خوسيه ليما: رواية باراديسّـو... المعنى للقارئ لا للمؤلف

خوسيه ليما:  رواية باراديسّـو... المعنى للقارئ لا للمؤلف

في‭ ‬5‭ ‬أغسطس‭ ‬1957‭ ‬بعث‭ ‬خورخي‭ ‬لويس‭ ‬بورخيس،‭ ‬برسالة‭ ‬إلى‭ ‬الروائي‭ ‬الكوبي‭ ‬خوسيه‭ ‬ليثاما‭ ‬ليما،‭ ‬يُخبره‭ ‬فيها‭ ‬باقترابه‭ ‬الوشيك‭ ‬من‭ ‬فهم‭ ‬رواية‭ ‬باراديسّو‭ ‬رغم‭ ‬صعوبتها‭ ‬وتعقيدها‭. ‬تكرّر‭ ‬الأمر‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬رسالة‭ ‬كتبها‭ ‬خوليو‭ ‬كورتاثار‭  ‬إلى‭ ‬ليما‭ ‬عن‭ ‬الرواية‭ ‬ذاتها،‭ ‬وقال‭ ‬إنّه‭ ‬يشعر‭ ‬بعد‭ ‬قراءة‭ ‬أجزاء‭ ‬من‭ ‬الرواية‭ ‬أنها‭ ‬أشبه‭ ‬بمذكرات‭ ‬‮«‬أبي‭ ‬الهول‮»‬‭ - ‬إشارةً‭ ‬إلى‭ ‬الغموض‭ ‬البالغ‭ -‬،‭ ‬وحذّر‭ ‬من‭ ‬احتمالية‭ ‬ألا‭ ‬يفهم‭ ‬القارئ‭ ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬على‭ ‬الإطلاق‭. ‬نتحدّث‭ ‬هنا‭ ‬عن‭ ‬بورخيس‭ ‬سلطان‭ ‬جزيرة‭ ‬المتاهات،‭ ‬وخوليو‭ ‬كورتاثار،‭ ‬مؤلّف‭ ‬الرواية‭ ‬الصعبة‭ ‬‮«‬لعبة‭ ‬الحجلة‮»‬،‭ ‬فما‭ ‬بال‭ ‬القارئ‭ ‬العادي‭ ‬لرواية‭ ‬باراديسّو؟

‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬قلّة‭ ‬أعماله‭ ‬الأدبية‭ ‬وعدم‭ ‬ذيوع‭ ‬صيته،‭ ‬مُقارنةً‭ ‬بنظرائه‭ ‬من‭ ‬كبار‭ ‬أدباء‭ ‬أمريكا‭ ‬اللاتينية،‭ ‬فإنَّ‭ ‬النقاد‭ ‬يعتبرون‭ ‬الأديب‭ ‬الكوبي‭ ‬خوسيه‭ ‬ليثاما‭ ‬ليما‭ (‬1910‭-‬1976‭)‬،‭ ‬واحدًا‭ ‬من‭ ‬أعظم‭ ‬كتاب‭ ‬الشعر‭ ‬والنثر‭ ‬في‭ ‬أمريكا‭ ‬اللاتينية‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬وأكثرهم‭ ‬تأثيرًا‭ ‬على‭ ‬مسار‭ ‬الواقعية‭ ‬السحرية‭ ‬في‭ ‬أدب‭ ‬أمريكا‭ ‬اللاتينية‭ ‬المعاصر‭.‬

