من أدب الرحلة سفرة ابن عاشور للحج

من أدب الرحلة  سفرة ابن عاشور للحج

رحلته‭ ‬التي‭ ‬أرّخ‭ ‬بها‭ ‬الشيخ‭ ‬محمد‭ ‬الفاضل‭ ‬بن‭ ‬عاشور،‭ ‬حجّته‭ - ‬كعضو‭ ‬من‭ ‬بعثة‭ ‬حكومة‭ ‬تونس‭ ‬سنة‭ ‬1367‭ ‬هـ‭ - ‬إنما‭ ‬هي‭ ‬تدوين‭ ‬عالم‭ ‬موسوعي،‭ ‬واسع‭ ‬الثقافة،‭ ‬أعظم‭ ‬همّه‭ ‬توجيه‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬مقاصد‭ ‬الشعائر،‭ ‬بإبداع‭ ‬أدبي‭ ‬رائق،‭ ‬جُمله‭ ‬ممتدّة‭ ‬امتداد‭ ‬المرامي،‭ ‬ومفرداته‭ ‬من‭ ‬السهل‭ ‬الممتنع،‭ ‬أنيقة‭ ‬في‭ ‬غير‭ ‬ابتذال،‭ ‬تُشّع‭ ‬في‭ ‬كيانك‭ ‬كله‭ ‬حرارة‭ ‬هزة‭ ‬لطيفة‭ ‬حلوة،‭ ‬تأخذك‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬تنويري‭ ‬بديع‭ ‬مريح‭!‬

افتتاح‭ ‬ميمون‭ ‬افتتح‭ ‬به‭ ‬الشيخ‭ - ‬يرحمه‭ ‬الله‭ - ‬تسجيل‭ ‬سفرة‭ ‬حجه‭ ‬عقب‭ ‬عودته‭ ‬إلى‭ ‬وطنه‭ ‬تونس‭: ‬‮«‬ما‭ ‬أسعد‭ ‬هذه‭ ‬النفوس‭ ‬البشرية‭ ‬المغلوبة‭ ‬لعواطفها‭ ‬الموقرة‭ ‬بأثقال‭ ‬إحساساتها‭ ‬الروحية‭ ‬الكبيرة،‭ ‬بما‭ ‬تجد‭ ‬من‭ ‬ضعفها‭ ‬عن‭ ‬وصف‭ ‬تلك‭ ‬العواطف‭ ‬وأداء‭ ‬هاتيك‭ ‬المعاني‭ ‬إذا‭ ‬هي‭ ‬وجدت‭ ‬في‭ ‬ظروف‭ ‬حياتها‭ ‬المادية‭ ‬مثلاً‭ ‬من‭ ‬الأشكال‭ ‬وصفات‭ ‬من‭ ‬الألوان‭ ‬تتناسق‭ ‬مع‭ ‬أشكال‭ ‬الانفعالات‭ ‬التي‭ ‬أبلغتها‭ ‬المشاعر،‭ ‬وتتلاءم‭ ‬مع‭ ‬ألوان‭ ‬الوجدانيات‭ ‬الراسية‭ ‬في‭ ‬قرارات‭ ‬النفوس،‭ ‬حتى‭ ‬تستطيع‭ ‬أن‭ ‬تشهد‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬العيان‭ ‬معاني‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬تدركه‭ ‬ولا‭ ‬تراه،‭ ‬كالذي‭ ‬وجدنا‭ ‬حين‭ ‬دفعت‭ ‬بنا‭ ‬الأشواق‭ ‬نحو‭ ‬هذه‭ ‬الوجهة‭ ‬الحجازية‭ ‬الشريفة،‭ ‬فكلنا‭ ‬سلكنا‭ ‬إليها‭ ‬سبباً‭ ‬يصعد‭ ‬في‭ ‬السماء‭ ‬وجناحا‭ ‬يظهر‭ ‬على‭ ‬طبقات‭ ‬الجو،‭ ‬فهذه‭ ‬الرفعة‭ ‬وذلك‭ ‬الشرق‭ ‬اللّذان‭ ‬يشعر‭ ‬بهما‭ ‬القاصد‭ ‬إلى‭ ‬البلد‭ ‬الحرام‭ ‬إذا‭ ‬شاع‭ ‬بين‭ ‬الناس‭ ‬عزمه‭ ‬فابتدأت‭ ‬عبارات‭ ‬الهناء‭ ‬والاغتباط‭ ‬تنهال‭ ‬عليه،‭ ‬وابتدأت‭ ‬شواهد‭ ‬التشريف‭ ‬تتناول‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬العبارات‭ ‬العميقة‭ ‬الأثر‭: ‬‮«‬لا‭ ‬تنسنا‭.. ‬اذكرنا‭.. ‬ليتنا‭ ‬نكون‭ ‬معك‮»‬،‭ ‬فتحدّثه‭ ‬نفسه‭ ‬بأن‭ ‬حاله‭ ‬رفعته‭ ‬عن‭ ‬نفوس‭ ‬إخوانه‭ ‬بهذه‭ ‬المنزلة‭ ‬حتى‭ ‬جعلوا‭ ‬حضورهم‭ ‬ومصاحبتهم‭ ‬لذكراه‭ ‬غرضا‭ ‬يدنيهم‭ ‬من‭ ‬الفوز‭ ‬بالمنى،‭ ‬جديرة‭ ‬بأن‭ ‬تصعد‭ ‬به‭ ‬عن‭ ‬السفالات‭ ‬الأرضية،‭ ‬وتدنيه‭ ‬من‭ ‬منازل‭ ‬المكرمين‭ ‬في‭ ‬العوالم‭ ‬السامية‭. ‬أفلا‭ ‬يكون‭ ‬ركوبه‭ ‬الطائرة‭ ‬إثر‭ ‬تلك‭ ‬المواقف‭ ‬الخالدة‭ ‬من‭ ‬مواقف‭ ‬التوديع‭ ‬ومسيرها‭ ‬به‭ ‬وهم‭ ‬يرقبون‭ ‬صعوده‭ ‬من‭ ‬أرض‭ ‬المطار،‭ ‬أحسن‭ ‬مظهر‭ ‬لمنزلة‭ ‬السمو‭ ‬الروحي‭ ‬التي‭ ‬يشعر‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬نفسه‭ ‬ويشعر‭ ‬بها‭ ‬إخوانه‭ ‬معه‭!‬‮»‬‭.‬

