الوعي النسوي السارد في «104 القاهرة»
في روايتها «104 القاهرة»، تقدم لنا ضحى عاصي نوعًا من الحكي المتمايِز الذي يمزِجُ الخاص بالعام والإنساني بالتاريخي بالاجتماعي، من مُنطَلَقٍ ومُرتَكَزٍ نسويٍّ، عبَّرت عنه بجعل الشخصية الرئيسية، انشراح، الساردة للأحداث من ناحية، والتي تدورُ حولَهَا كُلّ أحداثِ الروايةِ من ناحية أخرى، إننا نقف أمام نموذج بنائي للحبكة الروائية يتجاوز مفاهيم خط الحكي التقليدي للأحداث، فالزمن السردي يتم طيه وتقديمه وتأخيره لمصلحة الرؤية التي ترغب المؤلفة في أن تقدِّمهَا لنا عبر وعي انشراح - أو الوعي المختار مسبقًا، والذي يتمُّ إسقاطُهُ على شخصيةِ انشِراح.
الحكي أساسًا هو من مخزونِ ذَاكِرةِ انشِراح، وينطلقُ من وَعيهِا الذي يتجاوز حد الحياة التي نحياها، ليأتينا صوتها من بعد وفاتها، من عالم آخر تحررت فيه من عبء الجسد، وتبدو أمامها الرؤية أكثر وضوحًا، وإن كان من مفتاح نمسك به حول شخصية انشراح، فهو قولها: «استطاعت بجدارة أن تلخص حياتها العاطفية في ثلاث جمل، إبراهيم هو الحب، حسن هو الأسرة والاستقرار، أما كلّ الرجال الآخرون فكانوا مجرد قاطعي طريق»، بهذا التَّعبير عن القلق العاطفي الذي عاشته انشراح ولازَم حياتها العاطفية، يمكننا الآن - مبدئيًا - تخيُّل الحياة التي تحدثنا الرواية عنها، هل من قبيل المصادفة أن يتلاقى الاضطراب في شخصية انشراح المولودة في الخمسينيات، والتي ماتت مع مطلع العقد الأول من الألفية الجديدة، مع اضطراب الفترة التاريخية ذاتها التي تتناولها الرواية أيضًا من تاريخ الدولة المصرية، بل الدول العربية عامةً؟
لقد تهاوت أحلام وطموحات انشراح مع مضي الوقت، لم تستطع أن تكمل تعليمها، وتخلى عنها أخوها سيد الذي وقفت زوجته حائطَ صدٍّ بينَهُ وبينها، أما حبيبها ومعشوقها إبراهيم فلم يعد من فرنسا، وتركها لأكثر من عشر سنوات تعاني مع ذاتِهَا، ووصل الأمرُ بها إلى حدِّ إصابتها بالإغماءِ والهلاوس في مواجهة واقعٍ صعب، لا تَجِد فيهِ القدرةَ على المواجهة بذاتها كذاتها، لكن الثيمة الأساسية لبطلة الرواية قدرتُها على تحقيق استمرارية العيش، وعلى إيجادِ حَالةٍ من التوازن بين الألم والرغبة في العيش، وبرغمِ كلِ ما تتعرض له هذه الشخصية المفتقدة لكلِّ ما يمنحُهَا الأمانَ في حياتها، فإنَّ قيمَ الجمالِ بداخِلِها تظل حيةً، ولا تتلوث روحها بمغرياتِ الانجرافِ للقبح.
لقد نجحت انشراح في أن تحمي نفسها من الامتلاء بالكراهية، تقول: «كلنا ولاد آدم وحوا، وربنا واحد، رب المسلمين هو رب النصارى، وبعدين يعني لو كان الحب بيفرق، كانت الناس حبت بالبطايق».
تقول هذا معبّرة عن اقتناعها التام بأن الحب لا يقف عند حد الفواصل الطبقية، ولا بين الأديان - من وِجهةِ نَظرِهَا - رُغمَ أنَّهَا اكتوت بنارِ الفقر، وبنارِ التفرقة الطبقية من قبل بينها وبين أختِهَا بيسة، وهي ابنة أم ممرضة، وأب تاجر مخدرات، وعاشت حياة مليئة بالصعوبات وخيبات الألم.
