تدمير المكتبات في القرن العشرين إبادة الكتب
لم تَسلم الكتب والمكتبات، على مدار التاريخ الإنساني، من امتداد أيدي البشر إليها إحراقًا وإغراقًا، ونهبًا وسرقة وإتلافًا.
وإذ ليس في مقدورنا مجابهة الكوارث الطبيعية التي تقف وراء دمار الكثير من الكتب وضياع العديد من المكتبات، فليس من المقبول، ولا من المعقول، أن تدمّر الكتب وأن تُقصف المكتبات وتُحرق بشكل مخطط له مسبقًا وبقصدية نابعة من نية مبيّتة لمحو تاريخ البشر وتراثهم والحط من إنسانيتهم.
في ضوء ما سبق، ترصد ربيكا نوث، وهي أستاذة بجامعة هاواي، أهمية الكتب والمكتبات باعتبارها دعامات أساسية في تأسيس حضارات الشعوب، وما تعرّضت له هذه الدعامات في القرن العشرين من ظلم وانتهاكات، بلغت حد جرائم الإبادة الجماعية والإثنية، وذلك بتخصيص مؤلفها الأخير «إبادة الكتب... تدمير الكتب والمكتبات برعاية الأنظمة السياسية في القرن العشرين» - الذي ترجمه إلى العربية عاطف سيد عثمان، ضمن سلسلة عالم المعرفة بالكويت يونيو 2018، والمشتمل على 369 صفحة - للإجابة عن سؤاليْن محورييْن هما: «ما الفارق حقًّا بين الذين تفجعهم كارثة تدمير الكتب والمكتبات، والذين يلقون بالكتب طواعية، بل وبابتهاج، للنيران؟ وكيف تنسجم مُثُل التقدم الإنساني مع العنف والتدمير واسع النطاق للثقافة اللذيْن ميّزا القرن العشرين؟».
تستعرض الكاتبة في الفصل الأول عددًا مهما من ردود الأفعال بشأن تدمير الكتب، الذي يُنظر إليه باعتباره «جريمة قائمة». كما تضيء العلاقات القائمة بين إبادة الكتب وبين الإبادة الجماعية والإبادة الإثنية.
تقول الكاتبة: «حيثما ظهرت الآداب فثمّة حضارة إنسانية، ومن دون الكتب تترنح الحضارة». وهذه عبارة لافتة تحمل الكثير من الدلالات، من بينها أن كل تغييب للكتاب، سيما إذا كان متعمدًا ومقصودًا، يشكّل في حد ذاته خطرًا على ثقافة أمة معيّنة وعلى هويتها.
عنصر جوهري
وإذا كانت «الكتب هي الإنسانية بحروف مطبوعة»، فإنها تشكّل إذن عنصرًا جوهريًا في حياة البشر، لكونها منتجات ثقافية تشبع رغبات الأفراد والمجتمعات في تأسيس الحضارة وبناء القيم. ومن ثمّ، يعد كل خطر يحدق بالكتب جريمة في حق الإنسانية.
تتطرق الكاتبة في الفصل الثاني إلى نشوء المكتبات ووظائفها، فتربط بينها من جهة وبين التاريخ والذاكرة الجمعية وأنساق المعتقدات والقومية والتطور المجتمعي من جهة أخرى.
وتقسّم الظروف المحيطة بتدمير المكتبات إلى ثلاثة أقسام رئيسة؛ «الأول: ضياع المكتبات عرَضًا في إطار الاجتياح العام للمدن والقصور والمعابد التي استولى عليها الغُزاة، والثاني أصبحت فيه المكتبات والكتب «غنيمة» من غنائم الحروب.
أما الثالث فتشكّل في ظل الأنظمة الدينية والأيديولوجية التي صنّفتْ موادّ معيّنة باعتبارها ضارة، ودعت إلى حظرها عن طريق «تطهير عنيف أو تدمير انتقائي».
وتسترسل الكاتبة، في بيان، ما سبق بالتنبيه إلى أن «الحرب كانت حتمًا تسبب دمار المكتبات، مثلما كانت الكتب والمواد المطبوعة في الأغلب وليمة لنيران المتقاتلين».
وعلى المنوال ذاته، أقرت بأن «المكتبات أحيانًا هي الحصون الأساسية ضد الاندثار الثقافي، وبفضلها (أي المكتبات) تترسخ آثار الماضي وتُكتب صفحات التاريخ طالما أنها «تخدم التاريخ الذي يدعو إلى التحليل والنقد، التاريخ الذي يملكه الجميع ولا يحوزه فرد بمفرده».
صلة وثيقة
وقد تتأثر الكتب والمكتبات أيضًا بأنساق المعتقدات، بحُكم أنها «تنظّم المعرفة وتيسّر عملية اتخاذ القرار وتدعم تصورات الأفكار الدينية والسياسية عن العالم الطبيعي والاجتماعي». وفي هذا الصدد، تبيّن الكاتبة أن للقومية صلة وثيقة بإبادة الكتب، حيث «يحدث تدمير المكتبات، لأنها تحوي نصوصًا تضفي شرعية على سلطة ما أو تقوّضها»، لتخلص في نهاية هذا الفصل إلى أن التطور المجتمعي لأمة معيّنة رهين بتطور مكتباتها وما توفره من معلومات.
