هل يحتاج العِلم إلى لغة عالمية؟

صدر كتاب «هل يحتاج العلم إلى لغة عالمية؟... اللغة الإنجليزية ومستقبل البحث العلمي» لمؤلفه سكوت ل. مونتغمري في عام 2013، وفي العام التالي أصدره المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت، وترجمه إلى «العربية» د. فؤاد عبدالمطلب.
يقدم للكتاب ديفيد كريستال، صاحب كتاب «الإنجليزية لغة عالمية» الصادر في عام 1997، فيرى أن ظهور الكتب الأولى التي تحلل ظاهرة الإنجليزية بوصفها لغة عالمية كان خلال التسعينيات من القرن العشرين، وأن كتاب مونتغمري يمثل دراسات الجيل الثاني، وكاتبه يتميز بأنه عالم؛ فهو متخصص في طبقات الأرض، ولكنه عالم تجشّم عناء محاولة فهم التفكير اللغوي القائم في الاستعمال العالمي للإنجليزية.
يتألف الكتاب من ستة فصول، إضافة إلى التقديم، وتمهيد يشير فيه المؤلف إلى أن استعماله مصطلح العلم هو شامل تقريباً لحقول المعرفة العلمية الأساسية من علوم طبيعية وطبية وهندسية.
يتحدث اليوم نحو ملياري شخص في أكثر من 120 دولة، اللغة الإنجليزية، بمستوى مقبول من الطلاقة؛ فالإنجليزية هي اللسان العالمي في حقبة العولمة هذه؛ إذ تسيطر على التواصل الدولي في ميادين العلوم، من دون أن ينفي ذلك أن لمجالها حدوداً؛ إذ ثمة احتمال ضئيل أن تمضي، في وقت قريب، العلوم المحلية التي تعززها مطالب قومية منافسة وسياسات واقعية.
ترتبط هذه السيطرة بوضع أمريكا بوصفها قوة عظمى في العالم سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، وبوضع مستقل عن ذلك يتمثل في طريقتين: الأولى أن معظم ميادين الأعمال والبحث العلمي شهدت نمواً في استعمال الإنجليزية وصل إلى حد أصبح فيه ينمو ذاتياً.
والثانية أنه مع مرور الزمن، أضافت مجموعات مختلفة، تستخدم الإنجليزية بوصفها لغة ثانية، مقومات خاصة من لغاتهم الأصلية؛ فعلى مستوى النطق أصبحت الإنجليزية على نحو واضح متعددة، ولم يعد علماء اللغة يتحدثون عن إنجليزية عالمية، بل عن إنجليزيات عالمية، ويمكن العثور على تنوعات مميزة وموطنة في جنوب آسيا وغرب إفريقيا وشرقها والكاريبي.
ويرى الكاتب أن هذه الإنجليزيات ليست تشويهاً للغة أصلية، وأن الكثير من هذا التنوع يختفي في الكتابة الرسمية، وأن هناك بالفعل شيئاً يقترب من كونه معياراً عالمياً على مستوى الكتابة.
حقائق جيوسياسية
يشير علماء اللغة إلى أن سيطرة اللغة الإنجليزية استغرقت قروناً. ولقد ترسخ الأساس في التوزيع الجغرافي للإمبراطورية البريطانية التي غطت جميع القارات؛ إذ سيطرت بريطانيا على البحار، وبالتالي على التجارة العالمية، في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. كما كانت إنجلترا مركزاً للثورات العلمية والصناعية.
وبعد بلوغ قوة الإمبراطورية البريطانية ذروتها، بدأت أمريكا تصبح القوة وراء انتشار الإنجليزية؛ فإطلاقها للثورة الصناعية الثانية (1880 - 1914) والثروة الهائلة التي سببتها، قد دفعا لتصبح قوة عالمية ستنتصر لاحقاً في الحرب العالمية الثانية، وتنجح في تجديد أوربا عبر مشروع مارشال، والتأسيس لاقتصاد عالمي جديد، ونشر القواعد العسكرية، والإسهام بإعادة البناء في شرق آسيا.