وُلد‭ ‬ليما‭ ‬لأب‭ ‬كان‭ ‬يعمل‭ ‬ضابطًا‭ ‬بالجيش،‭ ‬وتوفّي‭ ‬حين‭ ‬كان‭ ‬ليما‭ ‬في‭ ‬التاسعة‭ ‬من‭ ‬عمره،‭ ‬مما‭ ‬عمّقَ‭ ‬شعوره‭ ‬بالوحدة،‭ ‬ثمّ‭ ‬ضاعف‭ ‬هذا‭ ‬الشعور‭ ‬إصابة‭ ‬ليما‭ ‬بالربو‭ ‬المُزمن‭ (‬مثله‭ ‬مثل‭ ‬سلفه‭ ‬مارسيل‭ ‬بروست‭)‬،‭ ‬مما‭ ‬دفعه‭ ‬إلى‭ ‬لزوم‭ ‬المنزل‭ ‬والانغماس‭ ‬في‭ ‬القراءات‭ ‬الطويلة‭ ‬المعمّقة،‭ ‬فبدأ‭ ‬في‭ ‬قراءة‭ ‬‮«‬الكيخوته‮»‬‭ ‬لسيرفانتس،‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬سنّ‭ ‬التاسعة‭ ‬وأكملها‭ ‬ببروست‭ ‬وكافكا‭ ‬وجويس‭. ‬لم‭ ‬يبرحَ‭ ‬ليما‭ ‬وطنه‭ ‬كوبا‭ ‬إلا‭ ‬لفترات‭ ‬قصيرة‭ ‬في‭ ‬رحلات‭ ‬إلى‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬والمكسيك‭ ‬وجامايكا‭. ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬الثلاثينيات،‭ ‬بدأت‭ ‬فترة‭ ‬التوّهج‭ ‬الإبداعي‭ ‬لدى‭ ‬ليما،‭ ‬حيث‭ ‬كتب‭ ‬عددًا‭ ‬من‭ ‬القصص‭ ‬القصيرة‭ ‬ذات‭ ‬الطابع‭ ‬الحُلْمي‭ ‬السريالي،‭ ‬يسيطر‭ ‬عليها‭ ‬الولع‭ ‬الغامض‭ ‬بالأمطار‭ ‬والموج‭ ‬سيطرةً‭ ‬لافتة،‭ ‬ولم‭ ‬يُترجم‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬قصصه‭ ‬إلى‭ ‬العربية،‭ ‬حيث‭ ‬تُرجمت‭ ‬قصةٌ‭ ‬واحدة‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬الهاربون‮»‬،‭ ‬نشرها‭ ‬المترجم‭ ‬اللبناني‭ ‬عيسى‭ ‬مخلوف‭ ‬في‭ ‬مجموعة‭ ‬صدرت‭ ‬عن‭ ‬سلسلة‭ ‬‮«‬ذاكرة‭ ‬الشعوب‮»‬‭. ‬يـعـدّ‭ ‬ليما‭ ‬نفسه‭ ‬شاعرًا‭ ‬بالأساس،‭ ‬وقال‭ ‬إنّه‭ ‬لم‭ ‬يرَ‭ ‬نفسه‭ ‬سوى‭ ‬شاعر‭ ‬كتب‭ ‬قصيدةً‭ ‬تحوّلت‭ ‬إلى‭ ‬رواية،‭ ‬وبالتالي‭ ‬يُمكن‭ ‬أن‭ ‬نعدّ‭ ‬رواية‭ ‬باراديسو‭ ‬قصيدةً‭ ‬نثرية‭ ‬طويلة،‭ ‬ذات‭ ‬أسلوب‭ ‬‮«‬باروكيّ‮»‬‭ ‬بامتياز‭. ‬ولم‭ ‬يترك‭ ‬سوى‭ ‬روايتيْن‭ ‬ضخمتيْن،‭ ‬هما‭ ‬الفردوس‭ (‬1966‭) ‬ورواية‭ ‬أوبيانو‭ ‬لوكاريو‭ (‬1977‭)‬،‭ ‬والتي‭ ‬ينظر‭ ‬إليها‭ ‬كجزء‭ ‬ثانٍ‭ ‬من‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬الفردوس‮»‬،‭ ‬نُشرت‭ ‬في‭ ‬المكسيك‭ ‬بعد‭ ‬وفاته‭. ‬

يُقال‭ ‬إن‭ ‬من‭ ‬السذاجة‭ ‬بمكان‭ ‬أن‭ ‬يبدأ‭ ‬المرء‭ ‬حديثه‭ ‬عن‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬باراديسّو‮»‬‭ ‬بالعبارة‭ ‬المكرّرة‭: ‬‮«‬تدور‭ ‬أحداث‭ ‬الرواية‭ ‬عن‭...‬‮»‬‭.‬

صحيحٌ‭ ‬أنَّ‭ ‬ليما‭ ‬اتكأ‭ ‬على‭ ‬سنوات‭ ‬طفولته‭ ‬المعتلّة‭ ‬وفقدانه‭ ‬المبكّر‭ ‬لأبيه‭ ‬ومعشوقه‭ ‬الأول‭ ‬وطنه‭ ‬‮«‬كوبا‮»‬،‭ ‬متخذًا‭ ‬إياها‭ ‬نقاط‭ ‬ارتكاز،‭ ‬يشيّد‭ ‬فوقها‭ ‬عالمه‭ ‬الروائي،‭ ‬إلا‭ ‬أنّ‭ ‬القارئ‭ ‬كلما‭ ‬تقدّمَ‭ ‬في‭ ‬القراءة،‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬يكتشف‭ ‬أنَّ‭ ‬الزمام‭ ‬يفلتُ‭ ‬من‭ ‬يديه‭ ‬تدريجيًا،‭ ‬فـيـتيه‭ ‬في‭ ‬أروقة‭ ‬عوالم‭ ‬مُعتمة‭. ‬