 

عاطفة‭ ‬إيمانية‭ ‬قوية

بهذا‭ ‬البوح‭ ‬الكاشف‭ ‬عن‭ ‬أسرار‭ ‬النفوس‭ ‬لحظات‭ ‬التوديع‭ ‬والانطلاق،‭ ‬أبهجنا‭ ‬الشيخ‭ ‬المفكّر‭ ‬محمد‭ ‬الفاضل‭ (‬1909‭ ‬‭- ‬1970‭) - ‬يرحمه‭ ‬الله‭ - ‬بنشر‭ ‬‮«‬أحاديث‭ ‬الحجّ‮»‬‭ ‬كمقالات‭ ‬في‭ ‬جريدة‭ ‬الأسبوع،‭ ‬بدءا‭ ‬من‭ ‬18‭ ‬ذي‭ ‬الحجة‭ ‬1368‭ ‬هـ،‭ ‬وقد‭ ‬جمعها‭ ‬ضمن‭ ‬بحوث‭ ‬أخرى‭ ‬د‭. ‬محمد‭ ‬الحبيب‭ ‬ابن‭ ‬الخوجة‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭ ‬‮«‬ومضات‭ ‬فكر‮»‬،‭ ‬
من‭ ‬ص‭ ‬218‭ ‬إلى‭ ‬ص‭ ‬265‭ - ‬نشر‭ ‬الدار‭ ‬العربية‭ ‬للكتاب‭ ‬ليبيا،‭ ‬تونس‭ ‬عام‭ ‬1981م‭.‬

وممّا‭ ‬مهّد‭ ‬به‭ ‬ابن‭ ‬الخوجة،‭ ‬لـ‭ ‬‮«‬ومضات‭ ‬فكر‮»‬‭ ‬ص‭ ‬9‭:‬‭ ‬أنك‭ ‬سـ‭ ‬‮«‬تلمس‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬وغوصه‭ ‬وطريقته‭ ‬في‭ ‬تناول‭ ‬موضوعه‭ ‬تركيزا‭ ‬على‭ ‬انتقاء‭ ‬الكلام‭ ‬الرائع،‭ ‬وعناية‭ ‬منه‭ ‬بالجمل‭ ‬الرقيقة‭ ‬الراقية‮»‬‭. ‬لقد‭ ‬نسج‭ ‬الشيخ‭ ‬أحاديثه‭ ‬بعبارات‭ ‬بليغة‭ ‬وأسلوب‭ ‬أنيق،‭ ‬وغوص‭ ‬في‭ ‬الأعماق،‭ ‬للإبانة‭ ‬عن‭ ‬الجذور،‭ ‬واستقصاء‭ ‬الأبعاد،‭ ‬واستجلاء‭ ‬الآفاق،‭ ‬برصد‭ ‬خاطر‭ ‬لمّاح،‭ ‬وشوق‭ ‬فؤاد‭ ‬يقظ‭ ‬وتوق‭ ‬نفس‭ ‬مطمئنة‭ ‬والتقاط‭ ‬عين‭ ‬بصيرة،‭ ‬لذلك‭ ‬جاءت‭ ‬جمله‭ ‬طافحة‭ ‬بعاطفة‭ ‬إيمانية‭ ‬قوية،‭ ‬نابعة‭ ‬من‭ ‬قلب‭ ‬متذوق‭ ‬لحلاوة‭ ‬الإيمان،‭ ‬يحدوه‭ ‬عقل‭ ‬نبيه‭ ‬طموح‭ ‬إلى‭ ‬صيد‭ ‬أثرى‭ ‬المعاني‭ ‬والدلالات،‭ ‬دون‭ ‬عناء‭ ‬أو‭ ‬تصنّع،‭ ‬إنّما‭ ‬‮«‬حديثه‮»‬‭ ‬أتى‭ ‬سلسا‭ ‬منصبا‭ ‬انصبابا‭ ‬متماسكا،‭ ‬في‭ ‬تلقائية‭ ‬واثقة،‭ ‬وطول‭ ‬نفس‭ ‬هادئ،‭ ‬حتى‭ ‬لكأنّك‭ ‬لا‭ ‬تستطيع‭ ‬منه‭ ‬فكاكا‭... ‬ومن‭ ‬ثمة‭ ‬وقعت‭ ‬بين‭ ‬يديك‭ ‬صفحات‭ ‬نيّرات‭ ‬من‭ ‬أدب‭ ‬الرحلة‭ ‬أمتع‭ ‬فنون‭ ‬الأدب‭ ‬العربي،‭ ‬وجهتها‭: ‬‮«‬استخراج‭ ‬كل‭ ‬دقيق‭ ‬من‭ ‬معدنه‭ ‬وإثارة‭ ‬كل‭ ‬نفيس‭ ‬من‭ ‬مكمنه‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬نبه‭ ‬أبو‭ ‬الحسن‭ ‬المسعودي‭. ‬

