فيروز في الثمانين عندما يتحول الفنان إلـى رمز

فيروز في الثمانين  عندما يتحول الفنان إلـى رمز

بحلول‭ ‬شهر‭ ‬نوفمبر‭ ‬الماضي‭ ‬بلغت‭ ‬الفنانة‭ ‬الكبيرة‭ ‬فيروز‭ ‬الثانية‭ ‬والثمانين‭ ‬من‭ ‬عمرها‭. ‬ومع‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬عشاقها‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬أرجاء‭ ‬الوطن‭ ‬العربي‭ ‬من‭ ‬المحيط‭ ‬إلى‭ ‬الخليج،‭ ‬يتمنون‭ ‬لها‭ ‬أن‭ ‬تتجاوز‭ ‬السنوات‭ ‬المائة‭ ‬من‭ ‬عمرها،‭ ‬فإن‭ ‬هذه‭ ‬المحطة‭ ‬المتقدمة‭ ‬في‭ ‬السن‭ ‬قد‭ ‬بدأت،‭ ‬ومنذ‭ ‬سنوات‭ ‬طويلة‭ ‬تطرح‭ ‬مسألة‭ ‬الشوق‭ ‬الدائم‭ ‬لدى‭ ‬الجمهور‭ ‬رغبته‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تتوقف‭ ‬ولا‭ ‬تعرف‭ ‬حدوداً،‭ ‬بالاستمرار‭ ‬في‭ ‬رؤية‭ ‬فيروز،‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬كبار‭ ‬الفنانين‭ ‬والفنانات‭ ‬بأن‭ ‬يظلوا‭ ‬قادرين‭ (‬وقادرات‭) ‬على‭ ‬إنتاج‭ ‬الجديد‭ ‬من‭ ‬فنهم،‭ ‬والظهور‭ ‬الدائم‭ ‬على‭ ‬المسرح،‭ ‬لإسماعه‭ ‬هذا‭ ‬الجديد‭. ‬

إن‭ ‬جمهور‭ ‬عشاق‭ ‬فيروز‭ (‬وسائر‭ ‬كبار‭ ‬الفنانين‭ ‬التاريخيين‭) ‬لا‭ ‬يعترف،‭ ‬ولم‭ ‬يعترف‭ ‬يوماً،‭ ‬بالشيخوخة‭ ‬الفنية‭ ‬عند‭ ‬فيروز،‭ ‬أي‭ ‬بآثار‭ ‬تقدّم‭ ‬السن‭ ‬لديها‭ ‬على‭ ‬الترتيب‭ ‬الفيسيولوجي‭ ‬لحنجرتها‭ ‬الرائعة،‭ ‬وبتقدم‭ ‬أوتار‭ ‬هذه‭ ‬الحنجرة،‭ ‬وسائر‭ ‬أجزائها،‭ ‬للشيخوخة‭ ‬الفنية،‭ ‬مع‭ ‬تقدم‭ ‬الفنان‭ ‬في‭ ‬السن‭. ‬

وهذه‭ ‬المسألة‭ ‬ليست‭ ‬جديدة،‭ ‬ولا‭ ‬تقتصر‭ ‬على‭ ‬عشاق‭ ‬فن‭ ‬فيروز،‭ ‬الذين‭ ‬يملأون‭ ‬أرجاء‭ ‬الوطن‭ ‬العربي‭ ‬الكبير‭ ‬بالملايين،‭ ‬بل‭ ‬واجهت‭ ‬سابقاً‭ ‬عشاق‭ ‬محمد‭ ‬عبدالوهاب،‭ ‬وعشاق‭ ‬أم‭ ‬كلثوم،‭ ‬وحتى‭ ‬عشاق‭ ‬عبدالحليم‭ ‬حافظ،‭ ‬مع‭ ‬أنه‭ ‬رحل‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬الدنيا،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يتم‭ ‬الخمسين‭ ‬من‭ ‬عمره‭ (‬رحل‭ ‬في‭ ‬الثامنة‭ ‬والأربعين‭ ‬1929‭/‬1977‭).‬

