فيروز في الثمانين عندما يتحول الفنان إلـى رمز
بحلول شهر نوفمبر الماضي بلغت الفنانة الكبيرة فيروز الثانية والثمانين من عمرها. ومع أن كل عشاقها في جميع أرجاء الوطن العربي من المحيط إلى الخليج، يتمنون لها أن تتجاوز السنوات المائة من عمرها، فإن هذه المحطة المتقدمة في السن قد بدأت، ومنذ سنوات طويلة تطرح مسألة الشوق الدائم لدى الجمهور رغبته التي لا تتوقف ولا تعرف حدوداً، بالاستمرار في رؤية فيروز، وغيرها من كبار الفنانين والفنانات بأن يظلوا قادرين (وقادرات) على إنتاج الجديد من فنهم، والظهور الدائم على المسرح، لإسماعه هذا الجديد.
إن جمهور عشاق فيروز (وسائر كبار الفنانين التاريخيين) لا يعترف، ولم يعترف يوماً، بالشيخوخة الفنية عند فيروز، أي بآثار تقدّم السن لديها على الترتيب الفيسيولوجي لحنجرتها الرائعة، وبتقدم أوتار هذه الحنجرة، وسائر أجزائها، للشيخوخة الفنية، مع تقدم الفنان في السن.
وهذه المسألة ليست جديدة، ولا تقتصر على عشاق فن فيروز، الذين يملأون أرجاء الوطن العربي الكبير بالملايين، بل واجهت سابقاً عشاق محمد عبدالوهاب، وعشاق أم كلثوم، وحتى عشاق عبدالحليم حافظ، مع أنه رحل عن هذه الدنيا، قبل أن يتم الخمسين من عمره (رحل في الثامنة والأربعين 1929/1977).
تظهر عوارض هذه الظاهرة أولاً في التغيرات الواضحة التي يبدأ الانتقال إلى مرحلة جديدة في عمر الفنان، على تكوين جهاز حنجرته، وهي ظاهرة لا تبدأ فقط في سن شيخوخة الفنان، لكن هذه التحولات الفيسيولوجية في حنجرة الفنان، تظهر أعراضها، كلما دخل في مرحلة عمرية جديدة.
فمطرب القرن العشرين محمد عبدالوهاب، عرف عندما كان يمارس الغناء في العشرينيات حتى مطلع الستينيات، أي قبل رحيله بثلاثين عاماً، تحولات كانت تطرأ على حنجرته، كلما تقدم به العمر.
ففي حياة عبدالوهاب الفنية مرحلة الطفولة التي سجل خلالها، وهو دون العشرين من عمره، سجل بصوته الطفولي قصيدتين من قصائد سلفه العظيم سلامة حجازي (أتيت فألفيتها ساهرة/ ويلاه ما حيلتي)، بعد ذلك دخل صوت عبدالوهاب في النصف الأول من العشرينيات مرحلة النضج الأولى (فيك عشرة كوتشينة) وغيرها، ولم يصل إلى مرحلة النضج الأولى الذهبية إلا بعد عام 1927، عندما بدأ يسجل مواويله وقصائده الخالدة التي افتتحها بقصيدة «يا جارة الوادي».
في المرحلتين الأوليين، كانت الطبقات العليا من صوت عبدالوهاب هي الغالبة، وبعد ذلك مرحلة «يا جارة الوادي» طرأ على حنجرته نضج واضح، فأخذت تظهر الطبقات الغليظة في الصوت، إلى جانب نضج وتوازن في الطبقات العليا (موال مسكين وحالي عدم مثلاً).
تحول إلى التلحين
وظل التحول يدخل على حنجرة عبدالوهاب في مرحلة الثلاثينيات أولاً، ثم الأربعينيات الناضجة والمتوازنة، ثم الخمسينيات (من أدّ إيه كنا هنا، وبفكّر في اللي ناسيني)، حتى بلغت حنجرته شيخوختها الكاملة، وكان قد تجاوز الستين من عمره، في مطلع الستينيات (هان الود)، ولا شك في أن كثيراً من عشاق عبدالوهاب يلاحظون هذه التحولات التي تطرأ كلما تقدم في العمر، لكنهم مع ذلك ظلوا لا يعترفون بهذه الظاهرة، ويصرون على ألا يتوقف عن الغناء الجديد أبداً، لكن الفنان الذكي والمتوازن تحول إلى التلحين، في سنواته الثلاثين الأخيرة، ولم يظهر مغنياً إلا في حالات نادرة، أو مع عوده المنفرد، حتى أطلق في أواخر الثمانينيات رائعته الكبرى «من غير ليه»، التي سجلها بصوته ليؤديها الفنان عبدالحليم حافظ، قبل رحيله في عام 1977.
هذه الظاهرة تكررت بحذافيرها مع الفنانة أم كلثوم، ومع الفنان وديع الصافي، ومع الفنانة فيروز.
فأغنيات فيروز الأولى التي كانت تطلقها في الإذاعة اللبنانية وإذاعة دمشق، كان صوتها فيها يمر بمرحلة الفتوة الأولى، حيث كان حجمه لايزال غير مكتمل النضج، وكانت تطغى عليه الطبقات العليا في الصوت.
ومع تقدم فيروز في العمر، وتمرّسها بمزيد من الخبرة المهنية، خاصة بعد انتسابها إلى المؤسسة الرحبانية الكبيرة، أخذ التقدم في السن والخبرة الفنية يبدو جلياً في تركيب حنجرة هذه الفنانة القديرة، حيث بلغت في الستينيات والسبعينيات مراحل النضج الكبرى، التي تتوازن فيها الحنجرة بين الطبقات العليا والمنخفضة في الصوت.
