وصلنا مطار أسمرة
حيث كان في استقبالنا مجموعة من رجال إريتريا الذين رحبوا بنا، ورحبوا بمجيئنا إلى
دولتهم الجديدة، التي استطاعوا أن يقيموهـا ويجعلوا علمها يرفرف في الهواء في وضح
النهار، رغم جميع المعوقات التي تعرضوا لها، وكانت تقف لهم سدا منيعا دون تحقيق
الحلم الذي ظلوا بانتظاره مئات السنين، ومرت عليهم خلال هذه السنين جميعها قوافل
سيطرة واستعمار وتحكم متنوعة ابتداء من محاولة البرتغال للسيطرة على إريتريا كي
يكون لهم موطئ قدم يحاصرون منه باب المندب، ويؤمنون التجارة القادمة عن طريق رأس
الرجاء الصالح في مطلع القرن السادس عشر، إلى محاولة مصر بعد ذلك للسيطرة على
العاصمة أسمرة في عهد الخديوية، ومن ثم انتقل الصراع على إريتريا بين إنجلترا
وفرنسا إلى أن جاء عام (1890) عندما أصدر ملك إيطاليا مرسوما بتأسيس مستعمرة
إريتريا، وبعد ذلك جاءت فترة استعمار بريطاني من (1941- 1952) وكانت آخر مراحل
الاستعمار الأجنبي والسيطرة الخارجية على إريتريا من قبل الإثيوبيين، فقد ضمت
إثيوبيا إريتريا لتصبح ضمن أراضيها، حتى جاء يوم الثالث والعشرين من (آيار/ مايو
1991) لتسيطر حركة التحرير الوطني الإريتري على العاصمة أسمرة، وتفتح بذلك طريق
الاستقلال أمام إريتريا على مصراعيه، وفي (20 حزيران/ يونيو 1991) تم تشكيل الحكومة
الإريترية المؤقتة، وفي بداية آب/ أغسطس 1991 وقع الرئيس الإثيوبي مليس زيناوي رئيس
الحكومة الانتقالية الإثيوبية، والرئيس الإريتري أسياس أفورقي رئيس الحكومة
الإريترية المؤقتة اتفاقا اعترفت إثيوبيا بموجبه بحق إريتريا في تقرير المصير، وقد
حدد رئيس الحكومة الإريترية المؤقتة أسياس أفورقي مهام المرحلة المؤقتة والتي تبدأ
من 24 مايو 1991 ولمدة عامين تنتهي في 24 مايو 1993، عندما يتم إجراء الاستفتاء
المتعلق بحق الشعب الإريتري في تقرير مصيره.
وفي الثالث
والعشرين من شهر إبريل 1993 أجري الاستفتاء العام في إريتريا ولمدة ثلاثة أيام شارك
فيه (1100100) إريتري من أصل (3.5) مليون
نسمة هم عدد سكان إريتريا بينهم (861074) داخل إريتريا والباقون خارجها.
وقد دار الاستفتاء
الذي أجري في (110) مراكز للاقتراع موزعة على تسع مناطق إريترية حول سؤال واحد هو
(هل توافق أن تكون إريتريا دولة مستقلة ذات سيادة؟)، وقد جاءت نتيجة الاستفتاء
العام الذي أشرف عليه مراقبون من الأمم المتحدة ومنظمة الوحدة الإفريقية وهيئات
أخرى أن حوالي (99%) من الإريتريين يؤيدون الاستقلال.
ونالت إريتريا
استقلالها رسميا، وأصبحت دولة ذات سيادة وحرمة، وأقيمت الاحتفالات في جميع أنحاء
البلاد، ورفع العلم الإريتري رسميا لأول مرة في احتفال رسمي كبير حضره عدد من رؤساء
الدول وممثلون وسفراء لدول كثيرة في 23/ 5/ 1993. وفي الرابع والعشرين من الشهر
الخامس لعام 1993 عقد المجلس الوطني الإريتري أولى جلساته في أسمرة وتم انتخاب
أسياس أفورقي رئيسا للمجلس وللحكومة الإريترية الانتقالية التي حلت محل الحكومة
المؤقتة، وأصبح أفـورقي القائد الأعلى للقوات المسلحة، وقد منحت له صلاحيات بصفته
رئيسا للحكومة منها الإشراف على أسلوب تطبيق السياسات الخارجية والداخلية للبلاد،
والمصادقة على المعاهدات التي تبرمها إريتريا مع أي جهة أجنبية، كما يتولى مهمة
تكليف البعثات الدبلوماسية.
