د. رضوان السيد: وضعنا الثقافي صعبٌ لكنه لا يبعث على الأسى

د. رضوان السيد: وضعنا الثقافي صعبٌ لكنه لا يبعث على الأسى

أن تكون «وجهًا لوجه» مع رضوان السيد يعني أن تحاور كاتبًا ومفكرًا عربيًّا تنويريًّا، متقد الذهن وحاضر البديهة، وذا باع في استيلاد الفكرة المبتكرة، سواء في مجال تخصصه أو في الدراسات البينية التي يخوضها.
هو باحث مجتهد، مؤلفاته وكتاباته المرجعية في «الفكر الإسلامي» أمثال «الأمة والجماعة والسلطة»، و«مفاهيم الجماعات في الإسلام»، و«الإسلام المعاصر»، و«الجماعة والمجتمع والدولة»، و«سياسات الإسلام المعاصر»، التي قاربها بمنهجية نقدية تحديثية، تمحورت حول تجديد النظر إلى المسلمات الفكرية، وتحديث الخطابات المعرفية والتأسيسية، والدولة العربية الحديثة والمعاصرة.

سألناه عمَّا يقلقُ بال الأمّة ويتهدد مصائرها، ويشغل في آنٍ دنياه الفكرية. واستفسرنا منه عن معالم تجربتيه الأزهرية والأوربية، فضلًا عن عمله في إدارة وتأسيس مجلات فكرية عربية (الفكر العربي، والاجتهاد، والتفاهم)، وتطوافه التدريسي في الغرب وفي العالم العربي. بلغته الأزهرية السلسة وأفكاره المتسقة والمتدافعة أجابَ وراجع وانتقد، واجتهد في إبداء آراءٍ صريحة ووجهات نظر سديدة.
المقابلة التي تقصت المسار الفكري لأستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية، كانت مناسبة لتناول قضايا فكرية راهنة، والإطلالة على الواقع الثقافي، والتوقف عند بعض رموزه في العالم العربي. 

 ازدهار ثقافي
 كيف تلخّص مسارك الفكري من «الأزهر» إلى ألمانيا؟
- بعد أن حصلت على الثانوية الدينية في بيروت، التحقت بالأزهر، حيث اخترت الدراسة في كلية أصول الدين، لأنني كنت أرغب في دراسة العقيدة والفلسفة.
مصر التي شهدت خلال الستينيات ازدهارًا ثقافيًا هائلًا قضيت فيها خمس سنوات (1966 - 1970). ولدى عودتي إلى بيروت أتيت بثمانية آلاف كتاب جمعتها في خمس سنوات، ولم يتجاوز ثمنها ألفي دولار. كانت مصر في أبهى أوضاعها الثقافية، وتفتحنا في مصر على ثقافات إنجليزية وفرنسية وألمانية عدة. وكان من حظي أنني أدركت أيضًا آخر جيل من كبار الشيوخ. كان الجيل الأخير من المفكرين والمثقفين والمترجمين من فترة ما قبل الثورة المصرية. عاصرنا زكي نجيب محمود وتوفيق الطويل ويحيى هويدي وعبدالرحمن بدوي وعزمي إسلام وأبوالعلا عفيفي. وكان طه حسين يومها قد ترك الإدارة الثقافية في الجامعة العربية وتقاعد، فزرناه في بيته.
كانت مصر تأسيسية بالنسبة إليّ، سواء في الثقافة الكلاسيكية الإسلامية أو في الثقافة الحديثة التي صنعتها طوال أكثر من مئة وخمسين عامًا.
عدت إلى بيروت، حيث قضيت فترة قصيرة في دار الفتوى مع المفتي الشيخ حسن خالد، عملتُ خلالها سكرتيرًا للتحرير في مجلة الفكر الإسلامي التي كانت الدار تصدرها. وكنت مصممًا على الذهاب إلى ألمانيا منذ قرأت كتبًا مترجمة عن الألمانية، كما كان بعض أساتذتنا من خريجي ألمانيا. 
وبعد قضاء فترة سنتين وأربعة أشهر في بيروت، حصلت على منحة ألمانية. زميلي وصديقي شيخ الأزهر الحالي أحب فرنسا و«السوربون»، وحصل على منحة وذهب إلى فرنسا، لأن أستاذنا الشيخ عبدالحليم محمود كان خريج «السوربون» وتلميذ ماسينيون. 
الإقامة في ألمانيا كانت مرحلة شديدة الصعوبة بالنسبة إليّ. فقد قضيت سنة حتى تعلّمت اللغة. وهذه طبعًا أول بيئة غير عربية أراها. وبما أن كل شيء في ألمانيا مختلف، فقد تعلمت كل شيء من جديد. حتى الكتب العربية التي قرأتها في الأزهر بكلية أصول الدين وكذلك كتب التاريخ والأدب، أعدت قراءتها في ألمانيا بعيون جديدة. في ألمانيا عندهم تخصصان في الدكتوراه. قبلوا شهادة الماجستير التي حملتها من الأزهر، وسميت الجامعة التي أرغب في الالتحاق بها، لأن مدير المعهد الألماني في بيروت نصحني بالمتابعة مع البروفيسور فان إس، باعتباره الأفضل بين الدارسين في فلسفة الدين والتيولوجيا.

