مصر ونظامها الإقليمي الجديد

مصر ونظامها الإقليمي الجديد

عاشت مصر منذ القدم على كثير من الأمل، وعانت كثيرًا من الألم، وتعلّق شعبها المكافح دائمًا بالحس التفاؤلي، فلم يُذعن لليأس ولم تُضعفه الأحزان، كان دائمًا حاملا قبسًا يوحي أن الغد أفضل من الأمس، وكان يستقوي بالإيمان بأن الله دائمًا معه في لحظات الشدة.
في العصر الحديث، كانت معارك مصر مع بريطانيا التي وافقت على دستور 1923 الذي وضع مصر في خانة النظام الليبرالي الديمقراطي المتعدد الأحزاب بملكية تسود لكنّها لا تحكم، ولم تكن معارك السياسيين في تلك الفترة مع النظام الملكي، بل مع تطوير النظام السياسي الليبرالي وسباق بين السياسيين على مواقع النفوذ.

 

كان الملك فؤاد بعيدًا عن الامتثال لشروط دستور 1923، فقد كان يتعامل مع رؤساء الوزراء بتعالي ملوك أوربا قبل الثورة الصناعية، ولم يذعن لمبدأ السيادة من دون حكم، كما تلاعب برؤساء الوزراء، وكان يخاف من الزعامات التي كسبت شعبية جماهيرية؛ مثل الزعيمين سعد زغلول ومصطفى النحاس، فكلما فاز الوفد زاد نفور الملك من زعيمه، ولم يكن ابنه الملك فاروق أفضل، فقد كانت لديه عقدة بأن النحاس يتآمر عليه، فإذا جرت انتخابات وفاز الوفد، انتظر الملك فرصة يستغلها لإقالة الوزارة، حدث ذلك ثلاث مرات مع فاروق في أعوام 1937، 1944، 1952.
وكان الملك فاروق غير مؤهل لحُكم مصر، فورّطها في حرب فلسطين، مخالفًا قناعات رئيس الوزراء النقراشي باشا وقيادة الجيش، ومصرًّا على إرسال الجيش المصري، كل ذلك من حساسية الزعامة التي يتطلع إليها، فقد خشي أن يتمتع ملك الأردن وقتها، عبدالله بن الحسين، بجماهيرية عربية تعزله وتُضعف مكانة مصر. 
ولم يفقد إبعاد الملك فاروق مصر شيئًا تريد الحفاظ عليه، لكنها دخلت في عصر مختلف تمامًا بنظام جمهوري عسكري ثوري، تبنّى فلسفة مصر؛ الدولة الريادية عربيًا وإسلاميًا وإفريقيًا، واختص النظام بوضع ضوابط بعلاقات مصر مع الدول العربية، تهدف إلى تأمين الثقل الدبلوماسي المصري، الذي يتشكل بوحدة القرار العربي، ووفق مرئيات النظام المصري الثوري.

تفاهم وثقة
ومنذ عام 1954 حتى عام 1967، لم تشهد العلاقات العربية استقرارًا مبنيًّا على التفاهم وتبادلية الثقة والاحترام والبُعد عن التدخل في الشأن الداخلي، وانفجرت الحرب الباردة العربية التي لم تنجُ من اللجوء إلى العنف، وتدخلات المخابرات وأجهزة الأمن، وانتهت تلك الحرب بكارثة عام 1967.
جاءت جمهــــورية السادات بالإصرار على تحـــــــرير الأراضي المصرية، والعربيـــــة إن أمكــــــن، وتمثـــــّل أبرز ما في نظام السادات باسترجاع الثقة العربية، تسهيلًا لعملية عســــكــرية كانت تلازمه تحريرًا لأرضه، مــــع دبلوماسية تميزت بالانفتــاح على الغــرب، وبالذات على واشنطن التي طرق أبوابها عبر مقترحات تنقل الجدية في تحقيق الســلام، ورغـــم انعــــدام التجـــاوب، التزم السادات بإعادة سيناء سلمًا أو حربًا، بتحريك عسكري واندفاع دبلوماسي. 
نجح السادات في عملية العبور العسكري، لكنّه لم يستطع التعامل مع واقع النظام الاقتصادي والاجتماعي الذي ورثه من النظام السابق، وجاء بعده الرئيس حسني مبارك ملتزمًا باتفاقية السلام؛ التي أخرجها من الحرارة إلى البرود، لكنّه التزم حرفيًّا بالمسؤوليات والواجبات التي تفرضها الاتفاقية عليه.
 