بداية من الثمانينيات مر العالم بسلسلة جديدة من الهزات الجغرافية السياسية التي انتهت بمنح الأفضلية للإنجليزية، أهمها انهيار الاتحاد السوفييتي في عام 1991، ونهاية عصر الشيوعية في الكتلة الشرقية التي أتت بعدد من الدول الجديدة إلى الاتحاد الأوربي الذي أنشئ في عام 1993 متكوناً من دول متحالفة بعمق مع أمريكا.
كما تلاشت الشيوعية في الصين وفيتنام، ليحل محلها دافع كبير للتنمية الاقتصادية والتعاون مع الغرب، إضافة إلى اليابان التي انتهجت الطابع الغربي، وانتهاء التفرقة العنصرية في جنوب إفريقيا، وترسخ الديمقراطية في كوريا الجنوبية، وانقسام يوغوسلافيا إلى ثماني دول.
لقد عملت هذه الأحداث لمصلحة انتشار الإنجليزية بإزالة المنافسة ذات الأساس السياسي (الروسية)، وبتقديم الحاجة إلى الدبلوماسية العالمية والمساعدة الدولية ومجالات التفاوض التي كانت الإنجليزية تكسب الأسبقية فيها.
الإنجليزية والعلم
بدأ التواصل العلمي الدولي الحديث مع انتشار المجلات العلمية التي تزايد عددها حتى الحرب العالمية الثانية، ثم تضخم حتى التسعينيات. وقد كانت الألمانية والفرنسية والإنجليزية هي اللغات المهيمنة حتى ما بعد الحرب العالمية الأولى حين بدأت الفرنسية بالتراجع، والألمانية بشكل أكبر، إذ تم إبعاد العلماء الألمان عن عديد من الاجتماعات الدولية لتوقيع كثير منهم بياناً يدعم الحكومة الألمانية وجيشها في العدوان على فرنسا وإنجلترا.
بعد الحرب العالمية الثانية، بدأت الإنجليزية ارتفاعها النهائي في العلوم مدفوعة بالقوة العلمية الأمريكية التي سرعت اتجاهاً كانت إنجلترا قد بدأته.
بعد الحرب أيضاً بدأت المواهب العلمية تتدفق بكثرة من أوربا إلى أمريكا أو كندا. والآن تتكرر الحكاية بالنسبة إلى العالم النامي، فحتى نهاية القرن العشرين كان الجزء الأكثر تقدماً من العمل العلمي مقتصراً على الدول الغنية، وقد بدأت الحالة تتوسع بشكل جدي، وسيكون القرن الحادي والعشرون - كما يرى المؤلف - أول ما يشهد مغامرة عالمية حقيقية في العلم تخلو من سيطرة أحد، وتخص الجميع.
اللغات العالمية السابقة
يرى المؤلف أن حقبة الإنجاز العلمي الحديث الممتدة من 1860 إلى 1970 ظلت من دون لغة تواصل حقيقية واحدة، وأن هذه الحقبة الممتدة بين تراجع اللاتينية وصعود الإنجليزية كانت الترجمة هي الحاضرة فيها دائماً، وأن تاريخ العلم هو أيضاً تاريخ اللغات.
اليونانية
كانت اليونانية لغة التواصل في منطقة شرقي البحر المتوسط منذ 550 ق.م إلى 200 م. ومنذ القرن الرابع قبل الميلاد حدثت حقبة مدهشة من التقدم دامت قرنين. وعلى الرغم من سيطرة روما على اليونان في القرن الثاني قبل الميلاد، فإن اللغة اللاتينية لم تهيمن، بل ظلت اليونانية لغة تواصل وحتى لغة إدارية في الإمبراطورية الرومانية الشرقية.
وخلال سنوات الجمهورية، تعلّم العلماء الرومان والأرستقراطيون الأغنياء اليونانية، وكتب معظم المفكرين الهيلينيين في العلوم باليونانية، علماً بأن أياً منهم لم يكن من اليونان.
اللاتينية
اكتسبت اللاتينية مكانة لغة تواصل حقيقية مع توسع الهيمنة الرومانية في القرن الأول قبل الميلاد. وحلت تدريجياً محل لغات محلية. لم يكن الرومان مهتمين كثيراً بالعلم اليوناني، وجاء العلم الذي أخذوه عن اليونانيين من مصادر أدبية وملخصات وكتيبات.