تعلّمت كل شيء من جديد
خيرتُ بين اختيار تخصصين فرعيين أو واحد من تخصصين رئيسيين. فاخترت تخصصين فرعيين: اللاهوت الكاثوليكي والبروتستانتي واللغات السامية. طبعًا تابعت «كورسات» في التاريخ وعلم الاجتماع وسوسيولوجيا الدين. وهي متطلبات تفرضها عليك الجامعة، وتنظمها مع الأستاذ المشرف قبل أن تتفرغ في السنوات الثلاث الأخيرة لكتابة الأطروحة (المنحة كانت لـ 5 سنوات).
تعلمت كل شيء من جديد، وتعلمت أشياء لم أكن أحلم بها. درست فلسفة الدين وسوسيولوجيا الدين. درست تاريخ العهد القديم وقراءات نقدية في قراءة النص. كيف يقرأ النص الديني؟ وكيف يقرأ النص العادي والأدبي؟ ويومها كانت الموضة الدارجة في باريس الدراسات الأدبية الجديدة، والقراءات المتعددة للنصوص.
والألمان يصدّرون ويستوردون ويترجمون كل شيء. يأخذ منهم الفرنسيون الفلسفة واللاهوت، وهم يأخذون من الفرنسيين دراسات الآداب، وأعمال مدرسة الحوليات. وشهدت تلك الفترة حركات الشباب وحركات اليسار التي جرت في عام 1968. كنت بدايةً في حال من التوزع والانتشار بين اهتمامات متنوعة، لأنك لا تجد مرشدًا حقيقيًّا يقول لك: لا تضيّع وقتك في كذا، وافعل كذا، لذلك خرجت من دراستي الجامعية بين الأعوام 1972 و1974 بحصيلة معرفية كبرى في العلوم الإنسانية والفلسفية والتاريخية، ثم بدأت بكتابة أطروحتي للدكتوراه.

إعادة تشكيل العقل
 إذا أردت أن تتحدث عن الدروس التي أخذتها من ألمانيا والآفاق التي فتحتها ألمانيا أمامك، ماذا تقول؟ 
- الدرس الذي تعلّمته هو إعادة تشكيل العقل تقريبًا، والتغيير في رؤية العالم. ومع العقل تأتي الذهنية، يعني نوعية التفكير وطريقة التفكير بسبب المعارف. بمعنى كم تعلمت زيادةً على ما كنت أعرف؟ والتراكم الكمي يؤدي إلى تغيير نوعي. ومن ذلك الآن مناهج التفكير، وكيف تفكّر، وكيف تقرأ هذا النص، وكيف تتأمل هذه الواقعة وهذا الحدث.
أهم ما كسبته في ألمانيا ذو شقين؛ الأول المناهج للعلوم الإنسانية والاجتماعية والدينية من جهة. والأمر الآخر طريقة التفكير في هذه المعارف. لأنها هي أصلًا معارف تاريخية وتأملية، أي ليست معارف تُقرأ دائمًا على شكل مسلَّمات.