في‭ ‬هذه‭ ‬الرواية،‭ ‬تحتل‭ ‬القصّة‭ ‬مرتبةً‭ ‬ثانويةً‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬قورنَت‭ ‬بلغة‭ ‬السرد‭ ‬الشعرية‭. ‬لا‭ ‬يختلف‭ ‬ناقدٌ‭ ‬ولا‭ ‬قارئ‭ ‬على‭ ‬حقيقة‭ ‬أنَّ‭ ‬ليثاما‭ ‬ليما‭ ‬كان‭ ‬يستعرض‭ ‬عضلاته‭ ‬اللغوية‭ ‬والسردية‭ ‬والمعرفية‭ ‬الموسوعية‭ ‬دونما‭ ‬مبالاة‭ ‬بالقارئ‭ / ‬الناقد‭. ‬فما‭ ‬كان‭ ‬يُعني‭ ‬ليما‭ ‬في‭ ‬المقام‭ ‬الأولّ‭ ‬هو‭ ‬شعرية‭ ‬السرد‭ ‬وهيمنة‭ ‬الخيال‭ ‬في‭ ‬محاولة‭ ‬لاستعادة‭ ‬فردوسه‭ ‬المفقودة،‭ ‬أي‭ ‬سنوات‭ ‬الطفولة‭ ‬والصبا‭ ‬ووطنه‭ ‬‮«‬كوبا‮»‬،‭ ‬استعادةً‭ ‬قوامها‭ ‬الأساطير‭. ‬وسيّان‭ ‬إن‭ ‬أتى‭ ‬المعنى‭ ‬أو‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يأت‭ ‬أبدًا‭. ‬

بالمفهوم‭ ‬المدرسي‭ ‬الكلاسيكي،‭ ‬يُمكن‭ ‬وصف‭ ‬الرواية‭ ‬بأنّها‭ ‬من‭ ‬روايات‭ ‬الـBildungsroman،‭ ‬تلك‭ ‬الروايات‭ ‬التي‭ ‬ترصدُ‭ ‬تطوّر‭ ‬شخصيةً‭ ‬البطل‭ ‬ونموّها‭ ‬منذ‭ ‬سنوات‭ ‬الطفولة‭ ‬المبكّرة‭ ‬حتى‭ ‬مرحلة‭ ‬الشباب‭ ‬وأطوار‭ ‬اكتشاف‭ ‬الصداقة‭ ‬واللّذات‭ ‬الحسّية،‭ ‬وصولًا‭ ‬إلى‭ ‬مرحلة‭ ‬النضج‭ ‬واكتشاف‭ ‬الذات‭ ‬الأدبية‭ ‬والانجذاب‭ ‬إلى‭ ‬الشعر،‭ ‬إلا‭ ‬أنّها،‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬ذاته،‭ ‬تخرق‭ ‬سفينة‭ ‬الجنس‭ ‬الأدبي‭ ‬الذي‭ ‬تنتمي‭ ‬إليه،‭ ‬فيغيب‭ ‬البناء‭ ‬السردي‭ ‬التصاعدي‭ ‬المُحـكَـم،‭ ‬وتختفي‭ ‬الحبكة،‭ ‬لتسبحَ‭ ‬الرواية‭ ‬في‭ ‬عوالم‭ ‬حُـلْمية‭ ‬سريالية،‭ ‬تفتقد‭ ‬الترابط‭ ‬المنطقي‭ ‬للأحداث،‭ ‬ولا‭ ‬تهتمُّ‭ ‬بالمسار‭ ‬الزمني‭ ‬ولا‭ ‬بالحبكة‭ ‬الدرامية،‭ ‬بقدر‭ ‬اهتمامها‭ ‬بمحاولة‭ ‬استعادة‭ ‬الفرودس‭ ‬المفقودة،‭ ‬وكأنَّ‭ ‬المؤلف‭ ‬لا‭ ‬يعنيه‭ ‬القارئ‭ ‬التقليدي‭ ‬المبتذل،‭ ‬الذي‭ ‬ينتظر‭ ‬هبوط‭ ‬المعنى‭ ‬من‭ ‬السماء‭ ‬وهو‭ ‬جالسٌ‭ ‬في‭ ‬مقعده،‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬يعنيه‭ ‬القارئ‭ ‬الذي‭ ‬يقفز‭ ‬محاولًا‭ ‬التقاط‭ ‬روح‭ ‬التجربة‭ ‬ليعيدَ‭ ‬تخيّلها،‭ ‬وليصنعَ‭ ‬المعنى‭ ‬بنفسه‭ ‬ولنفسه‭. ‬

