خوسيه ليما: رواية باراديسّـو... المعنى للقارئ لا للمؤلف
في 5 أغسطس 1957 بعث خورخي لويس بورخيس، برسالة إلى الروائي الكوبي خوسيه ليثاما ليما، يُخبره فيها باقترابه الوشيك من فهم رواية باراديسّو رغم صعوبتها وتعقيدها. تكرّر الأمر نفسه في رسالة كتبها خوليو كورتاثار إلى ليما عن الرواية ذاتها، وقال إنّه يشعر بعد قراءة أجزاء من الرواية أنها أشبه بمذكرات «أبي الهول» - إشارةً إلى الغموض البالغ -، وحذّر من احتمالية ألا يفهم القارئ أي شيء على الإطلاق. نتحدّث هنا عن بورخيس سلطان جزيرة المتاهات، وخوليو كورتاثار، مؤلّف الرواية الصعبة «لعبة الحجلة»، فما بال القارئ العادي لرواية باراديسّو؟
بالرغم من قلّة أعماله الأدبية وعدم ذيوع صيته، مُقارنةً بنظرائه من كبار أدباء أمريكا اللاتينية، فإنَّ النقاد يعتبرون الأديب الكوبي خوسيه ليثاما ليما (1910-1976)، واحدًا من أعظم كتاب الشعر والنثر في أمريكا اللاتينية في القرن العشرين وأكثرهم تأثيرًا على مسار الواقعية السحرية في أدب أمريكا اللاتينية المعاصر.
وُلد ليما لأب كان يعمل ضابطًا بالجيش، وتوفّي حين كان ليما في التاسعة من عمره، مما عمّقَ شعوره بالوحدة، ثمّ ضاعف هذا الشعور إصابة ليما بالربو المُزمن (مثله مثل سلفه مارسيل بروست)، مما دفعه إلى لزوم المنزل والانغماس في القراءات الطويلة المعمّقة، فبدأ في قراءة «الكيخوته» لسيرفانتس، وهو في سنّ التاسعة وأكملها ببروست وكافكا وجويس. لم يبرحَ ليما وطنه كوبا إلا لفترات قصيرة في رحلات إلى الولايات المتحدة والمكسيك وجامايكا. في منتصف الثلاثينيات، بدأت فترة التوّهج الإبداعي لدى ليما، حيث كتب عددًا من القصص القصيرة ذات الطابع الحُلْمي السريالي، يسيطر عليها الولع الغامض بالأمطار والموج سيطرةً لافتة، ولم يُترجم الكثير من قصصه إلى العربية، حيث تُرجمت قصةٌ واحدة بعنوان «الهاربون»، نشرها المترجم اللبناني عيسى مخلوف في مجموعة صدرت عن سلسلة «ذاكرة الشعوب». يـعـدّ ليما نفسه شاعرًا بالأساس، وقال إنّه لم يرَ نفسه سوى شاعر كتب قصيدةً تحوّلت إلى رواية، وبالتالي يُمكن أن نعدّ رواية باراديسو قصيدةً نثرية طويلة، ذات أسلوب «باروكيّ» بامتياز. ولم يترك سوى روايتيْن ضخمتيْن، هما الفردوس (1966) ورواية أوبيانو لوكاريو (1977)، والتي ينظر إليها كجزء ثانٍ من رواية «الفردوس»، نُشرت في المكسيك بعد وفاته.
يُقال إن من السذاجة بمكان أن يبدأ المرء حديثه عن رواية «باراديسّو» بالعبارة المكرّرة: «تدور أحداث الرواية عن...».
صحيحٌ أنَّ ليما اتكأ على سنوات طفولته المعتلّة وفقدانه المبكّر لأبيه ومعشوقه الأول وطنه «كوبا»، متخذًا إياها نقاط ارتكاز، يشيّد فوقها عالمه الروائي، إلا أنّ القارئ كلما تقدّمَ في القراءة، سرعان ما يكتشف أنَّ الزمام يفلتُ من يديه تدريجيًا، فـيـتيه في أروقة عوالم مُعتمة.