تستهل الكاتبة الفصل الثالث المعنون بـ «إطار نظري لإبادة المكتبات» بمقتبسة لجون ميلتون جاء فيها: «قتل كتاب أشبه ما يكون بقتل إنسان، بل إن من يقتل إنسانًا يقتل مخلوقًا عاقلاً، أما من يدمر كتابًا نافعًا، فهو إنما يقتل العقل نفسه».
وبهذا المعنى تصير جريمة قتل الكتب أفظع من جريمة قتل الإنسان، فإذا كان قتل النفس البشرية إزهاقًا لروح ملهِمة وملهَمة، فإن قتل الكتاب إخفاء مقصود للأثر الإنساني المكتوب، والذي يضمن لصاحبه خلود أفكاره بعد مماته.
وتحدّثنا ربيكا نوث عن أسباب تدمير الكتب، فتقسمها إلى قسمين: داخلي (داخل أمة واحدة ويتراوح بين أعمال الرقابة على المطبوعات غير المثيرة للجلبة أو الصخب، وبين العدوان المتمثّل في التخريب أو الإرهاب أو الاضطراب الأهلي أو الحرب الأهلية أو الإبادة الجماعية)، وإمّا أن يكون خارجيًّا كأداة من أدوات الحرب أو الغزو.
كما تبرز الكاتبة ما يتهدد أبواق الأيديولوجيا من خطر الكتب، لأنهم «يخشون السماح للمعلومات بالوصول إلى الناس». والحق أن الكتب تكشف الحقائق للخلائق، وتوقظ فيهم منابع الوعي بحقوقهم، وهو ما لا يروق المتلاعبين بالعقول الذين «يتخوفون من الكتب بوصفها صوتًا بديلاً، ليس صوت انشقاق بالضرورة، بل مجرد صوت مختلف».
حالة أخرى
تنتقل الكاتبة في الفصل الرابع لدراسة حالة: «ألمانيا النازية: العنصرية والقومية»، حيث كانت فكرة نقاء العرق الآري سببًا رئيسًا في إلحاق كثير من الدمار بالكتب. تسوق الكاتبة المثال الآتي: «في قصف بالقنابل الحارقة في عام 1940 أُحرق ستة ملايين كتاب على الأقل في منطقة باتيرنوستر رو في لندن، وهي منطقة بيع الكتب بالجملة».
واقترن مصير الكتب بالمثقفين الذين أرعبهم النازيون، «فدفعهم الخوف من تفتيش حملات المنازل إلى إحراق أوراقهم ومكتباتهم بأنفسهم، فكان إحراقًا وقائيًا للكتب».
تتناول الكاتبة في الفصل الخامس حالة أخرى من الحالات الشاهدة على تدمير الكتب، يتعلق الأمر بـ: «صربيا الكبرى». وتتمثّل بما وقع في ثمانينيات القرن الماضي، حيث «قصف الصرب مكتبة زادار البحثية بكثافة، وقد كانت تضم بين جنباتها 600 ألف مجلد، و5566 مجلة فصلية، و926 صحيفة، و33 كتابا طُبع قبل عام 1500م، و1080 مخطوطًا، و370 رقًّا، و1350 كتابًا نادرًا، و1200 خريطة جغرافية، و2500 صورة فوتوغرافية، و1500 مدونة موسيقية، و60 ألف إعلان».
كما دمّر الصرب أيضًا بقصفهم المعهد الشرقي بسراييفو في عام 1992، أكبر مجموعة مخطوطات إسلامية ويهودية ووثائق عثمانية في جنوب شرق أوربا، أي المصادر الرئيسة التي توثّق خمسة قرون من تاريخ البوسنة.
وتبيّن هذه الأمثلة حجم الخسائر التي تكبّدتها الثقافة الإنسانية بضياع كمّ هائل من المصادر والمراجع والوثائق المخطوطات التي تشهد على وجود حركة علمية متقدمة في تلك الفترة، لكنها - مع الأسف - اندثرت بفعل التدمير والتخريب المقصوديْن.
حالة فريدة
تخصص الكاتبة الفصل السادس لدراسة حالة فريدة لدمار الكتب في عصرنا الحديث، إنه العدوان العراقي الذي تعرضت له الكويت بين 1990 و1991. وتورد أمثلة دقيقة لتصوير حجم هذا الدمار، حيث «أُتلف جزء كبير من مقتنيات الكتب في مكتبة جامعة الكويت التي ضمت 24410 مراجع و540955 مجلدًا وتقريرًا ورسالة ومواد سمعية وبصرية وميكروفيلم ودورية، كما اختفت مكاتب أقسام وملفات بكاملها، وفقد باحثون مواد بحثية لا يمكن تعويضها، ومكتبات شخصية».
