭ ‬مسرحيّات‭! ‬لا‭ ‬أراجعها‭ ‬نقدياً‭ ‬ولا‭ ‬أنانياً‭ ‬اطمئناناً‭ ‬على‭ ‬قلمي‭ ‬ونفسي‭ ‬واتّجاهي‭ ‬الذي‭ ‬اختارته‭ ‬ذاتي‭. ‬إنّي‭ ‬أقضي‭ ‬شهوراً،‭ ‬وربّما‭ ‬سنوات‭ ‬في‭ ‬كتابة‭ ‬مسرحيّة‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬مسرحيّاتي‭. ‬إنّي‭ ‬من‭ ‬تلاميذ‭ ‬الأستاذ‭ ‬زهير‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬سُلْمى‭ ‬صاحب‭ ‬مذهب‭ ‬المحكّكات،‭ ‬ولو‭ ‬باعدت‭ ‬بيننا‭ ‬القرون‭ ‬والأحقاب‭. ‬لقد‭ ‬فتحتُ‭ ‬بصيرتي‭ ‬الإبداعية‭ ‬عليه‭ ‬وعلى‭ ‬معلّقته،‭ ‬وعلى‭ ‬من‭ ‬قال‭: ‬‮«‬الشّعر‭ ‬صعب‭ ‬وطويل‭ ‬سُلّمه‮»‬‭. ‬فأبُدل‭ ‬كلمة‭ ‬شعر‭ ‬بكلمة‭ ‬فنّ‭! ‬وعلى‭ ‬كلّ،‭ ‬فزهير‭ ‬معاصري‭ ‬بالتمام‭ ‬والكمال‭!‬

‭●‬‭ ‬وأيّ‭ ‬المُخْرِجين‭ ‬وجدتَه‭ ‬الأقرب‭ ‬إلى‭ ‬عملك‭ ‬كما‭ ‬تريد‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬يُشاهَد؟‭ ‬

‭- ‬إنّي‭ ‬أعمل‭ ‬دائماً‭ ‬مع‭ ‬المخرجين،‭ ‬فأنا‭ ‬حاضر‭ ‬في‭ ‬القراءة،‭ ‬وفي‭ ‬المعنى،‭ ‬وملاحظ‭ ‬في‭ ‬التّدريبات‭ ‬على‭ ‬النّصّ‭.‬

‭●‬‭ ‬وهل‭ ‬جعلك‭ ‬هذا‭ ‬تتدخّل‭ ‬في‭ ‬عمل‭ ‬المخرج؟

‭- ‬وكيف‭ ‬لا‭ ‬أتدخّل؟‭ ‬أتدخّل‭ ‬ألف‭ ‬مرّة‭! ‬تدفعني‭ ‬الضّرورة‭ ‬وتحفزني،‭ ‬أليس‭ ‬العمل‭ ‬المسرحي‭ ‬عملاً‭ ‬مشتركاً‭ ‬بيني‭ ‬وبين‭ ‬المخرج‭ ‬وبين‭ ‬الممثّلين‭ ‬وبين‭ ‬التّقنيين؟‭ ‬المسرح‭ ‬مجال‭ ‬تشارك،‭ ‬ومشترك‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الإبداع،‭ ‬ثمّ‭ ‬على‭ ‬صعيد‭ ‬النتيجة‭ ‬الفنيّة‭ ‬والفكريّة،‭ ‬والمسرح‭ ‬هو‭ ‬أشبه‭ ‬لميدان‭ ‬الأَڤُورا‭ ‬الإغريقي‭ (‬الأجورا‭)‬،‭ ‬أعني‭ ‬السّاحة‭ ‬الشّعبيّة،‭ ‬حيث‭ ‬الحجّة‭ ‬تقارع‭ ‬الحجّة،‭ ‬وحيث‭ ‬حريّة‭ ‬القول‭ ‬والتّعبير،‭ ‬وحيث‭ ‬مضرب‭ ‬الأمثال‭ ‬ورسم‭ ‬التّصوّرات‭ ‬والطّموحات‭ ‬والآمال‭ ‬الإنسانية‭.‬

 