في هذه الرواية، تحتل القصّة مرتبةً ثانويةً إذا ما قورنَت بلغة السرد الشعرية. لا يختلف ناقدٌ ولا قارئ على حقيقة أنَّ ليثاما ليما كان يستعرض عضلاته اللغوية والسردية والمعرفية الموسوعية دونما مبالاة بالقارئ / الناقد. فما كان يُعني ليما في المقام الأولّ هو شعرية السرد وهيمنة الخيال في محاولة لاستعادة فردوسه المفقودة، أي سنوات الطفولة والصبا ووطنه «كوبا»، استعادةً قوامها الأساطير. وسيّان إن أتى المعنى أو إن لم يأت أبدًا.
بالمفهوم المدرسي الكلاسيكي، يُمكن وصف الرواية بأنّها من روايات الـBildungsroman، تلك الروايات التي ترصدُ تطوّر شخصيةً البطل ونموّها منذ سنوات الطفولة المبكّرة حتى مرحلة الشباب وأطوار اكتشاف الصداقة واللّذات الحسّية، وصولًا إلى مرحلة النضج واكتشاف الذات الأدبية والانجذاب إلى الشعر، إلا أنّها، في الوقت ذاته، تخرق سفينة الجنس الأدبي الذي تنتمي إليه، فيغيب البناء السردي التصاعدي المُحـكَـم، وتختفي الحبكة، لتسبحَ الرواية في عوالم حُـلْمية سريالية، تفتقد الترابط المنطقي للأحداث، ولا تهتمُّ بالمسار الزمني ولا بالحبكة الدرامية، بقدر اهتمامها بمحاولة استعادة الفرودس المفقودة، وكأنَّ المؤلف لا يعنيه القارئ التقليدي المبتذل، الذي ينتظر هبوط المعنى من السماء وهو جالسٌ في مقعده، بقدر ما يعنيه القارئ الذي يقفز محاولًا التقاط روح التجربة ليعيدَ تخيّلها، وليصنعَ المعنى بنفسه ولنفسه.
بطل الرواية هو خوسيه ثيمي (وتعني خوسيه هو أنا)، الذي يستعرض سنوات الطفولة مع أسرته في كوبا ما قبل كاسترو، حيث يأتي ذكر الثورة الكوبية ذكرًا هامشيًا في الأحداث. ومع تقدّم الأحداث يتحوّل كل فصل من فصول الرواية إلى طقس شعائري ذي ملامح أسطورية، حيث يخلعُ ليثاما ليما على شخوص روايته، الذين هم في الأساس أفراد عائلته، أسماءً رمزية، ثمّ يلبسُ كلَّ شخصية قناعًا وراء الآخر، ينسجُ منهم وعنهم حكايةً وراء الأخرى، فتتحوّل الشخصيات/أفراد العائلة في نهاية المطاف إلى أنماطً بدائيةً أولية بالمعنى الذي أشار إليه كارل جوستاف يونج.
يعيدُ المؤلّف سرد مراحل تكوين بطله خوسيه ثيمي (خوسيه ليما) في مُحيطه العائلي وتأثره بفقد والده في سنّ مُبكّرة، ثمّ في سنوات التلمذة ومحاولات كتابة الشعر (طالما وصف خوسيه ليثاما ليما نفسَه بأنّه شاعرٌ في الأساس).