تظهر‭ ‬عوارض‭ ‬هذه‭ ‬الظاهرة‭ ‬أولاً‭ ‬في‭ ‬التغيرات‭ ‬الواضحة‭ ‬التي‭ ‬يبدأ‭ ‬الانتقال‭ ‬إلى‭ ‬مرحلة‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬عمر‭ ‬الفنان،‭ ‬على‭ ‬تكوين‭ ‬جهاز‭ ‬حنجرته،‭ ‬وهي‭ ‬ظاهرة‭ ‬لا‭ ‬تبدأ‭ ‬فقط‭ ‬في‭ ‬سن‭ ‬شيخوخة‭ ‬الفنان،‭ ‬لكن‭ ‬هذه‭ ‬التحولات‭ ‬الفيسيولوجية‭ ‬في‭ ‬حنجرة‭ ‬الفنان،‭ ‬تظهر‭ ‬أعراضها،‭ ‬كلما‭ ‬دخل‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬عمرية‭ ‬جديدة‭.‬

فمطرب‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬محمد‭ ‬عبدالوهاب،‭ ‬عرف‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬يمارس‭ ‬الغناء‭ ‬في‭ ‬العشرينيات‭ ‬حتى‭ ‬مطلع‭ ‬الستينيات،‭ ‬أي‭ ‬قبل‭ ‬رحيله‭ ‬بثلاثين‭ ‬عاماً،‭ ‬تحولات‭ ‬كانت‭ ‬تطرأ‭ ‬على‭ ‬حنجرته،‭ ‬كلما‭ ‬تقدم‭ ‬به‭ ‬العمر‭.‬

ففي‭ ‬حياة‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬الفنية‭ ‬مرحلة‭ ‬الطفولة‭ ‬التي‭ ‬سجل‭ ‬خلالها،‭ ‬وهو‭ ‬دون‭ ‬العشرين‭ ‬من‭ ‬عمره،‭ ‬سجل‭ ‬بصوته‭ ‬الطفولي‭ ‬قصيدتين‭ ‬من‭ ‬قصائد‭ ‬سلفه‭ ‬العظيم‭ ‬سلامة‭ ‬حجازي‭ (‬أتيت‭ ‬فألفيتها‭ ‬ساهرة‭/ ‬ويلاه‭ ‬ما‭ ‬حيلتي‭)‬،‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬دخل‭ ‬صوت‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬في‭ ‬النصف‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬العشرينيات‭ ‬مرحلة‭ ‬النضج‭ ‬الأولى‭ (‬فيك‭ ‬عشرة‭ ‬كوتشينة‭) ‬وغيرها،‭ ‬ولم‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬مرحلة‭ ‬النضج‭ ‬الأولى‭ ‬الذهبية‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬عام‭ ‬1927،‭ ‬عندما‭ ‬بدأ‭ ‬يسجل‭ ‬مواويله‭ ‬وقصائده‭ ‬الخالدة‭ ‬التي‭ ‬افتتحها‭ ‬بقصيدة‭ ‬‮«‬يا‭ ‬جارة‭ ‬الوادي‮»‬‭. ‬

في‭ ‬المرحلتين‭ ‬الأوليين،‭ ‬كانت‭ ‬الطبقات‭ ‬العليا‭ ‬من‭ ‬صوت‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬هي‭ ‬الغالبة،‭ ‬وبعد‭ ‬ذلك‭ ‬مرحلة‭ ‬‮«‬يا‭ ‬جارة‭ ‬الوادي‮»‬‭ ‬طرأ‭ ‬على‭ ‬حنجرته‭ ‬نضج‭ ‬واضح،‭ ‬فأخذت‭ ‬تظهر‭ ‬الطبقات‭ ‬الغليظة‭ ‬في‭ ‬الصوت،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬نضج‭ ‬وتوازن‭ ‬في‭ ‬الطبقات‭ ‬العليا‭ (‬موال‭ ‬مسكين‭ ‬وحالي‭ ‬عدم‭ ‬مثلاً‭).‬

 