استشراق ألماني
 كيف تصف وضع الاستشراق الألماني في تلك الفترة التي كنتَ فيها طالبًا بألمانيا؟ وما هو حاضر هذا الاستشراق في الوقت الراهن؟ وكيف تقابل بين الوضعين؟
- أنا كتبت كتابًا عن الاستشراق اسمه «الاستشراق الألماني... النشوء والتأثير والمصائر».
الاستشراق الألماني يشهد الآن نوعًا من النهوض، مثل سائر الدراسات الإسلامية في العالم الغربي، بعد فصامات وضربات نزلت به طوال ثلاثين عامًا. الآن يعود نوع من النهوض إلى تلك الدراسات. لكن هذا كله لا يقارن باستشراق النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين: 1850 - 1950. تلك فترة زاهية شديدة الزهو وشديدة الأهمية من حيث النشرات العلمية الكبرى التي قام بها الألمان لكل النصوص الثقافية والدينية والأدبية والمعجمية. حتى أنهم عملوا نشرة علمية للقرآن الكريم. هذا من جهة، هم كانوا فيلولوجيين كبارًا من هذه الناحية.
والناحية الأخرى، هم الذين افتتحوا بمساعدة دي ساسي في باريس دراسة الحضارة الإسلامية، متأثرين في ذلك بالتاريخانية. فكل حضارة إذا أردت معرفتها والتأريخ لها، عليك أن تعرف لغاتها أو لغتها، وعليك أن تكتب تاريخها استنادًا إلى الدثائر الفيلولوجية. وجدوا أمامهم تراثًا شديد الضخامة وشديد الاتساع، وبدأوا يكتبون تاريخ تلك الحضارة، وهم أناس كبار ومتميزون، في معظمهم. وهم كانوا أقل من الفرنسيين ومن الإنجليز، وأقل من الإيطاليين والهولنديين تأثرًا بمسألة أن أصل القرآن الكريم نصراني، أو أصله يهودي، أو أصله مشترك بين اليهودية والنصرانية. ركزوا على الفيلولوجيا، ثم تأملوا القرآن بوصفه نصًّا.

اهتمام غربي
اهتموا بمعرفة كيف يشتغل النص داخليًّا. لم يتوقفوا حصرًا عند مفردات قرآنية وردت مثيلات لها في التوراة أو في الإنجيل، بل كيف انتظمت في هذا «السيستم»، أي في هذا النظام المعرفي وهذا البناء. وأعني نظرية النظم عند عبدالقاهر الجرجاني. وهذا الاستشراق ما عُرف سابقًا. واختصر بالقول إن الحضارة الإسلامية حظيت في المئة عام باهتمام غربي كبير بشكل عام، وألماني بشكل خاص.
كل ما جاء بعد ذلك، عرف حالات ارتفاع وانخفاض، لكنّه ما عاد إلى الدرجة نفسها، بسبب التخبط الذي نال مناهج العلوم الإنسانية والاجتماعية والعلوم التاريخية. ما عاد هناك شيء مؤكد. ثم ظهر من نسمّيهم المراجعون الجدد، الذين ينفون كل شيء عن الإسلام. ويقولون إننا لا نعرف شيئًا عن الإسلام في أول مئتي سنة. الإسلام اختُرع في القرن الثالث الهجري. ووصل بهم الأمر إلى التشكيك بوجود النبي محمد [. فالدنيا كلها انقلبت بين السبعينيات والألفين. لكننا نشهد الآن فترةً من الهدوء، والمراجعة الإيجابية، والتفكير الجديد.
ميزة الألمان أن قلّة منهم فقط مشت في تيار المراجعين الجدد، في حين صاروا كثيرين في إيطاليا وإنجلترا وأمريكا وفي فرنسا. الآن بدأوا يختفون، وعاد نوع من العقل والتعقل إلى حقل الدراسات الإسلامية. 