نظام جديد
تعيش مصر الآن مع الرئيس عبدالفتاح السيسي؛ الذي صار رئيسًا بعد إقرار الدستور، وأكمل الفصل الأول من مدته، وله سنوات محدودة باقية. 
وخلال هذه السنوات شيّد الرئيس المصري نظامًا جديدًا بكــل أبعاده، فجاء بنظـــــام جمهوري جديد، يشعر بقناعة بأنــه المناسب لمصر، وهو نظام فيه كثــــير من المستحدثات التي ابتكرها، والتي تميّز جمهورية مصر «الجديدة» عما سبقها. تشهد مصر الآن نظامًا فيه تآلف اللطف الإنساني مع الحزم القيادي، فيه اطّلاع على واقع المواطن ومحـــــدودية دخله، وفيه الامتثال لضـــــرورات التصحيـــــح، فيه عسر الحياة على أصحاب الدخل المحدود، وفيه إصرار على تصـــويب الوضع الحياتي، الذي يشكّل الدعم فيه ثقلاً على ميزانية الدولة. 
ففي الاقتصاد خرجت مصر الجديدة من ذلك الرداء الذي فرضه النظام الثوري على الاقتصاد المصري، بتحولاته إلى الاشتراكية التي تتولى فيها الدولة إدارة معيشة المواطن، وتدير حياته وتطوق طموحاته وتحد من انطلاقاته. 
اتخذت مصر قرارات تنظم الدعم بالمحروقات والمؤن، في خطوات غير مسبوقة تُخرج مصر من النظــــام الذي تعايشـــت معه منذ 1954، وشجعـــــت القطاع الخاص، واتخذت القوانين التي تنظم مسار الاستثمار الأجنبي، إحساسًا بالدور المهم لهذا الاستثمار في نقل التكنولوجيا وتوسيــــع الأســـــواق، وزيادة التصدير والتدريب، وإدخال صناعات حديثة تملكها هذه الشركات الأجنبية. 
فقد تبنت مصر «الجديدة» النظام الاقتصادي المنفتــــح؛ الذي جاء من إحساس القيادة بالاستفـــادة من الاتحاد الأوربي، ومن الطاقة الاقتصادية الخليجية، ومن تعــزيز حركة التجارة مع الولايــــات المتحدة، ومع شركاتها العملاقة، مع توسّع في بناء البنية التحتية، وتوفير قاعدة الخدمات لمواكبة متطلبات العصر الجديد. 

ملامح الجمهورية الجديدة
تعيش مصر في هذه الفترة مستجدات لم تتوافر لها منذ 1952، ونناقش في هذا المقال الملامح الجديدة لهذه الجمهورية التي وضعت ثقتها بهذه المستجدات، على أمل أن تخرج مصر من فصول الآلام وتلتحق بفصل الأمل الواسع الذي هو عنوان مصر الجديدة. 
أولاً: ولدت مصر «الجديدة» من رؤية لها وإصرار على وضع البلاد في المكان اللائق بها، وتميّزت قيادتها بالحيوية والانكفاء على العمل الجاد، والبُعد عن المساحيق التجميلية والتوجه نحو التعامل الصريح مع المعلّقات الاقتصادية التي أثرت سلبًا على تحسُّن الاقتصاد، وتبنى قائدها قناة الحوار المباشر مع أطياف المجتمع بنبرة فيها صدق وأمانة، لكن ومع الأسف، ترافق ولادتها مع ظهور الإرهاب القاصد إفشال خطة القيادة في التخلص من سلبيات الماضي، ومواجهتها بالعنف والتخريب، وتقويض برامجها الإصلاحية، واستهداف القيادة نفسها، مع اتساع عمليات المواجهة في كل بقاع الجمهورية.
كانت المواجهـة عنيفة ومكلــــفة ومؤذيـــة للآمال والأمـــوال والأرواح، واتسمــت هذه المواجهة برفض الحلول والتعايش، والإصرار على أن الحل سيكون بهزيمة الإرهاب، بينما يظل هذا الإرهاب متربصًا، متنقلًا في جغرافية الوطن غير مكترث بالحسابات، وباحثًا عن مساندين من دول أو أفراد من المنطقة وخارجها. 
ثانيًا: تبنت مصر في دبلوماسيتها العربية المسلك المسالم، المؤسس لعلاقات بينها وجميع الدول العربية، على قاعدة التآخي وحسن النوايا وطيب المقاصد بانفتاح بلا قنوات استخبارية لها أجندة لا تظهر في العلن، ونجحت القيادة في خلق تآلف خليجي - مصري غير مسبوق، شعاراته الواقعية النافعة كل الأطراف، فيها استراتيجيات سياسية، ومسارات اقتصادية، وممرات استثمارية مع دعم اقتصادي يعزز الاقتصاد المصري، وتحويلات مالية من مصريين عاملين في المنطقة.