تحول‭ ‬إلى‭ ‬التلحين

وظل‭ ‬التحول‭ ‬يدخل‭ ‬على‭ ‬حنجرة‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬الثلاثينيات‭ ‬أولاً،‭ ‬ثم‭ ‬الأربعينيات‭ ‬الناضجة‭ ‬والمتوازنة،‭ ‬ثم‭ ‬الخمسينيات‭ (‬من‭ ‬أدّ‭ ‬إيه‭ ‬كنا‭ ‬هنا،‭ ‬وبفكّر‭ ‬في‭ ‬اللي‭ ‬ناسيني‭)‬،‭ ‬حتى‭ ‬بلغت‭ ‬حنجرته‭ ‬شيخوختها‭ ‬الكاملة،‭ ‬وكان‭ ‬قد‭ ‬تجاوز‭ ‬الستين‭ ‬من‭ ‬عمره،‭ ‬في‭ ‬مطلع‭ ‬الستينيات‭ (‬هان‭ ‬الود‭)‬،‭ ‬ولا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬عشاق‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬يلاحظون‭ ‬هذه‭ ‬التحولات‭ ‬التي‭ ‬تطرأ‭ ‬كلما‭ ‬تقدم‭ ‬في‭ ‬العمر،‭ ‬لكنهم‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬ظلوا‭ ‬لا‭ ‬يعترفون‭ ‬بهذه‭ ‬الظاهرة،‭ ‬ويصرون‭ ‬على‭ ‬ألا‭ ‬يتوقف‭ ‬عن‭ ‬الغناء‭ ‬الجديد‭ ‬أبداً،‭ ‬لكن‭ ‬الفنان‭ ‬الذكي‭ ‬والمتوازن‭ ‬تحول‭ ‬إلى‭ ‬التلحين،‭ ‬في‭ ‬سنواته‭ ‬الثلاثين‭ ‬الأخيرة،‭ ‬ولم‭ ‬يظهر‭ ‬مغنياً‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬حالات‭ ‬نادرة،‭ ‬أو‭ ‬مع‭ ‬عوده‭ ‬المنفرد،‭ ‬حتى‭ ‬أطلق‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬الثمانينيات‭ ‬رائعته‭ ‬الكبرى‭ ‬‮«‬من‭ ‬غير‭ ‬ليه‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬سجلها‭ ‬بصوته‭ ‬ليؤديها‭ ‬الفنان‭ ‬عبدالحليم‭ ‬حافظ،‭ ‬قبل‭ ‬رحيله‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1977‭.‬

هذه‭ ‬الظاهرة‭ ‬تكررت‭ ‬بحذافيرها‭ ‬مع‭ ‬الفنانة‭ ‬أم‭ ‬كلثوم،‭ ‬ومع‭ ‬الفنان‭ ‬وديع‭ ‬الصافي،‭ ‬ومع‭ ‬الفنانة‭ ‬فيروز‭.‬

فأغنيات‭ ‬فيروز‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تطلقها‭ ‬في‭ ‬الإذاعة‭ ‬اللبنانية‭ ‬وإذاعة‭ ‬دمشق،‭ ‬كان‭ ‬صوتها‭ ‬فيها‭ ‬يمر‭ ‬بمرحلة‭ ‬الفتوة‭ ‬الأولى،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬حجمه‭ ‬لايزال‭ ‬غير‭ ‬مكتمل‭ ‬النضج،‭ ‬وكانت‭ ‬تطغى‭ ‬عليه‭ ‬الطبقات‭ ‬العليا‭ ‬في‭ ‬الصوت‭.‬

ومع‭ ‬تقدم‭ ‬فيروز‭ ‬في‭ ‬العمر،‭ ‬وتمرّسها‭ ‬بمزيد‭ ‬من‭ ‬الخبرة‭ ‬المهنية،‭ ‬خاصة‭ ‬بعد‭ ‬انتسابها‭ ‬إلى‭ ‬المؤسسة‭ ‬الرحبانية‭ ‬الكبيرة،‭ ‬أخذ‭ ‬التقدم‭ ‬في‭ ‬السن‭ ‬والخبرة‭ ‬الفنية‭ ‬يبدو‭ ‬جلياً‭ ‬في‭ ‬تركيب‭ ‬حنجرة‭ ‬هذه‭ ‬الفنانة‭ ‬القديرة،‭ ‬حيث‭ ‬بلغت‭ ‬في‭ ‬الستينيات‭ ‬والسبعينيات‭ ‬مراحل‭ ‬النضج‭ ‬الكبرى،‭ ‬التي‭ ‬تتوازن‭ ‬فيها‭ ‬الحنجرة‭ ‬بين‭ ‬الطبقات‭ ‬العليا‭ ‬والمنخفضة‭ ‬في‭ ‬الصوت‭.‬

