ذكريات مجلة العربي

ذكريات مجلة العربي

لا أزالُ أذكرُ الاحتفال الذي أقامته مجلة العربي في الكويت عام 1999 بمناسبة مرور 40 عامًا على تأسيسها وإصدار عددها الأول، وكان احتفالًا مهيبًا، جئنا لنشارك فيه من مختلف الأقطار العربية من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق.
وقد ضم هذا الاحتفال مقابلة لا يزال لذِكراها الطيبة أثر جميل في نفسي، فقد قابلنا سمو أميـر الكويت الحالي الشيخ صباح الأحمد، فهو الذي أشرف على تأسيس مجلة العربي، عندما كان وزيرًا للإعلام.
وقد تبادل بعضنا الذكريات مع سموه - مد الله في عمره - جزاء على ما أشرف عليه من مؤسسات وإنجازات في تاريخه القومي المجيد. 

 

من هذه الإنجازات تأسيس مجلة العربي، التي لا بد أن توضع بأحرف من نور في تاريخ الكويت الثقافي، فهي المجلة التي صدرت في شهر ديسمبر عام 1958، ومن حُسن الحظ أنني قرأتُ العدد الأول في ذلك التاريخ البعيد، وكنتُ طالبًا أدنو من عامي الخامس عشر في مدينة المَحلَّة الكبرى، التي تقع في دلتا مصر بين القاهرة والإسكندرية، وأتطلعُ إلى مستقبلٍ قومي واعد ترفرف عليه الأعلام العربية. 
وكانت فرحتي بظهور هذه المجلة راجعة إلى أنها كانت أولى المجلات التي أراها على ما كانت عليه من جمالٍ في الإخراج، وإتقانٍ في الإعداد، وبراعةٍ في التحرير، وبصيرةٍ مُرهفة تتطلعُ إلى المستقبل، وشعورٍ قومي متفائل يغلب على المقدمة التي كتبها رئيس التحرير في ذلك الوقت.
وكانت الكويت كلها آنذاك تضيف إلى أحلام التحرر الوطني التي حملتنا على جناحي الأحلام القومية العظمى. فقد ظهرت «العربي» بعد عامين فقط من حرب عام 1956؛ حيث استطاع العرب أن يهزموا العدوان الثلاثي على مصر. 
ولم تكن حرب السويس حربًا شنّتها ثلاث دول استعمارية على مصر فحسب، وإنما كانت بمنزلة اعتداء على التحرر القومي الذي قادته مصر في ذلك الوقت.
وربما كان من أهم نتائج هذه الحرب، انبثاق الروح القومية على امتداد الأمة العربية كلها، وأظن أن كثيرين من أبناء الكويت تطوَّعوا خلال هذه الفترة للدفاع عن مصر، فضلًا عن أن عددًا منهم قد أسهم في إلحاق الخسائر بالدول المعتدية والإضرار بالمصالح البريطانية في منطقة الخليج.
ولذلك كان المناخ القومي على امتداد العالم العربي مناخًا بهيجًا بعد اندحار العدوان الثلاثي على مصر، وصعود الشعور القومي إلى الذروة في موازاة تطلّع واعد بالمستقبل العربي لأمة عربية ناهضة. 