وأصبح الحلم
حقيقة
أخذنا مستقبلونا
إلى حيث إقامتنا فيما يشبه (البانسيون) وما أن وصلنا حتى وجدنا أعدادا كبيرة من
الناس تبحث عن مكان أياً كان للسكن، فهناك الكثير من الزوار الرسميين والصحفيين
والمهتمين حضروا إلى إريتريا كي يشهدوا هذا الحدث التاريخي المهم وهو إعلان قيام
دولة في زمن كثر فيه سقوط الدول، إضافة إلى قدوم أعداد كبيرة من الإريتريين الذين
يعيشون في الخارج لمشاهدة هذا اليوم الذي انتظروه سنين طويلة، وظلوا يحلمون به حتى
تحقق الحلم، وجاء النصر وأصبحت إريتريا دولة مستقلة ذات سيادة.
ما أن وضعنا
حقائبنا حتى هممنا بالنزول للتجوال في أنحاء العاصمة الإريترية (أسمرة)، لنرى عن
قرب كيف يعيش الإريتريون حياتهم، ومن أجل أن نختلط بهم ونحس بأحاسيسهم، تحولنا
وزميلي المصور فهد الكوح، الذي سبق له أن زار إريتريا ضمن بعثة العربي عام 1990، أي
قبل أن تنال استقلالها، تجولنا في العاصمة أسمرة سيرا على الأقدام، وكنا نرى
الابتسامات تعلو الوجوه التي تنظر إلينا بعيون مرحبة، وكأن كل عين تقول لنا أهلا
بكم معنا، وهذه هي حصيلة كفاحنا. كنا نرى الناس يطلون من شرفات منازل (أسمرة) التي
بناها الإيطاليون على الطراز الروماني القديم بعد احتلالهم للمدينة عام (1890)، إن
(أسمرة) مدينة هادئة، ورغم الفقر والصعوبات التي يعيشونها إلا أنها مدينة نظيفة
رحبة تستهويك فتجتذبك إن كنت سائرا على قدميك ولا تشعر بتعب أو إرهاق، وقد تذكرت
وأنا أتجول في شوارع (أسمرة) ما قرأته عن كيفية إطلاق اسم إريتريا على هذه البقعة
من الأرض، فقد اختاره الإيطاليون لمستعمرتهم التي بدأوا السيطرة عليها عقب افتتاح
قناة السويس عام (1869) والاسم مأخوذ من اسم نبات كان ينمو على الساحل الغربي للبحر
الأحمر ويعرف في اللاتينية باسم (سانيوس إريتروس). وبعد الجولة التي استمرت حوالي
ست ساعات من النهار سيرا على الأقدام جبنا خلالها أغلب أرجاء العاصمة الإريترية
(أسمرة)، طافت بذهني عدة تساؤلات كان أهمها وألحها هو ما السبب الذي يجعل من
إريتريا مطمعا لكثير من الدول؟ وأعتقـد أنه لا توجد سوى إجابة واحدة عن هذا السؤال،
وهي أن السبب جغرافي بحت، أي بسبب موقع إريتريا المهم.
فإريتريا تطل على
البحر الأحمر بساحل يبلغ طوله (1080) كم لذلك فإن لموقعها ارتباطا وثيقا بحركة
الملاحة في المنطقة من شمال قناة السويس وحتى باب المندب، ولذلك كانت هناك علاقة
قديمة جدا بين إريتريا ومصر.
وتبرز أهمية البحر
الأحمر من الناحية الجغرافية حينما يبدو وكأنه بحيرة عربية إسلامية باستثناء ميناء
(إيلات) في الشمال والموانئ الإريترية في الجنوب، وما عدا ذلك فكل الدول المطلة على
البحر الأحمر دول عربية وإسلامية.
إن موقع إريتريا
الجغرافي يحتم عليها مد جسور من العلاقات الوطيدة مع العديد من الدول المحيطة بها،
لذلك نجد أن التوجه الإريتري نحو علاقات وثيقة مع إثيوبيا يمتد إلى دول مجاورة
أخرى، فالعلاقات الإريترية السودانية تشهد تنسيقا واضحا وجليا وقد كانت السودان من
أوليات الدول التي اعترفت بالدولة الجديدة "إريتريا" ومنذ البـداية، فالسودان
الواقعة في الجنوب الغربي من إريتريا قد دعمت الثورة الإريترية من أجل الاستقلال،
لذلك نجد أن السودانيين يحظون بمعاملة خاصة في إريتريا، خاصة أنه يوجد الآن حوالي
نصف مليون لاجئ إريتري في السودان.
وإلى جانب الجارين
الإثيوبي والسوداني فإن جيبوتي تحد إريتريا من الجنوب ولهما علاقات دبلوماسية
متبادلة ولا توجد أي مشاكل حدودية بين البلدين.