 تحليل تمهيدي
  كيف تعقد مقارنة بين الدراسات الإسلامية في المدارس الفرنسية والأمريكية؟ وما الجديد الذي عُرضَ خلال المؤتمر الدولي في فرنسا الذي حضرته أخيرًا وتناول هذا الموضوع؟
- الفرنسيون يهتمون بالأبستمولوجيا والسيسيولوجيا وأحيانًا يمضون إلى درجة التفكيك والتثقيف. أما الألمان فهم بنائيون. فمنذ البداية يمهدون بتحليلٍ، لكن البنية التي يريدون إقامتها، دائمًا ما تكون حاضرة في أذهانهم. وقد أثّروا فيَّ كثيرًا لهذه الجهة. يعني عندما تقرأ كانط تشعر أن هناك رجلًا يخطط منذ البداية لبنية، وأن التحليل تمهيدي وقليل، فقط لتبدأ مسألة البنية. وفي الوقت نفسه لا تجد أحدًا في ألمانيا مثل ماسينيون. الألماني دقيق وبنائي، ولا يمتلك هذا الخيال البالغ الروعة. أنا أجد أن ماسينيون كتب تاريخ الفكر الإسلامي كله من خلال كتابه عن الحلاج. وهذا شأن لم نشهده عند الألمان مثلًا، بالرغم من أن الموسوعية الألمانية أهم من تلك الفرنسية.
ماسينيون تحلّى بهذه النزعة الإبستمولوجية التي تستكشف بدقة روح الحضارة. وقد حاول هلموت ريتّر، وهو مستشرق ألماني عظيم، حقق «دلائل الإعجاز»، وكان أستاذًا للبروفيسور الألماني جوزف فان آس، أن ينسج على منوالها. فكتب كتابًا مثل كتاب ماسينيون، سمَّاه «بحر الروح»، وتناول فيه تصوّف وعرفان فريد الدين العطار صاحب «منطق الطير». لكنه ما استطاع أن يصل إلى ما وصل إليه ماسينيون، أي أن يقبض على روح الحضارة. أما الأنجلو ساكسون، وأقصد في دراسات الإسلام، فهم بين هذا وذاك. 

علّة بنيوية
 لك إسهامات معروفة في حاضر الفكر العربي، وبخاصة في الإسلاميات: في تحقيق التراث وفي الكتابة حول قضايا إسلامية قديمة ومعاصرة. هل يمكن أن تشرح لنا هذا الجانب من نشاطك الفكري؟ 
- بحلول هذا العام يكون قد مضى عليَّ أربعون سنة في التدريس. وأول ما فكرت فيه بعد نيلي الدكتوراه هو الانصراف إلى كتابة تاريخ للتفكير السياسي في الإسلام، وأعني مسألة الدولة.
وحاليًا أعدّ كتابًا حول خلاصة تفكيري في النواحي السياسية اسمه «التفكير في الدولة في المجال الإسلامي». لماذا؟ لأنني حينما كتبت أطروحتي الجامعية (1975 - 1977) كانت الدولة الوطنية العربية قد دخلت في مرحلة التصدع. ويومها قرأت لكاتب مصري كتابًا استوقفني عنوانه «العرب والخروج من التاريخ». أدركت صحة القول بأن عندنا علّة بنيوية، بمعنى أننا لا نحسن إقامة دول. وهذا حثني على إيلاء التفكير السياسي اهتمامي. وفوجئت عندما بدأت بالقراءة أنه ليس هناك سوى ثلاثة كتب يرجع إليها من يريد الكتابة في الدولة الإسلامية، وهي «مقدمة ابن خلدون»، و«الأحكام السلطانية» للماوردي، و«السياسة الشرعية» لابن تيمية. 
كانوا يرددون أن كتابات العرب في مجال التفكير السياسي ضئيلة، لكنني تيقنت من أن كل تفكير سياسي هو في المحصلة تفكير بالدولة. وبعد أن حددت الأولويات، بدأت أجمع وأطّلع على مخطوطات ذات عناوين سياسية، موجودة في مكتبات باريس وبرلين وميلانو ودار الكتب المصرية، ومعهد المخطوطات بالجامعة العربية، فوقعت على حوالي 300 مخطوطة ما كنت أعرف معظمها. عملت كشفًا بها، وباشرت بدراستها ونشر نصوص سياسية ذات صلة. وهدفي من ذلك أنك إذا أردت أن تكتب تاريخًا عن أمرٍ ما، فعليك أن تتعرف إليه جيدًا من خلال المخطوطات التي تتحدث عنه بشكل جيد. 
أضف إلى ذلك أن القراءة الدقيقة للمخطوط ونشره تعينك على التأمل الدراسي العميق. لذا كنت أكتب دراسات مطولة وأنشر هذه المخطوطات بهدف جلاء مسألة الدولة في التاريخ العربي الإسلامي. ونتيجة لذلك تولّد عندي الكثير من الاستنتاجات. فكتبت كتابي الأول المهم: «الأمة والجماعة والسلطة»، وأصدرت كتابًا مهمًا آخر اسمه «الجماعة والمجتمع والدولة». كما نشرت مخطوطات مهمة وكلها في الفكر السياسي، واكتشفت أن هناك خمس مدارس في التفكير بالدولة، وأنه ليس صحيحًا أن كتبًا سياسية كبرى لم تُكتب بالعربية قديمًا. 