أحلام القومية
لم يكن من المصادفة في هذا المناخ أن تصدر مجلة العربي في عام 1958، والأعلام القومية ترفرف على امتداد الأمة العربية جمعاء.
وأظن أن ريادة مصر هي التي دفعت الكويت الصاعدة قوميًّا في ذلك الوقت إلى الاستعانة بأحد أعلام الليبرالية المصرية، وأحد رموز الفكر القومي على المستوى العلمي، فاختارت د. أحمد زكي (1894 - 1975) رئيسًا لتحرير مجلتها الواعدة في زمن ممتلئ بالوعود والأحلام القومية، فكانت مجلة العربي.
كان عنوان المجلة نفسه «العربي» يشد انتباهي إلى هوية هذه المجلة، فهي مجلة مكتوبة من أجل العرب وللعرب، الأمر الذي يحدد هويتها وأهدافها وطموحها في آن. فهي تصدر من الكويت، رافعة شعار هويتها العربية، ومشيرة إلى أنها مجلة العرب جميعًا التي تتوجه إلى كل العرب بأقلام عربية تبدأ من الكويت وتمتدُّ لتحتضنَ كل كتابة عربية، فهي مجلة العربي التي يسهم في كتابتها كل عربي بارز في تخصصه، ويوجِّهُ خطابه الثقافي أو الإبداعي إلى كل عربي آخر يعيش على امتداد العالم العربي كله، بل على امتداد الكرة الأرضية كلها.
وأذكرُ أن صفحة غلاف العدد الأول من مجلة العربي كانت تشيرُ إلى موضوع التمور العراقية، وكان على صفحة ذلك الغلاف صورة لفتاة مبتسمة في تطلّعها إلى المستقبل، وكانت ضمن الصور الموضوعة عن استطلاع مصوَّرٍ لتمور العراق داخل العدد. وقد ظننتُ أن هذه الفتاة عراقية، لكنني كنتُ واهمًا، فقد نبَّهني وصوّب وهمي، الأستاذ محمد مساعد الصالح - عليه رحمة الله - وكان من خيرة المثقفين الكويتيين، ومن أكثر مخضرميهم دفاعًا عن حرية الرأي.
وكنتُ أعرفه كاتبًا يكتب في جريدة الوطن الكويتية عمودًا بعنوان «الله بالخير» في الصفحة الأخيرة من الجريدة التي كنتُ أداومُ على قراءتها طوال السنوات الخمس التي قضيتُها أستاذًا زائرًا في جامعة الكويت ما بين عامي 1983 و1988، فشكرتُ له هذا التصويب، وأرسلتُ له رسالة شكر وتقدير شفاهية، وظللتُ عارفًا بمكانته وقيمته، وظلت بيننا مودة خاصة وعلاقة احترام إلى أن توفاه الله في السابع من أكتوبر عام 2010، وانضم إلى أقرانه من أدباء الكويت الذين كنتُ أعتز كل الاعتزاز بمعرفتهم الشخصية، وأخصُّ بالذكرى العطرة الشاعر الأديب والمؤرخ الأستاذ خالد سعود الزيد، الذي توفاه الله عام 2001، عن أربعة وستين عامًا. 

عرفان وفخر
الحق أنني عندما أتذكرُ مثل هذه الشخصيات الكويتية التي عاصرتُها وأحببتُها واحترمتُها، أجد نفسي مرغمًا على أن أسجل بالعرفان معرفتي بكثير من الرجال الذين أعتز بمعرفتهم، وتفخر الكويت بدورهم الثقافي، ابتداء من المرحوم عبدالعزيز حسين، الذي توفي عام 1996، وكان مستشارًا لأمير الكويت الراحل سمو الشيخ جابر الأحمد الصباح. 
ومن الرجال الذين يفخرُ بهم الكويت فخره برجال من أمثال أحمد مشاري العدواني (1923 - 1990)، مؤلف النشيد الوطني الكويتي. وقد عَرفته معرفة شخصية، لا تزال ذِكراها الطيبة تملأُ نفسي وأنا أكتبُ هذا المقال.
الطريفُ أن مجلة العربي ظلت أنيسي إلى أن قبلتُ العمل أستاذًا زائرًا في جامعة الكويت، وهناك تعرَّفتُ على المرحوم عبدالله العتيبي (1942 - 1995)، الذي توفي قبل أن يكمل عامه الستين، وكان شاعرًا كويتيًّا بارزًا، واعدًا بعطائه الإبداعي والعلمي على السواء، وقد تخرَّج في كلية دار العلوم بالقاهرة، وحصل منها على درجتَي الماجستير والدكتوراه في الشعر العربي القديم. وكان رئيسًا لقسم اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة الكويت، وقد تولى دعوتي للعمل بالقسم نفسه، وكنت عائدًا من السويد بعد عام قضيته فيها، ولكني لحبي له ذهبتُ إلى الكويت، وظللت فيها خمسة أعوام أعتبرُها من أعوام الحلم الجميل الممتد، كان فيها عبدالله العتيبي وأقرانه نِعم الأصدقاء والأحبَّة في دولة الكويت الشقيقة.

