الكاتب التونسي عزالدين المدني: الكتابة المسرحية أدب وصناعة مخصوصة وتكنولوجيا

إذا كان الكاتب الطليعي التونسي عزالدين المدني قد اشتهر كاتباً مسرحياً بما قدم من أعمال فريدة في موضوعاتها، كما في بنائها الفني، فإن كتاباته النقدية، والتنظيرية، تبدو، لمن يقرأه متكاملاً، وكأنها تعزيز لاتجاهه/ توجهه هذا بما تفتح أمام القارئ من رؤية واسعة لما ينبغي أن يكون عليه المسرح في نهايات القرن العشرين وبدايات الألفية الثالثة. فإليه يُنسب الاهتمام بـ «هوية المسرح»، تأسيساً، وتجريباً، وتأصيلاً، فهو من الداعين إلى كتابة مسرحية حديثة، وقد وضع الأسس الأولى لـ «نظرية مسرحية عربية جديدة»، تعتمد تفعيل التراث بطريقة إبداعية هادفة قوامها: التجديد، وتحقيق الحداثة الفعلية.
فضلاً عن هذا، ما كان له من دور ثقافي بارز في مجالات متعددة من الحياة الثقافية في تونس، أبرزها إسناد إدارة «أيام قرطاج المسرحية» إليه في أكثر من دورة من دوراته، وقيامه بمهمة الأمين العام لجائزة أبي القاسم الشابي، وهي جائزة عربية، تشمل فنون الإبداع كافة.
وإذا كان قد حصل على الصنف الأول من وسام الاستحقاق الثقافي في تونس، فإن ذلك سيتعزز بـ «جائزة الدولة التونسية للآداب» العام 1989، حيث قاربت أعماله في التأليف المسرحي الخمسة عشر عملاً، جمعت بين التاريخ والتراث، والموضوعات الشعبية المستمدة من واقع الحياة التونسية، إلى جانب عدد من المجاميع القصصية، والكتب النقدية التي كانت طليعتها كتابه الرائد في مجاله: «الأدب التجريبي».
كتاب المسرحية قليلون
● هل كنت تفكّر بالتّأسيس لتوجّه مسرحي له خصوصيّته الفنيّة والموضوعية حين بدأ توجّهك هذا في كتابة أعمالك المسرحية على هذا النّحو؟
- لم أكن أفكّر في تأسيس أيّ شيء! أعود، بطبيعة الحال إلى بداية سّنوات السّتّينيات وأواسطها. الأمر الذي كان في بالي يومئذٍ، ولايزال راسباً في نفسي، هو أن الكتابة المسرحية صعبة، بل شديدة الصّعوبة، تتجاوز في صعوبتها صعوبة كتابة القصّة، أو كتابة الرواية، أو كتابة الشّعر. فكُتَّاب المسرحيّة في تونس، بل في البلاد العربيّة اليوم، قليلون بالقياس إلى الكثرة الكاثرة من أعداد كُتّاب الشّعر والقصّة والرّواية والمقال.
هذا من جهة، أمّا من جهة أخرى، فكنتُ لا أفرّق يومئذٍ بين أجناس الأدب وفنونه. لكن برامج التّعليم الثانوي والعالي تفرّق اليوم بين المسرحية من جهة، والأجناس الأدبية والفنية من جهة أخرى، وهذا غلط شنيع وسوء فهم للإبداع الأدبي، وهو شيء لا يتصوّره إلاّ صغار العقول.
كنت أتحدّى نفسي متسائلاً: هل أستطيع أن أكتب مسرحيّة وأن أنجح في كتابتها شكلاً وموضوعاً ولغة وأسلوباً وإقناعاً بلاغياً؟
كنت أقرأ المسرحيّة كما أقرأ الرّواية أو الشّعر أو السّيرة أو القصّة، لا سيما خارج برامج التّعليم المقرّرة، باللغتين العربيّة والفرنسيّة.
لكلّ جنس أدبي خصائص، فمن خصائص الكتابة المسرحيّة أنّ المسرحيّة لا تنغلق في كتاب فقط، بل تُكوّن حياة مادّية حيّة أيضاً نابضة بالفكر وبالمشاعر والأحاسيس بالجسد، وبالخيال والصّوت والحركة... بالعالم، بالماضي، بالمستقبل، وبالآخر... والكاتب إذا نجح في كتابة مسرحيّة على الصّعيد الفنّي المحض، فإنّ ذلك لا يعني أنّه ينجح في كسب النّجاح الجماهيري.
● هناك اتجاهات وتوجّهات أخرى على غير ما أنت عليه اليوم من توجّهات. أودّ التّعرّف إلى موقفك النّقدي منها.