أدب‭ ‬وصناعة

‭●‬‭ ‬حينما‭ ‬تكتب‭ ‬عملاً‭ ‬مسرحيًّا،‭ ‬هل‭ ‬تفكّر‭ ‬في‭ ‬القارئ،‭ ‬والمشاهد؟

‭- ‬الكتابة‭ ‬المسرحية‭ ‬ذات‭ ‬ثنائيّة‭: ‬تُقرأ‭ ‬وتُلْقى‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬ومن‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭ ‬تُجسّم‭ ‬وتُشاهد‭. ‬وإذا‭ ‬أردت‭ ‬أن‭ ‬أصف‭ ‬الكتابة‭ ‬المسرحية‭ ‬فأقول‭ ‬إنّها‭ ‬أدب،‭ ‬وإنّها‭ ‬صناعة‭ ‬مخصوصة،‭ ‬وإنّها‭ ‬تكنولوجيا‭! ‬وأنت‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬نيّتك‭ ‬وعزمك‭ ‬أن‭ ‬تكتب‭ ‬مسرحيّة‭ ‬–‭ ‬مهما‭ ‬يكن‭ ‬موضوعها‭ - ‬فإنّما‭ ‬أنت‭ ‬لست‭ ‬الكاتب‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬أنت‭ ‬أيضاً‭ ‬القارئ‭ ‬والمشاهد‭ ‬في‭ ‬آن‭ ‬واحد،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬المخرج‭ ‬والممثّل‭ ‬والتّقني‭. ‬بذلك‭ ‬تجمع‭ ‬في‭ ‬جسمك‭ ‬جسوماً‭ ‬كثيرة،‭ ‬وهذا‭ ‬بخلاف‭ ‬قول‭ ‬الشّاعر‭ ‬القديم‭! ‬والمخرجون‭ ‬الأقرب‭ ‬إلى‭ ‬عملي‭ ‬الكتابي‭ ‬الخيالي‭ ‬هم‭ ‬علي‭ ‬بن‭ ‬عيّاد،‭ ‬والمنصف‭ ‬السويسي‭ ‬المخرج‭ ‬الفذ،‭ ‬ومحمّد‭ ‬كُوكَهْ،‭ ‬وسمير‭ ‬العصفوري،‭ ‬والطيّب‭ ‬الصّدّيقي،‭ ‬ودانيال‭ ‬بُونْوَانْ،‭ ‬والشّريف‭ ‬خَزْنَدار،‭ ‬وَلَكَمْ‭ ‬خاصمتهم‭ ‬وخاصموني،‭ ‬ولشدّ‭ ‬ما‭ ‬جادلتهم‭ ‬وجادلوني،‭ ‬والحُجّة‭ ‬تقارع‭ ‬الحجّة‭ ‬طوال‭ ‬التّدريبات‭ ‬بلا‭ ‬هوادة‭! ‬لأنّنا‭ ‬نطمح‭ ‬إلى‭ ‬الكمال،‭ ‬أعني‭ ‬الكمال‭ ‬الفنّي‭ ‬والفكري،‭ ‬والأجنبيّ‭ ‬الّذي‭ ‬يشاهد‭ ‬خصامنا‭ ‬الفنّي‭ ‬والفكري‭ ‬يقول‭ ‬بلا‭ ‬تردّد‭: ‬هذان‭ ‬عدوّان‭! ‬بينما‭ ‬نحن‭ ‬صديقان‭ ‬حميمان‭ ‬يحترم‭ ‬كلانا‭ ‬الآخر،‭ ‬ويعبّر‭ ‬كلانا‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬الآخر‭ ‬عن‭ ‬رأيه‭ ‬وموقفه‭ ‬وخطّ‭ ‬توجهه‭.‬

‭●‬‭ ‬أجدك‭ ‬تُحمّل‭ ‬مسرحك‭ ‬طاقات‭ ‬وأبعاداً‭ ‬فكرية‭.‬

ـــ‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬أن‭ ‬يحمل‭ ‬المسرح‭ ‬العربي‭ ‬الفِكْرَ‭ ‬مثلما‭ ‬كان‭ ‬يحمله‭ ‬ويِنْجِبه‭ ‬في‭ ‬السّنوات‭ ‬السّتّين‭ ‬والسّبعين‭ ‬والثّمانين‭ ‬وبعض‭ ‬التّسعين‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬ذلك‭ ‬هو‭ ‬قدره‭! ‬أحببنا‭ ‬أم‭ ‬أبينا‭! ‬فالمسرح‭ ‬قد‭ ‬بزغ‭ ‬بالفكر‭ ‬لدى‭ ‬الإغريق‭ ‬ولدى‭ ‬اليابان،‭ ‬فلم‭ ‬يبرز‭ ‬خالياً‭ ‬من‭ ‬الفكر،‭ ‬خالياً‭ ‬من‭ ‬النّور،‭ ‬خالياً‭ ‬من‭ ‬الغذاء‭ ‬الرّوحي‭. ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬سُقْراط‭ ‬موضّباً‭ ‬لمسرحيات‭ ‬يوريبيدوس،‭ ‬وكان‭ ‬تلميذه‭ ‬ومريده‭ ‬أفلاطون‭ ‬يكتب‭ ‬كتبه‭ ‬في‭ ‬شكل‭ ‬مسرحيات‭: ‬‮«‬بـروطاغوراس‮»‬‭ ‬مثلاً،‭ ‬‮«‬المأدبة‮»‬‭ ‬ثانياً،‭ ‬‮«‬غورجياس‮»‬‭ ‬ثالثاً،‭ ‬مشاهد‭ ‬من‭ ‬‮«‬الجمهوريّة‮»‬‭ ‬رابعاً،‭ ‬وكان‭ ‬كُتّاب‭ ‬آخرون‭ ‬في‭ ‬القديم‭ ‬وفي‭ ‬الحديث‭ ‬أيضاً‭.‬