ألا‭ ‬تجعلك‭ ‬القراءة‭ ‬محلقاً‭ ‬مع‭ ‬الصّاعد‭ ‬في‭ ‬إنماء‭ ‬محاور‭ ‬رؤاه‭ ‬وتجلياته؟‭! (‬فقد‭ ‬حلّقنا‭ ‬في‭ ‬طريق‭ ‬السّماء‭ ‬وإنما‭ ‬بلغناه‭ ‬بما‭ ‬ملأ‭ ‬النفوس‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة‭ ‬من‭ ‬معاني‭ ‬الشوق‭ ‬وعبر‭ ‬الشعور،‭ ‬وكنا‭ ‬نستطيع‭ ‬أن‭ ‬نسلك‭ ‬طريق‭ ‬السماء‭ ‬الروحاني‭ ‬ولو‭ ‬لم‭ ‬نصعد‭ ‬سماء‭ ‬المارة،‭ ‬بل‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬السّير‭ ‬على‭ ‬بئس‭ ‬العير،‭ ‬ولكن‭ ‬لتلاؤم‭ ‬المادة‭ ‬والروح‭ ‬معا‭ ‬وسموّ‭ ‬شعورنا‭ ‬في‭ ‬سمو‭ ‬أجسامنا‭ ‬طريق‭ ‬ساحر‭ ‬من‭ ‬التعبير‭ ‬قام‭ ‬على‭ ‬لطيف‭ ‬الإيمان‭ ‬وبديع‭ ‬التمثيل‭).‬

وتتعالى‭ ‬الفعالية‭ ‬النفسية‭ ‬المشوقة‭ ‬إلى‭ ‬معرفة‭ ‬الأنوار،‭ ‬فيقوى‭ ‬وله‭ ‬الوجدان‭ (‬مسسنا‭ ‬مجرى‭ ‬النيل،‭ ‬فرأينا‭ ‬رأي‭ ‬العين‭ ‬مصداق‭ ‬الكلمة‭ ‬المتلقفة‭ ‬عن‭ ‬القدماء‭ ‬أن‭ ‬‮«‬مصر‭ ‬هبة‭ ‬من‭ ‬هبات‭ ‬النيل‮»‬‭ ‬لمّا‭ ‬نظرنا‭ ‬إلى‭ ‬الصّحراء‭ ‬الجرداء‭ ‬يتوسّطها‭ ‬النهر‭ ‬العظيم،‭ ‬وعلى‭ ‬حافتيه‭ ‬حاشيات‭ ‬خضراوات‭ ‬لا‭ ‬يكاد‭ ‬عرضها‭ ‬يتجاوز‭ ‬عرض‭ ‬النّهر،‭ ‬فأدركنا‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الشّريط‭ ‬العظيم‭ ‬الملوّن‭ ‬خضرة‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬جعل‭ ‬لمصر‭ ‬ذاتيتها‭ ‬العمرانية‭ ‬التي‭ ‬امتازت‭ ‬بها‭ ‬بين‭ ‬الأرضين‭...).‬

 

لقاء‭ ‬الجليلين‭... ‬فخر‭ ‬تونس‭ ‬وعز‭ ‬مصر

تطربه‭ ‬روعة‭ ‬الجمال‭ ‬وعبقرية‭ ‬المكان،‭ ‬فيواصل‭ ‬التذكار‭ ‬في‭ ‬الطائرة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ (‬مشت‭ ‬أرض‭ ‬المطار‭ ‬في‭ ‬هزة،‭ ‬وأطللنا؛‭ ‬من‭ ‬كواها‭ ‬وهي‭ ‬تجري‭ ‬على‭ ‬الأرض،‭ ‬فإذا‭ ‬شخصية‭ ‬نورانية،‭ ‬انبعثت‭ ‬بالاهتزازات‭ ‬وتدفقت‭ ‬بالعَبرات‭ ‬والعبارات،‭ ‬هي‭ ‬شخصية‭ ‬مولانا‭ ‬العلامة‭ ‬الجليل‭ ‬الأستاذ‭ ‬محمد‭ ‬الخضر‭ ‬بن‭ ‬حسين‭ ‬فخر‭ ‬تونس‭ ‬وعز‭ ‬مصر‭)‬،‭ ‬والتقى‭ ‬العملاقان‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬العمالقة‭: ‬شيخ‭ ‬جامعة‭ ‬الزيتونة‭ ‬وشيخ‭ ‬الجامع‭ ‬الأزهر،‭ (‬وكان‭ ‬منظر‭ ‬تفنى‭ ‬القوى‭ ‬الوصفية‭ ‬ولا‭ ‬يوصف،‭ ‬لما‭ ‬ضمت‭ ‬معانقة‭ ‬الوداد‭ ‬السيد‭ ‬الوالد‭ ‬محمد‭ ‬الطاه
بن‭ ‬عاشور؛‭ ‬صديقه‭ ‬الحميم،‭ ‬وبينهما‭ ‬ثلاثة‭ ‬وثلاثون‭ ‬حولا،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬كانا‭ ‬من‭ ‬مكانة‭ ‬العلاقة‭ ‬الأخوية‭ ‬كما‭ ‬وصف‭ ‬هو‭ - ‬حفظه‭ ‬الله‭ - ‬بنفسه‭ ‬إذ‭ ‬يقول‭:‬

 

