الأيام في برلين

الأيام في برلين

صورة الآخر في الأدب السردي، ليست بالضرورة الآخر، كما عهدناه في التقارير المصورة، أو في المظانّ التاريخية والطبيعية، والمعاجم والموسوعات وغيرها، وإن تسرّبت من ذلك كله خطوط وظلال؛ لكنّها صورة الآخر كما تنطبع في مرآة الذات الساردة، في شتيت أحوالها، صفاء وشفافية، وغبشًا واضطرابًا، وتأميلًا وقنوطًا، واقترابًا وابتعادًا، وعلى هذا الأساس تتباين أبعاد الصورة من سارد لآخر، وينكسر أفق التوقع، وحُق له أن ينكسر.

في مرآة السرود المتلاحقة التي احتوتها فصول «أيامي في برلين» (2017)، وهو سفر لافت من أسفار الرحلة الأدبية السيرية، للأديب محمد متولي (أكاديمي من مصر)، قطعت مسافة زمنية من عمر السارد قاربت ثلاث سنوات ونصف السنة (سبتمبر 2011 - فبراير 2015)، ومساحة معتبرة من الجغرافية الأوربية، ضمّت برلين ومدنًا ألمانية أخرى، وباريس وران الفرنسيتين، وأمستردام الهولندية، ومدريد وطليطلة الإسبانيتين، وفي هذه المرآة السردية انعكست صورة الآخر بأبعادها المتباينة، وبدت - في عمومها - بصيرة في تكوينها، متنوعة في تجلياتها.
 ترافق المقارنة والموازنة خطوات السارد محمد متولي، سعيًا نحو الكشف والمعرفة - وكانت المقارنة رفيقة الرحلة والسيرة معًا منذ أمد طويل، فيراها أحمد أمين في سيرته «حياتي» سبيلًا أكيدًا للمعرفة الحقة - وفي «أيامي في برلين» يحضر الآخر في الذات، وتحضر الذات في الآخر، حتى يتلاحما في كثير من مواطن التجلّي السردي، ومنها كورس تعليم اللغة الألمانية المنعقد بمدرسة «هارتناك شولا» في قلب العاصمة برلين، وفي حضرة المعلم الشاب البولندي الأصل - وفي قدراته العلمية ولغته الألمانية نظر في تقدير السارد - يستدعي السارد شيوخه في دار العلوم، ويستدعي الشموخ العلمي للدكتور حماسة، وكيف كان يرى «النحو معه رأي العين؛ شبكة متصلة محكمة الغزل والنّسج، موثوقة العرى، يُسلم بعضها إلى بعض».

تقابلات متعادلة
أما قاعة الدرس، فمعها تتحوّل المقارنة إلى وجهة مغايرة، فتنطوي على إحساس مرير، رغم طرافة التشبيه: «الصف به خمسة عشر طالبًا وطالبة أو يزيد قليلاً، لكن العدد لا يزيد على العشرين بحال! قلّة العدد تمكّن المعلم من التعرّف إلى الطلاب بأسمائهم وجنسياتهم! لكم الله طلاب مصر في مدارسها وجامعاتها! منكم من يجلس ومنكم من لا يجد مكانًا للجلوس، فما الفصل المدرسي ولا المدرج الجامعي إلا أتوبيس مصري كبير!» (أيامي في برلين، ص 111).
إن الصورتين السابقتين تنطويان على مجموعة من التقابلات المتعادلة، فالسلبي (المعلم البولندي الألماني)، يستدعي الإيجابي (الأستاذ المصري)، ثم إن الإيجابي (قاعة الدرس الألمانية) يستدعي السلبي (قاعة الدرس المصرية)، وتكوّن هذه التقابلات في مجموعها نهجًا مقارنًا، سيدأب السارد في الحفاظ عليه في سروده المتتابعة.
بدا أن تعلُّم الألمانية لم يكن سهلًا، فيلجأ السارد إلى طريقة أخرى لتعلّمها، هي طريقة التعلّم التبادلي، أو ما يسمى «تاندم» Tandem، وفيها يصحب المتعلم ألمانيًّا أو ألمانية فيعلّمه اللغة العربية، ويتعلّم منه الألمانية، ومع هذا الحدث تنفتح كوة عريضة من المقارنات والموازنات، فالسيد هورست أو الشيخ البرليني - وهو الصاحب المختار - لا تخلو معالم شخصيته من تناقض، فعلى الرغم من شغفه بالثقافة العربية والحضارة الإسلامية؛ فإنه خلاف زوجه المسيحية المتدينة، رجل لا دينيّ، لا يعبأ بالموت، ولا يرى شيئًا بعده، وشعاره «فلننعم بحياتنا!». شيخ كبير السن، وصاحب مركز سابق مرموق، ومع هذا فزوجه تتسلّط عليه تسلّطًا ظاهرًا.