وإذا‭ ‬ما‭ ‬خلا‭ ‬المسرح‭ ‬من‭ ‬الفِكْر،‭ ‬فتلك‭ ‬علامة‭ ‬على‭ ‬الخسارة،‭ ‬خسارة‭ ‬للثّقافة،‭ ‬وخسارة‭ ‬للمجتمع،‭ ‬وخسارة‭ ‬للإنسان‭. ‬والفكر‭ ‬الّذي‭ ‬نعنيه‭ ‬ليس‭ ‬الأطروحة‭ ‬الجامعية‭ ‬واليُبس‭ ‬والجفاف‭ ‬والغموض‭ ‬والتعقيد،‭ ‬وإنّما‭ ‬المتعة‭ ‬في‭ ‬إيصال‭ ‬الجواهر‭ ‬إلى‭ ‬الجمهور‭. ‬وأجدادنا‭ ‬الكُتَّاب‭ ‬العرب‭ ‬القدامى‭ ‬أبدعوا‭ ‬في‭ ‬الإمتاع،‭ ‬كالجاحظ‭ ‬وابن‭ ‬حزم‭ ‬وأبي‭ ‬حيّان‭ ‬وأبي‭ ‬الفرج‭.‬

‭●‬‭ ‬بناءً‭ ‬على‭ ‬هذا،‭ ‬ماذا‭ ‬تقول‭ ‬عن‭ / ‬في‭ ‬مسرح‭ ‬اليوم؟

‭- ‬أعتقد‭ ‬أنّك‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬المسرح‭ ‬العربي‭ ‬اليوم‭... ‬أليس‭ ‬كذلك؟

 

ركاكة‭ ‬زائدة

‭●‬‭ ‬بكل‭ ‬تأكيد‭. ‬فأنا‭ ‬أحاور‭ ‬مسرحياً‭ ‬عربياً‭.‬

‭- ‬أقول‭: ‬ثمّة‭ ‬محاولات‭ ‬جادّة،‭ ‬لكنّها‭ ‬قليلة،‭ ‬ذلك‭ ‬أنّها‭ ‬تسعى‭ ‬إلى‭ ‬الابداع‭ ‬المسرحي‭ ‬بعزيمة‭ ‬وتبصّر‭ ‬وصدق،‭ ‬وكأنّها‭ ‬تخطّ‭ ‬لنفسها‭ ‬خطًّا‭ ‬مغايراً‭ ‬للمألوف‭ ‬والعادي‭ ‬والمبتذل،‭ ‬خطًّاً‭ ‬مختلفاً‭ ‬ومضادًّا‭ ‬لتقليد‭ ‬المسارح‭ ‬الأوربيّة‭ ‬والأمريكية‭ ‬ومحاكاتها‭ ‬والسّير‭ ‬في‭ ‬دروبها‭ ‬ولو‭ ‬بتأخّر‭ ‬زمني‭ ‬طويل‭.‬

والمؤسف‭ ‬أن‭ ‬نرى‭ ‬جوانب‭ ‬كثيرة‭ ‬من‭ ‬المسرح‭ ‬العربي‭ ‬اليوم‭ ‬كلّها‭ ‬امتلاء‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬القفشات‮»‬‭ ‬والكلام‭ ‬الفارغ‭ ‬والشعارات‭ ‬والضّحكات‭ ‬المجّانية‭ ‬والحركات‭ ‬المفتعلة‭ ‬والركاكة‭ ‬الزّائدة،‭ ‬وكأنّها‭ ‬المتاجرة‭ ‬بسلعة‭ ‬خامجة‭ ‬ومهرّبة،‭ ‬لذلك‭ ‬ينصرف‭ ‬الجمهور‭ ‬عن‭ ‬المسارح‭ ‬وعمّا‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬تردّي،‭ ‬وتلك‭ ‬هي‭ ‬المأساة‭ ‬بعينها‭.‬

‭●‬‭ ‬إذا‭ ‬قلنا‭ ‬إنّ‭ ‬كلّ‭ ‬مبدع‭ ‬ينطلق‭ ‬من‭ ‬سؤال‭ ‬يبني‭ ‬عليه‭ ‬أعماله‭ ‬الإبداعية‭ ‬بضرب‭ ‬من‭ ‬التّنويع‭ ‬الذي‭ ‬يحقّق‭ ‬لرؤيته‭ ‬تواصلها،‭ ‬فما‭ ‬السّؤال‭ ‬الذي‭ ‬انطلق‭ ‬منه‭ ‬عز‭ ‬الدين‭ ‬المدني‭ ‬وبنى‭ ‬عليه‭ ‬ما‭ ‬كتب‭ ‬من‭ ‬أعمال‭ ‬مسرحيّة‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬نحو‭ ‬نصف‭ ‬قرن‭ ‬من‭ ‬العمل‭ ‬الإبداعي؟