بطل‭ ‬الرواية‭ ‬هو‭ ‬خوسيه‭ ‬ثيمي‭ (‬وتعني‭ ‬خوسيه‭ ‬هو‭ ‬أنا‭)‬،‭ ‬الذي‭ ‬يستعرض‭ ‬سنوات‭ ‬الطفولة‭ ‬مع‭ ‬أسرته‭ ‬في‭ ‬كوبا‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬كاسترو،‭ ‬حيث‭ ‬يأتي‭ ‬ذكر‭ ‬الثورة‭ ‬الكوبية‭ ‬ذكرًا‭ ‬هامشيًا‭ ‬في‭ ‬الأحداث‭. ‬ومع‭ ‬تقدّم‭ ‬الأحداث‭ ‬يتحوّل‭ ‬كل‭ ‬فصل‭ ‬من‭ ‬فصول‭ ‬الرواية‭ ‬إلى‭ ‬طقس‭ ‬شعائري‭ ‬ذي‭ ‬ملامح‭ ‬أسطورية،‭ ‬حيث‭ ‬يخلعُ‭ ‬ليثاما‭ ‬ليما‭ ‬على‭ ‬شخوص‭ ‬روايته،‭ ‬الذين‭ ‬هم‭ ‬في‭ ‬الأساس‭ ‬أفراد‭ ‬عائلته،‭ ‬أسماءً‭ ‬رمزية،‭ ‬ثمّ‭ ‬يلبسُ‭ ‬كلَّ‭ ‬شخصية‭ ‬قناعًا‭ ‬وراء‭ ‬الآخر،‭ ‬ينسجُ‭ ‬منهم‭ ‬وعنهم‭ ‬حكايةً‭ ‬وراء‭ ‬الأخرى،‭ ‬فتتحوّل‭ ‬الشخصيات‭/‬أفراد‭ ‬العائلة‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬المطاف‭ ‬إلى‭ ‬أنماطً‭ ‬بدائيةً‭ ‬أولية‭ ‬بالمعنى‭ ‬الذي‭ ‬أشار‭ ‬إليه‭ ‬كارل‭ ‬جوستاف‭ ‬يونج‭. ‬

يعيدُ‭ ‬المؤلّف‭ ‬سرد‭ ‬مراحل‭ ‬تكوين‭ ‬بطله‭ ‬خوسيه‭ ‬ثيمي‭ (‬خوسيه‭ ‬ليما‭) ‬في‭ ‬مُحيطه‭ ‬العائلي‭ ‬وتأثره‭ ‬بفقد‭ ‬والده‭ ‬في‭ ‬سنّ‭ ‬مُبكّرة،‭ ‬ثمّ‭ ‬في‭ ‬سنوات‭ ‬التلمذة‭ ‬ومحاولات‭ ‬كتابة‭ ‬الشعر‭ (‬طالما‭ ‬وصف‭ ‬خوسيه‭ ‬ليثاما‭ ‬ليما‭ ‬نفسَه‭ ‬بأنّه‭ ‬شاعرٌ‭ ‬في‭ ‬الأساس‭).‬