وعلى الجانب
الشرقي المقابل لإريتريا تقع المملكة العربية السعودية واليمن، وقد قدمت السعودية
تسهيلات كبيرة للإريتريين، ويقيم فيها عدد يتجاوز الأربعين ألف إريتري.
إن هذا الموقع
الجغرافي المهم والحساس كان من المفترض فيه أن يكون مصدرا للخير والرزق للإريتريين،
ولكنه كان سببا للتشرد والعذاب طوال المائة عام الماضية، أما الآن فقد جاء
الاستقلال وأصبحت إريتريا دولة حرة مستقلة تنهض من جديد لتنفض عن كاهلها ما علق به
من غبار الكفاح وتبدأ صفحة جديدة تدون في أولها أولى خطوات مسيرة الإصلاح
والبناء.
لقد خلع
الإريتريون رداء الكفاح وارتدوا البذلة المدنية، فهم ينظرون إلى المستقبل بطريقتهم
الخاصة، خاصة أن أمامهم تحديات كثيرة ومصاعب كبيرة لا بد أن يجتازوها.
هذا ما أكده لنا
رئيس دولة إريتريا أسياس أفورقي. عندما التقيناه، فقد أوضح لنا أن الإريتريين الآن
يطوون صفحة مهمة من تاريخهم، ليبدأوا صفحة جديدة مليئة بالتفاؤل والأمل، موضحا أن
الانتصار الذي حققوه قد جاء عبر نضالات شاقة وتضحيات جسيمة في ميادين القتال،
وبالاستفتاء في ميادين السياسة، مؤكدا أنه في المرحلة القادمة ستكون هناك تحديات
أكثر صعوبة ومشقة تتمثل في إعادة بناء وطن مدمر ومنهك يحيط به الخراب، من جراء حرب
أعوام طويلة لتخليص الشعب من الاضطهاد والحرمان والفقر.
إن الإريتريين
الآن يملكون المستقبل بأيديهم، ويستطيعون أن يشكلوه كما يريدون، فمقومات النهوض
والتقدم متوافرة لديهم، فإريتريا يوجد فيها النفط والذي اكتشف أخيرا في جزيرة
"دهلك"، كما يوجد فيها مناجم للذهب والنحاس وخام الحديد والفضة والرخام، إضافة إلى
أراض زراعية شاسعة، علاوة على موقعها الجغرافي المهم والمميز، ووجود ميناء "مصوع"
هذا الميناء الاستراتيجي في المنطقة.
إن جميع هذه
المقومات تحتاج إلى يد قوية تمتد لتعين ساعد الإريتريين الممدود من أجل البناء
والإعمار، إنهم يقولونها وبصراحة تامة: نحن بحاجة إلى مساعدات مادية من أجل النهوض
بهذه البلدة إلى الأمام، وقد قال لنا رئيس الدولة أسياس أفورقي إننا بحاجة إلى
المساعدات من الدول الصديقة وأنا أحب أن أعبر هنا عن امتناننا لحكومة وشعب الكويت
لمواقفهما معنا وأحب أن أشكر سمو أمير دولة الكويت لاهتمامه بالمشاركة في احتفالات
الاستقلال في إريتريا، والعلاقة مع الكويت قديمة منذ كفاح الشعب الإريتري، وكانت
وقفة دولة الكويت وشعبها معنا وقفة يسجلها التاريخ، إضافة إلى المساعدات الإنسانية
التي تصلنا وباستمرار من دولة الكويت، فهي واضحة ومعبرة، وتعتبر مشاركة الكويت معنا
في احتفالات الاستقلال مشاركة إخوة ساهموا معنا في إنجاح هذه القضية.
وقال إننا نأمل في
أن تستمر المساعدات الكويتية التي لم تنقطع عنا طوال ثلاثين سنة هي عمر
كفاحنا.
وأشار أفورقي إلى
إن إريتريا وقفت مع الكويت أثناء الاحتلال العراقي الغاشم ورفضت اجتياحها من قبل
العراق، لأننا عانينا من المشكلة نفسها وذقنا مرارة القهر والاحتلال. ولقد ركز
الرئيس أسياس أفورقي على أن الحكومة الإريترية تولي مهمة بناء المؤسسات الديمقراطية
أولوية بالغة من أجل إرساء قواعدها على أسس راسخة وتنميتها في أجواء صحية، موضحا أن
أولى الأولويات في الفترة الانتقالية التي لن تتجاوز السنوات الأربع ستكون إعداد
دستور ديمقراطي لإريتريا بمشاركة شعبية واسعة.