‭- ‬صحيح،‭ ‬ثمّة‭ ‬سؤال‭ ‬جذريّ‭ ‬أوّل‭ ‬تطرحه‭ ‬على‭ ‬نفسك‭ ‬في‭ ‬ثنايا‭ ‬عمرك،‭ ‬يحيّرك،‭ ‬يدهشك،‭ ‬يباغتك‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬طور‭ ‬وآن‭: ‬لماذا،‭ ‬وكيف‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المنزلة؟‭ ‬وكأن‭ ‬هذا‭ ‬السؤال‭ ‬بحدّته‭ ‬وشراسته‭ ‬يلاقيه‭ ‬من‭ ‬ارتاد‭ ‬مواطن‭ ‬الفلسفة‭ ‬والأنثروبـولوجيا‭ ‬وعلم‭ ‬العمران‭ ‬ومعارف‭ ‬النّفس،‭ ‬ويعترض‭ ‬هذا‭ ‬السّؤال‭ ‬الغليظ‭ ‬من‭ ‬يخالط‭ ‬الفنون‭ ‬والمسرح‭ ‬ويهواها‭ ‬باللّيل‭ ‬والنّهار‭: ‬بمَ‭ ‬يجيب؟‭ ‬كل‭ ‬إجابة‭ ‬ناقصة،‭ ‬وكلّ‭ ‬ردّ‭ ‬قاصر‭ ‬عن‭ ‬بلوغ‭ ‬الحقيقة‭. ‬وأنت‭ ‬تعلم‭ ‬ذلك‭ ‬حقّ‭ ‬العلم،‭ ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬فإنّك‭ ‬تطرح‭ ‬السؤال‭ ‬وتلحّ،‭ ‬وكأنك‭ ‬لم‭ ‬تجد‭ ‬له‭ ‬جواباً‭ ‬كافياً‭ ‬شافياً،‭ ‬ولا‭ ‬فكاك‭ ‬ولا‭ ‬نجاة‭!‬

ويزيد‭ ‬هذا‭ ‬السؤال‭ ‬حدّة‭ ‬على‭ ‬حدّة‭ ‬عندما‭ ‬نعي‭ ‬أنّ‭ ‬أرض‭ ‬الحضارة‭ ‬قد‭ ‬أرجعتنا‭ ‬إلى‭ ‬الوراء،‭ ‬قد‭ ‬انخفضت‭ ‬بنا‭ ‬إلى‭ ‬الأسفل،‭ ‬فلم‭ ‬يعد‭ ‬في‭ ‬مقدورنا‭ ‬أن‭ ‬نمتشق‭ ‬حتى‭ ‬سحاب‭ ‬السماء،‭ ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬متناول‭ ‬أيدينا‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬أعلى‭ ‬وأبعد‭ ‬وأعمق‭. ‬فكيف‭ ‬لا‭ ‬نطرح‭ ‬على‭ ‬أنفسنا‭ ‬حينئذٍ‭ ‬هذا‭ ‬السؤال‭ ‬‮«‬الأوّلاني‮»‬‭ ‬وما‭ ‬يتفرّع‭ ‬عنه‭ ‬بالضّرورة‭ ‬من‭ ‬أسئلة‭ ‬أخرى؟

 

عودة‭ ‬إلى‭ ‬التراث

‭●‬‭ ‬أجدك‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السؤال‭ ‬كثيراً‭ ‬ما‭ ‬عدت‭ ‬إلى‭ ‬التراث‭ ‬وإلى‭ ‬شخصيات‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬التراث‭ ‬بنيت‭ ‬عليها‭ ‬أعمالك‭... ‬فلماذا‭ ‬التّراث؟‭ ‬وما‭ ‬الذي‭ ‬وجدت‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬إغراء‭ ‬وعوامل‭ ‬جذب‭ ‬واجتذاب؟‭ ‬

