صفحة من تاريخ الكويت «من مقاطعة إسرائيل إلى تأميم البريد»
يعتبر مكتب بريد الكويت آخر مكتب أقامته دائرة البريد الهندي البريطاني في الساحل العربي من الخليج في يناير عام 1915 بعد كل من مسقط (1864)، البحرين (1884)، دبي (1909)، كما يعد أول مكتب للبريد تنتقل كامل خدماته من الإدارة الإنجليزية إلى الإدارة الوطنية في الأول من فبراير 1958 قبل بقية المكاتب البريدية في الخليج.
بعد انفصال باكستان عن الهند وإعلان استقلالها عن الحكم البريطاني في 14 نوفمبر 1947، واستقلال الهند في اليوم الذي تلاه، تسبب ذلك الانفصال والاستقلال في انتقال تبعية المكاتب البريدية في منطقة الخليج من الإدارة الهندية - البريطانية إلى الإدارة الباكستانية، نظراً لكون «كراتشي» التي يقع فيها مكتب البريد الرئيس للمكاتب البريدية في الخليج أصبحت في الإقليم السياسي الباكستاني.
ودفع هذا التحول الجغرافي الجديد لإدارة البريد بريطانيا إلى التسريع في نقل سيطرة الإشراف إلى لندن في الأول من شهر أبريل عام 1948م، من أجل المحافظة على تاريخ إرثها البريدي في بلدان الخليج، بعد فترة مؤقتة لم تتجاوز 5 أشهر كانت باكستان فيها مسؤولة إدارياً عن البريد، وما نتج عنه من استخدام كل من دبي والبحرين للطوابع الباكستانية.
أما الكويت ومسقط، فاستمرتا في استخدام الطوابع الهندية حتى استبدال الطوابع الإنجليزية بها في جميع المكاتب البريدية، مع استبدال أختام الإلغاء الهندية بأختام إنجليزية في نهاية عام 1949م.
وجاء تولي الإنجليز لإدارة البريد في الكويت بالتزامن مع نهاية انتدابها في فلسطين بتاريخ 14 مايو 1948، بموجب قرار التقسيم الجائر من قبل هيئة الأمم في 29 نوفمبر 1947، الذي أعطى لليهود الذين هاجروا إلى فلسطين ويشكلون ثلث عدد السكان، 56 في المائة من مساحة فلسطين، مما حقق لإسرائيل إعلان دولتها في 15 مايو 1948.
وبعد حرب دامت ثمانية أشهر بين الجيوش العربية وإسرائيل انتهت في يناير 1949، نتيجة قبول كل من مصر ولبنان والأردن وسورية بتوقيع اتفاقيات الهدنة مع مجلس الأمن بضغط من أمريكا وبريطانيا، كانت النتيجة تقسيم أرض فلسطين إلى ثلاث مناطق: منطقة تعادل 70 في المائة من الأرض تحت سلطة الاحتلال الإسرائيلي، بزيادة 20 في المائة على الذي حدده قرار التقسيم. أما المنطقتان الأخريان، فهما قطاع غزة، ويقع تحت سلطة الإدارة المصرية، والضفة الغربية وتشمل مدينة القدس الشرقية ونابلس ورام الله وغيرها من المناطق، وتقع تحت سلطة الإدارة الأردنية.
ونتيجة ما ذكر أعلاه، واجهت الإدارة الإنجليزية للبريد في الكويت معضلتين؛ المعضلة الأولى تمثلت في الموقف العدائي المتنامي من المجتمع حيال سياسة بريطانيا في فلسطين وضلوعها في وعد بلفور عام 1917، إلى دعم الانتفاضة الفلسطينية في عام 1936 وتجاوب الكويتيين لها بمساندة الإضراب من خلال جمع التبرعات وتهريب السلاح وإرسال البرقيات المنددة بالتقسيم، بدعم من حاكم الكويت آنذاك الشيخ أحمد الجابر، الذي أبرق لوزير المستعمرات البريطاني يحذر من خطورة التقسيم.
وفي ديسمبر 1947 نظمت حملة تبرعات من التجار وتبرع لها حاكم الكويت مع أقربائه، وبعد نكبة 1948 شكلت لجنة لمساعدة اللاجئين الفلسطينيين ورصدت تبرعات كبيرة لنجدتهم. أما المعضلة الثانية، فتمثلت في ضعف إدارتها للبريد بعد تنامي عدد سكان المجتمع في ظل وجود مكتب واحد، مع زيادة وتيرة النشاط الاقتصادي بعد الحرب العالمية الثانية، والبدء في تصدير النفط، وما يعانيه مكتب البريد من نقص في عدد الموظفين، مما سبب الازدحام عند شراء الطوابع، والتأخير المستمر في إرساليات البريد.