ويعتبر الإريتريون
مسألة إعداد الدستور من الأمور المهمة جدا، فالدستور هو الذي يحدد الخطوط العامة
التي تسير وفقها الدولة، وهو الفاصل في أي خلافات أو مشاكل قد تطرأ مستقبلا، كما أن
هذه المسألة بالغة الأهمية وتحتاج إلى الاستعانة بأشخاص ذوي دراية بالغة بمختلف
الأمور، وهذا ما اتجهت إليه الحكومة الإريترية فعلا فقد شكلت لجنة لإعداد الدستور
الإريتري تضم خبراء قانونيين وباحثين اجتماعيين وشخصيات سياسية، علاوة على
الاستعانة بأشخاص لهم إلمام واسع ودراية شاملة بتجارب الشعوب الأخرى للاستفادة من
الإيجابيات التي حققوها وتجنب السلبيات التي تعرضوا لها.
فإريتريا التي
كانت في يوم من الأيام نقطة ارتكاز للهجرات التي أدت إلى التزاوج بين العناصر
السامية والحامية والزنجية تتألف اليوم من تسع مجموعات بشرية مختلفة الأديان
والطباع والعادات والتقاليد وأعراف الحياة، فهناك "التجراي" وهم مجموعة من القبائل،
الرعوية وشبه الرعوية التي تتكلم لغة التجري، وهي قبيلة مسلمة في الغالب ما عدا
أقلية مسيحية تعيش على طول الشريط الساحلي الشمالي وحول المرتفعات الشمالية وفي
منخفضات بركة. وهناك العرب " الرشايدة" وهم قبيلة تنتشر على طول الشريط الساحلي
الممتد من ميناء مصوع في الوسط إلى خط الحدود الشمالي مع السودان، وهم جميعا
مسلمون، وهناك قبائل "الساهو" التي تعيش في مناطق الحافة الشرقية للهضبة الإريترية
فوق السفوح والسهول المنحدرة نحو الساحل في القسم الأوسط من إريتريا، وهم مسلمون في
الغالب وقليل منهم مسيحيون. وهناك "البلين" وغالبيتهم مسلمون وبينهم أقلية مسيحية،
مقيمون عند الطرف الجنوبي للمرتفعات الشمالية حول مدينة كرت وهناك "الحوارب" أو "
البداويت" وهم قبائل رعوية في الغالب موزعة على مناطق الحدود الشمالية مع السودان
ووسط إقليم بركة، ويدينون جميعهم بالإسلام، وهناك "التجرينية" وهي أكبر القوميات
الإريترية، وتقيم في مقاطعات الهضبة الإريترية. و"التجرينية" هي اللغة الرسمية
المعتمدة في إريتريا إلى جانب العربية، ويعتنق غالبيتهم المسيحية باستثناء أقلية
تعتنق الإسلام.
وهناك "الباريا"
أو "النارا" وهؤلاء ينحصر وجودهم في أواسط إقليم بركة الغربي المجاور للسودان، وهم
جميعا مسلمون. وهناك "العضر" وهم سكان الشريط الساحلي الجنوبي المعروف باسم
"دنكاليا" والممتد من ميناء مصوع حتى مضيق باب المندب و"العضر" أو "الدتاكل" مسلمون
بأجمعهم، وهناك "البازا" أو "الكوناما" ويتركز وجودهم في ضواحي مدينة بارنتو
والمناطق الواقعة إلى الجنوب الغربي منها على امتداد سهل القاش، وأكثريتهم ما زالت
على الوثنية، فيما اعتنقت مجموعة صغيرة منهم الإسلام أو المسيحية.
ومما سبق ذكره عن
التقسيمة السكانية لإريتريا يتضح لنا المعنى الحقيقي لأهمية توخي الحيطة والدقة
وضرورة أخذ كثير من الأمور في الاعتبار عند إعداد الدستور.
نظرة
اقتصادية
إن إريتريا
الجديدة تنظر إلى المستقبل بتفاؤل شديد وبحذر كبير، فهذه الدولة الحديثة الاستقلال،
القديمة التكوين، تحتاج إلى دعم كبير من دول العالم كي تستطيع أن تنجو بنفسها
وبشعبها من الويلات التي تعيشها معظم دول إفريقيا. لذلك نجد أن الرئيس الإريتري
أسياس أفورقي يقول إنه إذا كانت الدول الأوربية المتطورة التي لحق بها الضرر أثناء
الحرب العالمية الثانية قد احتاجت إلى دعم كبير لكي تقف على قدميها من جديد، فكيف
بإريتريا؟!
إن الشعب
الإريتري- ومنذ فجر التحرير- يبذل قصارى جهده، وبما لديه من إمكانات ليساهم في
إعادة بناء وطنه، ومع ذلك فإن إريتريا ليست مسئوليته وحده بل إن على المجتمع الدولي
مسئولية أخلاقية وإنسانية في مساعدته لإنجاز هذه المهمة.