‭- ‬نعم،‭ ‬عدت‭ ‬إلى‭ ‬التراث‭ ‬كجزء‭ ‬من‭ ‬الجواب‭ ‬عن‭ ‬السؤال‭ ‬الكبير‭. ‬لكن‭ ‬التراث‭ ‬ليس‭ ‬ما‭ ‬تركه‭ ‬الأموات‭. ‬ليس‭ ‬بتِرْكَة‭! ‬التراث‭ ‬شيء‭ ‬حي‭ ‬يرزق‭ ‬ولا‭ ‬أبالغ‭! ‬المعالم‭ ‬الدينيّة‭ ‬والمدنيّة‭ ‬كجامع‭ ‬الزّيتونة‭ ‬وقصور‭ ‬مراكش،‭ ‬والأكلات‭ ‬العربيّة‭ ‬والعادات‭ ‬المجتمعية‭ ‬في‭ ‬المواسم‭ ‬والأعياد،‭ ‬وهندسة‭ ‬مياه‭ ‬الري‭ ‬على‭ ‬تخوم‭ ‬الصحراء،‭ ‬واللغة‭ ‬العربيّة‭ ‬بلهجاتها‭ ‬العديدة،‭ ‬إنّما‭ ‬هي‭ ‬كلها‭ ‬تراث‭ ‬حيّ‭. ‬وبطبيعة‭ ‬الحال،‭ ‬فإنّ‭ ‬الأمثلة‭ ‬القليلة‭ ‬التي‭ ‬ذكرتها‭ ‬لك‭ ‬قد‭ ‬وفدت‭ ‬إلينا‭ ‬من‭ ‬ماضينا،‭ ‬فاخترقت‭ ‬القرون‭ ‬والحدود‭ ‬بشحنة‭ ‬حيوية‭ ‬قوية‭ ‬دافقة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬وصلت‭ ‬إلى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا،‭ ‬وسوف‭ ‬تواصل‭ ‬مسيرتها‭ ‬نحو‭ ‬المستقبل،‭ ‬وكأن‭ ‬التراث‭ ‬العربي‭ ‬متطابق‭ ‬مع‭ ‬عرى‭ ‬الزمن،‭ ‬ويجسم‭ ‬الزمن‭ ‬تجسيماً‭ ‬مادياً،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬أنه‭ ‬علامة‭ ‬على‭ ‬الحضارة‭ ‬وسمة‭ ‬للفكر‭ ‬والعلم‭. ‬ولا‭ ‬شك‭ ‬أن‭ ‬التراث‭ ‬متحرك‭ ‬وليس‭ ‬جامداً‭ ‬مطلقاً،‭ ‬فهو‭ ‬يتجدّد‭ ‬بتجدّد‭ ‬العصور‭ ‬والأحقاب‭. ‬فالقيروان‭ ‬التي‭ ‬أسّسها‭ ‬الفاتح‭ ‬عقبة‭ ‬بن‭ ‬نافع‭ ‬قد‭ ‬تغيّرت‭ ‬وظيفتها‭ ‬من‭ ‬عهد‭ ‬إلى‭ ‬عهد‭ ‬وتجدّدت‭ ‬على‭ ‬طول‭ ‬العهود‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أنّ‭ ‬هياكلها‭ ‬ظلّت‭ ‬باقية‭ ‬لم‭ ‬تتبدّل‭. ‬وصحيح،‭ ‬إلى‭ ‬حدّ‭ ‬بعيد،‭ ‬أنّ‭ ‬التّراث‭ ‬في‭ ‬مسيره‭ ‬الزمني‭ ‬قد‭ ‬تخلّى‭ ‬عن‭ ‬أشياء‭ ‬كثيرة‭. ‬فنحن‭ ‬اليوم‭ ‬قد‭ ‬لبسنا‭ ‬الثّياب‭ ‬الأوربيّة‭ ‬والأمريكيّة‭ ‬في‭ ‬حياتنا‭ ‬المدنيّة‭ ‬اليوميّة،‭ ‬لأنّ‭ ‬ثيابنا‭ ‬العربية‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬صالحة‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأوضاع‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬فتخلّينا‭ ‬عن‭ ‬أغلبها‭. ‬فهل‭ ‬نُقْبِل‭ ‬على‭ ‬عملنا‭ ‬في‭ ‬المعامل‭ ‬والمصانع‭ ‬والمخابر‭ ‬والمصحّات‭ ‬وعلى‭ ‬رؤوسنا‭ ‬العمائم؟

‭ ‬‭●‬‭ ‬وماذا‭ ‬وجدت‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬التّراث؟

‭- ‬وجدتُ‭ ‬جنّة‭ ‬الإبداعات‭ ‬العظيمة‭ ‬الزّاخرة،‭ ‬وكأنّها‭ ‬فلقت‭ ‬التربة‭ ‬الزكيّة‭ ‬فبرزت‭ ‬من‭ ‬أعماق‭ ‬الأرض‭ ‬يانعة،‭ ‬مهما‭ ‬تكبّدت‭ ‬شواظ‭ ‬الشمس‭ ‬وعدوان‭ ‬الأعاصير‭ ‬وضراوة‭ ‬الدّود‭ ‬الزّاحف‭ ‬إلى‭ ‬عروقها،‭ ‬فظلّت‭ ‬يانعة،‭ ‬مزهرة‭ ‬ثم‭ ‬تعدّدت‭ ‬رحلاتي،‭ ‬فتوغّلت‭ ‬مرّة‭ ‬في‭ ‬أرض‭ ‬الخراب،‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬يطير‭ ‬طائر‭ ‬ولا‭ ‬يسير‭ ‬سائر،‭ ‬فلم‭ ‬أر‭ ‬في‭ ‬جوانبها‭ ‬إلا‭ ‬المهمل‭ ‬المنحط،‭ ‬والبائر،‭ ‬والخردة‭ ‬المزخرفة‭ ‬بالمجّان،‭ ‬والمنكر‭ ‬المتدهور‭. ‬فقلتُ‭: ‬لعلّ‭ ‬لم‭ ‬تطأ‭ ‬قدم‭ ‬رحالة‭ ‬مستكشف‭ ‬ولا‭ ‬منقّب‭ ‬فضولي‭ ‬ولا‭ ‬أثريّ‭ ‬جريء‭ ‬ولا‭ ‬محقّق،‭ ‬لعلّ‭... ‬لا‭ ‬أدري‭!‬