فكرة تأميم البريد
رصدت الكتابات الصحفية في المجلات الكويتية آنذاك ردود الفعل من قبل المواطنين تجاه الخدمة البريدية، على سبيل المثال ما نشرته مجلة «البعثة»، وهي نشرة ثقافية كانت تصدر عن بيت الطلبة في القاهرة عام 1947، لكونها زامنت فترة التحول من الإدارة الهندية للبريد إلى الإدارة الباكستانية، ومن بعدها الانتقال إلى الإدارة الإنجليزية، فعكست أغلب المقالات المنشورة تأثير هذا الانتقال على جودة الخدمة التي تقدم للناس، وتكشف لنا عن تأثير المد الوطني والقومي من مجريات الأحداث السياسية في طرح مطلب وجود بريد وطني بهوية عربية في مواجهة البريد الأجنبي.
وقد نشر الطالب يعقوب الحميضي من ليفربول في عدد أكتوبر عام 1952 فكرة إصدار طوابع خاصة للكويت، تُزيّن بصور الأمير وصور لآبار النفط أو أي رمز آخر، وكتب الآتي: «مما يجعلنا مستقلين عن غيرنا في ذلك، فإن مثل هذا لو فكرنا فيه وأخرجناه إلى حيز التنفيذ، أدعى لحفظ كراماتنا وأظهر لوجودنا وسمعتنا».
ومقال آخر كتبه الطالب حامد عبدالسلام من أكسفورد في عدد يناير 1953: «... نحن في الواقع لا ننكر أن للغير فضلاً علينا حين أعارونا طوابعهم بعد طبع اسم «الكويت» عليها، وسعر الطابع باللغة الإنجليزية فقط. نحن نشكر لهم هذا العمل، ولكن لا نحبّذ أن يكون فضلهم من هذا النوع. فإننا نستطيع أن نستغني عنه».
وأضاف: «بلادنا عربية، وهذه الطوابع لنا قبل أن تكون لأي بلد آخر، فمن الواجب أن تكون لنا طوابعنا الخاصة، وهذا هو أقوى الإيمان. وإن لم تكن خاصة فنحن نرضى (...) تحمل الاسم والسعر باللغة العربية أو باللغتين العربية والإنجليزية، وهذا هو أضعف الإيمان».
وعلى الرغم من الإصلاحات التي قامت بها دائرة البريد الإنجليزية، مثل نقل المكتب الوحيد في فبراير 1953 إلى مقر أوسع يقع بالقرب من الميناء القديم في منطقة الجمرك ويحتوي على 250 صندوقاً للبريد، وسبقه فتح مكتب للبريد بمدينة الأحمدي في شهر مايو 1950، إلا أنه كانت هناك أصوات تنتقد دائرة البريد، على سبيل المثال ما نشرته مجلة «الإيمان» لسان حال النادي الثقافي القومي بالكويت في عدد أبريل 1953: «عمت الشكوى من مختلف طبقات الشعب من جراء استهتار إدارة البريد بمصالح الجمهور، فليس هناك طوابع ترمز إلى حكومة الكويت، والذين يديرونها أجانب، وقسم من الرسائل يصل إلى أصحابه متأخراً، وبعضها يضيع ولا يصل لأصحابه. وخير علاج لهذه الحالة المزرية هو إلحاق هذه المؤسسة بحكومة البلاد وإسناد أمرها إلى موظفين كويتيين بعد تغيير هذه الطوابع التي لا تمت إلى الكويت بأي صلة».
وفي عدد مارس 1954 من مجلة البعثة، صدرت دعوة صريحة لتأميم خدمات البريد في الكويت، وذلك رداً على ملاحظة أبداها أحد القراء حول استفتاءات قامت بها دائرة البريد لتعرف مدى نجاح الإصلاحات التي قامت بها بالنسبة إلى الجمهور، وكتب محررها: «مهما أصلح البريد وعمل على تأييد في هذا الاستفتاء، فإن رأينا ينحصر في كلمة واحدة هي أننا لا نؤمن بأنه سيؤدي واجبه نحو الجمهور ما دامت تديره هيئة أجنبية، وليعلم الجميع أننا نكتب وسنكتب عن هذه الدائرة الأجنبية حتى تؤمم، وتصبح وطنية».