فإريتريا التي
حصلت قبل استقلالها على موافقة البنك الدولي لمنحها (25) مليون دولار في شهر إبريل
1993، تتطلع إلى المزيد من المساعدات والمعونات والقروض كي تستطيع أن تقف على
قدميها لتواصل مسيرة تكوين الدولة، فهم يعملون جاهدين لتوطيد علاقاتهم مع جميع
الدول، لأنهم يعلمون علم اليقين أنهم لن يستطيعوا وحدهم أن يحققوا ما
يريدون.
وترحب إريتريا
اليوم بالمستثمرين سواء كانوا أشخاصا أو حكومات، وقد قال لنا وزير الإعلام والثقافة
الإريتري الأمين محمد سعيد إننا بحاجة إلى مساعدات سريعـة جدا كي لا نقع فريسة
للفقر والتخلف، وكي نستطيع استخراج ما نملكه من ثروات في أراضينا، ونحن نرحب
بالاستثمارات وندعو المستثمرين لزيارتنا والتعرف عن قرب على ما نملكه من ثروات
طبيعية، فلدينا مجال سياحي واسع ولدينا أراض زراعية شاسعة صالحة للاستغلال ولدينا
ثروات كثيرة تحتاج لمن يعمل على إخراجها، كما يوجد لدينا حوالي (127) جزيرة تصلح
لإقامة عدد من المشاريع فيها.
وقد سألت وزير
الإعلام الإريتري عن تصوراتهم للمستقبل فقال: إن الفكرة الأساسية الموجودة لدينا هي
أن تكون المرحلة القادمة مرحلة دستورية بحيث يكون فيها النظام سياسيا متعدد
الاتجاهات، أي نظاما برلمانيا، ونحن الآن نعيش مرحلة انتقالية ونحن نشرك في هذه
المرحلة جميع الفعاليات السياسية الإريترية بهدف الوصول إلى مرحلة دستورية وهي
صياغة دستور وطني لإريتريا، ووضع قانون للصحافة وسن قوانين لكيفيـة إنشاء الأحزاب،
وهذه الفترة ستستمر لأربع سنوات، بعدها سندخل في انتخابات برلمانية، ويكون هناك
نظام متعدد.
* ماذا عن
انضمامكم لكل من جامعة الدول العربية ومنظمة الوحدة الإفريقية، وهيئة الأمم
المتحدة؟
- من مصلحة
إريتريا أن تكون عضوا فعالا من أجل السلام والاستقرار، سواء في منظمة الوحدة
الإفريقية أو جامعة الدول العربية، أو بقية المنظمات الإقليمية، ولكن هناك أولويات
نضعها في المقام الأول، والأولوية الأساسية لدينا الآن هي تثبيت عضوية إريتريا في
هيئة الأمم المتحدة، ومن ناحية أخرى وباعتبار إريتريا بلدا إفريقيا نحرص على ضرورة
الحصول على الصوت الإفريقي والتأييد الإفريقي لإريتريا وهو شيء أساسي. وسنسعى
باتجاه أن نكون عضوا في منظمة الوحدة الإفريقية، والرغبة موجودة لدينا لتكون
إريتريا عضوا في جميع المنظمات الإقليمية والدولية.
* ماذا عن علاقتكم
مع الدول العربية؟
- العلاقات مع
الدول العربية تنقسم إلى شقين: شق رسمي وشق شعبي، فالعلاقات الإريترية العربية على
المستوى الشعبي كانت ولا تزال تحمل كثيرا من التعاطف الشعبي العربي مع القضية
الإريترية، وفيما يتعلق بالموقف الرسمي للدول العربية، فإن كثيرا من البلدان
العربية، ودول الخليج العربي وعلى رأسها الكويت لها علاقات معنا ومنذ فترة قديمة
جدا، فإن أول مكتب يفتح للثورة الإريترية في منطقة الخليج كان في الكويت، ومن خلال
هذا المكتب كانت الثورة الإريترية قادرة على أن تسمع صوتها وتوصل رأيها لجميع
الشعوب، ولذلك فإن العلاقات الرسمية مع البلدان العربية جميعها كانت علاقات طيبة،
وهي تختلف من بلد إلى آخر، فلكل بلد حساباته ونظرته للأمور، فهناك من كان ينظر
لإريتريا كجزء من فهمه الأمني ومن فهمه القومي، ومن كان يرى إريتريا بشكل رسمي كي
تكون حلقة وصل بين العالم العربي والإفريقي، فلم تكن هناك نظرة عربية موحدة حيال
إريتريا وحيال الأمن القومي العربي تجاه إريتريا، لذلك نجد أن هناك تفاوتا، فنجد
بعض البلاد تدعم إريتريا، وبعض البلدان العربية- ومع الأسف الشديد- كانت تدعم
النظام في إثيوبيا لمحاربة الثورة الإريترية، ولكن الآن انتهت هذه الناحية وأصبحت
إريتريا بلدا متحررا و بلدا ذا سيادة ونأمل إن شاء الله أن نوفق في إيجاد علاقات
وطيدة مع كل الأنظمة العربية.
