أوائل الدارسين الكويتيين في الأزهر الشريف
يعتبر المجتمع الكويتي من المجتمعات العربية المتنورة منذ القدم، ويتصف بالتنوع الفكري المتسم بالأصالة والمحافظة والتسامح، ويرجع سبب هذا التميز للتنويع البارز في تكوين أصول سكان الكويت القدامى، فالجذور لبعض الجماعات المؤسسة كالعتوب والعوازم وبني خالد مرجعها الجزيرة العربية، بينما توافد إليها جماعات بشرية من جهات متنوعة، أبرزها العراق وفارس وإفريقيا وغيرها. ولعل من أسباب التنوير والثقافة في كويت ما قبل النفط كان بفضل الدور الكبير الذي قام به رجال العلم والدين في خدمة مجتمعهم عبر الدروس والمحاضرات التي يعقدونها في المساجد والمجالس.
استمدت هذه الكوكبة ثقافتها من خلال دراستها لدى الكتاتيب والمساجد في الكويت، بالإضافة إلى ارتحالها لطلب العلم من عدة مناطق اشتهرت كالعراق والأحساء ومصر، وعادوا إلى وطنهم وساهموا مساهمة كبيرة في خدمة المجتمع وتطويره.
وحيث إن الجامع الأزهر الشريف في القاهرة كان قبلة للثقافة والعلم والأدب، وبرز منه الكثير من العلماء وشيوخ الدين، الذين ذاع صيتهم في مختلف الأرجاء بالوطن العربي آنذاك، وعرف علماء الأزهر بكونهم رجالا أفاضل تحصنوا بالعلم والخلق، فكانوا محل تقدير واحترام أينما حلوا، وفي رحاب مكة المكرمة والمدينة المنورة كان أهالي الكويت يلتقون مثل هذه النخب والتعرف على شيوخ الجامع الأزهر الشريف والاستماع لخطبهم ودروسهم الدينية.
يعتبر الجامع الأزهر من أهم المراكز العلمية في البلاد العربية، حيث بناه جوهر الصقلي قائد المعز لدين الله الفاطمي سنة 970 هـ، فكان السفر لمصر والالتحاق للدراسة في هذا المنبر العلمي الجليل هو طموح الكثير من طلبة العلم بمناطق الخليج العربي بشكل عام ورجال الدين في الكويت بشكل خاص.
ولأن القاهرة بعيدة المنال آنذاك، لبعد المسافة ومشقة السفر وأخطاره، وكذلك عدم توافر وسائل السفر الآمنة والطقس الحار، إضافة إلى مخاطر السفر كاللصوص ووحوش البر كالذئاب، حتى قيل في الأمثال الكويتية القديمة للأمر الذي يعتبر صعب التحقيق «أبعد عليك من مصر». ويقول «الربان» عيسى بن عبدالوهاب القطامي صاحب كتاب «دليل المحتار في علم البحار» هذا البيت:
لو علموني أهلي في مصر أو بيروت
لأبدع عجايب لهم تذكر بعد ما أموت
لذلك نجد أن الطموح في الدراسة في مصر كان لدي الكثير من رجالات العلم والدين والأدب في الكويت منذ القدم.
مشقات وصعوبات
والجدير بالذكر أن العلاقات بين مصر والكويت قد بدأت على المستوى الشعبي قبل المستوى الرسمي منذ زمن بعيد، ومنها العلاقات التجارية والثقافية، وكانت طلائع الطلاب الدارسين هم سفراء الكويت في هذا القطر العربي الأصيل.
وسنتناول بعضاً من أخبار الماضي والتعرف على هذه النخب الثقافية الكويتية التي قطعت كل هذه المسافات الطويلة وتحملت المشقات الكثيرة وتجاوزت الصعوبات الخطيرة للدراسة في الجامع الأزهر الشريف. كما سيكون حديثي منصباً على أخبار الطلبة الدارسين على نفقتهم في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، أي قبل تأسيس مجلس المعارف عام 1936م، وقام بدور كبير في ابتعاث الطلبة الكويتيين، وأسس بيت الكويت للطلبة الذي ترأسه الأستاذ عبدالعزيز حسين، رحمه الله. وقد ضربت قصصهم أروع الأمثلة في طلب العلم والاجتهاد والعطاء والبذل، وأخبارهم وتأثرهم في التطور الكبير في مصر ونقل هذا التأثير لمجتمعهم وإحداث نقلة كبيرة في المجتمع الكويتي ما قبل النفط.