أديب المجالس
لكنك عندما تدرّس مادة الدراسات الإسلامية، فأنت لا تدرّس فقط ولا تفكر فقط في الفكر السياسي الإسلامي. أنا ناضلت خمس عشرة سنة حتى باتت هذه المادة أساسية في برامج الجامعة اللبنانية وجامعات درّست فيها (هارفارد مثلًا). درّست أيضًا الفقه والأصول وتفسير القرآن، وأكثر ما درّست بالإضافة إلى الفكر السياسي، الفكر الكلامي الإسلامي الذي يسمى «علم الكلام». كما درّست الفلسفة الإسلامية، يعني الفارابي وابن سينا وابن رشد والغزالي. وهذا كله وسّع عندي المدارك والمعارف وإمكانات الشمول. 
والملاحظة بعد تجربة التعلّم والاستكشاف الطويلة أن هذه الثقافة هي بمنزلة شبكة. ونفهم هنا أن من كان يوصف قديمًا بأنه أديب، فالمقصود بذلك أنه يمتلك رؤوس موضوعات في عشرة مجالات يستطيع الحديث فيها. هو يعرف شيئًا عن نظام الخلافة وشيئًا عن الصعاليك في الجاهلية وشيئًا في الأدب والشعر. كانوا يسمونه «أديب المجالس»، بحكم امتلاكه الحد الأدنى من مقومات هذه الثقافة الشاملة. وهي تبدو كأنها شبكة لا تخصصات منفصلة. 
وأعني مثلًا كتاب «الأحكام السلطانية» للماوردي، فهو كتاب في الفقه الدستوري، لكنّه يشتمل على نحو خمسمئة بيت شعر. وبما أنني اشتغلت كثيرًا على نتاج الماوردي، فقد اكتشفت أن لديه كتابًا اسمه «الحِكَم والأمثال»، جمع فيه الأشعار التي تمثّل بها في كتبه. هكذا كانوا يمارسون التأليف. 
هذه شبكة اتسعت فيها معارفي، لأنه كان عليّ تدريس طلابي أمورًا جديدةً كل فترة. أنا كنت أساسًا متخصصًا في مصر وألمانيا في «علم الكلام» والفلسفة الإسلامية، وبما أنني درست اختصاصات عدة، فقد بتّ واسع الاطلاع على هذا المجال الرحب الذي يسمى الحضارة الإسلامية. أكثر إنتاجي الذي أعتقد أنني جددت فيه، هو التفكير السياسي في الإسلام. وقد نلت على كتبي التي ألّفتها في هذا المجال المعرفي، مثلما على النصوص التي حققتها فيه، جائزة الملك فيصل عام 2017.

بين التأليف والتدريس
أذكر هنا أنني جددت أيضًا في بحوث أصول الفقه، وبالطبع في البحوث الكلامية. لديّ كتب ونصوص ذات صلة، ولديّ كتب في تاريخ الأفكار في الإسلام، لا السياسية فقط.
واظبت على التأليف والتدريس اللذين لا يقوم العلم إلا عليهما، كما يُقال بالألمانية   Forschung und Lehre، فالبحث يفضي إلى مقالات ومؤلفات، والتدريس ليس معناه أن تعلّم طلابك فحسب؛ بل أنت تنمو وتتطور شخصيًا بالطلاب النابهين الذين يناقشونك، والذين يكتبون أوراقًا بإشرافك، ويطلعونك من ثمّ على ما لم تكن مطلعًا عليه قبلًا. كنت محظوظًا بزملائي وطلابي. أنا أشتغل وأنتج كثيرًا وليس عندي أيّ وهم أو همّ أن هذا الاستشراف الذي أملكه ينبغي ألا أبوح به إلى أحد، حتى أكون قد نشرته. زملائي وطلابي هم على الدوام شركائي في الأفكار الجديدة التي نعمل عليها ونتداولها وننشر فيها. ولذلك يتملكني شعور مفاده أن عندي في شيخوختي نوعًا من الإحاطة النسبية بالثقافة الإسلامية والحضارة الإسلامية، وقد مارستُ فيهما التأليف والنشر والترجمة. 
طوال الخمس عشرة سنة الأخيرة أعطيت ثلثي اهتمامي للدراسات الحديثة في الإسلام، وحول الإسلام، وبحوث إعادة القراءة والبناء للدراسات الإسلامية، فضلًا عن معالجة مسائل الحركات الإسلامية والعنف والإسلاموفوبيا، وهمومها ومشكلاتها.
وانشغلت في السنوات العشر الأخيرة بما صار يُعرف بالإصلاح الإسلامي، ليس بغرض الرد على التطرف فقط، بل للشغل على البدائل أيضًا، بمعنى النظر في كيفية الخروج من الانسدادات التي حصلت في الإسلام. والسبيل إلى ذلك ليس عن طريق النهي عن المنكر كما فعلنا طويلًا: لا تمارسوا العنف، لا تقتلوا، حسب الوصايا العشر؛ بل كان علينا أن نقول للشباب ما هو الإسلام الذي نعرضه عليهم، وما هو المعروف الذي ندعوهم إليه، وما هي الدولة الوطنية الصالحة التي نعرضها عليهم.