أو‭ ‬لم‭ ‬نكن‭ ‬كالفرقدين‭ ‬تقارناً‭ ‬

والصّفو‭ ‬يملأ‭ ‬بيننا‭ ‬أقداحا؟‭!‬

‭- ‬ثم،‭ ‬أي‭ ‬خطوات‭ ‬تتوقع،‭ ‬من‭ ‬هؤلاء‭ ‬الأفاضل‭ ‬الثلاثة؟‭ ‬يجيبنا‭ ‬الفاضل‭: ‬‮«‬في‭ ‬العزم‭ ‬أن‭ ‬نجعل‭ ‬أوّل‭ ‬قصدنا‭ ‬بالقاهرة‭ ‬أنفس‭ ‬معالمها‭ ‬قيمة‭ ‬وأبعدها‭ ‬أثراً‭ ‬في‭ ‬مقامها‭ ‬ورفعة‭ ‬مكانها،‭ ‬وهي‭ ‬قبر‭ ‬الإمام‭ ‬الشافعي‭ ‬‭]‬،‭ ‬ودخلنا‭ ‬القبة‭ ‬يملأها‭ ‬الجلال‭ ‬والرهبة‭ ‬ومعاني‭ ‬المجد‭ ‬والسموّ‭ ‬التي‭ ‬ملأت‭ ‬حياة‭ ‬ساكنها،‭ ‬ومعاني‭ ‬الفخر‭ ‬والخلود‭ ‬التي‭ ‬حفت‭ ‬باسم‭ ‬هذا‭ ‬الركن‭ ‬العظيم‭ ‬من‭ ‬أركان‭ ‬الإسلام‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬واسطة‭ ‬آلاف‭ ‬الملايين‭ ‬في‭ ‬عصور‭ ‬الإسلام‭ ‬إلى‭ ‬النبوة،‭ ‬وطريقهم‭ ‬للسّعادة‭ ‬بالشريعة،‭ ‬وشعرنا‭ ‬ونحن‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬القبر‭ ‬بأننا‭ ‬على‭ ‬درجة‭ ‬تديّننا‭ ‬من‭ ‬مهتف‭ ‬الضمير‭ ‬لمكّة‭ ‬والمدينة،‭ ‬وعلى‭ ‬هذا‭ ‬الشعور‭ ‬رجعنا‭ ‬إلى‭ ‬نُزلنا‭ ‬عشاءً‭ ‬نترضى‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬الإمام‭ ‬ونهنّئ‭ ‬مصر‭ ‬بأن‭ ‬ربطت‭ ‬مجدها‭ ‬الإسلامي‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬الركن‭ ‬المتين‭ ‬من‭ ‬الأركان‭  ‬الأربعة‭ ‬التي‭ ‬أقيم‭ ‬عليها‭ ‬هيكل‭ ‬الدّين‮»‬‭.‬

وهل‭ ‬يعرف‭ ‬الفضل‭ ‬لأهل‭ ‬الفضل‭ ‬غير‭ ‬أهل‭ ‬الفضل؟‭!‬

وتحركت‭ ‬الطّائرة‭ ‬من‭ ‬مطار‭ ‬ألماظة،‭ ‬و«أصبحنا‭ ‬نسعى‭ ‬نحو‭ ‬القصد‭ ‬والغاية‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬كنّا‭ ‬بالأمس‭ ‬نتهيأ‭ ‬للمنزل‭ ‬والرحلة،‭ ‬وشارفت‭ ‬الأرض‭ ‬الحرام‭ ‬وسامدت‭ ‬ميقات‭ ‬الإحرام،‭ ‬فانقلب‭ ‬الاستبشار‭ ‬حدا‭ ‬لا‭ ‬يقف‭ ‬الوصف‭ ‬دون‭ ‬مداه،‭ ‬وفناء‭ ‬للحس‭ ‬والشعور‭ ‬بهذا‭ ‬المعنى‭ ‬وسط‭ ‬الذائبين‭ ‬في‭ ‬لهيبه‭ ‬بلحمة‭ ‬من‭ ‬التآخي‭ ‬والمحبة‭ ‬لا‭ ‬انفصام‭ ‬لها،‭ ‬وتعالت‭ ‬الأصوات‭ ‬بالتلبية،‭ ‬وانفتحت‭ ‬اللهوات‭ ‬بالدعاء،‭ ‬وسرت‭ ‬الرعدة،‭ ‬وسالت‭ ‬العبرات‭... ‬وانقلب‭ ‬هذا‭ ‬الركب‭ ‬الطائر‭ ‬وحدة‭ ‬غير‭ ‬متجزئة،‭ ‬فتعنقوا‭ ‬بحبل‭ ‬الأخوة‭ ‬في‭ ‬الله‭ ‬إلى‭ ‬فلك‭ ‬القبول‭ ‬وسماء‭ ‬التوبة‭...‬‮»‬‭.‬

وحطت‭ ‬الطائرة‭ ‬بمطار‭ ‬جدة‭ ‬‮«‬وعليه‭ ‬مزنة‭ ‬من‭ ‬مطر،‭ ‬وسرى‭ ‬التفاؤل‭ ‬بحسن‭ ‬الحظ‭ ‬الذي‭ ‬ساقنا‭ ‬لهذا‭ ‬المشهد‭ ‬من‭ ‬الإنعام،‭ ‬ودخلنا‭ ‬مكتب‭ ‬الشرطة،‭ ‬فإذا‭ ‬فيه‭ ‬الضبط‭ ‬والدقة‭ ‬والحزم‭ ‬كأكمل‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬المراسي‭ ‬وحدود‭ ‬الممالك،‭ ‬وإذا‭ ‬فوق‭ ‬الضبط‭ ‬والتدقيق‭ ‬جو‭ ‬آخر‭ ‬هو‭ ‬جو‭ ‬المروءة‭ ‬والكرم‭ ‬وحسن‭ ‬الضيافة‭... ‬وأحسسنا‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬أنّ‭ ‬سلطان‭ ‬الروح‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الأرض‭ ‬العربية‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬أقوى‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬سلطان،‭ ‬وأويت‭ ‬إلى‭ ‬ركن‭ ‬منعزل‭ ‬من‭ ‬أركان‭ ‬النزل،‭ ‬أشرع‭ ‬في‭ ‬الإحرام‭ ‬بركعتين‭ ‬أفتح‭ ‬بهما‭ ‬النفس‭ ‬من‭ ‬معاني‭ ‬التجرد‭ ‬لله،‭ ‬وصدق‭ ‬القصد‭ ‬إلى‭ ‬تعظيم‭ ‬بيته‭ ‬الحرام،‭ ‬آفاقا‭ ‬لا‭ ‬مطمع‭ ‬في‭ ‬بلوغها‭ ‬في‭ ‬غير‭ ‬ذلك‭ ‬الموقف،‭ ‬وكشفت‭ ‬من‭ ‬الأسرار‭ ‬والدقائق‭ ‬في‭ ‬‮«‬قل‭ ‬يا‭ ‬أيها‭ ‬الكافرون‮»‬‭ ‬وسورة‭ ‬الإخلاص‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬لي‭ ‬سبيل‭ ‬لكشفه‭ ‬بغير‭ ‬ذلك‭ ‬ولو‭ ‬عكفت‭ ‬على‭ ‬التفسير‭ ‬أعماراً،‭ ‬وخرجت‭ ‬إلى‭ ‬حيث‭ ‬الرفاق،‭ ‬لا‭ ‬أجد‭ ‬بين‭ ‬عيني‭ ‬إلا‭ ‬الكعبة‮»‬،‭ ‬وفي‭ ‬الطريق‭ ‬إلى‭ ‬مكة‭ ‬توقفت‭ ‬السيارة‭ ‬وقفة‭ ‬رهيبة‭: ‬‮«‬عم‭ ‬الوجوم‭ ‬لذكرى‭ ‬الأحداث‭ ‬الكريمة‭ ‬التي‭ ‬بوركت‭ ‬بها‭ ‬هذه‭ ‬البقعة‭ ‬من‭ ‬الأرض،‭ ‬من‭ ‬بيعة‭ ‬الرضوان،‭ ‬ونزول‭ ‬سورة‭ ‬الفتح‭ ‬ونبع‭ ‬الماء‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬أصابع‭ ‬النبي‭ ‬‭[‬‭. ‬وكانت‭ ‬التعليقات‭ ‬التي‭ ‬هزتنا‭ ‬معشر‭ ‬التونسيين‭ ‬نحو‭ ‬بركة‭ ‬الحديبية‭ ‬أقوى‭ ‬من‭ ‬التي‭ ‬هزت‭ ‬سائر‭ ‬إخواننا،‭ ‬فقد‭ ‬عرفنا‭ ‬نور‭ ‬أفقنا‭ ‬وقائدنا‭ ‬في‭ ‬التعلق‭ ‬بسبل‭ ‬المحبة‭ ‬النبوية‭ ‬سيدنا‭ ‬أبا‭ ‬زمعة‭ ‬البلوي‭ ‬دفين‭ ‬القيروان،‭ ‬فأحسسنا‭ ‬بمتعلق‭ ‬لنا‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الأرض‭ ‬المباركة‮»‬‭. ‬وتيسّر‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬مكّة،‭ ‬فيسّر‭ ‬إلينا‭ ‬الشيخ‭ ‬بألذ‭ ‬وأرطب‭ ‬حديث‭ ‬وأطربه‭.‬