العتيبي والنقيب
دعوني أُذكِّر شباب الكويت بشاعرهم الكبير عبدالله العتيبي الذي أصدر ديوانين هما «مزار الحلم» (1989)، و«طائر البشرى» (1993)، وعددًا من الملاحم والأوبريتات، أهمها: أوبريت «أنا الكويت» (1991)، و«أهل الكويت» (1992)، و«قلادة الصابرين» (1994)، فضلًا عن الملاحم التي منها: «صدى التاريخ» و«موكب الفداء» و«الخطوة المباركة» و«أنا الآتي» و«الزمان العربي».
وكانت السنوات التي قضاها العتيبي في رئاسة قسم اللغة العربية سنوات مفعمة بالذكريات الطيبة لحضوره الباسم الضاحك المرح ولوفائه النادر. ولا أزال أذكر بكل الحنو والعرفان جلساتي مع زميلي محمد رجب النجار وعبدالله العتيبي في بيته الجميل الذي كدت أنسى ملامحه بسبب طول العهد وتباعد الأعوام - رحمه الله رحمة واسعة - فقد كان هو الذي قادني إلى دار الأدباء الكويتيين، فعرفت بفضله عددًا منهم لا يُنسى بحال من الأحوال. 
ولم يكن العتيبي وحده، فقد عرفت بعده العزيز خلدون النقيب - عليه رحمة الله - الذي زاملتُه في الجامعة، وظلت علاقتي به متواصلة إلى أن رحل عن دنيانا في عام 2011، بعد أن ترك لنا من المؤلفات والأبحاث ما يشهد بعلوّ قدره ومكانته التي جاوزت الكويت لتشمل العالم كله قبل أن يرحل عن دنيانا. فقد كان النقيب رائدًا عربيًّا في علم الاجتماع، وقد نال درجة الماجستير من جامعة «تكساس أوستن» في الولايات المتحدة، وأكملها بدراسة «الأنماط المتغيرة للتدرج الاجتماعي في الشرق الأدنى»، وقد عمل عميدًا لكلية الآداب بجامعة الكويت أكثر من مرة، واختارني عميدًا مساعدًا للأبحاث مع الزميلين العزيزين عبدالمالك مرتاض ونورية الرومي.
وكانت الصديقة العزيزة سهام الفريح قد تولَّت رئاسة القسم بعد عبدالله العتيبى. وقد سعدتُ بزمالة سليمان الشطي، الذي كان قريبًا إلى نفسي في الاتجاهات الأدبية. وقد فرحتُ بكتابه «الرمز والرمزية في أدب نجيب محفوظ»، وكان ناقدًا للأدب يتمتع بحسّ جمالي وإبداعي.

الرومي والإبراهيم
لن أنسى طبعًا صداقتي وزمالتي للدكتورة نورية الرومي، التي لاتزال باحثة وناقدة أدبية ابتداء من أطروحتها لدرجة الدكتوراه من جامعة عين شمس بموضوع: «الحركة الشعرية في الخليج العربى». أما الذكرى العطرة التي لن أنساها من زملاء وزميلات قسم اللغة العربية في جامعة الكويت، فهي للمرحومة نوال الإبراهيم التي درست النقد العربي القديم، وحصلت على درجة الدكتوراه فيه من جامعة لندن، وعادت إلى جامعة الكويت لتكون زميلة لنا، وكانت نِعْمَتِ الزميلة والأخت.
وقد دمعت عيني حين بلغني خبر وفاتها، فدعوت لها بالرحمة، وتمنيت أن تكون في جنات النعيم هي ومن رحل قبلها أو بعدها من زملائي الأعزاء في جامعة الكويت.
والحق أن إعارتي إلى جامعة الكويت كانت سبيلًا إلى تعميق صلتي بمجلة العربي من خلال رؤساء تحريرها الذين كانوا أصدقاء وزملاء لي في السنوات الخمس التي قضيتها في جامعة الكويت أستاذًا مُعارًا وعميدًا مساعدًا للأبحاث والشؤون العلمية. هذه الأسماء تتداعى على ذهني الآن وأنا أتذكرُ السنوات الجميلة التي قضيتُها في الكويت مع أُسرتي، ونعمتُ فيها بكرم أبنائها وصحبة الكبار من كُتّابها، وزمالة وصداقة المتميزين من أساتذة الجامعة الكويتية في ذلك الوقت.
وكان منهم المرحوم عبدالرحمن بدوي، والمرحوم فؤاد زكريا، في قسم الفلسفة، والمرحوم أحمد أبوزيد، في قسم الاجتماع، وقد عمل رئيسًا لتحرير مجلة عالم الفكر، في موازاة فؤاد زكريا، الذي عمل مشرفًا على الكتاب الشهري «عالَم المعرفة»، الذي لايزال أفضل كتاب شهري يصدر في العالم العربي كله. وبالطبع لم تنقطع صلتي بزملاء الجامعة، وكان منهم الصديق العزيز محمد الرميحي، الذي عمل رئيسًا لتحرير «العربي» لمدة سبعة عشر عامًا، وقد عَرفتُه في جامعة الكويت وخارجها، وهو الذي دعاني إلى أن أكون واحدًا من الكُتّاب الثابتين لمجلة العربي، وقد وعدتهُ بأن أفعل ذلك بعد انتهاء إعارتي لجامعة الكويت، فقد كنتُ حريصًا على ألا أكتب في صحف الكويت أو مجلاتها طوال السنوات الخمس التي قضيتُها أستاذًا مُعارًا في جامعة الكويت.