- أنا أحترم جميع الاتّجاهات والتوجّهات حتى لو كانت مختلفة عنّي، ما دامت صادقة، أصيلة، شريفة، نابعة من القلب، من الواقع، من صميمه العميق... أحترمها وأعتبرها إثراءً للمسرح، إذ إن المسرح لا يعيش باتّجاه واحد أحد، بل بتعدد الاتجاهات، وبالتنوع.
نصف قرن من العطاء
● دعنا نتوقّف عند حصيلة نصف قرن من عطائك في الكتابة المسرحيّة، حين تراجعها اليوم نقدياً، بماذا تخرج؟
- بصراحة لا أراجع، ولا أحبّ أن أراجع ما كتَبته من مسرحيّات! لا أراجعها نقدياً ولا أنانياً اطمئناناً على قلمي ونفسي واتّجاهي الذي اختارته ذاتي. إنّي أقضي شهوراً، وربّما سنوات في كتابة مسرحيّة واحدة من مسرحيّاتي. إنّي من تلاميذ الأستاذ زهير بن أبي سُلْمى صاحب مذهب المحكّكات، ولو باعدت بيننا القرون والأحقاب. لقد فتحتُ بصيرتي الإبداعية عليه وعلى معلّقته، وعلى من قال: «الشّعر صعب وطويل سُلّمه». فأبُدل كلمة شعر بكلمة فنّ! وعلى كلّ، فزهير معاصري بالتمام والكمال!
● وأيّ المُخْرِجين وجدتَه الأقرب إلى عملك كما تريد له أن يُشاهَد؟
- إنّي أعمل دائماً مع المخرجين، فأنا حاضر في القراءة، وفي المعنى، وملاحظ في التّدريبات على النّصّ.
● وهل جعلك هذا تتدخّل في عمل المخرج؟
- وكيف لا أتدخّل؟ أتدخّل ألف مرّة! تدفعني الضّرورة وتحفزني، أليس العمل المسرحي عملاً مشتركاً بيني وبين المخرج وبين الممثّلين وبين التّقنيين؟ المسرح مجال تشارك، ومشترك على مستوى الإبداع، ثمّ على صعيد النتيجة الفنيّة والفكريّة، والمسرح هو أشبه لميدان الأَڤُورا الإغريقي (الأجورا)، أعني السّاحة الشّعبيّة، حيث الحجّة تقارع الحجّة، وحيث حريّة القول والتّعبير، وحيث مضرب الأمثال ورسم التّصوّرات والطّموحات والآمال الإنسانية.
أدب وصناعة
● حينما تكتب عملاً مسرحيًّا، هل تفكّر في القارئ، والمشاهد؟
- الكتابة المسرحية ذات ثنائيّة: تُقرأ وتُلْقى من جهة، ومن جهة أخرى تُجسّم وتُشاهد. وإذا أردت أن أصف الكتابة المسرحية فأقول إنّها أدب، وإنّها صناعة مخصوصة، وإنّها تكنولوجيا! وأنت إذا كان في نيّتك وعزمك أن تكتب مسرحيّة – مهما يكن موضوعها - فإنّما أنت لست الكاتب فحسب، بل أنت أيضاً القارئ والمشاهد في آن واحد، فضلاً عن أن تكون المخرج والممثّل والتّقني. بذلك تجمع في جسمك جسوماً كثيرة، وهذا بخلاف قول الشّاعر القديم! والمخرجون الأقرب إلى عملي الكتابي الخيالي هم علي بن عيّاد، والمنصف السويسي المخرج الفذ، ومحمّد كُوكَهْ، وسمير العصفوري، والطيّب الصّدّيقي، ودانيال بُونْوَانْ، والشّريف خَزْنَدار، وَلَكَمْ خاصمتهم وخاصموني، ولشدّ ما جادلتهم وجادلوني، والحُجّة تقارع الحجّة طوال التّدريبات بلا هوادة! لأنّنا نطمح إلى الكمال، أعني الكمال الفنّي والفكري، والأجنبيّ الّذي يشاهد خصامنا الفنّي والفكري يقول بلا تردّد: هذان عدوّان! بينما نحن صديقان حميمان يحترم كلانا الآخر، ويعبّر كلانا في وجه الآخر عن رأيه وموقفه وخطّ توجهه.
● أجدك تُحمّل مسرحك طاقات وأبعاداً فكرية.