يدور محور الرواية فوقَ عجلة اسمها ثلاثية الميلاد، الموت، والبعث، وترتدي شخوصها أثوابَ الأبطال الأسطوريين في الميثولوجيا الإغريقية، فتتراوح الشخصيات بين الأمّ العظيمة (ربّة الآلهة = الجدَّة)، الابن العاشق الباحث عن النشوة والابتهاج ديونيسيس، البطل المُرتحل يوليسيس، الشاعر الفنّان أورفيوس... إلخ، مستدعيًا تفاصيل حياته الشخصية لرسم ملامح كل شخصية روائية، وهكذا على مدار الرواية تتحول محطات حياته العائلية وعلاقته بأسرته إلى عـقـد مستدير ينتظم في حبّاته أبطال الأساطير وشخصيات الكتاب المقدّس، بل إنّه يستعير في بعض الفقرات رموزًا من البوذية، ويوظّفها داخل نصّه في محاولته كمؤلف، أو كبطل متخفِّ في الرواية تخطى الصعوبات والمشكلات التي يواجهها البطل في رحلته ونمّوه. رواية «باراديسّو» رواية مُعقدة ومُـرهـقـة، تعتمد على الصور الشعرية والبلاغية في سرد الأحداث، أكثر من اعتمادها على الخطاب المنطقي؛ لا تبوح بأسرارها ورموزها من القراءة الأولى، وربما لا الثانية ولا الثالثة، إلا أنّها تهبُ نفسها للقارئ الصبور، الذي ينحّي المؤلّف جانبًا، ليقومَ بدوره، في تشييد عالم مواز لعالم الرواية، أن يتخيّل القارئ طفولةً أخرى.
هل يُمكن لقارئ أن يفهمَ «باراديسّو»؟
على موقع Goodreads يشبّه أحد قرّاء الرواية فهم حبكة «باراديسّو»، برجل يحاول إغواء امرأة، فيلاطفها بنعومة وصبر وطول بال، مُحاولًا إيقاعها في حبائله، فيفوزُ بقلبها إذا صبرَ، ويخسرها إذا يئسَ. وعن الرواية نفسها، سئلَ الكاتب والشاعر الإيطالي كارلو إيملو جادّا (1893-1973) عن سبب هذا الأسلوب الباروكي (نسبة إلى أسلوب فنّ الباروك الممتلئ حدّ التخمة بالزخارف)، فأجاب أنَّ العالم نفسه باروكي، غامض، متكلَّف ومعقّد، أفلا يكون الأدب الذي نكتبه عن العالم بالطريقة نفسها؟ عبارات ليما في الرواية محمَّلة بإشارات لا تنتهي، إشارات دينية وميثولوجية وفلسفية وفنيّة عميقة، قد تبدو للوهلة الأولى بعيدة الصلة عن محور الرواية، إلا أنّها، في حقيقتها، جزءٌ مُكملّ للمعنى.
باراديسّو هي رواية المستحيل، والمستحيل هنا هو المعنى المفقود المراوغ، غير القابل للظهور، لا عن طريق قراءة النصّ، ولا عن طريق تأويله.
هو المعنى الذي يخلقه كل قارئ بنفسه ولنفسه. ولكن... أين الفردوس في كلّ ذلك؟ الفردوس هنا - حسبَ مفسّري خوسيه ليثاما ليما - هـي حُلْم يتلقفه القارئ بيديه، بعد سقوطه من عقل المؤلف، فيعيد القارئ حُلْـم الحُلْم بطريقته، والأشياء العظيمة غير قابلة لتأويل واحد، فليفسّرها كل مّنا كيفما يشاء. ويبدو أنَّ قدَر كل أدب عظيم، بل وغاية كل فنّان حقيقي أن يتركَ بـضعةً من فردوسه المفقودة يومًا قبل مغادرة الحياة، أتحدّث عنها عن «يوليسيس» لـجويس، و«طائر الليل البذيء» لخوسيه دونوسّو، «البحيرة» لكاواباتا، و«القصر» لكافكا، وبالطبع «البحث عن الزمن المفقود» لبروست. رواية «باراديسّو» تنتمي إلى ذلك الأدب الذي يأتي فيه المؤلف بالكلمات، وبينما يأتي فيه القارئ بالمعنى إذا استعرنا تعبير أومبرتو إيكو■