يدور‭ ‬محور‭ ‬الرواية‭ ‬فوقَ‭ ‬عجلة‭ ‬اسمها‭ ‬ثلاثية‭ ‬الميلاد،‭ ‬الموت،‭ ‬والبعث،‭ ‬وترتدي‭ ‬شخوصها‭ ‬أثوابَ‭ ‬الأبطال‭ ‬الأسطوريين‭ ‬في‭ ‬الميثولوجيا‭ ‬الإغريقية،‭ ‬فتتراوح‭ ‬الشخصيات‭ ‬بين‭ ‬الأمّ‭ ‬العظيمة‭ (‬ربّة‭ ‬الآلهة‭ = ‬الجدَّة‭)‬،‭ ‬الابن‭ ‬العاشق‭ ‬الباحث‭ ‬عن‭ ‬النشوة‭ ‬والابتهاج‭ ‬ديونيسيس،‭ ‬البطل‭ ‬المُرتحل‭ ‬يوليسيس،‭ ‬الشاعر‭ ‬الفنّان‭ ‬أورفيوس‭... ‬إلخ،‭ ‬مستدعيًا‭ ‬تفاصيل‭ ‬حياته‭ ‬الشخصية‭ ‬لرسم‭ ‬ملامح‭ ‬كل‭ ‬شخصية‭ ‬روائية،‭ ‬وهكذا‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬الرواية‭ ‬تتحول‭ ‬محطات‭ ‬حياته‭ ‬العائلية‭ ‬وعلاقته‭ ‬بأسرته‭ ‬إلى‭ ‬عـقـد‭ ‬مستدير‭ ‬ينتظم‭ ‬في‭ ‬حبّاته‭ ‬أبطال‭ ‬الأساطير‭ ‬وشخصيات‭ ‬الكتاب‭ ‬المقدّس،‭ ‬بل‭ ‬إنّه‭ ‬يستعير‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الفقرات‭ ‬رموزًا‭ ‬من‭ ‬البوذية،‭ ‬ويوظّفها‭ ‬داخل‭ ‬نصّه‭ ‬في‭ ‬محاولته‭ ‬كمؤلف،‭ ‬أو‭ ‬كبطل‭ ‬متخفِّ‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬تخطى‭ ‬الصعوبات‭ ‬والمشكلات‭ ‬التي‭ ‬يواجهها‭ ‬البطل‭ ‬في‭ ‬رحلته‭ ‬ونمّوه‭. ‬رواية‭ ‬‮«‬باراديسّو‮»‬‭ ‬رواية‭ ‬مُعقدة‭ ‬ومُـرهـقـة،‭ ‬تعتمد‭ ‬على‭ ‬الصور‭ ‬الشعرية‭ ‬والبلاغية‭ ‬في‭ ‬سرد‭ ‬الأحداث،‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬اعتمادها‭ ‬على‭ ‬الخطاب‭ ‬المنطقي؛‭ ‬لا‭ ‬تبوح‭ ‬بأسرارها‭ ‬ورموزها‭ ‬من‭ ‬القراءة‭ ‬الأولى،‭ ‬وربما‭ ‬لا‭ ‬الثانية‭ ‬ولا‭ ‬الثالثة،‭ ‬إلا‭ ‬أنّها‭ ‬تهبُ‭ ‬نفسها‭ ‬للقارئ‭ ‬الصبور،‭ ‬الذي‭ ‬ينحّي‭ ‬المؤلّف‭ ‬جانبًا،‭ ‬ليقومَ‭ ‬بدوره،‭ ‬في‭ ‬تشييد‭ ‬عالم‭ ‬مواز‭ ‬لعالم‭ ‬الرواية،‭ ‬أن‭ ‬يتخيّل‭ ‬القارئ‭ ‬طفولةً‭ ‬أخرى‭.‬

 

‭ ‬هل‭ ‬يُمكن‭ ‬لقارئ‭ ‬أن‭ ‬يفهمَ‭ ‬‮«‬باراديسّو»؟

‭ ‬على‭ ‬موقع‭ ‬Goodreads‭ ‬يشبّه‭ ‬أحد‭ ‬قرّاء‭ ‬الرواية‭ ‬فهم‭ ‬حبكة‭ ‬‮«‬باراديسّو‮»‬،‭ ‬برجل‭ ‬يحاول‭ ‬إغواء‭ ‬امرأة،‭ ‬فيلاطفها‭ ‬بنعومة‭ ‬وصبر‭ ‬وطول‭ ‬بال،‭ ‬مُحاولًا‭ ‬إيقاعها‭ ‬في‭ ‬حبائله،‭ ‬فيفوزُ‭ ‬بقلبها‭ ‬إذا‭ ‬صبرَ،‭ ‬ويخسرها‭ ‬إذا‭ ‬يئسَ‭. ‬وعن‭ ‬الرواية‭ ‬نفسها،‭ ‬سئلَ‭ ‬الكاتب‭ ‬والشاعر‭ ‬الإيطالي‭ ‬كارلو‭ ‬إيملو‭ ‬جادّا‭ (‬1893‭-‬1973‭) ‬عن‭ ‬سبب‭ ‬هذا‭ ‬الأسلوب‭ ‬الباروكي‭ (‬نسبة‭ ‬إلى‭ ‬أسلوب‭ ‬فنّ‭ ‬الباروك‭ ‬الممتلئ‭ ‬حدّ‭ ‬التخمة‭ ‬بالزخارف‭)‬،‭ ‬فأجاب‭ ‬أنَّ‭ ‬العالم‭ ‬نفسه‭ ‬باروكي،‭ ‬غامض،‭ ‬متكلَّف‭ ‬ومعقّد،‭ ‬أفلا‭ ‬يكون‭ ‬الأدب‭ ‬الذي‭ ‬نكتبه‭ ‬عن‭ ‬العالم‭ ‬بالطريقة‭ ‬نفسها؟‭ ‬عبارات‭ ‬ليما‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬محمَّلة‭ ‬بإشارات‭ ‬لا‭ ‬تنتهي،‭ ‬إشارات‭ ‬دينية‭ ‬وميثولوجية‭ ‬وفلسفية‭ ‬وفنيّة‭ ‬عميقة،‭ ‬قد‭ ‬تبدو‭ ‬للوهلة‭ ‬الأولى‭ ‬بعيدة‭ ‬الصلة‭ ‬عن‭ ‬محور‭ ‬الرواية،‭ ‬إلا‭ ‬أنّها،‭ ‬في‭ ‬حقيقتها،‭ ‬جزءٌ‭ ‬مُكملّ‭ ‬للمعنى‭.‬