بين المستقبل
والماضي
إن المتجول في
الشوارع الإريترية يشعر بنوع من الزهو وهو يرى الشعب الذي طالما حمل السلاح مطالبا
بحقه، نجده اليوم يعمل وقد ركن السلاح جانبا من أجل تنمية وطنه، والحفاظ على أرضه
التي استردها من فم الدولة الجارة الأقوى، وكأنه بتفانيه في عمله يريد أن يبرهن
للعالم أجمع بأنه يستحق الحرية، ويستحق أن يقف الجميع معه.
لقد استطاع
الإريتريون أن يحققوا هدفهم الأساسي وهو تحرير وطنهم وإعادة الشرعية له، وهم الآن
يقفون على أعتاب مرحلة جديدة، مرحلة البناء الفعلي والابتعاد عن الشعارات العاطفية
التي امتلأت بها شوارع أسمرة، فقد ازدانت الشوارع وتحلت بأحلى حليها، فرحة وسرورا
بالنصر، وأينما سرت في شوارع "أسمرة" تستوقفك العبارات الرنانة التي تذكر بمسيرة
الكفاح الإريتري.. "أنت.. أنت.. كلنـا، تحقق الحلم، واكتمل الشروق.."
وهكذا.
إن هذه الشعارات
إن كانت قد أفادت في مرحلة ما، فهي لا تفيد في المرحلة المقبلة من عمر الدولة
الإريترية. لقد قال لي سائق سيارة الأجرة "التاكسي"، الذي أصر على اصطحابي وزميلي
المصور في جولة في إرجاء العاصمة "أسمرة" ا بعد أن عرف أننا صحفيان من الكويت:
"إنني الآن أبلغ من العمر خمسة وخمسين عاما، وقد عشت أياما قاسية ولم أخرج من
إريتريا ولم أفكر بالخروج، وهذه سيارتي عمرها " 37" عاما وهي تعمل بشكل جيد، فهي
صناعة إيطالية، ولكنني سعيد جدا لمستقبل هذا الولد". وأشار إلى طفل كان يجلس بجانبه
قائلا: " إن هذا ابني، عمره ثماني سنوات، وأنا سعيد لأن مستقبله سيكون أفضل من
الماضي الذي عشته، بالتأكيد سيكون أفضل، فيكفي أنه ستكون له دولة ينتمي لها ويعيش
على أرضها بحرية ".
إن إريتريا اليوم
تسير في خطوات حذرة وتعمل على مد جسور كثيرة من العلاقات والصداقات والمعاهدات
والاتفاقيات مع العديد من الدول سواء كانت دولا شقيقة وجارة أو دولا بعيدة، هـذه
العلاقات والاتفاقيات والتي تعتبر إريتريا المستفيد الأول منها تعترضها بعض
المشاكل، فإريتريا ترفض أن تكون تابعة لأي دولة سواء بالرأي أو بأسلوب الحكم وطريقة
المعيشة، ولكنها في الوقت ذاته بحاجة إلى كيان قوي تستند إليه حتى لا تكون فريسة
سهلة للطامعين، فإريتريا اليوم وحسب ما جاء على لسان رئيسها الحالي أسياس أفورقي
تحاول إرساء نظام كونفدرالي يكون بمثابة مظلة سياسية لكل دول القرن الإفريقي، بما
فيها إثيوبيا، وذلك للخروج مرة واحدة وإلى الأبد من متاهة الخلافات الحدودية،
ولتوظيف التداخل العرقي لخدمة التكامل الاقتصادي بين جميع بلدان هذه
المنطقة.
ولكن هذا التكامل
الاقتصادي الذي تسعى إريتريا اليوم لإيجاده، تقف أمامه عوائق عديدة، وتوجد له طرق
وخطوط كثيرة، فأي الطرق الاقتصادية ستسلك إريتريا اليوم لتحقيق التكامل الاقتصادي
المنشود؟ يقول أسياس أفورقي: إننا اليوم نسعى قدر جهدنا لوضع سياسة اقتصادية تنموية
واقعية متوازنة، وإذا كنا نطمح إلى نظام سياسي تعددي، فإننا على الصعيد الاقتصادي
نحاول تشجيع القطاع الخاص.