 

الكعبة

‮«‬قصدت‭ ‬المسجد‭ ‬الحرام‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬السّلام،‭ ‬فبدت‭ ‬الكعبة‭ ‬في‭ ‬جلالها‭ ‬قاتمة،‭ ‬وأشعّة‭ ‬الكهرباء‭ ‬موجهة‭ ‬حيالها،‭ ‬وقصدنا‭ ‬الحجر‭ ‬الأسود‭ ‬مبتدئين‭ ‬بتقبيله‭ ‬طواف‭ ‬العمرة،‭ ‬ثم‭ ‬اندفعنا‭ ‬بسير‭ ‬سريع‭ ‬بين‭ ‬رمل‭ ‬واضطباع‭ ‬نبتدئ‭ ‬الأشواط‭ ‬السبعة‭. ‬وكنا‭ ‬نجد‭ ‬الطواف‭ ‬حول‭ ‬الكعبة‭ ‬ما‭ ‬يجد‭ ‬المشتاق‭ ‬من‭ ‬أقرب‭ ‬معاني‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬الحبيب،‭ ‬إذ‭ ‬كان‭ ‬الطواف‭ ‬باب‭ ‬تحيتها‭ ‬وتعظيمها‭ ‬والطريق‭ ‬الشرعي‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬تزل‭ ‬الناس‭ ‬تتعرف‭ ‬به‭ ‬تعظيم‭ ‬الكعبة‭ ‬منذ‭ ‬أربعة‭ ‬آلاف‭ ‬سنة،‭ ‬وأن‭ ‬المعاني‭ ‬التي‭ ‬تجيش‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬الطائف‭ ‬بالبيت‭ ‬وهو‭ ‬عند‭ ‬الحجر‭ ‬الأسود،‭ ‬وعند‭ ‬الملتزم‭ ‬وعند‭ ‬الركن‭ ‬اليماني،‭ ‬ثم‭ ‬وهو‭ ‬يؤدّي‭ ‬ركعتي‭ ‬الطواف‭ ‬بمقام‭ ‬إبراهيم‭ ‬قبالة‭ ‬البيت،‭ ‬لمعانٍ‭ ‬تنزل‭ ‬من‭ ‬عالم‭ ‬قدسي‭ ‬فتتصل‭ ‬بالشعور‭ ‬مباشرة‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬يجد‭ ‬العقل‭ ‬بابا‭ ‬للإحاطة‭ ‬بها‭ ‬ولا‭ ‬اللسان‭ ‬طريقا‭ ‬للإفصاح‭ ‬عنها‮»‬‭. ‬وها‭ ‬قد‭ ‬حان‭ ‬أوان‭ ‬ورود‭ ‬زمزم‭! ‬‮«‬زمزم‭ ‬التي‭ ‬تنبعث‭ ‬بجميع‭ ‬هذه‭ ‬الأسرار‭ ‬التوحيدية‭ ‬المشرقة‭ ‬لبطاح‭ ‬مكة،‭ ‬والتي‭ ‬من‭ ‬أجلها‭ ‬يأتي‭ ‬الحجيج‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬فج‭ ‬عميق،‭ ‬ثم‭ ‬بقي‭ ‬ماؤها‭ ‬طوال‭ ‬العصور‭ ‬ترتوي‭ ‬منه‭ ‬كلمة‭ ‬التوحيد‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬حركة‭ ‬من‭ ‬حركات‭ ‬انبعاثها،‭ ‬وتنتعش‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مشهد‭ ‬من‭ ‬مشاهد‭ ‬اعتلائها‮»‬‭.‬