بادئ ذي بدء، لا بد أن نشير إلى نقطة مهمة، وهي أن المراجع التاريخية شحيحة في هذا الصدد، ولا تتعدى إشارات بسيطة متناثرة في بعض الكتب والمجلات، بالرغم من أهمية الموضوع ودوره الكبير في تنوير المثقفين في كويت ما قبل النفط.
ولا نستطيع الجزم باسم أول طالب علم رحل لمصر للدراسة، أو أقدم تاريخ لأول رحلة إلى مصر لطلب العلم، لكن تشير مجلة «البعثة» في عددها الصادر في يناير من عام 1949م، وغيرها من المراجع التاريخية المتوافرة إلى أن أول من رحل إلى مصر لطلب العلم هو الشيخ عيسى بن علوي، والمعلومات التاريخية المتوافرة تشير إلى أنه كان يتمتع بشخصية قوية جداً لا تعرف الفشل مطلقا ويمتاز بالذكاء، وقد عمل بوظيفة حكومية في الرسومات بالكويت، ثم افتتح حانوتا للتجارة، وعن رحلته لمصر ذكر أنه سافر في العقد الثامن من القرن الثالث عشر ودرس الدين هناك، كما درس الطب عند أحد شيوخه وسكن مصر ولم يعد للكويت, حيث مات في مصر ودفن فيها حوالي سنة 1280هـ (1863م).
معلومات نادرة
أما ثاني الشخصيات التاريخية التي درست في مصر فهو الشيخ أحمد بن محمد الفارسي المولود في سنة 1255هـ - 1839م، وهو من رجال العلم والدين المشهورين بتاريخ الكويت ويصفه الشيخ يوسف بن عيسى القناعي في كتابه «صفحات من تاريخ الكويت» بأنه «كان آية في الذكاء والحفظ، فصيح اللسان لا يتطرق لسانه إلى اللحن، حسن الصوت متوغلاً في علم الأدب، ويحفظ الكثير من الشعر، إذا جلس في مجلس كثر المستمعون لما ينثر من الأدب، وإذا وعظ امتلأ المسجد من الخلق لسماع وعظه، وقد حصل له من الإقبال ما لم ينله أحد في الكويت من طلبة العلم، وأكثر علمه في الأدب والوعظ». رحل الفارسي في طلب العلم على نفقة سليمان البدر القناعي سنة 1281هـ (1864م)، وتعلم في كوهج ومسقط ومصر، ودرس في الأزهر الشريف وعاد إلى الكويت بعد مضي ما يقارب سبع سنوات، وذلك في عام 1289هـ (1872م)، ويعتبر أول مبعوث كويتي لطلب العلم في مصر على نفقة أحد المحسنين قبل البعثات الرسمية من حكومة الكويت. وتوفي عام 1933م ودفن بالمقبرة القبلية في الكويت.
والشخصية الثالثة هو ماجد بن سلطان بن فهد من قبيلة الجبور، من الشخصيات المجهولة بتاريخ الكويت، بالرغم من أدواره الكبرى التي قدمها للأمة العربية، حيث طاف بمدن الخليج واشتهر بكرهه للأجانب من القوى الاستعمارية التي تغزو الخليج العربي في تلك الحقبة من الزمن والحذر منهم, وحث الناس على التضامن والاتحاد لمواجهتهم، وكان من رجال الفكر بالكويت، وسافر إلى العراق والآستانة وأقام فيها حقبة من الزمن، ثم قدم إلى البحرين ومكث مدة، وسافر إلى مسقط ومكث بينهم مرشدا وواعظا، ووجد الترحيب من سلاطين آل بوسعيد، وعرف باسم مجيد الكويتي.
وكان كثير السفر إلى جزيرة زنجبار, ومن المقربين لدى السادة السعيديين سواء بإفريقيا أو بعمان. وفي سنة 1337هـ - 1918م، توجه إلى البصرة أيام الاحتلال الإنجليزي للعراق لتلقي العلاج، وكان على وشك أن يطبع كتاباً ألفه عن الخليج، فقبضت عليه السلطة المحتلة آنذاك وسجنته، بعد أن عثرت على الكتاب، وتوفي في السجن، ويبقى موضوع الكتاب الذي أراد أن يطبعه موضوع عناية واهتمام لدى الكثير من الباحثين بتاريخ الكويت لاقتناعهم بأنه يحتوي على الكثير من المعلومات النادرة التي تتناول جوانب من تاريخ الكويت والخليج العربي في تلك الحقبة من الزمن.