باراديسّو‭ ‬هي‭ ‬رواية‭ ‬المستحيل،‭ ‬والمستحيل‭ ‬هنا‭ ‬هو‭ ‬المعنى‭ ‬المفقود‭ ‬المراوغ،‭ ‬غير‭ ‬القابل‭ ‬للظهور،‭ ‬لا‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬قراءة‭ ‬النصّ،‭ ‬ولا‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬تأويله‭. 

هو‭ ‬المعنى‭ ‬الذي‭ ‬يخلقه‭ ‬كل‭ ‬قارئ‭ ‬بنفسه‭ ‬ولنفسه‭. ‬ولكن‭... ‬أين‭ ‬الفردوس‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬ذلك؟‭ ‬الفردوس‭ ‬هنا‭ - ‬حسبَ‭ ‬مفسّري‭ ‬خوسيه‭ ‬ليثاما‭ ‬ليما‭ - ‬هـي‭ ‬حُلْم‭ ‬يتلقفه‭ ‬القارئ‭ ‬بيديه،‭ ‬بعد‭ ‬سقوطه‭ ‬من‭ ‬عقل‭ ‬المؤلف،‭ ‬فيعيد‭ ‬القارئ‭ ‬حُلْـم‭ ‬الحُلْم‭ ‬بطريقته،‭ ‬والأشياء‭ ‬العظيمة‭ ‬غير‭ ‬قابلة‭ ‬لتأويل‭ ‬واحد،‭ ‬فليفسّرها‭ ‬كل‭ ‬مّنا‭ ‬كيفما‭ ‬يشاء‭. ‬ويبدو‭ ‬أنَّ‭ ‬قدَر‭ ‬كل‭ ‬أدب‭ ‬عظيم،‭ ‬بل‭ ‬وغاية‭ ‬كل‭ ‬فنّان‭ ‬حقيقي‭ ‬أن‭ ‬يتركَ‭ ‬بـضعةً‭ ‬من‭ ‬فردوسه‭ ‬المفقودة‭ ‬يومًا‭ ‬قبل‭ ‬مغادرة‭ ‬الحياة،‭ ‬أتحدّث‭ ‬عنها‭ ‬عن‭ ‬‮«‬يوليسيس‮»‬‭ ‬لـجويس،‭ ‬و«طائر‭ ‬الليل‭ ‬البذيء‮»‬‭ ‬لخوسيه‭ ‬دونوسّو،‭ ‬‮«‬البحيرة‮»‬‭ ‬لكاواباتا،‭ ‬و«القصر‮»‬‭ ‬لكافكا،‭ ‬وبالطبع‭ ‬‮«‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الزمن‭ ‬المفقود‮»‬‭ ‬لبروست‭. ‬رواية‭ ‬‮«‬باراديسّو‮»‬‭ ‬تنتمي‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬الأدب‭ ‬الذي‭ ‬يأتي‭ ‬فيه‭ ‬المؤلف‭ ‬بالكلمات،‭ ‬وبينما‭ ‬يأتي‭ ‬فيه‭ ‬القارئ‭ ‬بالمعنى‭ ‬إذا‭ ‬استعرنا‭ ‬تعبير‭ ‬أومبرتو‭ ‬إيكو■