ثلاث مجلات
بحوثي في الدولة القديمة وحولها أفضت بي إلى بحوث في الدولة العربية الحديثة والمعاصرة. ولذلك تشعّبت وتعددت عندي فنون التأليف وموضوعاته. واشتهرت بأمر ثالث غير الإبداع في التفكير السياسي والشمولية بالثقافة الإسلامية والوصول إلى الأزمنة الحديثة.
فقد كان من حظي أنني توليت رئاسة تحرير ثلاث مجلات فكرية عربية بارزة: مجلة الفكر العربي التي كان يصدرها معهد الإنماء العربي (1979 - 1985)، ومجلة الاجتهاد التي أصدرتها مع الأستاذ الفضل شلق (1987 - 2004)، ومجلة التسامح/ التفاهم العُمانية التي أنا مستشار التحرير فيها منذ عام 2004.  
وتجربة تحرير المجلات الكفرية تجربة شديدة الغنى بحكم الاحتكاك بمئات الكتّاب والمترجمين المتخصصين الذين تستكتبهم وتتواصل وتتناقش معهم، علاوة على تولّيك مهام التفكير والتخطيط للمحاور ولموضوعات الأعداد. 
اغتنت تجربتي هذه. فعلى مدى ثلاثين عامًا تابعت الكتابات في العلوم الإنسانية والاجتماعية والفلسفية والدينية في العالم العربي والعالم من خلال العمل في هذه المجلات الثلاث. تعرّفت على أناس كثر، واشتغلت معهم وتواصلت وإياهم، وتبادلنا الأفكار والآراء ووجهات النظر. ويبدو هذا في كتابين تذكاريين صدرا أخيرًا عني: الأول أخرجه لي زملائي (45 زميلًا وزميلة) بمناسبة بلوغي الستين، والثاني هو كتاب الرابطة المحمدية لعلماء المغرب «يوم دراسي في تطوان»، وأصدروه بمناسبة بلوغي الخامسة والستين. 
ثم إن تجربة التدريس هي في نظري كبيرة الفائدة، لأنك تظل على اطلاع على الجديد في التدريس ومناهجه، وفي التأليف بالموضوعات التي تهمك. فأنت إن أردت أن تقرأ في اللاهوت الإسلامي وتؤلّف في تطوراته القديمة الحديثة، عليك أن تطلع على كلا اللاهوتين الكاثوليكي والبروتستانتي. فكلّ هذه الإشكاليات الكبرى في فلسفة الدين هي إشكاليات مشتركة. أضف إلى ذلك أن التطواف في العالم الغربي من موقع المدرّس يعطيك خبرةً توظفها لإفادة طلابك من جهة، ولكتابة مؤلفاتك والإقبال على ترجمة أمور تعتقد أنها مفيدة لتخصصك ولطلابك في آن.
 
