رسائل!

رسائل!

لم‭ ‬تكن‭ ‬تضحك‭ ‬كما‭ ‬الأطفال‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬سنِّها،‭ ‬في‭ ‬عينيها‭ ‬حزنٌ‭ ‬مقيمٌ،‭ ‬وفي‭ ‬تصرفاتِها‭ ‬قلقٌ‭ ‬دائم‭ ‬كأنّها‭ ‬تكابدُ‭ ‬كابوسًا‭ ‬مزمنًا‭ ‬رأيتُه‭ ‬ذلك‭ ‬اليومَ‭ ‬يتفجرُ‭ ‬من‭ ‬ملامحِها‭ ‬دفعةً‭ ‬واحدة،‭ ‬ويسيلُ‭ ‬من‭ ‬نظراتِها‭ ‬ما‭ ‬يشبه‭ ‬نداءَ‭ ‬استغاثة،‭ ‬طلبتُ‭ ‬من‭ ‬المراسلةِ‭ ‬التي‭ ‬تحملُ‭ ‬وريقةً‭ ‬قرأتْ‭ ‬منها‭ ‬اسمها‭ ‬أن‭ ‬تعطينيها؛‭ ‬رأيتُ‭ ‬اسمها‭ ‬مطلوبًا‭ ‬للإدارةِ‭ ‬صحبة‭ ‬الحقيبة،‭ ‬لم‭ ‬أشأ‭ ‬أن‭ ‬تغادرَ‭ ‬طالبتي‭ ‬الصغيرة‭ ‬وعلى‭ ‬كتفيها‭ ‬جبلٌ‭ ‬من‭ ‬الهموم‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬عمرها،‭ ‬استدعيتُها‭ ‬خارجَ‭ ‬الغرفةِ‭ ‬الصفيةِ‭ ‬وسألتُها‭ ‬بصوتٍ‭ ‬خفيضٍ‭ ‬حرصتُ‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬دافئًا‭ ‬بلا‭ ‬رسمية‭:‬‭ ‬‮«‬ما‭ ‬بكِ‭ ‬شذى؟‭ ‬ألا‭ ‬ترغبين‭ ‬في‭ ‬المغادرة؟‮»‬‭.‬

بلحظةٍ‭ ‬رأيتُ‭ ‬وجهَها‭ ‬الوديع‭ ‬يتحول‭ ‬لمتألمٍ‭ ‬يحملُ‭ ‬احتجاجًا،‭ ‬وسالتْ‭ ‬دموعُها‭ ‬بلا‭ ‬إرادةٍ‭ ‬منها‭ ‬وهي‭ ‬تقول‭:‬‭ ‬‮«‬إنّه‭ ‬أبي‭!‬‭ ‬سيأخذني‭ ‬لأقضي‭ ‬عطلة‭ ‬نهاية‭ ‬الأسبوع‭ ‬في‭ ‬بيته‭ ‬وماما‭...‬‮»‬‭.‬

تركتُها‭ ‬تكمل‭ ‬وأنا‭ ‬أتذكرُ‭ ‬ما‭ ‬سمعتُه‭ ‬عن‭ ‬قصةِ‭ ‬انفصال‭ ‬والديها‭ ‬قبلَ‭ ‬فترةٍ‭ ‬قصيرة،‭ ‬ولم‭ ‬أكن‭ ‬أعلمُ‭ ‬بتلك‭ ‬الحربِ‭ ‬الباردةِ‭ ‬الدائرة‭ ‬بينهما،‭ ‬والرسائلِ‭ ‬الملغومةِ‭ ‬المتبادلةِ‭ ‬التي‭ ‬يحمِّلانها‭ ‬ابنتَهما‭ ‬الوحيدة،‭ ‬والكلماتِ‭ ‬الثقيلةِ‭ ‬المحّملة‭ ‬بالتحريض‭ ‬التي‭ ‬تجد‭ ‬نفسَها‭ ‬وسطَ‭ ‬سهامِها‭ ‬المتراشَقةِ‭ ‬من‭ ‬طرفين‭ ‬المفترض‭ ‬أنَّهما‭ ‬ركنا‭ ‬الأمانِ‭ ‬في‭ ‬عالمِها،‭ ‬تحبُّهما‭ ‬وتحتاجُ‭ ‬لدعمهما،‭ ‬حاولتُ‭ ‬أن‭ ‬أخففَ‭ ‬عنها‭ ‬بكلماتٍ‭ ‬بدتْ‭ ‬لي‭ ‬كسيحةً؛‭ ‬بأنّها‭ ‬حالةٌ‭ ‬مؤقتةٌ‭ ‬وستزول،‭ ‬وأنّ‭ ‬عليها‭ ‬أن‭ ‬تتأكدَ‭ ‬بأنّهما‭ ‬يحبانها‭ ‬كثيرًا،‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬يمكنها‭ ‬أن‭ ‬تتصور‭...‬‭ ‬هزّت‭ ‬رأسَها‭ ‬برضى،‭ ‬والتمعت‭ ‬عيناها‭ ‬بفرحةٍ‭ ‬قصيرةٍ‭ ‬وهي‭ ‬تحملُ‭ ‬حقيبتَها‭ ‬وتغادر،‭ ‬وأنا‭ ‬أتأمل‭ ‬خطاها‭ ‬التي‭ ‬دخلت‭ ‬دربَ‭ ‬الألم‭ ‬مبكرًا‭ ‬وتحملتْ‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬تطيقه‭ ‬نفسُها‭ ‬الطرية‭ ‬وطفولتها‭ ‬الغضة‭.‬‭ ‬

انفصالُ‭ ‬الأبوين‭ ‬جرحٌ‭ ‬عميقٌ‭ ‬للأطفال‭ ‬الّذين‭ ‬لا‭ ‬يعون‭ ‬الأسبابَ،‭ ‬ولا‭ ‬تقنعهم‭ ‬الظروفُ،‭ ‬فلماذا‭ ‬نزيده‭ ‬ألمًا‭ ‬باستغلالهم‭ ‬لمحاولة‭ ‬إيذاء‭ ‬الطرف‭ ‬الثاني؟‭! ‬وكيف‭ ‬يتحوّلُ‭ ‬الأبوان‭ ‬من‭ ‬حضنٍ‭ ‬للأمان‭ ‬ومنبعٍ‭ ‬للمحبةِ‭ ‬ومبعثٍ‭ ‬للسكينةِ‭ ‬إلى‭ ‬مصدرٍ‭ ‬لإثارة‭ ‬القلق‭ ‬وزرع‭ ‬الضغينة؟‭ ‬متناسين‭ ‬أنَّ‭ ‬أبناءهم‭ ‬بشرٌ‭ ‬وليسوا‭ ‬أدواتٍ‭! ‬‭.