ـــ لا بدّ أن يحمل المسرح العربي الفِكْرَ مثلما كان يحمله ويِنْجِبه في السّنوات السّتّين والسّبعين والثّمانين وبعض التّسعين من القرن العشرين، ذلك هو قدره! أحببنا أم أبينا! فالمسرح قد بزغ بالفكر لدى الإغريق ولدى اليابان، فلم يبرز خالياً من الفكر، خالياً من النّور، خالياً من الغذاء الرّوحي. وقد كان سُقْراط موضّباً لمسرحيات يوريبيدوس، وكان تلميذه ومريده أفلاطون يكتب كتبه في شكل مسرحيات: «بـروطاغوراس» مثلاً، «المأدبة» ثانياً، «غورجياس» ثالثاً، مشاهد من «الجمهوريّة» رابعاً، وكان كُتّاب آخرون في القديم وفي الحديث أيضاً.
وإذا ما خلا المسرح من الفِكْر، فتلك علامة على الخسارة، خسارة للثّقافة، وخسارة للمجتمع، وخسارة للإنسان. والفكر الّذي نعنيه ليس الأطروحة الجامعية واليُبس والجفاف والغموض والتعقيد، وإنّما المتعة في إيصال الجواهر إلى الجمهور. وأجدادنا الكُتَّاب العرب القدامى أبدعوا في الإمتاع، كالجاحظ وابن حزم وأبي حيّان وأبي الفرج.
● بناءً على هذا، ماذا تقول عن / في مسرح اليوم؟
- أعتقد أنّك تشير إلى المسرح العربي اليوم... أليس كذلك؟
ركاكة زائدة
● بكل تأكيد. فأنا أحاور مسرحياً عربياً.
- أقول: ثمّة محاولات جادّة، لكنّها قليلة، ذلك أنّها تسعى إلى الابداع المسرحي بعزيمة وتبصّر وصدق، وكأنّها تخطّ لنفسها خطًّا مغايراً للمألوف والعادي والمبتذل، خطًّاً مختلفاً ومضادًّا لتقليد المسارح الأوربيّة والأمريكية ومحاكاتها والسّير في دروبها ولو بتأخّر زمني طويل.
والمؤسف أن نرى جوانب كثيرة من المسرح العربي اليوم كلّها امتلاء بـ «القفشات» والكلام الفارغ والشعارات والضّحكات المجّانية والحركات المفتعلة والركاكة الزّائدة، وكأنّها المتاجرة بسلعة خامجة ومهرّبة، لذلك ينصرف الجمهور عن المسارح وعمّا فيها من تردّي، وتلك هي المأساة بعينها.
● إذا قلنا إنّ كلّ مبدع ينطلق من سؤال يبني عليه أعماله الإبداعية بضرب من التّنويع الذي يحقّق لرؤيته تواصلها، فما السّؤال الذي انطلق منه عز الدين المدني وبنى عليه ما كتب من أعمال مسرحيّة على مدى نحو نصف قرن من العمل الإبداعي؟
- صحيح، ثمّة سؤال جذريّ أوّل تطرحه على نفسك في ثنايا عمرك، يحيّرك، يدهشك، يباغتك في كلّ طور وآن: لماذا، وكيف الإنسان في هذه المنزلة؟ وكأن هذا السؤال بحدّته وشراسته يلاقيه من ارتاد مواطن الفلسفة والأنثروبـولوجيا وعلم العمران ومعارف النّفس، ويعترض هذا السّؤال الغليظ من يخالط الفنون والمسرح ويهواها باللّيل والنّهار: بمَ يجيب؟ كل إجابة ناقصة، وكلّ ردّ قاصر عن بلوغ الحقيقة. وأنت تعلم ذلك حقّ العلم، ومع ذلك فإنّك تطرح السؤال وتلحّ، وكأنك لم تجد له جواباً كافياً شافياً، ولا فكاك ولا نجاة!