مقاطعة بريد إسرائيل
وعلى الرغم من أن الكويت لم تكن قد حصلت على استقلالها، فإنها التزمت بقرار المقاطعة العربية الذي صدر من جامعة الدول العربية بعد عام 1948، الذي بموجبه أنشئ مكتب «مقاطعة إسرائيل» عام 1951، وتولى الحاكم قرار المقاطعة الرسمية بدعم من القوى الشعبية بالوسائل المتاحة، مثل جمع التبرعات لنصرة الشعب الفلسطيني، وحل مشكلة اللاجئين التي ظهرت على السطح عبر الحملات الصحفية في مجلات البعثة، وكاظمة، والرائد، والإيمان.
ومع هذا كانت الرسائل تصل من إسرائيل وإليها عبر مكتب بريد لندن، والسبب يعود إلى أن إدارة البريد الإنجليزية ملزمة بالتبادل البريدي مع إسرائيل وفق المعاهدات الدولية لاتحاد البريد العالمي، وليست طرفاً من الصراع العربي - الإسرائيلي، وليس للكويت أي سلطة سياسية أو إدارية تلزمها بوقف التعامل البريدي مع إسرائيل، ولكن من خلال الضغط الحكومي والسخط الشعبي المتعاظم، تم خلق حصار حول إدارة البريد في الكويت، ودفعها للتجاوب مع مقاطعة بريد إسرائيل.
وقد حذرت مجلة الإيمان في عدد فبراير عام 1953م، عبر مقال حمل عنوان «ماذا في البريد؟» جاء فيه: «لقد أثارني كثيراً رؤية الرسائل الكثيرة التي تصل إلى الكويت حاملة للطوابع الإسرائيلية، وعليها صورة (ويزمن) وغيره من أسياد اليهود. إن هذه الرسائل تدخل الكويت بكثرة وانتظام، وعلى رؤوس الأشهاد، وزيارة واحدة لدائرة البريد تبرهن على ذلك، علماً بأن هذا محظور في كل بلد عربي، وكل هذا يحدث في الكويت، وتحدث أشياء أخرى سنطرقها في المستقبل، وأملنا في المسؤولين عظيم».
وتشير الوثائق الإنجليزية في مارس 1953 إلى مخاطبة مدير الأمن العام في الكويت - الذي كان يتولى الرئاسة الفخرية للنادي الثقافي القومي - لمدير البريد يطلب منه تسليم البريد المرسل والواصل من إسرائيل لإخضاعه للرقابة. وقد امتثل مدير البريد لبضعة أيام قبل أن يبلغ المعتمد السياسي مدير الأمن العام بضرورة تقديم طلب رسمي لحكومة بريطانيا من خلاله في حالة الرغبة في ممارسة مثل تلك الرقابة.
وتقدم مدير الأمن العام بطلب للمعتمد السياسي بهذا الخصوص عقب شهرين، لكن تم إبلاغه أنه يتعذر قبول طلبه.
رقابة البريد
أدى تكرار وصول البريد من إسرائيل إلى الكويت عن طريق لندن إلى إثارة مشاعر الكويتيين، حكاماً ومحكومين، لاتخاذ موقف أكثر تشدداً لمقاطعته، فنشرت جريدة «الكويت اليوم» الرسمية بالعدد 29 - السنة الأولى 2 يوليو 1955 عن رصد دائرة المطبوعات والنشر وصول رسائل من إسرائيل إلى الكويت، وعرضت الأمر على اللجنة التنفيذية العليا، وهي أعلى سلطة تنفيذية آنذاك، وجاء الرد على كتابهم: «لقد بحثت اللجنة العليا موضوع البريد الوارد من إسرائيل، والصادر إليها، فقررت أن تعهد إلى دائرتكم مراقبة جميع الرسائل ورزم البريد الواردة والصادرة من وإلى إسرائيل. وعليه، يرجى اتخاذ الإجراءات الكفيلة بتنفيذ هذا الأمر، اعتباراً من تاريخه. كما نلفت نظركم إلى وجوب تجهيز بطاقة مطبوعة تلصق بالرسائل بعد فتحها، تشير إلى مرورها على الرقابة».
وبعثت اللجنة التنفيذية العليا وكذلك بكتاب مماثل في التاريخ نفسه إلى مدير البريد، جاء فيه: «يرجى اتخاذ الإجراءات الفعالة اعتباراً من تاريخه لإحالة جميع الرسائل وطرود البريد الواردة من إسرائيل والصادرة إليها إلى دائرة المطبوعات والنشر لأجل مراقبتها ثم إعادتها إلى دائرتكم لتوزيعها أو إرسالها للخارج».