وتشاء‭ ‬المصادفات‭ ‬السعيدة‭ ‬للفن‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬لبنان،‭ ‬أن‭ ‬يحدث‭ ‬هناك‭ ‬تزاوج‭ ‬بين‭ ‬نضج‭ ‬المراحل‭ ‬لدى‭ ‬الأخوين‭ ‬رحباني‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬الغنائي‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬والتأليف‭ ‬الموسيقي‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬ثانية،‭ ‬مع‭ ‬نضج‭ ‬واضح‭ ‬في‭ ‬حنجرة‭ ‬فيروز‭. ‬وكان‭ ‬طبيعياً‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬تلك‭ ‬ذروة‭ ‬المرحلة‭ ‬الذهبية‭ ‬في‭ ‬فن‭ ‬الأخوين‭ ‬رحباني‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬وفن‭ ‬فيروز‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬ثانية،‭ ‬وهي‭ ‬المرحلة‭ ‬التي‭ ‬انضم‭ ‬فيها‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬إلى‭ ‬فريق‭ ‬الملحنين‭ ‬الذين‭ ‬يزودون‭ ‬حنجرة‭ ‬فيروز‭ ‬بألحانهم،‭ ‬فأهداها‭ ‬روائعه‭ ‬الثلاث‭ ‬‮«‬سهار‭ ‬بعد‭ ‬سهار‮»‬،‭ ‬و«سكن‭ ‬الليل‮»‬،‭ ‬و«مر‭ ‬بي‮»‬‭. ‬وهي‭ ‬المرحلة‭ ‬نفسها‭ ‬التي‭ ‬اقتحم‭ ‬فيها‭ ‬الموهوب‭ ‬فيلمون‭ ‬وهبي‭ ‬عالم‭ ‬فيروز،‭ ‬بمجموعة‭ ‬من‭ ‬أنضج‭ ‬ألحانه‭ ‬وأرقى‭ ‬أغنياتها‭.‬

عند‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬كانت‭ ‬السن‭ ‬لم‭ ‬تتقدم‭ ‬كثيراً‭ ‬بفيروز،‭ ‬فراحت‭ ‬تنظم‭ ‬ظهورها‭ ‬أمام‭ ‬الجمهور‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬المؤسسة‭ ‬الرحبانية،‭ ‬في‭ ‬مواسم‭ ‬غزيرة‭ ‬كان‭ ‬عشاق‭ ‬هذا‭ ‬الفن‭ ‬في‭ ‬لبنان،‭ ‬وفي‭ ‬سائر‭ ‬أرجاء‭ ‬الوطن‭ ‬العربي،‭ ‬يتمنون‭ ‬أن‭ ‬يظل‭ ‬ظهورها‭ ‬سلسلة‭ ‬من‭ ‬المواسم‭ ‬الفنية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تتوقف‭.‬

 

زحف‭ ‬الشيخوخة‭ ‬

ومع‭ ‬هذه‭ ‬الذروة‭ ‬الشامخة‭ ‬من‭ ‬التداخل‭ ‬بين‭ ‬مرحلة‭ ‬النضج‭ ‬الموسيقي‭ ‬لدى‭ ‬الأخوين‭ ‬رحباني،‭ ‬والنضج‭ ‬الصوتي‭ ‬في‭ ‬حنجرة‭ ‬فيروز‭ (‬قبل‭ ‬تجاوزها‭ ‬الستين‭ ‬من‭ ‬عمرها‭)‬،‭ ‬تحولت‭ ‬فيروز‭ ‬إلى‭ ‬أيقونة‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬لبنان‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬بشكل‭ ‬خاص‭ ‬في‭ ‬سائر‭ ‬أرجاء‭ ‬المشرق‭ ‬العربي‭ ‬أولاً،‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬شعوبه‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬لبنان‭ ‬وسورية‭ ‬وفلسطين‭ ‬والأردن‭ (‬بشكل‭ ‬خاص‭)‬،‭ ‬تعتبر‭ ‬فيروز‭ ‬مطربتها‭ ‬الأولى‭ ‬والتاريخية،‭ ‬وذلك‭ ‬تعبيراً‭ ‬عن‭ ‬ذروة‭ ‬عالية‭ ‬من‭ ‬ذرى‭ ‬النهضة‭ ‬الفنية‭ ‬التي‭ ‬سادت‭ ‬المشرق‭ ‬العربي‭ ‬بين‭ ‬الخمسينيات‭ ‬والسبعينيات،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬صوت‭ ‬فيروز‭ ‬أحد‭ ‬الرموز‭ ‬الكبرى‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬النهضة‭ ‬الفنية‭ ‬العريقة‭.‬