ويزيد هذا السؤال حدّة على حدّة عندما نعي أنّ أرض الحضارة قد أرجعتنا إلى الوراء، قد انخفضت بنا إلى الأسفل، فلم يعد في مقدورنا أن نمتشق حتى سحاب السماء، وقد كان في متناول أيدينا ما هو أعلى وأبعد وأعمق. فكيف لا نطرح على أنفسنا حينئذٍ هذا السؤال «الأوّلاني» وما يتفرّع عنه بالضّرورة من أسئلة أخرى؟
عودة إلى التراث
● أجدك في هذا السؤال كثيراً ما عدت إلى التراث وإلى شخصيات من هذا التراث بنيت عليها أعمالك... فلماذا التّراث؟ وما الذي وجدت فيه من إغراء وعوامل جذب واجتذاب؟
- نعم، عدت إلى التراث كجزء من الجواب عن السؤال الكبير. لكن التراث ليس ما تركه الأموات. ليس بتِرْكَة! التراث شيء حي يرزق ولا أبالغ! المعالم الدينيّة والمدنيّة كجامع الزّيتونة وقصور مراكش، والأكلات العربيّة والعادات المجتمعية في المواسم والأعياد، وهندسة مياه الري على تخوم الصحراء، واللغة العربيّة بلهجاتها العديدة، إنّما هي كلها تراث حيّ. وبطبيعة الحال، فإنّ الأمثلة القليلة التي ذكرتها لك قد وفدت إلينا من ماضينا، فاخترقت القرون والحدود بشحنة حيوية قوية دافقة إلى أن وصلت إلى يومنا هذا، وسوف تواصل مسيرتها نحو المستقبل، وكأن التراث العربي متطابق مع عرى الزمن، ويجسم الزمن تجسيماً مادياً، فضلاً عن أنه علامة على الحضارة وسمة للفكر والعلم. ولا شك أن التراث متحرك وليس جامداً مطلقاً، فهو يتجدّد بتجدّد العصور والأحقاب. فالقيروان التي أسّسها الفاتح عقبة بن نافع قد تغيّرت وظيفتها من عهد إلى عهد وتجدّدت على طول العهود على الرغم من أنّ هياكلها ظلّت باقية لم تتبدّل. وصحيح، إلى حدّ بعيد، أنّ التّراث في مسيره الزمني قد تخلّى عن أشياء كثيرة. فنحن اليوم قد لبسنا الثّياب الأوربيّة والأمريكيّة في حياتنا المدنيّة اليوميّة، لأنّ ثيابنا العربية لم تعد صالحة في كثير من الأوضاع الاجتماعية، فتخلّينا عن أغلبها. فهل نُقْبِل على عملنا في المعامل والمصانع والمخابر والمصحّات وعلى رؤوسنا العمائم؟
● وماذا وجدت في هذا التّراث؟
- وجدتُ جنّة الإبداعات العظيمة الزّاخرة، وكأنّها فلقت التربة الزكيّة فبرزت من أعماق الأرض يانعة، مهما تكبّدت شواظ الشمس وعدوان الأعاصير وضراوة الدّود الزّاحف إلى عروقها، فظلّت يانعة، مزهرة ثم تعدّدت رحلاتي، فتوغّلت مرّة في أرض الخراب، حيث لا يطير طائر ولا يسير سائر، فلم أر في جوانبها إلا المهمل المنحط، والبائر، والخردة المزخرفة بالمجّان، والمنكر المتدهور. فقلتُ: لعلّ لم تطأ قدم رحالة مستكشف ولا منقّب فضولي ولا أثريّ جريء ولا محقّق، لعلّ... لا أدري!
عندما أثرنا قضيّة التّراث – وكأنّها قضيّة الزّمان العربي – أردنا أن نرتبط بالكيان، أي بالوجود، وقد انصرم الحبل الذي كان يربطنا به منذ قرون، وتمزّق، إذ كان في الحقيقة منّا وإلينا: أمر واحد وغاية واحدة وقَدَر واحد. لذلك عزمنا على استئناف ما كان من الكيان في صوره المشرقة البهيّة، بعد عزم أهل الإصلاح الذين سبقونا سياسياً وقيادياً. غير أنّ هذه الإشكالية إنّما هي ثقافيّة فكريّة حضاريّة، كأن تقول: هي أصل، هي الجذر، هي الخميرة، هي اللّبّ.
ليست القضيّة إحياء الأموات، بل الارتباط بالحيّ واستئنافه على طرق مستحدثة، وبأساليب عصريّة. وأنت تعلم أنّ الحضارة العربيّة الإسلامية هي حضارة مستوعبة للحضارات الأخرى: الإغريقية، والرّومية، والفارسية، والهنديّة، وثقافات الأمازيغ وقبائل المجتمعات السّوداء والأعلاج... إلخ، فمنَ منّا لا يتذكّر أنّ الخليفة المأمون حلم بأرسطو؟ ومنَ منّا لم يسمع خصام الوراقين والنّسّاخين في أسواق بغداد وقد أهدينا لهم الكمبيوتر المجهز بالإنترنت؟
في قراءتنا للطبري والمسعودي وابن الأثير لمحنا مشاهد ومشاكل ومواقف اجتماعية تشبه إلى حدّ بعيد قضايا سياسية واجتماعية اليوم، وكأنّها هي هي. والأمثلة متوافّرة وكثيرة، وتلك علامة على أنّ للزّمان العربي بصمات متطابقة بين الماضي والحاضر، عبر العهود والعصور.