أول خريج أزهري
الشخصية الرابعة هي شخصية أول خريج كويتي من الأزهر الشريف لحصوله على الشهادة العالمية منه، ألا وهو الشيخ الحكيم مساعد بن عبدالله العازمي المولود عام 1846م بحي العوازم بالكويت، وكان من طلبة العلم في الكويت وله قصة مشهورة، حيث تعرف على طلبة أزهريين في مكة المكرمة أثناء الحج وتأثر بحديثهم العذب وعلمهم الواسع، ومنى النفس بالدراسة في هذا الجامع الشريف، لكن قلة الموارد كانت عائقا أمام طموحات هذا الشاب، لذلك توجه إلى العمل في الغوص على اللؤلؤ في مغاصات سيلان وركب السفن للسفر إليها، وكان ذلك خلال عام 1874م مع بعض أصحابه، وعند وصوله فوجئ بأنها معطلة هذه السنة بأمر الإنجليز الذين يشرفون على مغاصات سيلان، لذلك لجأ مع بعض أصحابه الكويتيين إلى العمل على البواخر الأوربية، وعندما سافرت عبر قناة السويس ورست على البر غادرها الشيخ مساعد العازمي متوجها إلى القاهرة لتحقيق حلم حياته بالدراسة في الأزهر وسلم بعض أغراضه لصاحبه لتوصيلها لأهله بالكويت وجلس في الأزهر سبع سنوات حتى حصوله على الشهادة العالمية عام 1298هـ (1881م) وفقاً لقانون إصلاح التعليم بالجامع الأزهر الذي أصدره الخديو إسماعيل في سنة 1871م، بعد تأثره بالأفكار الأوربية في برامج الدراسة وفي تقرير أداء الامتحان عند التخرج.
كما تعلم مهنة التطبيب ضد مرض الجدري في بعثة بلجيكية في القاهرة بإيعاز من شيخ الأزهر، ورجع إلى منطقة الخليج العربي وزار عدن ومسقط ورأس الخيمة ودبي والأحساء والبحرين والعراق، ومارس التعليم والتطعيم ضد الجدري والفتوى الدينية. تولى الشيخ مساعد منصب المفتي الديني في عهد الشيخ محمد الصباح واشتهر شهرة واسعة في زمنه.
أما الشخصية الخامسة، حسب المصادر التاريخية، فهو الشيخ أحمد بن الشيخ خالد العدساني، وهو من أسرة علمية توارثت منصب القضاء في الكويت لمدة تتجاوز القرن ونصف القرن، وطلب العلم في الأحساء ثم مصر، إلا أنه لم يمكث فيها طويلا وكان ذلك سنة 1324هـ (1906م)، فعاد إلى الحجاز ودرس عند أحد الشيوخ ليزيد تحصيله، غير أنه لم يلبث أن أصابه ألم ببطنه اضطره إلى السفر لأهله في الكويت فتوفي بعد وصوله بيوم واحد حوالي سنة 1326هـ (1908م).
باقة جميلة
كما ذكر أن هناك العديد من رجال العلم الذين سافروا إلى مصر لأغراض أخرى ولا يعرف مدة إقامتهم فيها، وقد استفادوا من وجودهم ونشروا في الصحافة المصرية مقالات مهمة تعتبر سجلاً تاريخياً حول الكويت، ومنهم الشيخ عبدالعزيز الرشيد صاحب أول مجلة كويتية وهي مجلة «الكويت» التي صدرت عام 1928م، وقد سافر الرشيد إلى القاهرة بعد افتتاح دار الدعوة والإرشاد لمؤسسها محمد رشيد رضا عام 1912م، ولم تطل إقامته فيها ولم يدرس في الجامع الأزهر, إلا إنه استفاد من مجالسة رجال العلم والأدب ولم يقم طويلا فيها.
هذه الباقة الجميلة من الدارسين في القاهرة والتي وصلت لنا أخبارها وقد يكون هناك من يسبقهم أو زاملهم في الدراسة ولم ترد لنا معلومات عنه، وذلك بسبب شح المصادر التاريخية وندرة الروايات الشفهية في هذا الصدد، حيث إن هناك الكثير من صفحات تاريخنا الجميل لم تطلها أقلام المؤرخين وظلت منسية عن أذهاننا.
ختاماً، لا بد أن نؤكد أن الدور الكبير الذي قدمه أوائل الدارسين الكويتيين الذين درسوا في هذا القطر العربي الأصيل هو دور كبير في بناء لبنات وطننا الحبيب، ونسأل الله أن يجزيهم خير الجزاء لما قدموه من عطاء كبير في خدمة أجدادنا في زمن الفقر والصعاب■