مشاريع فكرية
بالحديث عن الفكر العربي في وقتنا الراهن، نتوقف عند مشاريع فكرية اضطلع بها مفكرون عرب كبار أمثال الجابري وتيزيني وحنفي ومروة لتفسير جوانب من التراث القديم، ولاقتراح رؤى جديدة ومستقبلية للعرب. هل هناك نهضة عربية ثانية في رأيك؟ وما المواد الفكرية التي تقترحها لتأسيس النهضة العربية عليها؟ 
- ثمة مشاريع تراثية كبرى قام بها كبار المفكرين العرب لتفسير الإسلام وتفسير الموروث أو نقده. وقد قرأتهم كلهم بالطبع، وأكثرهم زملائي وأساتذتي. قبل أسابيع توفي الطيب تيزيني في مدينة حمص المنكوبة التي عاد إليها بعد تهجير. لقد كان عزيزًا عليّ رغم اختلافنا الكبير. كل المذكورين أصحاب مشروعات، ولا شك في أنهم قدّموا مبادرات كبيرة، وبالذات الجابري، لأنه رجل جاد. إنما المشكلة هي أنهم يريدون دائمًا تحرير هذا الموروث منا أو تحريرنا منه. ويعتبرون أنه جامد ويحول دون الدخول في الحداثة. ومع ذلك قاموا بعمل نقدي معتبر حول الموروث. كان عندي موقف من هذه المشروعات وكتبت كثيرًا ضدها. لكنني شعرت في السنوات الأخيرة أنه إذا رغبنا في أن تتحقق هذه الاستمرارية بين الماضي والحاضر من أجل الفهم والتجاوز، ينبغي أن يُدرس هذا الموروث بمناهج جديدة تشتغل على طرائق استمراريته دونما أحكام قيمية.
ليست هناك عصور وسطى إسلامية وانحطاط ألف عام. غير صحيح هذا الكلام. قرأت كتابًا قبل ستة أشهر للألماني توماس باور اسمه «لماذا لم تكن في الإسلام عصور وسطى؟». ليست لدينا عصور وسطى مثل عصور الظلام الأوربي. عليك أن تشتغل على الموروث الثقافي العربي الإسلامي باعتباره شبكة حضارية ضخمة، ولم يحصل عليها انحطاط وانقطاع إلا مع الغزو الأوربي. لذلك كنت أشعر أن زملاءنا وأساتذتنا يظلمون الموروث عندما يقرأونه بأيديولوجيات القطيعة.

شبكة هائلة
لا يزال الشافعي الذي ندرسه في ميدانه التاريخي وفي سياقه هو نفسه وليس رجعيًا ولا تقدميًا حسب التوصيفات التي عملها اليساريون، وآخرهم نصر حامد أبوزيد، رحمه الله. هذه الطريقة غير مفيدة، إذ يمكنك أن تدرسه ضمن السياق، ولكن من ضمن عملية حضارية قائمة لا منحطة ولا رجعية أو تقدمية بحد ذاتها، بل هي بنت عصر تلك الثقافة. ولأنها كذلك تستمر في التوالد والتولد. 
كانوا يحكون في الستينيات والسبعينيات عن موت المؤلف، والجاحظ نفسه يقول: كنا ننسب إلى المؤلفين المشهورين كتبنا كي تشتهر، وكنت وتلميذي وتلميذ تلميذي نكتب الكتاب معًا، أو أن الكتاب ينمو لدى القارئ والمتلقي. ثمة شبكة هائلة جدًا من هذه الثقافة الناهضة البناءة التي تحصل فيها صناعة الآداب والأفكار والإبداع. لذلك اشتغلت وأصدرت كتبًا ونشرت دراسات لرؤيةٍ أخرى عن الموروث والتقليد وعلاقاتنا بهما. وكان هذا ردة فعل تجاه إنكار القديم وتأويله باتجاه تجميده من أجل تحريفه وتخريبه، كما فعل أدونيس.
وإضافة إلى التجديد في قراءة الموروث الذي صار اليوم مذاهب نتداولها، ونربطها بالقرنين التاسع عشر والعشرين، اشتغلت وزملائي كثيرًا في السنوات الأخيرة على ما يسمى الإصلاح الإسلامي.