النخبة أم الجمهور؟
● يخطر لي هنا أن أسألك: في مسرحك، هل كنت تتوجّه بخطابك المسرحي إلى «النّخبة» أم إلى «الجمهور العام»؟
- أعتقد جازم الاعتقاد أنّ مشكلة: إمّا النّخبة وإمّا الجمهور الكبير، قد تجاوزها الزّمن منذ سنوات طوال، بفعل تجاوز الزّمن لبعض الاتجاهات الأيديولوجية في العالم. وصحيح أنّ بعض المفكّرين والكُتّاب العرب المعاصرين سقطوا في هذه الإشكالية الوهميّة كما يسقط الذّباب على صفحة العسل!
إنّ المطلوب من الكاتب المسرحي – والحقّ أن أيّ مبدع لا يُطْلَب ولا يُطالَب بشيء ما دام حرًّا – هو أن يقدّم لأيّ جمهور – سواء من النّخبة أو من سواها - نوعاً وصنفاً وعدداً من أجمل ما لديه، وأسمى ما عنده، وأروع ما خطّ قلمه، لا أن يقدّم تأليفاً مسرحيًّا على قياس النّخبة أو الجمهور العريض، فإنْ فعل ذلك فهو تاجر حانوتيّ وصولي. إلاّ أنّ المبدع المسرحي في الواقع لا ينجو بإبداعه بعيداً عن التجار والمتصرّفين في شؤون المسرح.
ذلك أنّ مديري الفرق المسرحية ومديري المسارح والموزّعين يتدخّلون فيقولون: هذه المسرحيّة صالحة للنّخبة، وهذه الأخرى صالحة للجمهور الواسع الكبير! والكاتب المبدع لا حول له ولا قوّة، بما أنّه يرغب في أن يشاهد النّاس عمله! بـــرغم الضّوابط، والاحتجاج، والوعيد والتّهديد بسحب النّصّ!
لقد تآمر بليل ذوو العقلية التّجارية منذ زمن على القوّة الإبداعية الكامنة في بعض النّصوص المسرحية العربية، على قلّتها طبعاً. فكلّما قرأوا نصًّا تنويرياً تثقيفياً صرخوا: «هذا النّصّ لا يفهمه الجمهور الكبير ولا الشّعب الكريم، بينما يطلب الشّعب أن يضحك وأن يشاهد القفشات والمواضيع التافهة والنّكات والخزعبلات والأمثال الشّعبيّة والانتقادات السّياسيّة الظّرفيّة». واحتجّوا بوقاحة لا مثيل لها: «الجمهور عاوز كده!» انظر كيف هم يتصورون الجمهور!
وموقف التّجّار هذا يحجب أمراً مهماً وهو: مطالبة الحكومة بأن ترفع المستوى الثّقافي للجماهير التي لا يسعفها الحظ للتّعلّم والتّربية والتّكوين وإشاعة المعرفة في كلّ مكان وبجميع الأساليب والأسباب.
● بالتّأكيد أنت تنتمي إلى المسرح الحديث، فأين تتجلّى حداثتك؟
- صحيح أنّي أنتمي للمسرح الحديث بحسب رؤيتي واتّجاهي وما كتبت، بل إنّ كتابتي المسرحيّة والقصصيّة والروائية كلّها تشكّل ضلعاً في الكتابة العربية في هذا العصر.
● وأين أنت من «المسرح التجريبي»؟
- أنت تعلم، ولا شك، أني أصدرت كتاباً عنوانه «الأدب التّجريبي» سنة 1972، ثمّ صدر في طبعة ثانية بالإسكندرية. وفي طبعة ثالثة بلبنان، واعتمد الكثير من طالبي الدكتوراه في تونس وفي مصر والجزائر نظريات هذا الكتاب للحصول على شهادة الدّكتوراه. وانتخبته مكتبة الكونجرس الأمريكي ككتاب عربي أوّل بين كتبها.
إنّي كاتب تجريبي، ولكم دعوت إلى الكتابة التجريبية التي هي بخلاف الكتابة السّهلة اليسيرة، ولا هي بالتّجربة الأولى الّتي يقوم بها الإنسان، وهو ما يسمّى بالمحاولة لا غير.
● بالتّأكيد أنت تنتمي إلى المسرح الحديث. فأين تتجلّى حداثتك؟
- صحيح إنّي أنتمي للمسرح الحديث حسب رؤيتي واتّجاهي وما كتبت، بل إنّ كتابتي المسرحيّة والقصصيّة والرّوائيّة كلّها تشكّل ضلعاً في الكتابة العربية في هذا العصر ■