بين الجامعة والصحافة
كنتُ أتصور أنه يكفيني التفرغ لعملي الجامعي وتأليف كتبي أو ترجمة ما أريد بعيدًا عن ضوضاء الصحافة ومشكلاتها، ويبدو أنني كنتُ واهمًا في ذلك لأسباب لا أدريها إلى الآن. فقد جرَّتني إليها الصحافة فيما بعد، وأصبحتُ كاتبًا معروفًا بمقالاته الصحفية بعد أن كنتُ معروفًا بدراساتي الأكاديمية. 
ويبدو أن الإنسان يتغير تفكيره مع تقدم السن وتراكم الخبرات النظرية والعملية. وبعد أن عُدتُ إلى القاهرة وفيتُ بوعدي لصديقي محمد الرميحي, مد الله في عمره ومنحه الصحة والسعادة, وبدأتُ الكتابة لـمجلة العربي، إلى أن جاء د. سليمان العسكري، الذي لا أزالُ مرتبطًا به صديقًا حميمًا وأخًا عزيزًا، فواصلتُ الكتابة في «العربي» إلى أن تَركتها بعد أن ترك د.العسكري المجلة وتغيَّرت أحوالها، ولم تعد كما كانت، فتوقفتُ عن الكتابة فيها إلى أن جاء رئيس التحرير الحالي، د. عادل العبدالجادر، وهو من الأجيال التي أعقبت أجيال المؤسسين للمجلة، والذين أضافوا إليها بعد مؤسسها الأول المرحوم د. أحمد زكي، الذي كان يسعى إلى توسيع دائرة الثقافة العلمية بين العرب، مؤمنًا أن التفوق العلمي واللحاق برَكْبِه هو السبيل الوحيد للتقدم، جنبًا إلى جنب وحدة العرب، وتبادل الأقطار العربية الخبرة والمعرفة. وقد أقنعني د.عادل العبدالجادر بالعودة إلى كتابة مقالي الشهري بالمجلة تحت عنوان «أوراق أدبية»، وهكذا عدتُ إلى مواصلة الكتابة في المجلة التي أحببتُها منذ صدورها، ولا أزال كاتبًا فيها منذ عَهدَي الزميلين العزيزين: الرميحي والعسكري.