بعد سقوط روما أواخر القرن الخامس، خضعت اللاتينية إلى تقسيم بين المنطوق والمكتوب، وبحلول القرن السابع لم يعد ممكناً للمتحدثين عبر الإمبراطورية السابقة أن يفهم أحدهم الآخر بسهولة؛ فصارت اللاتينية المنطوقة عملياً لغة ميتة، بينما ظلت المكتوبة لغة التواصل للثقافة الفكرية في جميع أنحاء أوربا وبريطانيا، بسبب دورها المركزي في الكنيسة الكاثوليكية الرومانية.
العربية
لم تهتم الثقافة الفكرية الإسلامية بالأعمال الأدبية اليونانية، بل بالفكر الفلسفي والرياضي والعلمي من أرسطو إلى بطليموس. لقد كانت حركة الترجمة واعية، وكان المترجمون بخلفيات متنوعة، من أجزاء عديدة للإمبراطورية الإسلامية. ومع نهاية القرن العاشر وصلت حركة الترجمة إلى نهايتها، بعد أن استنفدت بشكل أساس موادها، وبدأت الأعمال الأصلية التي ألّفها علماء باللغة العربية تتزايد، كما قاموا بنقد وتحديث وتجاوز الترجمات.
وهكذا كان توسع الفكر العلمي متماشياً مع ظهور الإسلام، واللغة العربية بصفتها لغة تواصل جديدة، بامتداد كبير وصل بحلول القرن التاسع من حدود الصين إلى المحيط الأطلسي. ومع صعودها أزالت «العربية» لغات أخرى كالسريانية واليونانية.
اللاتينية
حالما بدأ الاهتمام بالعلوم يتراجع في بلاد الإسلام، كان يرتفع في أوربا. وبين القرنين الحادي عشر والثالث عشر، نشأت اتصالات جديدة بينهما.
التحول الأكبر حدث على المستوى الذهني؛ فقد أثر عصر النهضة في القرن الثاني عشر على كامل مجال المسعى الثقافي. وبحلول عام 1250 كانت مكتبة العلمين اليوناني والعربي قد ترجمت إلى اللاتينية.
ولكونها لغة تواصل للتعلم، تفاعلت اللاتينية مع العربية واليونانية أكثر بكثير من اللغات المحلية. حتى الإصلاح عندما اكتسح معظم أوربا بعد عام 1540 مانحاً امتيازات جديدة للغات المحلية بقصد الحد من قبضة الكنيسة الكاثوليكية، لم يؤثر كثيراً في البداية لإزاحة اللغة اللاتينية الدراسية التي ازدهرت عندما سبب عصر النهضة الإيطالي تغييراً نحو العلوم الإنسانية بعيداً عن العلوم واللاهوت.
تجردت اللاتينية من قوتها تدريجياً مع تزايد الشعور القومي في أوربا، واستعمال العلماء الموسع للغات المحلية، خصوصاً الفرنسية والإيطالية والإنجليزية والألمانية والهولندية.
يرى المؤلف أن اللاتينية لا تقدم في العلم الأوربي نظيراً جيداً للإنجليزية اليوم مثل العربية التي استعملها خلال القرون التاسع حتى الحادي عشر نسبة من الناشطين في العلم أعلى ربما حتى من الإنجليزية عام 2013.
حاجة العلم إلى الإنجليزية
يجيب المؤلف في الفصل الأخير من كتابه عن سؤال العنوان بالإثبات، مؤكداً أن الإنجليزية تنتمي إلى العالم كله، وإلى كل من يستخدمها، وليس إلى أمريكا أو إنجلترا فحسب، وأن مجتمع البحث العلمي على الرغم من تأثره بوقائع سياسية واقتصادية، فإن له أولوياته واحتياجاته الداخلية الخاصة، والعلم إذ يحتاج إلى لغة عالمية، وهو لديه الإنجليزية بالفعل، فذلك من أجل نموه وامتيازه الخاصين، ومن أجل التقدم المستقبلي الذي يعتمد على الاتصال والتعاون الدوليين وتعددية المشاركة.
وينهي المؤلف كتابه بالإشارة إلى ألبرت أينشتاين الذي بدأ سيرته العلمية بالألمانية، وأنهاها بالإنجليزية ■