ويبسط‭ ‬الأستاذ‭ ‬قصة‭ ‬زمزم‭ ‬بسطا‭ ‬استقصائيا،‭ ‬لينتهي‭ ‬إلى‭ ‬مراد‭ ‬الله‭ ‬تعالى،‭ ‬حيث‭ ‬جعل‭ ‬زمزم‭ ‬‮«‬مبعثا‭ ‬لأشعّة‭ ‬التوحيد‭!‬‮»‬،‭ ‬ويسرح‭ ‬قلمه‭ - ‬يرحمه‭ ‬الله‭ - ‬مُلماً‭ ‬بزوايا‭ ‬المشهد‭ ‬والموقع‭ ‬للإبانة‭ ‬عن‭ ‬جهد‭ ‬‮«‬الملاّئين‮»‬‭ ‬وعن‭ ‬‮«‬الدّلاء‮»‬‭ ‬و«الزمازمية‮»‬‭ ‬وجرارهم‭ ‬الفخارية‭ ‬وصحافهم‭ ‬النحاسية،‭ ‬وعن‭ ‬‮«‬شرف‭ ‬السقاية‮»‬‭ ‬وتاريخها،‭ ‬ولمّا‭ ‬دفعه‭ ‬حبّ‭ ‬المعرفة‭ ‬والتبرك‭ ‬بالآثار‭ ‬النبوية‭ ‬سأل،‭ ‬وسأل‭, ‬فلم‭ ‬يجد‭ ‬مجيبا‭ ‬إلا‭ ‬السّكوت،‭ ‬وإن‭ ‬أبدى‭ ‬شيئا‭ ‬من‭ ‬الحسرة‭ ‬فقد‭ ‬انتهت‭ ‬به‭ ‬حيرته‭ ‬إلى‭ ‬طمأنينة‭ ‬مريحة‭: ‬فـ‭ ‬‮«‬في‭ ‬مكة‭ ‬من‭ ‬بواعث‭ ‬الفخر‭ ‬بهذا‭ ‬الدين‭ ‬والشرف‭ ‬بالانتماء‭ ‬إليه‭ ‬والتنويه‭ ‬بمقام‭ ‬الرسول‭ ‬الأعظم‭ ‬الذي‭ ‬جاء‭ ‬به،‭ ‬أمور‭ ‬ينطوي‭ ‬عليها‭ ‬المسجد‭ ‬الحرام‮»‬‭.‬

 

الضيافة

شعوران‭ ‬يبثان‭ ‬العزة‭ ‬في‭ ‬الحاج‭: ‬شعور‭ ‬بأنه‭ ‬من‭ ‬‮«‬وفد‭ ‬الله‭ ‬وضيف‭ ‬بيته‭ ‬الحرام‮»‬،‭ ‬وإنها‭ ‬لضيافة‭ ‬رحمانية‭ ‬تيسر‭ ‬كلّ‭ ‬شيء،‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬‮«‬أن‭ ‬يبعث‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الأفق‭ ‬نجوم‭ ‬الكرم‭ ‬من‭ ‬آل‭ ‬سعود‭!‬‮»‬،‭ ‬حيث‭ ‬خرجت‭ ‬‮«‬العنايات‭ ‬المتتابعة‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬القصر‭ ‬السعودي،‭ ‬وإنه‭ ‬لمن‭ ‬التفنن‭ ‬في‭ ‬الكرم‭ ‬أن‭ ‬ينتخب‭ ‬لرفقة‭ ‬البعثة‭ ‬التونسية‭ ‬تونسي‭ ‬أصلا‭ (‬أكبر‭ ‬رجال‭ ‬الحاشية‭ ‬العسكرية‭ ‬السعودية‭ ‬السّيّد‭ ‬محسن‭ ‬الطيب‭ ‬الشريف‭ ‬التونسي‭)‬،‭ ‬وفي‭ ‬يوم‭ ‬الاثنين‭ ‬خامس‭ ‬ذي‭ ‬الحجّة‭ ‬كان‭ ‬موعد‭ ‬المثول‭ ‬الرسمي‭ ‬لبعثتنا‭ ‬التونسية‭ ‬بقصر‭ ‬ملك‭ ‬الحجاز‭ ‬في‭ ‬أجياد‭ ‬بين‭ ‬يدي‭ ‬صاحب‭ ‬السّمو‭ ‬الأمير‭ ‬فيصل‭ ‬نائب‭ ‬جلالة‭ ‬الملك‭ ‬بالحجاز،‭ ‬إذ‭ ‬كان‭ ‬والده‭ ‬الجليل‭ ‬الملك‭ ‬عبدالعزيز‭ ‬آل‭ ‬سعود‭ ‬بعيداً‭ ‬في‭ ‬الرياض‭ ‬عاصمة‭ ‬نجد‭ ‬ولم‭ ‬يشهد‭ ‬الموسم‭ ‬هذا‭ ‬العام‮»‬‭.‬

وفي‭ ‬الموعد،‭ ‬تشرف‭ ‬الوفد‭ ‬بتقديم‭ ‬كتاب‭ ‬وهدايا‭ ‬وأوسمة‭ ‬محمّد‭ ‬الأمين‭ ‬باي‭ (‬ملك‭ ‬تونس‭ ‬من‭ ‬1943‭ ‬إلى‭ ‬1957م‭) ‬إلى‭ ‬جلالة‭ ‬الملك‭ ‬ابن‭ ‬سعود‭ ‬وأبنائه‭ ‬‮«‬وحضرت‭ ‬القهوة‭ ‬اليمنية‭ ‬تطرح‭ ‬بساط‭ ‬الحديث‭ ‬فإذا‭ ‬لتونس‭ ‬العزيزة‭ ‬في‭ ‬ذكريات‭ ‬سموّ‭ ‬الأمير‭ ‬محل‭ ‬رفيع،‭ ‬وإذا‭ ‬لجامع‭ ‬الزيتونة‭ ‬الأعظم‭ ‬وهيئته‭ ‬العلمية‭ ‬في‭ ‬نفسه‭ ‬الكريمة‭ ‬القدر‭ ‬الجليل‭ ‬والمقام‭ ‬الأسمى،‭ ‬وكان‭ ‬يوم‭ ‬الثلاثاء‭ ‬سادس‭ ‬ذي‭ ‬الحجة‭ ‬موعد‭ ‬المأدبة‭ ‬الملكية‭ ‬التي‭ ‬تقام‭ ‬عادة‭ ‬سنوياً‭ ‬بالقصر‭ ‬السعودي‭ ‬خارج‭ ‬مكة‭ ‬في‭ ‬طريق‭ ‬منى‭ ‬بقصر‭ ‬المعايدة،‭ ‬فكانت‭ ‬المظهر‭ ‬الأكمل‭ ‬للسيادة‭ ‬السّعودية‭ ‬الخالدة‭ ‬والبرهان‭ ‬القاطع‭ ‬بما‭ ‬يجد‭ ‬المسلمون‭ ‬عموما‭ ‬من‭ ‬أواصر‭ ‬القربى‭ ‬التي‭ ‬يسجلون‭ ‬كنهها‭ ‬في‭ ‬حكم‭ ‬آل‭ ‬سعود‮»‬‭.‬