وتشاء المصادفات السعيدة للفن العربي في لبنان، أن يحدث هناك تزاوج بين نضج المراحل لدى الأخوين رحباني في الشعر الغنائي من جهة والتأليف الموسيقي من جهة ثانية، مع نضج واضح في حنجرة فيروز. وكان طبيعياً أن تكون تلك ذروة المرحلة الذهبية في فن الأخوين رحباني من جهة، وفن فيروز من جهة ثانية، وهي المرحلة التي انضم فيها عبدالوهاب إلى فريق الملحنين الذين يزودون حنجرة فيروز بألحانهم، فأهداها روائعه الثلاث «سهار بعد سهار»، و«سكن الليل»، و«مر بي». وهي المرحلة نفسها التي اقتحم فيها الموهوب فيلمون وهبي عالم فيروز، بمجموعة من أنضج ألحانه وأرقى أغنياتها.
عند هذه المرحلة كانت السن لم تتقدم كثيراً بفيروز، فراحت تنظم ظهورها أمام الجمهور في إطار المؤسسة الرحبانية، في مواسم غزيرة كان عشاق هذا الفن في لبنان، وفي سائر أرجاء الوطن العربي، يتمنون أن يظل ظهورها سلسلة من المواسم الفنية التي لا تتوقف.
زحف الشيخوخة
ومع هذه الذروة الشامخة من التداخل بين مرحلة النضج الموسيقي لدى الأخوين رحباني، والنضج الصوتي في حنجرة فيروز (قبل تجاوزها الستين من عمرها)، تحولت فيروز إلى أيقونة ليس في لبنان فقط، بل بشكل خاص في سائر أرجاء المشرق العربي أولاً، الذي كانت شعوبه العربية في كل من لبنان وسورية وفلسطين والأردن (بشكل خاص)، تعتبر فيروز مطربتها الأولى والتاريخية، وذلك تعبيراً عن ذروة عالية من ذرى النهضة الفنية التي سادت المشرق العربي بين الخمسينيات والسبعينيات، حيث كان صوت فيروز أحد الرموز الكبرى في هذه النهضة الفنية العريقة.
وقبل أن تدهم الشيخوخة حنجرة فيروز، شاءت المصادفات السعيدة في تطور الغناء العربي، أن يتكثف اللقاء الفني بين عبقرية زياد رحباني الموسيقية المتدفقة، وعبقرية حنجرة فيروز، فأطلق معها مجموعة من الأغنيات الجديدة التي شكلت مرحلة جديدة في المراحل الفنية المتطورة لهذه الفنانة الكبيرة، مع أن بعض عشاق فيروز في لبنان بالذات ظلوا على تعصبهم لمراحل فيروز السابقة، مع الرحابنة الكبار.
ومع تجاوز السبعين من عمرها، كانت الشيخوخة قد زحفت بشكل طبيعي ومنطقي إلى هذه الحنجرة العظيمة، فبدأت تظهر بوتيرة أقل كثيراً من السابق في حفلات مسرحية حية، بحيث يكون الفارق بين الحفلة والأخرى سنوات عدة.
وكان أغرب ما في هذه الظاهرة الطبيعية أن جمهور فيروز المنتشر في أرجاء الوطن العربي، ظل كعادته لا يعترف بتقدم الحنجرة في السن، تماماً كما يتقدم الإنسان في عمره، ويتحول من الفتوة إلى الشباب، إلى نضج العمر، إلى الكهولة والشيخوخة.
فعلى سبيل المثال، ظل هذا الجمهور خاصة في سنوات عدم ظهور فيروز في حفلات مسرحية حية، أو قلة ظهورها، يلاحقها بالحماسة الفنية نفسها عندما تقوم في بعض المناسبات الدينية، بالظهور في إحدى الكنائس لإطلاق مجموعة من التراتيل الدينية بصوتها الرائع، فكان ذلك الظهور يتحول من مناسبة دينية إلى مناسبة فنية.
أما اليوم، وبعد أن بلغت فنانتنا الكبيرة الثانية والثمانين من عمرها، وبعد أن راحت سنة بعد أخرى تكرر اعتذارها عن عدم تلبية الدعوات التي لم تتوقف أبداً، لدفعها للظهور في حفلة مسرحية حية، ولو واحدة، فيبدو أن تقدم فيروز في شيخوخة العمر وشيخوخة الحنجرة، قد نقلها بالطبيعة والمنطق الذي لا مفر منه، من حيز إرواء ظمأ الجمهور بمزيد من الحفلات المسرحية الحية، إلى اكتفاء هذا الجمهور بالثروة الطائلة من التسجيلات التي أتحفته بها، والتعود على التعامل مع هذه الفنانة التاريخية، كرمز من أكبر رموز نهضتنا الموسيقية والغنائية، بعد أن تجاوزت الثمانين.
تجدر الإشارة هنا إلى أن الفنانة فيروز قد خرقت اعتزالها الفني المهيب بإصدار أسطوانة حملت عنوان «ببالي»، لكن عشاق صوتها وغالبية النقاد الفنيين الجادين تجاهلوا هذه الأسطوانة، على أساس أنها - كما قال بعضهم - لن تدخل تاريخ فيروز الجاد الذي يشكل ما أنجزه الأخوان رحباني عموده الفقري، مع إضافات فنية رائعة من فيلمون وهبي وزكي ناصيف ومحمد عبدالوهاب وزياد رحباني في الفترة المتقدمة من نشاطها الفني.
لقد آن أوان تحول فيروز من نجم غنائي كثير الظهور في حفلات مسرحية حية، على مدى عشرات السنوات، إلى رمز نسعد بوجوده بيننا، ونتمنى له طول العمر لسنوات كثيرة مقبلة■