قرار مناسب
أتاح هذا المسلك المسالم اتخاذ القرار المناسب لإغلاق ملفات كانت لها غلاظة وتدخّلات مخابراتية وتصنيفات لدول ولسياسات من إنتاج الحماس الثوري الانفعالي.
وقد أتاح هذا التحالف الخليجي - المصري للقيادة المصرية الوجود في الشأن الخليجي، كما تشهده أحداث المنطقة الآن، وكذلك الاستفادة من إيجابيات الدبلوماسية الخليجية في العواصم الكبيرة المؤثرة، وتولد منها كتلة استراتيجية معنيّة بأهداف التنمية والاستقرار ومعارضة للتخريب وللتآمر. 
ثالثًا: ومن هذا التحالف المصري - الخليجي الذي تتناغم معه الأردن، تبرز خريطة النظام العربي السياسي الجديد؛ القائم على حسن التآخي وفقه المنافع، والذي سيفتح لعلاقات عربية شاملة خالية من الاضطرابات والانقسامات، مع اكتمال معالم الهدوء في العراق، وحدوث تبدلات داخل سورية، ونجاح المساعي الدولية في اليمن، ومن المؤكد أن هذا النظام سيمتد إلى شمال إفريقيا، وسيفتح الممر الواسع للجامعة العربية لمسايرة الواقع السياسي المتزن، ويمكن أن تلتقي الإرادة العربية الجماعية حول الوضع الجديد المتميز بتبادلية الثقة، والتعبئة الشاملة للإمكانات العربية المؤمنة بتـلاقي الأهداف ووحدة المقصد. 
رابعًا: انطلقت الجمهورية الجديدة بمصر في علاقات دبلوماسية واقتصادية واستثمارية مع المراكز العالمية المهمة، مع الاتحاد الأوربي، ومع الهيئات الاقتصادية العالمية، مدفوعة برغبة الانفتاح الاقتصادي، مما أدى إلى شبه الشراكة المنفعية مع أوربا والصين، ومع دول لها علاقات تاريخية مع مصر، مثل إيطاليا واليونان، ودول إفريقيا. 

شراكة مع أمريكا
تتسلح جمهورية مصر الجديدة، بالرغبة الملحّة في المساهمة بالاستقرار العالمي، وبناء علاقات حسنة ومريحة مع الجميع، بعد أن أغلقت ملفات الإثارة والمناكفة. 
كما تخص الجمهورية الجديدة بمصر الولايات المتحدة بمنزلة تتناسب مع المتانة السياسية والاقتصادية والتكنولوجية التي تملكها واشنطن، وتعمل بحرص على تعميق العلاقات والاستفادة منها في جميع المسارات، وقد صرح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بعد لقائه بالرئيس السيسي خلال دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر الماضي، بأن الولايات المتحدة تدعم الجهود المصرية في مكافحة الإرهاب، معربًا عن الأمل بتكثيف التنسيق مع مصر للتوصل إلى تسوية لأزمات المنطقة، ووصف العلاقات بين البلدين بأنها في أقوى حالاتها، موضحًا أن واشنطن تعمل مع مصر على جبهات عدة، بما في ذلك العسكرية والتجارية، وأن مصر شريك محوري في الحرب على الإرهاب. 
ووصف الرئيس السيسي علاقات مصر مع الولايات المتحدة بأنها قوية، وتعكس الشراكة الاستراتيجية بين البلدين، كما اجتمع الرئيس المصري بممثلي كبار الشركات الأمريكية الناقلة للتكنولوجيا والخبيرة في شؤون الاستثمار. 
خامسًا: تراعي جمهورية مصر الجديدة الدقة في الالتزام ببنود اتفاقية السلام مع إسرائيل، وتلتزم الدبلوماسية المصرية بالابتعاد عن الإثارة، وتعمل إيجابيًا على فتح قنوات قد تؤدي إلى تخفيف العقبات التي تعترض مسيرة السلام. 
كما تتواصل مع الولايات المتحدة، لإبعاد أي عارض قد يؤثر سلبًا في استقرار الوضع بسيناء، والحرص على الوفاء بما تفرضه اتفاقية السلام من ترتيبات في تلك المنطقة.