لقد‭ ‬جذب‭ ‬هذا‭ ‬التجمع‭ ‬الطيب‭ ‬شيخنا‭ ‬الحاج،‭ ‬فاعتني‭ ‬برسم‭ ‬ما‭ ‬رأى‭ ‬وسمع‭ ‬فيه‭ ‬وما‭ ‬غنم،‭ ‬بحنكة‭ ‬وضبط‭ ‬وإطناب‭: ‬‮«‬وكانت‭ ‬جميع‭ ‬الأنظار‭ ‬قد‭ ‬تعلّقت‭ ‬بالمكان‭ ‬الأول‭ ‬على‭ ‬يمين‭ ‬الأمير‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يزل‭ ‬خاليا،‭ ‬وقد‭ ‬عرف‭ ‬جميع‭ ‬الناس‭ ‬أنه‭ ‬المكان‭ ‬المخصّص‭ ‬بمقتضى‭ ‬التقاليد‭ ‬لأمير‭ ‬الحجّ‭ ‬المصري،‭ ‬فقد‭ ‬وصل‭ ‬متأخرا‭ ‬عن‭ ‬موعده‭ ‬المفروض،‭ ‬وأصبح‭ ‬صاحب‭ ‬السعادة‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬بك‭ ‬عزام‭ ‬رجل‭ ‬الساعة‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬القاعة‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬خارجها،‭ ‬ومكانه‭ ‬متوجه‭ ‬كل‭ ‬نظر‭! ‬وتقدّم‭ ‬الأمير‭ ‬فيصل‭ ‬بضيوفه‭ ‬إلى‭ ‬بيت‭ ‬العائلة‭ ‬نحو‭ ‬المائدة‭ ‬التي‭ ‬تبهج‭ ‬بفخامتها‭ ‬وتفيض‭ ‬بألوانها،‭ ‬فكانت‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬ضمت‭ ‬من‭ ‬عدد‭ ‬وما‭ ‬بسطت‭ ‬من‭ ‬فضل‭ ‬مائدة‭ ‬عائلية‭ ‬خلت‭ ‬من‭ ‬الكلف‭ ‬وعمرت‭ ‬بالأنس‮»‬‭.‬

 

مكّة‭ ‬المصريّة

هكذا‭ ‬وردت‭ ‬التسمية‭ ‬من‭ ‬شيخنا،‭ ‬نظراً‭ ‬للحضور‭ ‬الفعال‭ ‬لإخواننا‭ ‬المصريين‭ ‬بمكة،‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬الميادين،‭ ‬ويفتتح‭ ‬بيانه‭ ‬بإطلالة‭ ‬تاريخية‭ ‬معمّقة،‭ ‬يرخيها‭ ‬للإفادة‭ ‬بما‭ ‬لمصر‭ ‬والحجاز‭ ‬من‭ ‬تداخل‭ ‬حضاري‭ ‬وتفاعل‭ ‬وتواصل‭ ‬بمشيئة‭ ‬الله‭ ‬تعالى،‭ ‬فقد‭ ‬شاء‭ ‬‮«‬أن‭ ‬يزكّي‭ ‬أنفاس‭ ‬وادي‭ ‬النيل‭ ‬بالاقتران‭ ‬إلى‭ ‬وادي‭ ‬مكة‭ ‬المبارك‭... ‬فألقى‭ ‬النيل‭ ‬إلى‭ ‬بطن‭ ‬مكة‭ ‬بالنّجّار‭ ‬القبطي‭ ‬يصنع‭ ‬سقف‭ ‬الكعبة‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬التعمير‭ ‬الذي‭ ‬قامت‭ ‬به‭ ‬قريش،‭ ‬وتوجته‭ ‬اليد‭ ‬النبوية‭ ‬الشريفة‭ ‬بوضع‭ ‬الحجر‭ ‬الأسود‭ ‬في‭ ‬مكانه،‭ ‬وكان‭ ‬ينعشنا‭ ‬منظر‭ ‬الصناديق‭ ‬المشتملة‭ ‬على‭ ‬كسوة‭ ‬الكعبة‭ ‬الآتية‭ ‬من‭ ‬مصر‮»‬،‭ ‬ولم‭ ‬ينسَ‭ ‬الكاتب‭ ‬الإحاطة‭ ‬بمنشآت‭ ‬مصرية‭ ‬في‭ ‬مكة‭ ‬كبناية‭ ‬فندق‭ ‬مصر‭ ‬التي‭ ‬‮«‬خلدت‭ ‬لطلعت‭ ‬حرب‭ ‬فخراً‭ ‬لم‭ ‬تخلده‭ ‬الأهرام‭ ‬للفراعنة‮»‬‭.‬

