مدار الوقت في مرايا شوقي بزيع

مدار الوقت في مرايا شوقي بزيع

ليس ثمة ما يجعل القصيدة أكثر إدهاشا، من لغتها الشعرية المتقنة، وتلاقح الصور البلاغية التي تحملها، بشكل يجعلها تقترب من ذهن القارئ وتلامس فكره ووجدانه، حتى لكأنه يكاد يحسها ويراها، بل ويعيشها أحيانا كثيرة، فتحوّل الإيقاع اللاحق إلى لغة كما يرى شوقي بزيع، لا يمكن أن يتم إلا من خلال الصورة المحسوسة، وبواسطتها، كما أن الفكرة والمعنى لا قيمة لهما بالمفهوم الإبداعي ما لم تلبسا لبوس الصور المحسوسة القابلة للتسييل عبر مشهد مرئي. في الشعر إذن لغة خاصة تخاطب العقل والقلب والضمير، بما تحمله من مضامين عميقة وجليلة، وجماليات يخلقها الشاعر ويبدعها في نصه، وهو لربما ما يميز فطرة الشعراء عن غيرهم، وأيضا ما قد يفسر تفاوت قدراتهم الإبداعية في الرصد والإنتاج.

 

أما زمن القصيدة فهو بعد آخر، وعالم آخر، ومرآة أخرى لمخزون الشاعر الفكري والوجداني، وقليلون هم من برعوا في جعلها تنساب كشريط مرئي محسوس، وكأن كلماتها تنبض بالحياة. في شعر شوقي بزيع حيث تتحّد الطبيعة بالإنسان، وتغدو الدروب مفتوحة على شتى الصور والملامح، يسلك بنا الشاعر في كل مرة طريقا مغايرًا للدهشة والانعتاق، فهو يرسم لنا في كل محطة من محطاته، صورًا وأخيلة لرؤاه وتوليفاته، عبر تكثيف للمعنى وتوليد متعاقب للأفكار، التي تفتح عين القارئ وبصيرته على قلب النص الشعري ونوافذه، وتصوّر له ما لا يمكن تصويره أو رؤيته فقط بالعين المجردة.
وقد برع شوقي كما لم يبرع غيره في قياس الزمن الفعلي لحياة الإنسان شعريا، وتصويره في مراحل عمرية متفاوتة، بتقلباتها وانطباعاتها المختلفة، بدءا من الطفل الذي ظل يلاحقه في سردياته وانفعالاته، إلى بيوت الكهلة.
هكذا إذن يحمل شوقي بزيع في داخله طفلا لا يغادره وإن غادرته السنون وحبال الأودية، طفلاً يلازمه ويكوّنه، يحمل الشعر عنه، ويدفئه بدثار القصيدة، ويورثه خصال الكلام الحميدة، طفلاً يخاطبه ويسأله ويحزن له، وربما يناديه أحيانا كما فعل في قصيدتيه «فراديس الوحشة» و«مرثية الغبار»:
قلت للطفل الذي فيَ:
انتظرني
ربما أبلغ في خاتمة الرحلة
ما لم تطأ الأحلام من قبل
ولم تمسس يدان
أتسمعني أيها الطفل؟
هل تذكر القروي الذي كان يركض خلف عصافيره
في المدى الدبق المتلاطم؟
أيها الطفل يا ولدًا كنته قبل ثلاثين عامًا
أما كان في الأرض متسع لي ولك
ألست أنا من تعفّر بين ذراعيك؟
والزعفران الذي يتنزه بين شهيق دمي وزفير القرى
أنت أورثتنيه،
وأورثتني شقرة الشَعر
جوهرة الشِعر...
إلى أن يقول:
ولماذا إذًا أصبح العمر مئذنة من دخان؟
ولماذا إذًا نلتقي مثلما يلتقي أعميان؟
مسكون هو بأحلام الطفولة إذن، وبأوجاع رحيلها عنه، إذ يبدو الحزن طاغيا على شوقي بزيع، فهو وإن ودع طفولته بحسرات الندم، إلا أنه بقي يحمل في قلبه ذلك الطفل وإن بدت عليه آثار الزمن، حيث لم يزل في عالمه الداخلي صبيا يأبى الرحيل:
كيف لي أن أقود مظاهرة من خطاي القديمة 
نحو الصبي الذي شاخ في داخلي 
أن أناديه من عتمة الأقبية:
 هل أنا أنت؟
 أم نحن وجهان لا يجريان إلى غاية أو هدف 
ومن نحن؟
 من يصرخ ُالآن فينا: 
الظلال أم الأصل أم أننا نقطة المنتصف 
بين ما لا يجيء وما لا يعود؟ 
وهل نحن فاصلة بين حربين 
أم وحشة تتدحرج نحو سديم النهايات؟
 يا ولدا كنته قبل ثلاثين عامًا 
أغثني
 رُد لي شفق السنديان الذي كنت تركض بين ذراعيه، 
أرملة البيلسان المشرّد
 والسنبلات اليتامى.
وهكذا يودع شوقي بزيع مرحلة الطفولة، وكأنه يشاهدها وهي ترحل دونه كمركب ورقي، أو كزغردة تتلاشى فقاعاتها شيئا فشيئا في مياه السنين:
تسير طفولاتنا خلفنا 
كمراكب من ورق
ثم تنأى
كزغردة تتلاشى فقاعاتها في مياه السنين