هذه النظرة
الاقتصادية التي يراها الإريتريون الأسلوب الصحيح لمسيرتهم، ونجدهم يعملون من أجل
تحقيقها، تستلزم أولا أن يكون التغيير داخليا، أي أن يبدأ الإريتريون بأنفسهم أولا،
فأيام الكفاح قد انتهت، وبانتهائها انتهت الحياة العسكرية التي كانت مفروضة على
جميع المواطنين، أما وأن الدولة قد استقلت وحصلت على كامل سيادتها وحقوقها الشرعية
في أراضيها فقد أصبح المصير والمستقبل بيد أصحاب الأرض أنفسهم، فهناك آلاف من
الإريتريين المهاجرين إلى الخارج منذ أيام الاحتلال، وكثير من هؤلاء قد أكملوا
تعليمهم وعاشوا واستقروا في بلاد متقدمة، والبعض منهم يعتبر كفاءات في مجالات
معينة، والبعض الآخر كون رأس مال جيدا، هؤلاء أصبح لزاما عليهم أن يعودوا إلى بلدهم
مرة أخرى، وأن يسخروا ما نالوه من دراية وتعليم في مصلحة وطنهم ومن أجل رقيه، كما
أن الحكومة الإريترية أيضا يجب عليها أن تأتي بهؤلاء وتستفيد منهم ومن
خبراتهم.
المرأة الإريترية..
والجمل الرمز..
الحرية الكاملة،
والسيادة والشرعية الدولية التي حصل عليها الشعب الإريتري لم تأت بقوة سواعد الرجال
فقط، إنما كانت هناك مساواة في التضحيات والفداء والعمل الدءوب بين الرجل والمرأة،
فالمرأة الإريترية لم يكن دورها مقتصرا على تربية النشء، أو حتى مساعدة الثوار
الرجال من الصفوف الخلفية، بل وقفت المرأة الإريترية في أول صفوف القتال، وخططت
وعملت وحملت السلاح وشاركت الرجل في تحمل المتاعب، وفي رفع الظلم والقهر الذي وقع
على الشعب الإريتري.
وإذا كانت المرأة
الإريترية قد قامت بكل هذا وأكثر، وإذا كان الإريتريون أنفسهم لم ينكروا فضل أحد في
مساعدتهم حتى أضعف المخلوقات، فقد اتخذوا (الجمل) رمزا لدولتهم الحديثة اعترافا
منهم بفضل (الجمل) في مساعدة الثوار الإريتريين في تنقلهم أثناء فترة كفاحهم ضد
الاستعمار. إذا كانوا هكذا، فهل يعقل أن ينسوا دور المرأة، وهل ستعود المرأة لتركن
في فسحة البيت تنتظر الرجل كي يعود وينهرها ويزجرها، لتعد له الطعام وتسهر على
راحته، أم أنها ستطالب بأن يكون لها دور أكبر وأهم، وستطالب بمجازاتها عما بذلته
طوال فترة الكفاح المسلح، بإشراكها في الحياة السياسية وإدارة شئون الدولة حالها
حال رفيق كفاحها، وزميل درب السلاح الأخ الرجل، إن شقائق الرجال الإريتريات إذا كن
قد منحن بعض الحقوق السياسية بعد استقلال إريتريا، فإنهن يطمعن بالمزيد، وقد سألت
بعض النساء الإريتريات، عن مطالبهن، فأجبن أن الرجل أكرمهن وأنهن نلن حقوقهن
السياسية كاملة، وأنهن راضيات بما نلنه، مع أن البعض منهن أجاب أنهن يردن العودة
إلى المنزل وترك شئون إدارة الدولة للأخ الأقوى الرجل.
يوم تاريخي
مشهود
إن مظاهر احتفالات
الفرح والبهجة تملأ شوارع العاصمة (أسمرة) فيوم (23/ 5/ 1993) هـو اليوم الذي
انتظره الإريتريـون بفـارغ الصبر، في هذا اليوم ومع التحام عقارب الساعة عند
الثانية عشرة مساء ارتفع العلم الإريتري، وأشعلت الشمعة الأولى في عمر الدولة
الإريترية إعلانا بقيام دولة إريتريا الحرة المستقلة ذات السيادة الكاملة، على جميع
أراضيها، لقد ازدحمت ساحة الاستاد الرئيسي في (أسمرة) بجمهور غفير على طول الطريق
المؤدي إلى الساحة، أفواج من الجمهور حضرت واصطفت على جانبي الطريق من جميع قرى
ومناطق إريتريا، جاءوا ليشهدوا هذا اليوم التاريخي النادر، عشرات الصحفيين حضروا من
جميع بقاع العالم. جاءوا لتغطية هذا الحدث المهم، وفود رسمية وشعبية ورؤساء دول
ووزراء وممثلو هيئات دبلوماسية، جميعهم جاءوا إلى إريتريا للتهنئة بهذا اليوم
المرتقب، وقد بدأت الاحتفالات قبل هذا اليوم بثلاثة أسابيع.