ويعود‭ ‬ابن‭ ‬عاشور‭ ‬بالحديث‭ ‬إلى‭ ‬أمير‭ ‬حجّ‭ ‬مصر‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬قدر‭ ‬من‭ ‬‮«‬السمو‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬ما‭ ‬اجتمع‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬الكمالات‭ ‬الشخصية‭ ‬عقلا‭ ‬وخلقا‮»‬،‭ ‬لذا‭ ‬نعتوا‭ ‬حجة‭ ‬العام‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬حجة‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬عزام،‭ ‬فلقد‭ ‬كنا‭ ‬حين‭ ‬نتحدّث‭ ‬إلى‭ ‬معالي‭ ‬الوزير‭ ‬ونحن‭ ‬نزوره‭ ‬أو‭ ‬يزورنا‭ ‬بمكة‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬مخيم‭ ‬منى‭ ‬نجد‭ ‬لقوة‭ ‬شخصيته‭ ‬مدى‭ ‬بعيداً‮»‬‭.‬

 

حجر‭ ‬إسماعيل

حرص‭ ‬ابن‭ ‬عاشور‭ ‬ووالده‭ ‬الإمام‭ ‬على‭ ‬التماس‭ ‬مكان‭ ‬من‭ ‬‮«‬مصلى‭ ‬إبراهيم،‭ ‬ويرفع‭ ‬العاكف‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬المكان‭ ‬المبارك‭ ‬بصره‭ ‬فإذا‭ ‬ميزاب‭ ‬الرحمة‭ ‬فوق‭ ‬رأسه‭ ‬يلمع‭ ‬نهبه‭ ‬الوهّاج،‭ ‬وكأنّه‭ ‬يقطر‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬الأسرار‭ ‬الملكيّة‭ ‬النّازلة‭ ‬على‭ ‬الكعبة‭ ‬والصاعدة‭ ‬منها،‭ ‬فيزيده‭ ‬ذلك‭ ‬شوقا‭ ‬لنتعرف‭ ‬إلى‭ ‬تلك‭ ‬الأسرار‭ ‬في‭ ‬مكمنها‭ ‬داخل‭ ‬البيت‭ ‬الحرام‮»‬‭.‬

 

فتح‭ ‬الكعبة

أتى‭ ‬السيد‭ ‬محمد‭ ‬الشيبي‭ - ‬بعد‭ ‬العصر‭ - ‬وبيده‭ ‬المفتاح،‭ ‬فتح‭ ‬أحد‭ ‬مصراعي‭ ‬الكعبة‭ ‬المشرفة،‭ ‬ودخل‭ ‬يضيء‭ ‬القناديل‭: ‬‮«‬ثمّ‭ ‬فتح‭ ‬المصراع‭ ‬الآخر‭ ‬فأسفر‭ ‬الباب‭ ‬عن‭ ‬جلال‭ ‬يزري‭ ‬بالحجاب‭ ‬الذهبي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬موصدا‭ ‬دونه،‭ ‬ذلك‭ ‬هو‭ ‬جلال‭ ‬التجرّد‭ ‬البادي‭ ‬فيما‭ ‬يملأ‭ ‬وسط‭ ‬الكعبة‭ ‬من‭ ‬فراغ‮»‬‭.‬

ولأنه‭ - ‬يرحمه‭ ‬الله‭ - ‬لا‭ ‬يرتوي‭ ‬إلا‭ ‬بالوصول‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬الروح‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬الجوهر‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬الباطن‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬الحق‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬النور‮»‬‭ ‬ولا‭ ‬يكتفي‭ ‬بنظرة‭ ‬خاطفة‭ ‬للمظهر،‭ ‬وإلا‭ ‬فلماذا‭ ‬‮«‬الفراغ‭ ‬بوسط‭ ‬الكعبة؟‭!‬‮»‬‭.‬

‮«‬أقيمت‭ ‬الكعبة‭ ‬تعلن‭ ‬التوحيد‭ ‬وتتحدّى‭ ‬الوثنية،‭ ‬وتصرف‭ ‬وجوه‭ ‬الخلق‭ ‬عن‭ ‬معابد‭ ‬الضلال‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬الأمم‭ ‬تقصد‭ ‬فيها‭ ‬إلى‭ ‬عبادة‭ ‬الموجودات‭ ‬المّادية‭ ‬وتقديس‭ ‬الرموز‭ ‬المجسّمة،‭ ‬فكانت‭ ‬هيكلا،‭ ‬وكانت‭ ‬معبدا،‭ ‬ولكن‭ ‬المعبود‭ ‬المقصود‭ ‬إليه‭ ‬فيها‭ ‬كان‭ ‬أسمى‭ ‬مما‭ ‬يصوّرون‭ ‬وأعلى‭ ‬ممّا‭ ‬يمثلون‭. ‬فهل‭ ‬لهذا‭ ‬المعنى‭ ‬السّامي‭ ‬الممتنع‭ ‬من‭ ‬التنزيه‭ ‬والتمجيد‭ ‬صيغة‭ ‬تؤيده‭ ‬وتتحنى‭ ‬به‭ ‬الأديان‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الفراغ‭ ‬وتلك‭ ‬البساطة‭ ‬اللّذين‭ ‬أظلّتهما‭ ‬الكعبة‭ ‬المطهّرة؟‮»‬‭. ‬

بهذا‭ ‬السبح‭ ‬الإيماني‭ ‬الجميل،‭ ‬نودّع‭ ‬محدثنا‭ ‬الجليل‭ ‬محمد‭ ‬الفاضل‭ - ‬يغفر‭ ‬الله‭ ‬له‭ - ‬وبالفؤاد‭ ‬حسرة‭ ‬‮«‬ونأمل‭ ‬أن‭ ‬نقف‭ ‬على‭ ‬بقية‭ ‬هذه‭ ‬الأحاديث‭ ‬فنتمكن‭ - ‬والقول‭ ‬لجامعها‭ ‬الدكتور‭ ‬ابن‭ ‬الخوجة‭ - ‬من‭ ‬نشرها‮»‬‭ ‬فينعم‭ ‬القراء‭ ‬بما‭ ‬يزيل‭ ‬المضض‭ ‬ويشفي‭ ‬الغليل!■