وفي ذات القصيدة يعود ليتدارك ما بقي له من عمر قادم كي يغني له، لكنه يصرخ كمن ينادي على من رحل ولن يعود أبدا، ولعلنا نكاد نسمع صيحته، ونداءه الممزوج بالمرارة، وهو يتهيأ للعمر الجديد، الذي أوشك على الأربعين عاما، واصفًا إياه تارة بالشتاء وتارة بالخريف:
هيئوا لي ثلوجًا على قِمَم الأرْبعين
وشوكا لكيْ ينْحني جسدي فوق صبّاره المرّ
واستمعوا للخريف 
الذي تتعاظمُ صفرتُه في أقاصي ذبولي، 
ولا تعدوني بشيءٍ 
سوى ما تزيّن لي وحْشتي من كوابيسها
وارفعوني قليلاً
لأشهدَ قصديرَ روحي
الذي يلمعُ الآن فوقَ سُطوح المُدُنْ
وارفعوني قليلاً
لأسْندَ خابيَةَ العُمْرِ 
فوْقَ الحصاةِ الأخيرة 
قد يذهب البعض إلى تفسير هذا الحزن أو الحسرة على سنوات الطفولة والعمر الفائت إنما من قبيل النقمة على الحياة أو التقدم في العمر، إلا أن الحقيقة تبدو جلية في أن شوقي بزيع إنما يكتب بتصالح ذاتي كبير مع الحياة، فلا هو نافر مما آل إليه، ولا هو ناقم على وضعه بعد كل تلك السنوات التي عاشها طفلًا مدللًا يركض خلف العصافير بين الحقول، ومراهقا يافعا يكتب الشعر، ويرسمه في مرايا العيون، لكن المؤكد أن تسارع الزمن ومروره مرور السهم الخاطف كان له وقعه الخاص، وهو الانطباع الذي لطالما جسده شوقي بزيع في قصائده، منها مجموعته الشعرية الجديدة «الحياة كما لم تحدث»، وكذلك مجموعاته السابقة، ولعل قصيدته «الأربعون» خير دليل على وصفه لتلك المرحلة العمرية الحرجة التي تقف في المنتصف، بين انتفاء الشيء ووجوده، بين ضدين لا يتشابهان إلا في التناقض، وبين قمة العمر وسفوحه المطلة كما يصفها: 
أن تكون على قمة العمر
من دون ثقل
لكي تتوازن في راحتيك الخسارة والربحُ،
أن تتساوى على جانبيك الرياح الحرون
أن يتقاسم تركة روحك ضدَان:
 طفلٌ وكهلٌ
وصعودٌ وسهلٌ
ووقارٌ وجهلٌ
وأن يتعاقب في لحظة فوق سطحك
صيف النبي
وسيف الجنون
وللخمسين وما بعدها قصيدة أخرى، تطل على سفوح الذات، وكـأن التقدم في السن ليس إلا محض خطوط، وبعض سكون النفس وقنوطها:
الرجل الذي يطل مثل شرفة قديمة
على سفوح نفسه،
المقيم دائمًا على التخوم
بين فورة الحواس واندلاعها
وبين مخلب السكون
***
لكن ذلك الذي غزاه الشيب
واعتلته رجفة القنوط،
والذي علت جبينه الخطوط
من يكون؟
ومن تكون هذه التي تلوح
مثل بقعة شحيحة السواد
أسفل العيون؟
لعلها الخمسون
ومن ديوانه الأخير «الحياة كما لم تحدث» الصادر حديثا، تأتي قصيدته «بيوت الكهلة»  لتؤكد رؤية شوقي بزيع للعمر كرحلة عبر الزمن لا بد منها، ففي النهاية كل شيء سيبدو وكأنه لم يحدث أبدا، ولا مفر عندها من استعادة البدايات حتى لا تغيب تمامًا:
نحن رحّالةَ الوقت،
أيتامَهُ وسباياهُ،
مَن لوّحوا لطفولاتهم بالقناديلِ
كي لا يحلَّ الظلامُ على الضحكاتِ
التي خلَّفوها وغابوا،
ومن أطلقوا طائراتِ سماواتها الورقيّةَ
كيما تحلِّق ريَّانةً
فوق أنقاض أعمارهم
فماذا إذن نبتغي من بيوت الكهولةِ
حين نؤوب إلى فيئها
أهْي محض افتنانٍ بما فاتنا
من فراديسَ غائرةٍ
في كهوف بداياتنا،
أم لنجعل مما بنيناهُ مستودعاتٍ
لتخزينِ خرْدة أعمارنا المهملة؟
أم آنا نشيّدها رغبةً في التخفُّفِ
من ربق الأسئلة؟
كان لابد إذن من العودة مهما طال الانتظار، ومهما جرى بنا قطار الحياة، إلى تلك البيوت التي شُيدت لتكون محطة لاسترجاع النبض، وينبوعا لبث الفرح في خلايا الحزن، والضوء في رحم الظلام، كان لابد من الاستئناس بكل ما حدث وكل ما لم يحدث، بكل ما مر بحياتنا، وكل ألم عشناه وأمل عايشناه، وكل محطة مررنا بها عبر قطار الحياة، وأهدتنا أضواءها وقناديلها وأهديناها أحلامنا وطائراتنا الورقية. 
كان لا بدَّ من أن نعود،
ولو عجَّزاً وحفاةً من الانتظار
وصفْر اليدين
لندركَ أن الحياة قطار ■