مذهب وسطي
 جاء التشدد بحكم أن المؤسسات الدينية شعرت بغُربة. هم يراجعون ويتلاءمون، لكنهم لا يعرفون كيف يخاطبون هؤلاء الشبّان المتطرفين الذين ليسوا بالضرورة إرهابيين، لكنهم متشددون وانشقاقيون. اشتغلتُ طويلًا على تحليل هذه الظاهرة، وتقصيت أسباب ظهورها في كل الأديان، وترجمت كتبًا عن الموضوع. ووجدت أنها الأعنف والأشد عندنا وعند اليهود. 
وأعني ظاهرة التشدد التي توصل أحيانًا إلى العنف، إذ علــيك أن تدعوهم إلى المذهب الوسط، وتحدد لهم ما هي معالمه، وليس باعتمــــاد الكلام الخطابي. واشتغلت في السنوات الأخيرة على السردية الجديدة للدين، ونظّمت سيمينارات وورشات عمل عدة ولا أزال.  وإلى السردية الجديدة أردت أن أقوم بدراسة شبه نهائية للتفكير بالدولة في مجالنا. 
وخطر لي بسبب الاستهداف والتحدي الذي يواجهه المسلمون السنّة، وسط ملايين المهاجرين والمضطهدين والمسجونين والمقتولين، أن أكتب تقدير موقف لوضع الإسلام السنّي والشيعي عندما يكونان في المواجهة. بدأت أعمل على مشروع أهل السنّة من عشر سنوات، وسيمرّ بمرحلة كلاسيكية (3 أقسام) وبالفترة المعاصرة أتحدث عن تصدّع أهل السنة (مجلد واحد)، والاستشرافات المستقبلية.

 نهوض فكري
  بناءً على هذه النشاطات التي تقوم بها، هل هناك نهوض في الفكر وسط الانهيارات التي تعانيها الدولة الوطنية العربية؟ وإلى أين يتجه الفكر العربي؟ 
 - كما سبق القول، لقد أشرفت على مجلات، ولا أعاني تقنيات المقالة (الأول والآخر والوسط والحواشي، وغير ذلك)، بل ما نعانيه يدخل في الاستيعاب وإعادة التشكيل. نعم عندنا مشكلة سواء في البناء السياسي أو البناء الثقافي. لا أعرف هل يمكن تسميتها أزمة؟  في المسألة السياسية تأزّم، حيث انهارت كل المسلّمات وكل الثوابت، ونحن في خضم مرحلة انتقالية لا نعرف بالتحديد متى تنتهي ومتى يحدث الاستقرار. أما في المسألة الثقافية فهناك بعض الزملاء البارعين والماهرين، لكنهم ليسوا مبدعين في أي ناحية، بحيث تستطيع أن تقول هناك مقولة جديدة في قراءة التاريخ العربي أو قراءة مصائر الإسلام. 
بهذا المعنى نعم لا تجد إمارات وإشارات إلى أمور كثيرة واعدة. أنا لا أقول إنه ليس هناك شيء في التفلسف، في التفكير الديني أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو السوسيولوجي أو التاريخي. ثمة وجود لبعض ذلك، لكنها شخصيات قليلة وظواهر قليلة. 

ظاهرة صحية
 هناك ظاهرة صحية، وهي أن الترجمات كثُرت. من الممكن أننا نحتاج إلى تثقيف والترجمة تثقف، وقد تحسنت نوعيتها اليوم، وهي كثيرة في مختلف الحقول. ودارسو العلوم البحتة والتطبيقية يعرفون تلك اللغات الأجنبية ويقرأون بالإنجليزية والفرنسية. أما بالنسبة للدراسات الثقافية والفكرية والإسلامية والسياسية والاجتماعية، فكلها نحتاج فيها إلى ترجمات كثيرة لترقية الباحث وتكوينه، والمزيد من تكوين الأستاذ. وضعنا صعبٌ، لكنه لا يبعث على اليأس في المسألة الثقافية. الذي يبعث على الأسى ما يحدث من تصدعات في المجالين السياسي والاستراتيجي، وفي بنى الدولة الوطنية.  في المسألة الثقافية هناك، كما قلت وأختم بذلك، بعض الشخصيات وبعض الأفكار، لكننا ما نزال نحتاج إلى عمل كبير كثير؛ ليس هناك نهوض بالمعنى العام لذلك. وتحدوني منذ أعوام الثلاثية التي صارت مشهورة: استعادة السكينة في الدين، واستنقاذ الدولة الوطنية، وتصحيح العلاقة بالعالَم. بعد تقاعدي من الجامعة اللبنانية درّست بالجامعة الأمريكية. وأميل اليوم وقد بلغت السبعين، إلى التفرغ للكتابة. قرأت كثيرًا دائمًا، وكتبتُ كثيرًا، إنما لا بد من انصرافٍ كلّي لذلك .

د. نادر سراج (إلى اليمين) محاوراً د. رضوان السيد