أربعينية «العربي»
الحق أن المجلة قد شهدت الذروة في صعودها الكمِّي والكيفِي في عهد سليمان العسكري، ولا أزالُ أذكرُ أن الدكتور محمد الرميحي هو أول من دعانا إلى أن نحتفل بمرور أربعين عامًا على استمرارها.
كما أذكر أن العسكري قد واظب على عقد مؤتمر سنوي يجمع بين كُتّاب «العربي» وغيرهم من المثقفين العرب، ليناقشوا موضوعًا مهمًّا من موضوعات الثقافة العربية، وكم أرجو أن تعاود «العربي» سُنَّتها هذه، فقد كانت مؤتمراتها الثقافية بالغة الإفادة للحوار بين العقول العربية التي تعوَّدت على اللقاء والحوار في مدينة الكويت كل عام. ولا أزالُ أذكرُ الاحتفال بصدور العدد الذي أكملت به «العربي» خمسين عامًا من صدورها، في ديسمبر 2007. وقد اصطحب د. العسكري بعضًا من المشاركين للقاء مع سمو أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، بوصفه مؤسس المجلة؛ لكي نشرفُ بلقائه، ويستعيد أكبرنا سنًّا من الذين رحلوا عنا، ذكريات الإنشاء. 
ولقد أكملَ الله نعمه التي أنعم بها عليّ، فمدَّ في عمري لكي أُسهم في عيد ميلاد «العربي» الستين، بعد أن أصبحتُ كاتبًا كبيرًا في السن، فقد تجاوزتُ عامِي الرابع والسبعين، فلم يبقَ لي سوى تحية «العربي» والترحّم على كُتّابها الذين رحلوا عن عالَمنا، وكان آخرهم فاروق شوشة الذي توفي في الرابع عشر من أكتوبر 2016، وكان عضوًا في مجمع اللغة العربية بالقاهرة، وكاتبًا عظيمًا يبعثُ في ذاكرة قراء «العربي» عِطر الشعر العربي ولغته الجميلة في مقالات متتابعة يختار فيها أجمل القصائد العربية، ليثري وجدان القراء باختياراته من «لغتنا الجميلة».

موسوعية «العربي»
كما أدعو بالرحمة لكل كُتّاب «العربي» الذين رحلوا عنا بعد أن علَّمونا الكثير، وبعد أن أوصلوا هذه المجلة إلى أن تصبحَ المجلة الأولى على مستوى الوطن العربي كله. والحق أننا لو تصفَّحنا أعداد مجلة العربي على امتداد ستين عامًا هي عمرها الجميل، وجدنا أن صفحات المجلة - على امتداد هذا العمر- هي موسوعة ممتدة أسهم فيها كل الكُتّاب العرب إلى جانب زملائهم من أدباء الكويت وأديباتها. 
ولا أظن أنني لاحظت يومًا أي نوع من التمييز بين الكُتّاب الكويتيين وغيرهم من الكُتّاب، فقد كانت المجلة كما كانت هيئاتها التحريرية واعية كل الوعي بالدلالة القومية لاسم المجلة، وهي أنها مِلك للعرب جميعًا من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب، ومن الشمال إلى الجنوب، وحتى خارج العالم العربي على امتداد الكرة الأرضية، فهي موجَّهة دائمًا إلى القارئ العربي في كل مكان على امتداد المعمورة. 
والحق أن المجلة من هذه الناحية هي ذاكرة للثقافة العربية الحديثة والمعاصرة، فقد ضمت كُتّابًا من جيل طه حسين وأحمد زكي وعباس العقاد وغيرهم، كما ضمت كُتّابًا من جيل الخمسينيات الذي يشمل زكريا إبراهيم وصلاح عبدالصبور وأحمد حجازي وغيرهم.

مقالات وذكريات
لا أزال أذكر أنني قرأت على صفحات «العربي» ذكريات عبدالصبور التي كتبها بعنوان «على مشارف الخمسين»، فضلًا عن العديد من قصائده التي نشرها في المجلة. ولم يكن صلاح يختلف في ذلك عن حجازي أو غيره من كل شعراء العربية الذين عاصروه.
لا أظن أنني أنسى أيضًا مقالات المرحوم زكريا إبراهيم، التي كان يكتبها عن المشكلات الفلسفية التي كان يبسّطها تبسيطًا سلسًا رائعًا، كما لا أنسى كذلك مقالات المرحوم أحمد أبو زيد، الذي عرفته في الكويت، وظللت سعيدًا بمعرفته إلى أن توفاه الله في عام 2013، في الإسكندرية بعد أن نال أعلى جوائز الدولة المصرية، وهي جائزة النيل عام 2011.
وقد أصدر له كتاب «العربي» الذي أسسه الصديق العزيز سليمان العسكري، كتابَي: «المعرفة وصناعة المستقبل» (2005)، و«مستقبليات» (2010) - رحمه الله - فقد كان واحدًا من كُتّاب «العربي» البارزين الذين تعلَّم جيلي منهم.
والحق أن ذاكرتي لا تستطيع أن تعدد الأسماء المصرية والعربية للأجيال السابقة على جيلي، فالأمر يحتاج إلى مراجعة كافية. 