 مساعٍ حميدة
لعل أبلغ مؤشر على انشغال الجمهورية الجديدة بمصر بقضية فلسطين يتمثل فيما تقوم به من مساعٍ حميدة وجادة لتجاوز الخلاف بين حركة حماس ومنظمة التحرير، وهو خلاف يضعف مصداقية الدبلوماسية الفلسطينية، كما تؤدي مصر الدور المحوري في تقريب المواقف بين المنظمة وإسرائيل، مستفيدة من الآليات التي تقدمها اتفاقية السلام في الحديث المباشر مع حكومة إسرائيل. 
سادسًا: تُحسن جمهورية مصر الجديدة توظيف القوى الثقافية التي تملكها لخدمة أهدافها السياسية والاقتصادية والثقافية والإنسانية، وتتوسع في الاهتمام بالشباب، فتنشط في عقد اللقاءات الشبابية واستضافة المهرجانات، وقد استضافت في شهر نوفمبر الماضي منتدى شباب العالم الذي عقد في منتجع شرم الشيخ.
كما تهتم بدبلوماسية القمم، حيث تستضيف القاهرة القمة العربية - الأوربية في العام المقبل، وتوجد في كل اللقاءات الخاصة بحوض البحر المتوسط، مع تواصل في اللقاءات الثنائية التي تأخذ حيزًا كبيرًا من جهود قيادتها، وتنتهي باتفاقيات اقتصادية وتجارية ضخمة، كما سجلتها علاقاتها مع الصين. 

شعور وطني
لابد من متابعة النهج الدبلوماسي المصري المتجدد في نشر طيب النوايا، والدفع نحو التفاهم بين الشعوب في إطار المساواة والعدالة، ليؤمّن كل طرف حقه في بيئة العولمة التي تسعى مصر إلى القيام بدور مميز فيها، وذلك لتعزيز منظومة السلام والاستقرار الكوني. 
ولعلنا نلاحظ الشعور الوطني المرتفع لدى أبناء الشعب بأن آفاق مصر المستقبلية كلها مؤشرات للتقدم والتحسّن الجماعي. 
سابعًا: يلاحظ أن مصر المتجددة، رغم كل هذه الإنجازات وتزايد الثقة بالنفس، وتوسّع الانفتاح على أبواب العولمة، ومع السعي إلى ترسيخ مساهمتها في شبكة الترابط العالمي، لم تعبّئ كل طاقاتها الفكرية والثقافية والسياسية، ولم تتوسع كثيرًا في تعبئة المنظمات ذات النفع العام، والتجمعات المؤهلة للمساندة في المسيرة المصرية التي يقودها الرئيس لخروج مصر من مرحلة التشييد إلى فصل الانطلاق. 
ومع ذلك تبقى الحقيقة المريحة أن قيادة مصر اليوم، تصدت لثقل تركة اقتصادية واجتماعية، ووضعت القواعد الضرورية والبناءة لعلاقاتها الخارجية، وانفتحت على فرص الاستثمار، ودخلت في علاقات متشابكة مع المؤسسات المالية العالمية، وتميزت مسيرتها بالاتزان والتعقل والجدية في تنفيذ ما عليها من التزامات، وأهم من ذلك كسبت ثقة واطمئنان العالم كله ■