وقبل‭ ‬أن‭ ‬تدهم‭ ‬الشيخوخة‭ ‬حنجرة‭ ‬فيروز،‭ ‬شاءت‭ ‬المصادفات‭ ‬السعيدة‭ ‬في‭ ‬تطور‭ ‬الغناء‭ ‬العربي،‭ ‬أن‭ ‬يتكثف‭ ‬اللقاء‭ ‬الفني‭ ‬بين‭ ‬عبقرية‭ ‬زياد‭ ‬رحباني‭ ‬الموسيقية‭ ‬المتدفقة،‭ ‬وعبقرية‭ ‬حنجرة‭ ‬فيروز،‭ ‬فأطلق‭ ‬معها‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الأغنيات‭ ‬الجديدة‭ ‬التي‭ ‬شكلت‭ ‬مرحلة‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬المراحل‭ ‬الفنية‭ ‬المتطورة‭ ‬لهذه‭ ‬الفنانة‭ ‬الكبيرة،‭ ‬مع‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬عشاق‭ ‬فيروز‭ ‬في‭ ‬لبنان‭ ‬بالذات‭ ‬ظلوا‭ ‬على‭ ‬تعصبهم‭ ‬لمراحل‭ ‬فيروز‭ ‬السابقة،‭ ‬مع‭ ‬الرحابنة‭ ‬الكبار‭.‬

ومع‭ ‬تجاوز‭ ‬السبعين‭ ‬من‭ ‬عمرها،‭ ‬كانت‭ ‬الشيخوخة‭ ‬قد‭ ‬زحفت‭ ‬بشكل‭ ‬طبيعي‭ ‬ومنطقي‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬الحنجرة‭ ‬العظيمة،‭ ‬فبدأت‭ ‬تظهر‭ ‬بوتيرة‭ ‬أقل‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬السابق‭ ‬في‭ ‬حفلات‭ ‬مسرحية‭ ‬حية،‭ ‬بحيث‭ ‬يكون‭ ‬الفارق‭ ‬بين‭ ‬الحفلة‭ ‬والأخرى‭ ‬سنوات‭ ‬عدة‭.‬

وكان‭ ‬أغرب‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الظاهرة‭ ‬الطبيعية‭ ‬أن‭ ‬جمهور‭ ‬فيروز‭ ‬المنتشر‭ ‬في‭ ‬أرجاء‭ ‬الوطن‭ ‬العربي،‭ ‬ظل‭ ‬كعادته‭ ‬لا‭ ‬يعترف‭ ‬بتقدم‭ ‬الحنجرة‭ ‬في‭ ‬السن،‭ ‬تماماً‭ ‬كما‭ ‬يتقدم‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬عمره،‭ ‬ويتحول‭ ‬من‭ ‬الفتوة‭ ‬إلى‭ ‬الشباب،‭ ‬إلى‭ ‬نضج‭ ‬العمر،‭ ‬إلى‭ ‬الكهولة‭ ‬والشيخوخة‭.‬

فعلى‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬ظل‭ ‬هذا‭ ‬الجمهور‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬سنوات‭ ‬عدم‭ ‬ظهور‭ ‬فيروز‭ ‬في‭ ‬حفلات‭ ‬مسرحية‭ ‬حية،‭ ‬أو‭ ‬قلة‭ ‬ظهورها،‭ ‬يلاحقها‭ ‬بالحماسة‭ ‬الفنية‭ ‬نفسها‭ ‬عندما‭ ‬تقوم‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬المناسبات‭ ‬الدينية،‭ ‬بالظهور‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬الكنائس‭ ‬لإطلاق‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬التراتيل‭ ‬الدينية‭ ‬بصوتها‭ ‬الرائع،‭ ‬فكان‭ ‬ذلك‭ ‬الظهور‭ ‬يتحول‭ ‬من‭ ‬مناسبة‭ ‬دينية‭ ‬إلى‭ ‬مناسبة‭ ‬فنية‭.‬