إشعاع كوني
ليت مجلة العربي تصلح وتجدد وتطور من وضع أرشيفها على الشبكة الإلكترونية؛ كي يستطيع كل قارئ على امتداد الوطن العربي أن يعود إلى موقعها ويرى رأي العين تعاقب أعدادها على امتداد ستين عامًا، فيدرك كم تدين الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة كلها لهذه المجلة التي يقرأها العرب جميعًا في كل مكان تصل إليه اللغة العربية وتشيع فيه.
وهو الأمر الذي يؤكد أن هذه المجلة ستظل بعون الله بمنزلة الإشعاع الثقافي الكوني الذي يبسط حضوره على امتداد الكرة الأرضية، ولا يصل بينها على مستوى المعرفة والإبداع العربي فحسب، بل يصل بينها على مستوى التعريف الجيو ثقافي من خلال الاستطلاعات المصوَّرة التي يقوم بها محررو المجلة على امتداد الكوكب الأرضي كله، ابتداء من العالم العربي وليس انتهاء بأقطار آسيا وأوربا وإفريقيا على امتداد الأعداد والسنوات الطويلة التي وصلت إليها هذه المجلة العزيزة إلى نفسي وعقلي. 
ولذلك لم يكن من المستغرب أن تصل «العربي» إلى معدلات توزيع لم تحصل عليها أي مجلة عربية من نوعها، بما في ذلك «الهلال» التي نظر إليها د. أحمد زكي، وهو يخطط لمجلة العربي وأبوابها، وقد جاوزت «الهلال» مئة عام من صدورها بسنوات عديدة، لكن معدلات توزيعها لا تُقارَن بمعدلات توزيع «العربي» التي تتفق معها في هدف الاستنارة، وذلك لأسباب متعددة منها: الدعم المالي الذي تستند إليه «العربي» فيجعل من ثمنها رمزيًّا جدًّا بالقياس إلى تكلفتها الفعلية. وهذه خدمة ثقافية تؤكد بها الكويت حضورها الثقافي الذي يجعل من المجلة مجلة كل العرب الموجهة إلى كل أقطار العرب، وإلى قراء العرب في أي مكان على وجه الكرة الأرضية.
وأضيفُ إلى ذلك تنوع المحتوى الفكري والعلمي، فضلًا عن تنوع الإبداع الفني والأدبي، وأخيرًا الإخراج المتميز، وذلك إلى الدرجة التي تجعل من صفحات أعداد «العربي» المتعاقبة معرضًا مُتصلًا، قائمًا على التنوع الخلّاق من فنَّي التصوير الفوتوغرافي، والرسم على السواء.

مستوى متميز
الحق أن المجلة قد وصلت، على مستوى الإخراج الفني وإصدار المطبوعات الخاصة، إلى مستوى متميز في عهد الصديق العزيز د. سليمان العسكري، الذي أدعو الله له بالصحة والعافية، فقد أصبح من الشيوخ مثلي، لكنه لا يزال يمتلك القدرة على الكتابة والمعرفة بروح وثّابة، شأنه في ذلك شأن زميله الذي سبقه إلى رئاسة تحرير المجلة، د. الرميحي، الذي أتابع مقالاته في الصحف والمجلات العربية البارزة. 
ولذلك فإنني لا أتردد في أن أدعو دولة الكويت الشقيقة ألا تبخل بدعمها المالي على المجلة في هذه السنوات التي يحتاج فيها العالم العربي كله إلى حماسة الاستنارة وشعلتها المضيئة التي لا بد أن تزداد إشعاعًا ونورًا وتأثيرا واستنارة في مواجهة تيارات التخلف والإرهاب التي أصبحت وصمة عار في جبين الثقافة العربية الإسلامية الحديثة والمعاصرة، فمجلة العربي هي فخر للكويت، كما هي فخر لكل كُتّابها على امتداد العالم العربي كله، فضلاً عن أنها فخر للكويت حكومة وشعبًا وثقافة، ويكفي أن أؤكد أن مؤسسها هو سمو أمير الكويت الحالي، الذي لا أظنه يبخل بالدعم المالي والمعنوي للمجلة التي أنشأها في شبابه عندما كان وزيرًا للإعلام والثقافة، فأنشأ بها منارًا للثقافة والإبداع والعلم لا يزال يشع بأنوار المعرفة الإنسانية التي ترتقي بالإنسان وتتقدم بالإبداع في كل بلد عربي تحل فيه «العربي» أو يستقبلها بالفرحة وشكر الكويت منشأً، قبل شكر الكويت حكومة وشعبًا. 