الكويت وإريتريا
روابط صداقة قديمة..
إذا كانت العلاقات
الإنسانية والصداقة بين بني البشر تقوم على أساس المواقف، وإذا كان العرب قديما قد
قالوا (الصديق وقت الضيق) وإذا كان الموقف هو الذي يحدد معادن الرجال ويميزها، فإن
هذا الأمر أيضا ينطبق على العلاقات فيما بين الدول. فالدول تقيم علاقات الود والاحترام والتعاون المتبادل
فيما بين بعضها البعض على أسس كثيرة، وأهم هذه الأسس، هو وقفة الدول مع بعضها البعض
في حالة تعرض أي منها إلى كارثة أو مصيبة، انطلاقا من هذا، وانطلاقا من حرص دولة
الكويت على علاقتها الإنسانية والبشرية الصادقة مع دولة إريتريا، وتجسيدا لمعاني
الأخوة والصداقة والروابط الإنسانية العديدة، وما تحمله من معاني وفاء وإخاء
متبادل، فإن دولة الكويت تعتبر على رأس الدول الصديقة التي وقفت مع الحق الإريتري
منذ البداية، وهذا ما أكده كما ذكرنا سابقا رئيس دولة إريتريا أسياس أفورقي، ووزير
الإعلام والثقافة الإريتري الأمين محمد سعيد، وهذا ما تؤكده المساعدات الكويتية
المستمرة لإريتريا والتي جاءت بناء على
تعليمات أمر بها سمو أمير دولة الكويت الشيخ جابر الأحمد الصباح لنقل معونات ومواد
إغاثة لإيصالها للشعب الإريتري الشقيق الذي تضرر بسبب الأعاصير
والفيضانات.
وقد أشاد رئيس جمعية الإغاثة وإعادة التوطين
بإريتريا الدكتور انديوي تخلمكي بجهود دولة الكويت حكومة وشعبا في مساعدة الشعب
الإريتري المتضرر بسبب الكوارث الطبيعية التي مرت به وسرعة الاستجابة التي انعكست
إيجابا على شعور الشعب الإريتري.
وأضاف أن مساعدات
الكويت الأخيرة فقط قد أوت أكثر من (1100) أسرة من إريتريا من أصل (3100) من
المتضررين بسبب الفيضانات والإعصار.
من جانب آخر قال
مدير التوجيه المعنوي والعلاقات العامة بالجيش الكويتي العقيد الركن محمد جاسم
السري إن قـوافل الإغاثة تشمل مواد غذائية وطبية مشيرا إلى أن هذه الرحلات ستتواصل
تباعا وأضاف أن هذه المعونات تعكس الدور الإنساني لحكومة الكويت وشعبها ووقوفهما
إلى جانب الأشقاء وقت المحن ذلك الدور الذي لم ينقطع سواء قبل أو بعد الاحتلال
العراقي لدولة الكويت. وأشار العقيد السري إلى أن أعدادا كبيرة من نسخ ختمة القرآن
الكريم المرتلة بصوت القارئ المقدم أحمد الطرابلسي من إنتاج الجيش الكويتي تقدم
كصدقة جارية على أرواح شهداء الكويت هدايا تذكارية للشعب الإريتري
الشقيق.
آن للفارس أن
يترجل
إريتريا رأس
القرن الإفريقي، ذات الشكل الجغرافي الغريب، والتاريخ السياسي المليء بالأحداث
المتلاحقة، فمنذ أكثر من قرن من الزمان لم تحظ إريتريا بلحظة هادئة، لتتأمل جمالها،
ولتفرد شعرها لتحيط الشعب الإريتري بالأمان الذي افتقده حتى ظن أنه عديم الوجود في
هذا العالم، لقد آن للفارس الإريتري أن يترجل عن صهوة جواده، وآن للشاب الإريتري أن
يبحث عن شريكة حياته، ليعيش معها حياة هادئة آمنة، وهذا ما لاحظناه فعلا، فقد كانت
حفلات الزواج تقام في كل ليلة من ليالي إريتريا، وآن اليوم للطفل الإريتري أن يحمل
كتبه على ظهره ويلتحق بمدرسته في بلده كسائر أطفال العالم. إريتريا.. بلد
الجمال الأسمر، فهم في ملامحهم ليسوا كما الأفارقة، فقد امتزجت عروقهم بالمصريين
والفرنسيين والإنجليز والإيطاليين، فما أعجبها من سحنة تلك التي امتزجت بجميع هذه
الدول. ودعنا أصدقاؤنا الذين تعرفنا عليهم
في (أسمرة) وكان وداعهم لنا بمثل ما استقبلنا به من حفاوة وترحاب وشراب الباي
باي.