وضعُ عجيب
البدايةُ من مَشهدٍ جَنائزيٍّ يجلسُ فيهِ حسن زوج انشراح لكي يتلقَّى العَزاءَ في زوجته، وهو متعجبٌ من هذا المشهد الضخم وللضيوف الذين يتفوقون على مُستواه الاجتماعيّ والطبقيّ، هذا الوضعُ العجيب في تغيُّرِ الطبقةِ الاجتماعيةِ في لحظةِ الوفاة، ومن قلب هذه اللحظة يأتي تداعي الذكريات، يأتي الحكي والحديث عن انشراح، وهو ما يجعلنا - باتباع رؤية جيرار جينيت حول المنظور - نقول إن الرواية بالأساس هي سيرةٌ ذاتية عن انشراح من ناحية، وتوثيقٌ اجتماعيٌّ سياسيٌّ تاريخيٌّ عن الواقِعِ العربيِّ من ناحية أخرى، حتى أننا سنجد صدى للاستعمار الفرنسي ومقاومته من خلال الحوار الطريف الذي يأتي على لسان حسن - زوجها - مع أصدقائِهِ حولَ مَا قامَ به جدُّهُ من مقاومة للفرنسيين في الحملة الفرنسية، مرورًا بثورةِ يوليو والعدوان الثلاثي والاستنزاف ومذابح صبرا وشاتيلا، وحتى لحظة ثورة يناير 2011م، كل ذلك يَأتي من قَبيلِ تَناولِ علاقة انشراح ورؤيتها له من ناحية، أو أثره عليها وعلى الشخصيات المحيطة بها من ناحيةٍ ثانية، بالامتزاج بتحليل سياسي اجتماعي تاريخي تبثّه الكاتبة على لسان بعض شخصياتها من ناحية ثالثة.
وعلى النقيضِ من شخصية انشراح تأتي شخصية ليلى زوجة أخيها سيد، والتي يظهر جبروتها وقهرها في لحظة أبدعت بها المؤلفة في إظهار التناقض بين الشخصيتين.
نلمس هنا وجهَ التناقضِ في التفكير، والصورة العكسية من الطيبةِ والنقاء في شخصية انشراح عويضة، في مقابل الخبثِ والمكر والسوء في شخصية ليلى زوجة أخيها، والتي تأتي ثمارُ أفعالِهَا السيِّئَة على منال، البنت الطيبة التي تقف انشراح في مؤازَرَتِهَا ومساعدتها، فرغم ظروفها الصعبة فإنها تؤويها في منزلها، وتحاول أن تتلطف مع هذه المسكينة التي لفظتها ليلى وطردتها شر طردة.
استمرارية الحياة
لقد أرادت المؤلفة أن تقدم لنا شخصية تنميطية، حيث تصبح اختزالًا لـ «بنت البلد الجدعة»، التي تأتي على نفسها وتصمُدُ في مقابل استمرار الحياة في أسرتها، فلا بأسَ من أن تعمل خادمةً في المنازل تتنقل من هنا إلى هناك حتى تحصل على بعض الأموال لتعيلَ أسرتها، تتقبّل جرح الرجولة لدى زوجها حسن، الذي استشعر الندم بعد زواجه منها، وبأن هناك فارقًا في السنّ بينه وبينها، وبأنه لن يستطيع أن يشعر برجولته أمامها، فيهرب لعالم خاص به من أفلام إباحية، دونَ أن يَلجَأ إلى خيانتها أو جرحها، وإنما ينسلّ هاربًا، تاركًا لها قليلًا من المال لكي تُقيمَ شَأنَ بيتِها به، وتتولى انشراح تَبِعَات إدارة المنزل بكل هذا.
لو دقَّقنا في شخصية البطلة الرئيسة، لوجدنَا أن ثيمتها الأساسية هي الاستمرارية في الحياة، رغمَ أنها تعرّضت من قبل لانكسار روحي وصل إلى حد الإغماءات والهلاوس طوال الفترة التي هجرها فيها إبراهيم، لكنها تعود من جديد إلى روحَها الصلبة، وتقف في وجه الزمن والمغريات صلبةً صامدةً ضد أي شيء يمكن أن يعكّر من صفو استمرار الحياة. والأكثر من ذلك غرابةً، أن هذه الشخصية التي بدأت حياتُها بصدمةٍ عاطفيةٍ عانت مرارتها، تتحول مع الوقت إلى مُصلِحَةٍ اجتماعية - إن جاز القول - تصبح منوطة بحل مشكلات: منال وغادة وناهد وزوبة، حتى أنها ترى في نجاح أي علاقة حب تعويضًا لها عن فَشَلِها في قصتها مع إبراهيم لم تتحوَّل مع الوقت إلى إنسانةٍ سَوداء ذات قلبٍ يرغبُ في الانتقام من المجتمع على ما لاقته من ويلات، رغمَ ضيقِ ذاتِ اليد، ورغم الواقع الصعب الذي تعيش فيه، وإنمّا تحولت لكائنٍ شفافٍ أبيض القلب يحاول جاهدًا أن يُقلِّلَ مِن معاناة مَن حوله.