بين الأسى والأمل
أعترفُ، في النهاية، أنني عندما ذهبتُ إلى احتفال «العربي» بعيدها الذهبي الذي أكملت به الخمسين عامًا من صدورها، شعرتُ بشيء قليلٍ من الأسى، وأشياء كثيرة من الفرح والأمل الواعد؛ أما الأسى القليل؛ فلمُضيّ نصف قرن من عمري بسرعة، سرقت إحساسي بتعاقب الزمن المتسارع الإيقاع، الزمن الذي ترك أثره على الرأس الذي اشتعل شيبًا، والذي سرق منِّي أحب الناس إليَّ، والفرح والأمل الواعد لأن «العربي» التي صحبتُها منذ عددها الأول تواصل تقدمها الواعد. 
وقد كتبتُ هذا الكلام في سنوات رئيس تحريرها د. العسكري الذي لم يدَّخر وسعًا في الإضافة إلى سابقيه والتميز عنهم. وهأنذا أكرر الكلام نفسه في زمن رئاسة تحرير د. عادل العبدالجادر، وكل ما أرجوه منه أن يضيفَ إلى سابقيه، ما يدفعنا إلى المزيد الواعد من تحقيق الأحلام التي لم تحققها «العربي» بعد، وهي ماضية إلى مستقبلها بعزمٍ لا يُفقِدها الوعي بإنجاز الماضي، ولا الوعي بضرورة الإضافة في مدى المستقبل الواعد بتحقيق الأحلام القومية الخلاقة. 
وهأنذا عندما أكتبُ احتفالًا بالعام الستين لمجلة العربي، أشعرُ بالعديد من ذكريات القارئ المفتون بمجلة العربي، ثم الأستاذ الذي لا يزالُ يسهمُ بالكتابة، ثم الشيخ الذي أصبح بمنزلة الأب لعددٍ غير قليلٍ من كُتّاب المجلة التي أصبحتُ أكبر منها عمرًا، وأرجو أن يطولَ عمرها إلى ما تحقق به أحلام كل رؤساء تحريرها منذ د. أحمد زكي إلى زمن د. عادل العبدالجادر.

دعاء ورجاء
لن أنسى أن أدعو بطول العمر وتمام العافية للأمير الشاب الذي أشرف على إنشاء «العربي» سنة 1958، وأعني بذلك سمو الأمير الحالي الذي أصبح حاكمًا لدولة الكويت، ترعاه قلوبنا بالدعاء وبالصحة والنجاح وطول العمر، والمضي في العمل على تأسيس مستقبل واعد لمجلتنا العزيزة.
وكُلِّي ثقة بأن «العربي» ستمضي في طريقها، وستحتفلُ بعيد ميلادها الخامس والسبعين، ثم عيد ميلادها المئة الذي أرجو أن يكون في زمنٍ يخلو من اللطخ السوداء التي لا تزال تُعكِّر زمننا، فيأتي الاحتفال القادم لـ «العربي»، وقد تحرر الوطن العربي كله من كوابيس التخلف المقترن بالتعصب وانتشار الإرهاب الديني المُسلَّح الذي أصبح كالوباء في زماننا.
وهو الوباء الذي أرجو أن يتخلصَ منه ويقضي عليه الزمن الآتي بالأحلام على كفَّيهِ، مُحرِّرًا الأمة العربية كلها من كل ما يشدها إلى نقيض أحلامها، فتنتصر على مشكلاتها الداخلية، ساعية إلى مستقبل واعد، أكادُ أرى لوامعه تطل من وراء الغيم، مُحمَّلة بكل ما حلمت به أُمَّتنا العربية التي دفعت بدولة الكويت منذ ستين عامًا إلى أن تنشرَ العدد الأول من «العربي» التي لا تزالُ مرآة ووعدًا خلّاقًا لكل قارئٍ عربي، بل لكل كاتبٍ عربي على امتداد المعمورةِ ■