عندما‭ ‬أثرنا‭ ‬قضيّة‭ ‬التّراث‭ ‬–‭ ‬وكأنّها‭ ‬قضيّة‭ ‬الزّمان‭ ‬العربي‭ ‬–‭ ‬أردنا‭ ‬أن‭ ‬نرتبط‭ ‬بالكيان،‭ ‬أي‭ ‬بالوجود،‭ ‬وقد‭ ‬انصرم‭ ‬الحبل‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يربطنا‭ ‬به‭ ‬منذ‭ ‬قرون،‭ ‬وتمزّق،‭ ‬إذ‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬منّا‭ ‬وإلينا‭: ‬أمر‭ ‬واحد‭ ‬وغاية‭ ‬واحدة‭ ‬وقَدَر‭ ‬واحد‭. ‬لذلك‭ ‬عزمنا‭ ‬على‭ ‬استئناف‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الكيان‭ ‬في‭ ‬صوره‭ ‬المشرقة‭ ‬البهيّة،‭ ‬بعد‭ ‬عزم‭ ‬أهل‭ ‬الإصلاح‭ ‬الذين‭ ‬سبقونا‭ ‬سياسياً‭ ‬وقيادياً‭. ‬غير‭ ‬أنّ‭ ‬هذه‭ ‬الإشكالية‭ ‬إنّما‭ ‬هي‭ ‬ثقافيّة‭ ‬فكريّة‭ ‬حضاريّة،‭ ‬كأن‭ ‬تقول‭: ‬هي‭ ‬أصل،‭ ‬هي‭ ‬الجذر،‭ ‬هي‭ ‬الخميرة،‭ ‬هي‭ ‬اللّبّ‭.‬

ليست‭ ‬القضيّة‭ ‬إحياء‭ ‬الأموات،‭ ‬بل‭ ‬الارتباط‭ ‬بالحيّ‭ ‬واستئنافه‭ ‬على‭ ‬طرق‭ ‬مستحدثة،‭ ‬وبأساليب‭ ‬عصريّة‭. ‬وأنت‭ ‬تعلم‭ ‬أنّ‭ ‬الحضارة‭ ‬العربيّة‭ ‬الإسلامية‭ ‬هي‭ ‬حضارة‭ ‬مستوعبة‭ ‬للحضارات‭ ‬الأخرى‭: ‬الإغريقية،‭ ‬والرّومية،‭ ‬والفارسية،‭ ‬والهنديّة،‭ ‬وثقافات‭ ‬الأمازيغ‭ ‬وقبائل‭ ‬المجتمعات‭ ‬السّوداء‭ ‬والأعلاج‭... ‬إلخ،‭ ‬فمنَ‭ ‬منّا‭ ‬لا‭ ‬يتذكّر‭ ‬أنّ‭ ‬الخليفة‭ ‬المأمون‭ ‬حلم‭ ‬بأرسطو؟‭ ‬ومنَ‭ ‬منّا‭ ‬لم‭ ‬يسمع‭ ‬خصام‭ ‬الوراقين‭ ‬والنّسّاخين‭ ‬في‭ ‬أسواق‭ ‬بغداد‭ ‬وقد‭ ‬أهدينا‭ ‬لهم‭ ‬الكمبيوتر‭ ‬المجهز‭ ‬بالإنترنت؟

في‭ ‬قراءتنا‭ ‬للطبري‭ ‬والمسعودي‭ ‬وابن‭ ‬الأثير‭ ‬لمحنا‭ ‬مشاهد‭ ‬ومشاكل‭ ‬ومواقف‭ ‬اجتماعية‭ ‬تشبه‭ ‬إلى‭ ‬حدّ‭ ‬بعيد‭ ‬قضايا‭ ‬سياسية‭ ‬واجتماعية‭ ‬اليوم،‭ ‬وكأنّها‭ ‬هي‭ ‬هي‭. ‬والأمثلة‭ ‬متوافّرة‭ ‬وكثيرة،‭ ‬وتلك‭ ‬علامة‭ ‬على‭ ‬أنّ‭ ‬للزّمان‭ ‬العربي‭ ‬بصمات‭ ‬متطابقة‭ ‬بين‭ ‬الماضي‭ ‬والحاضر،‭ ‬عبر‭ ‬العهود‭ ‬والعصور‭.‬

 