صورة مشوّهةِ
على النقيض من ذلك تأتي شخصية ليلى زوجةُ أخيهَا سيد عويضة، التي أعطاها الله المال، لكنها كلّما ازدادَ وضعُهَا الماليُّ تحسّنًا، وكلما ازدادت حركتها في طبقات المجتمع صعودًا للأعلى، انقلبت على قيمِهَا وأخلاقِهَا، وتجردت من رحمتها وتحولت إلى صورة مشوّهةِ عن البشريةِ، ترغب في الانتقام أكثر، وفي التعالي أكثر من ذي قبل.
أعتقد أن المؤلفة أرادت أن تُشيرَ إلى ما تتعرض له المرأة المصرية في ظل توتّر استقامة العلاقة بين الرجل والمرأة والنظام الطبقي الاجتماعي الذي يقف في كثيرٍ من الأحوالِ عائقًا أمام تحققِ الحب واكتمال تواصل المتحابين بالزواج، ففي ظل الطمعِ في الحفاظ على المستوى الاجتماعي، أو الرغبة في تحقيق مستوى اجتماعي معيّن من الزواج، تنتهي الأمورُ بشخصيةِ ناهِد إلى الانكسار أمام إهمال الرجل، وفي مشهد من أكثر المشاهد إبداعًا في الرواية يدور الحوار التالي بين انشراح، ونفسها، تقول: «هل من الممكن أن تكون ناهد ابنة د. مصطفى الرزيقي، تلك الفتاة التي ملأت المعادي ضجيجًا وصخبًا بحيويتِهَا وجَمالِهَا وعِلمِهَا وثَقَافَتِهَا الواسعة، ضعيفةً إلى هذا الحد، فتُصدِّقُ خرافاتي التي ابتدعتها حتى أنقذها من ألسنة الشغالين؟ هل لهذِهِ الدرجة كسَرَها رجل؟ هل إهمال مجدي لجسدها يصل بها إلى هذه الدرجة؟».
هزات عنيفة
في لحظةٍ ما يُمكِنُ للذاتِ البَشريةِ أن تفقد قدرَتَهَا على التوازن، على التواصل مع المجتمع، على اتخاذ القرارات السليمة، فتصبح كائنًا آخَر، وأصعب أنواع تلك اللحظات التي قد تتعرض لها البشرية من هزات عنيفة في الشخصية، هي تلك التي تتعرض لها المرأةُ بسببِ إهمالِ رجلٍ لها، أو كما عبَّرت عنها انشراح: «لهذه الدرجة كسرها رجل»! والحقيقةُ أنهُ أيضًا مثلما هناك سيدات يكسرهنَّ رجل، فهناك أيضًا رجالٌ تكسرهم امرأةٌ، ربما لا نعرف النسبة والتناسب بدقة بين هذا وذاك، لكن اللافت للنظر أن العلاقات الإنسانية التي تتحدث عنها ضحى عاصي هنا لم يكُن عدم تحققها أو الوجع المتسبب في إيذاءِ الروح سببه الألم العاطفي، بقدر ما سببه نظامٌ اجتماعيٌّ سياسيٌّ يحولُ دونَ إمكان تحقيق الشخصيات لذاتها هي نفسها، ففي مشكلة الفتى الفلسطيني الذي في لحظةٍ ما «تمرّ عليها الكاتبة سريعًا دون تفاصيل» تقومُ علاقةٌ جسدية بين ناهد وأحد اللاجئين الفلسطينيين الذي قتلت أمه في مذبحة صبرا وشاتيلا، ونتيجة هذه العلاقة يحدث حمل، ولأن الشاب الفلسطيني في مشكلته وقضيته يواجه أزمةَ هُويَّة ولا يستطيع أن يحدّد لنفسه مستقبلًا، يتخلى عن ناهد، وفي لحظة بطولية نادرة اختارت ناهد أن تصارح زوجها بحقيقتها، وبرغم تستّره عليها يبدو واضحًا أن هذه العلاقة السابقة ستصبح سببًا في نفوره منها في وقت لاحق، حتى عندما حدثت ترتيبات الانفصال لم يكن في ضيقٍ أو غضاضةٍ منه.