أما‭ ‬اليوم،‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬بلغت‭ ‬فنانتنا‭ ‬الكبيرة‭ ‬الثانية‭ ‬والثمانين‭ ‬من‭ ‬عمرها،‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬راحت‭ ‬سنة‭ ‬بعد‭ ‬أخرى‭ ‬تكرر‭ ‬اعتذارها‭ ‬عن‭ ‬عدم‭ ‬تلبية‭ ‬الدعوات‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تتوقف‭ ‬أبداً،‭ ‬لدفعها‭ ‬للظهور‭ ‬في‭ ‬حفلة‭ ‬مسرحية‭ ‬حية،‭ ‬ولو‭ ‬واحدة،‭ ‬فيبدو‭ ‬أن‭ ‬تقدم‭ ‬فيروز‭ ‬في‭ ‬شيخوخة‭ ‬العمر‭ ‬وشيخوخة‭ ‬الحنجرة،‭ ‬قد‭ ‬نقلها‭ ‬بالطبيعة‭ ‬والمنطق‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬مفر‭ ‬منه،‭ ‬من‭ ‬حيز‭ ‬إرواء‭ ‬ظمأ‭ ‬الجمهور‭ ‬بمزيد‭ ‬من‭ ‬الحفلات‭ ‬المسرحية‭ ‬الحية،‭ ‬إلى‭ ‬اكتفاء‭ ‬هذا‭ ‬الجمهور‭ ‬بالثروة‭ ‬الطائلة‭ ‬من‭ ‬التسجيلات‭ ‬التي‭ ‬أتحفته‭ ‬بها،‭ ‬والتعود‭ ‬على‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬هذه‭ ‬الفنانة‭ ‬التاريخية،‭ ‬كرمز‭ ‬من‭ ‬أكبر‭ ‬رموز‭ ‬نهضتنا‭ ‬الموسيقية‭ ‬والغنائية،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تجاوزت‭ ‬الثمانين‭.‬

تجدر‭ ‬الإشارة‭ ‬هنا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الفنانة‭ ‬فيروز‭ ‬قد‭ ‬خرقت‭ ‬اعتزالها‭ ‬الفني‭ ‬المهيب‭ ‬بإصدار‭ ‬أسطوانة‭ ‬حملت‭ ‬عنوان‭ ‬‮«‬ببالي‮»‬،‭ ‬لكن‭ ‬عشاق‭ ‬صوتها‭ ‬وغالبية‭ ‬النقاد‭ ‬الفنيين‭ ‬الجادين‭ ‬تجاهلوا‭ ‬هذه‭ ‬الأسطوانة،‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬أنها‭ - ‬كما‭ ‬قال‭ ‬بعضهم‭ - ‬لن‭ ‬تدخل‭ ‬تاريخ‭ ‬فيروز‭ ‬الجاد‭ ‬الذي‭ ‬يشكل‭ ‬ما‭ ‬أنجزه‭ ‬الأخوان‭ ‬رحباني‭ ‬عموده‭ ‬الفقري،‭ ‬مع‭ ‬إضافات‭ ‬فنية‭ ‬رائعة‭ ‬من‭ ‬فيلمون‭ ‬وهبي‭ ‬وزكي‭ ‬ناصيف‭ ‬ومحمد‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬وزياد‭ ‬رحباني‭ ‬في‭ ‬الفترة‭ ‬المتقدمة‭ ‬من‭ ‬نشاطها‭ ‬الفني‭.‬

لقد‭ ‬آن‭ ‬أوان‭ ‬تحول‭ ‬فيروز‭ ‬من‭ ‬نجم‭ ‬غنائي‭ ‬كثير‭ ‬الظهور‭ ‬في‭ ‬حفلات‭ ‬مسرحية‭ ‬حية،‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬عشرات‭ ‬السنوات،‭ ‬إلى‭ ‬رمز‭ ‬نسعد‭ ‬بوجوده‭ ‬بيننا،‭ ‬ونتمنى‭ ‬له‭ ‬طول‭ ‬العمر‭ ‬لسنوات‭ ‬كثيرة‭ ‬مقبلة■