النخبة‭ ‬أم‭ ‬الجمهور؟

‭●‬‭ ‬يخطر‭ ‬لي‭ ‬هنا‭ ‬أن‭ ‬أسألك‭: ‬في‭ ‬مسرحك،‭ ‬هل‭ ‬كنت‭ ‬تتوجّه‭ ‬بخطابك‭ ‬المسرحي‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬النّخبة‮»‬‭ ‬أم‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬الجمهور‭ ‬العام»؟

‭- ‬أعتقد‭ ‬جازم‭ ‬الاعتقاد‭ ‬أنّ‭ ‬مشكلة‭: ‬إمّا‭ ‬النّخبة‭ ‬وإمّا‭ ‬الجمهور‭ ‬الكبير،‭ ‬قد‭ ‬تجاوزها‭ ‬الزّمن‭ ‬منذ‭ ‬سنوات‭ ‬طوال،‭ ‬بفعل‭ ‬تجاوز‭ ‬الزّمن‭ ‬لبعض‭ ‬الاتجاهات‭ ‬الأيديولوجية‭ ‬في‭ ‬العالم‭. ‬وصحيح‭ ‬أنّ‭ ‬بعض‭ ‬المفكّرين‭ ‬والكُتّاب‭ ‬العرب‭ ‬المعاصرين‭ ‬سقطوا‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الإشكالية‭ ‬الوهميّة‭ ‬كما‭ ‬يسقط‭ ‬الذّباب‭ ‬على‭ ‬صفحة‭ ‬العسل‭!‬

إنّ‭ ‬المطلوب‭ ‬من‭ ‬الكاتب‭ ‬المسرحي‭ ‬–‭ ‬والحقّ‭ ‬أن‭ ‬أيّ‭ ‬مبدع‭ ‬لا‭ ‬يُطْلَب‭ ‬ولا‭ ‬يُطالَب‭ ‬بشيء‭ ‬ما‭ ‬دام‭ ‬حرًّا‭ ‬–‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬يقدّم‭ ‬لأيّ‭ ‬جمهور‭ ‬–‭ ‬سواء‭ ‬من‭ ‬النّخبة‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬سواها‭ - ‬نوعاً‭ ‬وصنفاً‭ ‬وعدداً‭ ‬من‭ ‬أجمل‭ ‬ما‭ ‬لديه،‭ ‬وأسمى‭ ‬ما‭ ‬عنده،‭ ‬وأروع‭ ‬ما‭ ‬خطّ‭ ‬قلمه،‭ ‬لا‭ ‬أن‭ ‬يقدّم‭ ‬تأليفاً‭ ‬مسرحيًّا‭ ‬على‭ ‬قياس‭ ‬النّخبة‭ ‬أو‭ ‬الجمهور‭ ‬العريض،‭ ‬فإنْ‭ ‬فعل‭ ‬ذلك‭ ‬فهو‭ ‬تاجر‭ ‬حانوتيّ‭ ‬وصولي‭. ‬إلاّ‭ ‬أنّ‭ ‬المبدع‭ ‬المسرحي‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬لا‭ ‬ينجو‭ ‬بإبداعه‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬التجار‭ ‬والمتصرّفين‭ ‬في‭ ‬شؤون‭ ‬المسرح‭.‬

ذلك‭ ‬أنّ‭ ‬مديري‭ ‬الفرق‭ ‬المسرحية‭ ‬ومديري‭ ‬المسارح‭ ‬والموزّعين‭ ‬يتدخّلون‭ ‬فيقولون‭: ‬هذه‭ ‬المسرحيّة‭ ‬صالحة‭ ‬للنّخبة،‭ ‬وهذه‭ ‬الأخرى‭ ‬صالحة‭ ‬للجمهور‭ ‬الواسع‭ ‬الكبير‭!‬‮ ‬والكاتب‭ ‬المبدع‭ ‬لا‭ ‬حول‭ ‬له‭ ‬ولا‭ ‬قوّة،‭ ‬بما‭ ‬أنّه‭ ‬يرغب‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يشاهد‭ ‬النّاس‭ ‬عمله‭!‬‮ ‬بـــرغم‭ ‬الضّوابط،‮ ‬والاحتجاج،‮ ‬والوعيد‭ ‬والتّهديد‭ ‬بسحب‭ ‬النّصّ‭!‬

لقد‭ ‬تآمر‭ ‬بليل‭ ‬ذوو‭ ‬العقلية‭ ‬التّجارية‭ ‬منذ‭ ‬زمن‭ ‬على‭ ‬القوّة‭ ‬الإبداعية‭ ‬الكامنة‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬النّصوص‭ ‬المسرحية‭ ‬العربية،‭ ‬على‭ ‬قلّتها‭ ‬طبعاً‭. ‬فكلّما‭ ‬قرأوا‭ ‬نصًّا‭ ‬تنويرياً‭ ‬تثقيفياً‭ ‬صرخوا‭: ‬‮«‬هذا‭ ‬النّصّ‭ ‬لا‭ ‬يفهمه‭ ‬الجمهور‭ ‬الكبير‭ ‬ولا‭ ‬الشّعب‭ ‬الكريم،‭ ‬بينما‭ ‬يطلب‭ ‬الشّعب‭ ‬أن‭ ‬يضحك‭ ‬وأن‭ ‬يشاهد‭ ‬القفشات‭ ‬والمواضيع‭ ‬التافهة‭ ‬والنّكات‭ ‬والخزعبلات‭ ‬والأمثال‭ ‬الشّعبيّة‭ ‬والانتقادات‭ ‬السّياسيّة‭ ‬الظّرفيّة‮»‬‭. ‬واحتجّوا‭ ‬بوقاحة‭ ‬لا‭ ‬مثيل‭ ‬لها‭: ‬‮«‬الجمهور‭ ‬عاوز‭ ‬كده‭!‬‮»‬‭ ‬انظر‭ ‬كيف‭ ‬هم‭ ‬يتصورون‭ ‬الجمهور‭!‬