رغبة مكبوتة
لقد استحالت المعيشة بينهما من قبل أن تبدأ، ولكنَّ جانِبًا من هذا المصير الذي تواجهه ناهد يرجع إلى الاحتلال الإسرائيلي ولعدمِ قدرةِ الشاب الفلسطيني على زواجه من ناهد، دون حديثٍ عن سهولة تسليم المرأة نفسها لرجل، فرغم أننا نتحدث من منظور نسوي، وأن الكاتبة تتعرض لمشكلات النساء، فإن تسليم الذات لرجل آخر، وإن كان من دون حبٍ أو عاطفة هو أمرٌ لا يبدو على القدر ذاته من الاستهجانِ الذي نحمله في أذهاننا من هذا الأمر، فأم انشراح تسلّم ذاتها من قبل لعراف بحجّةِ إخراج الجان من جسد ابنتها، بينما هي في الحقيقة تبحث عن رغبة مكبوتة تعيش تأزمها، ومنال بعد ما حدث معها من طرد ليلى لها وإجهاضها وقتل جنينها وطلاقها تحوَّلت لإنسانةٍ غير سويةٍ تعشق رؤية الرجال وهم يركضون خلفَهَا، ويتهافتون عليها، بينما تقوم هي باستنزافِهِم ماديًا، وباستخراج أعز ما يملكون لديهم، خصوصًا لو كانت هدايا قدّموها لزوجاتِهِم، كانت تجدُ في متعة الاستحواذ على هؤلاء الرجال - ولو جزئيًا - من زوجاتِهِم انتقامًا لما حدث لهم، هي ذاتها انشراح أسلَمَت ذاتها بضعَ مَرَّاتٍ لعلاقاتٍ حميمة، غير أن ما تحاولُ الكاتبةُ تأطيرَهُ ووضعَهُ نصبَ عينيها هو أثرُ الحِراكِ المجتمعي، والنظام السياسي على الوقوف ضدَ اكتمالِ المشاعر، فإن كان جزءٌ من الجروح التي تتعرض لها شخصيات الرواية عائدًا لعَدَمِ وجود رجل يحتوي امرأته، ويتحد معها رغمَ كل ما قدمته هذه المحبوبة له من تضحياتٍ وتفانٍ، فإن بجانِبِ عدم قدرة الرجال على تحقيق حالة التواصل الكامل مع الأنثى أيضًا مفارقات الأحداث والزمان.
تصرّف النُّبَلاءِ
بنوع من النقد الساخر، وتقديم المعلومة بشكل مبسّط حول المسألة السياسية، وطرح مشكلة إن كان هؤلاء لا يقومون بواجباتهم تجاه أقربائهم، فكيف سيقومون بواجبهم تجاه الشعب؟ فهناك دلالة واضحة من عدم استحقاق مثل هذه الشخصيات أن تكون نوابًا يمثّلون الشعب في المجلس بمواجهة الحكومة.
ومن المفارقات أن انشراح التي اعتبرت أن أي رجال آخرين غير إبراهيم، الذي يمثّل الحب بالنسبة لها، وحسن، الذي يمثّل النصيب، هو قاطعُ طريق، إلا أنها تقع في حب أشرف، الحالة الملائكية التي أظهرتها الروائية للرجل الذي لا يهتم بالفوارق الاجتماعية ولا الطبقات، والذي يرغب في الزواج من انشراح، هنا يأتي موقف البطولة من الشخصية التي يتم تصويرها كضحيةٍ تُفني نَفسَهَا من أجل غيرها، لترفض هذا العرض، وعندما تأتيها فرصة الانفصال عن حسن تجد أنه لا يستحق أن تتركه وتعذّبه من أجل رجل آخر، وأنه كان له عذره أو تحاول أن تلتمس له العذرَ في بعض تصرفاتِهِ.
يمكننا القول إن تصرف انشراح هنا يأتي كتصرفاتِ النُّبَلاءِ ممن يتصرفون برقيٍّ نادرٍ في مواجهة العالم الذي يبحث عن مصالحه الشخصية فقط، هي تفضّل استمرار واستقرار أسرتها عن انهيارها، حتى لو كان في ذلك متعةٌ أكبر لها، استمرار الأسرة أفضل من تحققِ متعةِ أحد الأطراف على حساب هذا الاستمرار.
يبقى سؤال الرواية مراوحًا بينَ قدرة الإنسان على الغفران أو اندفاعه في الانتقام مما قرَّ في لاوعيهِ من أحداثٍ شكَّلت سلوكه وشخصيته، وعلاقته بالآخر.
وقد استطاعت ضحى عاصي أن تُبرز كل هذه الصراعات النفسية، في إطار السلوك اليومي والحياتي والمعايشة الطبيعية لشخصياتٍ تواجهُ واقعها الممتلئ بالتعقيدات غير المنظورة، خاصةً الصراعات النفسية للمرأة والقضايا الأنثوية الجوهرية، وضغط المجتمع على المرأةِ، والمشكلات الاجتماعية التي تزداد رسوخًا بالإهمال والمعالجات الخاطئة، الآخر، والحب، والعلاقة الحميمة ومركزيتها في العلاقة بالآخر، وقد استطاعت الكاتبة أن تلقي الضوء على مساحات كبرى من هذه الإشكاليات لتعمِّق الأسئلةَ إزاءها دون أن تشفي صدورنا بإجاباتٍ نهائيةٍ عنها .