وتواصل الكاتبة سردها لإحصاءات دقيقة تبين ما لحق المشهد الثقافي بالكويت جراء الغزو العراقي، «فقبل الغزو امتلكت الكويت 23 مكتبة عامة، و572 مكتبة مدرسية، و29 مكتبة أكاديمية، و69 مكتبة متخصصة، ومركز معلومات. دُمّرت جميع هذه المكتبات عن عمد».
وقد خلُصت الكاتبة إلى أن «غزو الكويت وتدمير بنيتها التحتية للمعلومات، لم يمثّلا انتكاسة عنيفة للكويت فقط، بل لعلم المكتبات وشبكات المعرفة والمعلومات بوجه عام».
تدرس ربيكا الثورة الثقافية الصينية ضمن الحالة الرابعة، وذلك في الفصل السابع من الكتاب. وفي هذا السياق نصّت الكاتبة على «تدمير اليابانيين الكتب والمكتبات في الصين في أثناء محاولاتهم إخضاع الصين في أواخر الثلاثينيات وبداية الأربعينيات من القرن العشرين».
مخزون الحكمة
وقد كانت نزعتهم القومية المتطرفة وراء «التخريب والنهب والإحراق والقصف الوحشي الذي أسفر عن خسارة 10 ملايين كتاب تقريبًا».
فلكي يبسط اليابانيون قوتهم وسياستهم، كان لزامًا أن يُضحّى بالكتب والمكتبات. وهكذا دمّر اليابانيون في الصين سنة 1937 «ما بين 2000 و2500 مكتبة، وضاع ربع مليون كتاب ومخطوط قيّم (بعضها لا يمكن تعويضه). وفي فترة حكم ماو «كان الناس يحرقون الكتب والخطابات واليوميات سرًّا، ويتخلصون من الرماد بإلقائه في المرحاض». ولا يخفى ما لهذا الإجراء من تأثير نفسي على من كانت هذه الكتب في ممتلكاتهم، إذ لن تخمد نيران دواخلهم، بسبب تعلّقهم بها وعجزهم عن المحافظة عليها.
وينصبّ اهتمام الكاتبة في الفصل الأخير على مخزون الحكمة في التبت التي يحيق بها الخطر، حيث تتناول بالدرس والتحليل ثقافة التبت ومطبوعاتها، وصراع حضارتها مع حضارة الصين، وما نتج عن ذلك من إبادة إثنية وإبادة للكتب؛ أي تدمير متعمّد ومستمر لثقافة التبت ونصوصها.
ومن النماذج الدالة في هذا الفصل «سحق الحرس الأحمر الآثار التبتية وإحراقهم الكتب عن اقتناع تام، حيث كانت النصوص الدينية التبتية تُحرق في محارق هائلة أمام المعابد». وتنقل الكاتبة «أن 60 في المئة من الكتابات الفلسفية والتاريخية والسير الذاتية قد أُحرقت». ويبدو أن الحضارة المتجذرة والمنعزلة للتبت لم تكن بمنأى عن حالة الدمار الذي طال موروثها الفكري ومخزونها الحكمي الرصين.
صدام الأفكار
تعنون نوث آخر فصول كتابها بـ: «صدام الأفكار». وفيه تستعرض النزعات الأيديولوجية والاستبدادية وسيطرة الأهواء، حيث «يصبح الكتاب مرشحًا للخطر، وهو ما يدخله في نطاق كامل يمتد من إدراج الكتب في القوائم السوداء إلى إحراقه أو سحقه في مطاحن الورق».
وربما برّر مدمّرو الكتب فعلتهم هذه بكونها، (أي الكتب)، «تدعم النزعة الفردية والتعددية والنزعة الإبداعية والعقلانية وحرية انتقال المعلومات والتفكير النقدي والحرية الفكرية».
وختامًا، فعلى الرغم من تعقّد الأسباب الكامنة وراء تدمير الكتب والمكتبات وتشعّب مناحيها، فقد وضعت نوث يدها - من خلال هذا الكتاب - على واحدة من أبرز قضايا العصر الحديث، وهي تعرّض الكتب للتدمير المقصود والممنهج. وإذ يهوي كثير من الأفراد والجماعات في هوة خُلُقية سحيقة، تحجب عنهم الإنسان الكامن فيهم، وتجعلهم أعداء لأنفسهم، بل أعداء للإنسانية، فهناك دائمًا بصيص أمل يراود الأرواح النقية والقلوب الظامئة للحرية من المثقّفين والمفكرين وعشّاق الكتب والمتعاطفين معها، ممن يقع على عاتقهم إعادة الاعتبار لخير جليس في الزمان، طالما أن «صون مكتبات العالم هو صون لشهود على عظمة البشرية» وفق ما خلصتْ إليه ربيكا نوث >