ويفهم من نص اللجنة التنفيذية العليا تكليف أمر الرقابة على البريد تحت إشراف دائرة المطبوعات والنشر، وهي دائرة كويتية، ولم تخول أمرها لإدارة البريد الإنجليزية.
لقد دفع تسارع الأحداث في الساحة العربية بعد إعلان مصر تأميم قناة السويس في 26 يوليو 1956، مما أدى إلى العدوان الثلاثي من إنجلترا وفرنسا وإسرائيل على مصر في 29 أكتوبر 1956، واحتلال القوات الإسرائيلية قطاع غزة في 1 نوفمبر 1956، إلى تزايد المشاعر العدائية ضد الإنجليز في الكويت، فنظمت التظاهرات الكبيرة المؤيدة لمصر، وعمت الإضرابات في الأسواق استنكاراً لهذا العدوان الثلاثي، وقام عمال النفط في ميناء الأحمدي بمقاطعة ناقلات النفط البريطانية والفرنسية، مع إعلان الإضراب العام وتوقف التصدير، كما حدثت انفجارات محدودة في ميناء الأحمدي ومدينة الأحمدي والمقوع، مما استدعى السلطة لإعلان حظر التجول في الليل داخل مناطق الحقول النفطية.
ويشير تقرير سري صادر عن مكتب المعتمد السياسي في الكويت إلى وزارة الخارجية في لندن بتاريخ 2 نوفمبر 1956، إلى تعرضهم لضغوط من الحكومة الكويتية لفرض رقابة على البريد الصادر من الكويت إلى إسرائيل، أو إيقاف الخدمة بالكامل، ولكن كانت توجد صعوبات فنية وقانونية وسياسية شديدة تحول دون تنفيذ رغبة الحكومة الكويتية. ويلفت التقرير إلى ضرورة الإدراك أنه ما لم تتمكن من لقاء الحاكم بطريقة ما وحل المشكلة، فسوف يؤدي ذلك إلى تمهيد الطريق لنقل الخدمة البريدية لإدارة وطنية (تأميم).
ويضيف التقرير أنه عمل ترتيبات لتدريب عناصر كويتية لتحويل خدمات البريد الداخلية بشكل منظم إلى إدارة كويتية، موصياً بإيقاف الخدمة البريدية مع إسرائيل بشكل عاجل من أجل إسعاد الكويتيين، حكاماً ومحكومين.
وبناء على توصية المعتمد الإنجليزي لوزارة الخارجية، جاء رد وزارة الخارجية في 6 نوفمبر 1956، بموافقة مكتب البريد الإنجليزي على إيقاف خدمات البريد بين الكويت وإسرائيل، على أنها خطوة اتخذت بناء على طلب حاكم الكويت، وأن موافقة وزارة الخارجية البريطانية تمت بسبب الضرورة!
وبعد انسحاب القوات الفرنسية والإنجليزية في 22 ديسمبر 1956 من بورسعيد نتيجة للضغط الدولي الذي قاده الاتحاد السوفييتي السابق، وبدعم من أمريكا وبفضل المقاومة الشرسة من الجيش المصري، حلت محلها قوة طوارئ دولية مؤقتة، وفي 5 مارس 1957 انسحبت قوات الاحتلال الإسرائيلية من قطاع غزة، وتوقف خلالها البريد المصري في المكاتب البريدية: غزة، خان يونس، رفح، ودير البلح، لفترة دامت خمسة أشهر تقريباً، وحلت محلها مكاتب بريد الاحتلال الإسرائيلي، وبعد الانسحاب عاد البريد لقطاع غزة إلى وضعه السابق تحت الإدارة المصرية الملكية.
وبالتزامن مع ما سبق من أحداث في الصراع العربي - الإسرائيلي، صادقت ملكة بريطانيا إليزابيث الثانية رسمياً في فبراير 1957 على إصدار طوابع تحمل صورة الشيخ عبدالله السالم لاستخدمها للبريد المحلي، كمقدمة تمهيدية حققت انتقالاً سلساً من الإدارة الإنجليزية للإدارة الكويتية الوطنية، لتتسلم مسؤولية البريد على آلية انتقال تمت على فترتين زمنيتين، في الفترة الأولى: بدأت في الأول من فبراير 1958 تولت الإدارة الكويتية خدمات البريد الداخلي، أما الفترة الثانية فكانت في الأول من فبراير 1959، واستكملت فيها الإدارة الكويتية توليها الإشراف على خدمات البريد الخارجي، واستطاعت خلال السنة الأولى من تقلدها زمام الإدارة فتح سبعة مكاتب بريدية جديدة■