وموقف‭ ‬التّجّار‭ ‬هذا‭ ‬يحجب‭ ‬أمراً‭ ‬مهماً‭ ‬وهو‭: ‬مطالبة‭ ‬الحكومة‭ ‬بأن‭ ‬ترفع‭ ‬المستوى‭ ‬الثّقافي‭ ‬للجماهير‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يسعفها‭ ‬الحظ‭ ‬للتّعلّم‭ ‬والتّربية‭ ‬والتّكوين‭ ‬وإشاعة‭ ‬المعرفة‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬مكان‭ ‬وبجميع‭ ‬الأساليب‭ ‬والأسباب‭.‬

‭●‬‭ ‬بالتّأكيد‭ ‬أنت‭ ‬تنتمي‭ ‬إلى‭ ‬المسرح‭ ‬الحديث،‭ ‬فأين‭ ‬تتجلّى‭ ‬حداثتك؟

‭- ‬صحيح‭ ‬أنّي‭ ‬أنتمي‭ ‬للمسرح‭ ‬الحديث‭ ‬بحسب‭ ‬رؤيتي‭ ‬واتّجاهي‭ ‬وما‭ ‬كتبت،‭ ‬بل‭ ‬إنّ‭ ‬كتابتي‭ ‬المسرحيّة‭ ‬والقصصيّة‭ ‬والروائية‭ ‬كلّها‭ ‬تشكّل‭ ‬ضلعاً‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العصر‭.‬

‭●‬‮ ‬وأين‭ ‬أنت‭ ‬من‭ ‬‮«‬المسرح‭ ‬التجريبي‮»‬؟

‭- ‬أنت‭ ‬تعلم،‭ ‬ولا‭ ‬شك،‭ ‬أني‭ ‬أصدرت‭ ‬كتاباً‭ ‬عنوانه‭ ‬‮«‬الأدب‭ ‬التّجريبي‮»‬‭ ‬سنة‭ ‬1972،‭ ‬ثمّ‭ ‬صدر‭ ‬في‭ ‬طبعة‭ ‬ثانية‭ ‬بالإسكندرية‭. ‬وفي‭ ‬طبعة‭ ‬ثالثة‭ ‬بلبنان،‭ ‬واعتمد‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬طالبي‭ ‬الدكتوراه‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬وفي‭ ‬مصر‭ ‬والجزائر‭ ‬نظريات‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬للحصول‭ ‬على‭ ‬شهادة‭ ‬الدّكتوراه‭. ‬وانتخبته‭ ‬مكتبة‭ ‬الكونجرس‭ ‬الأمريكي‭ ‬ككتاب‭ ‬عربي‭ ‬أوّل‭ ‬بين‭ ‬كتبها‭.‬

إنّي‭ ‬كاتب‭ ‬تجريبي،‭ ‬ولكم‭ ‬دعوت‭ ‬إلى‭ ‬الكتابة‭ ‬التجريبية‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬بخلاف‭ ‬الكتابة‭ ‬السّهلة‭ ‬اليسيرة،‭ ‬ولا‭ ‬هي‭ ‬بالتّجربة‭ ‬الأولى‭ ‬الّتي‭ ‬يقوم‭ ‬بها‭ ‬الإنسان،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يسمّى‭ ‬بالمحاولة‭ ‬لا‭ ‬غير‭.‬

‭●‬‭ ‬بالتّأكيد‭ ‬أنت‭ ‬تنتمي‭ ‬إلى‭ ‬المسرح‭ ‬الحديث‭. ‬فأين‭ ‬تتجلّى‭ ‬حداثتك؟

‭- ‬صحيح‭ ‬إنّي‭ ‬أنتمي‭ ‬للمسرح‭ ‬الحديث‭ ‬حسب‭ ‬رؤيتي‭ ‬واتّجاهي‭ ‬وما‭ ‬كتبت،‭ ‬بل‭ ‬إنّ‭ ‬كتابتي‭ ‬المسرحيّة‭ ‬والقصصيّة‭ ‬والرّوائيّة‭ ‬كلّها‭ ‬تشكّل‭ ‬ضلعاً‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العصر‭ ■