موازنة بين حياتين
هذه الملامح التي يتجاور فيها الديني مع الاجتماعي من شخصية هورست، تقود إلى لمحة إجمالية من لمحات الموازنة بين حياتين وحالين، وعالمين أحدهما في الشمال، والآخر في الجنوب:
«الرجل بالمعاش... فقد ترك العمل بجمرك المطار منذ وقت بعيد، يرعى مصالح البيت، يشتري الخضراوات والخبز والفاكهة، ويعجن ويخبز! نعم يعجن ويخبز... لا تذهب بكم العقول بعيدًا... لا فرن هنا ولا غاز ولا حطب! إن هي إلا آلة صغيرة تعجن رغيفين؛ أحدهما له والآخر لزوجته، ينضجان في فرن كهربي صغير معدّ لذلك! ما أجمل حياة الألمان! لكل شيء آلة! إنهم لا يحتاجون إلى الغاز، فلا أنابيب عندهم تنفد فيضجرون! ولا أرياف يتكالب الناس فيها على أعواد الحطب، يبكّرون فيجمعون!» (ص 86).
ثم يتوغل السارد في نهج المقارنة، فيرصد ذلك البون الشاسع بين سلوك الموظفين في جامعة برلين، وسلوك الموظفين في جامعة القاهرة، ويقدم السيدة رجينا رام - مسؤولة تسجيل الطلبة الأجانب - بوصفها نموذجًا إيجابيًّا صريحًا للموظفين بألمانيا، فهي تمدّ يد العون بكل أريحيّة لطالب بعثة جديد حديث عهد بالمدينة الألمانية الكبيرة، ولا سابق معرفة بينهما، فتترك عملها، وتنطلق معه إلى مكان آخر بعيد عن مكتبها، يركبان له المترو، ثم لا تتردد في مساعدته للوصول إلى بيته، فتقطع معه خمس محطات في اتجاه العودة.

ذكرى معاكسة
عند ذاك تأخذ السارد دهشة الإعجاب من صنيعها، ويخالطه شعور الفرحة والانتشاء إزاء هذا السلوك الراقي النبيل، وعلى أثره تدهم الذاكرة ذكرى معاكسة، أو صورة السيدة المسؤولة عن إجراءات السفر بجامعة القاهرة - بوصفها نموذجًا للموظف المصري، بل والعربي على العموم، ومعها تقفز مظاهر الإهمال والإحباط والقلق، والأحقاد المجانية - إذا جاز التعبير - وهكذا تنتهي المقارنة بين الموظفتين الألمانية والمصرية لمصلحة الأولى، ويبقى الشعور الممضّ الكريه، منغصًا لحال السعيد بالحال الجديد: «وكنتُ في حال بين النوم واليقظة، فتحركت أمعائي في بطني! وذهب عنّي النوم!».
تتوالى سرود الآخر في بُعدين جمالي وإنساني، وتتسع في الزمان والمكان والشخوص، وهي لا تتأتّى للسارد إلا من خلال المعايشة والعيان والتفاعل الحيوي بين ذات شرقية وأخرى غربية. يعرض المؤلف للمشاهد بصورة إجمالية دون إسهاب في التحليل في بعض الأحيان، وفي أحيان أخرى يتلبث مليًّا عند التقدير العلمي والإنساني لنخبة من أساتذته الغربيين.

مدينة البِرّ واللّين
لقد طالع الناس في حركتهم اليومية في برلين - أو كما يسمّيها مدينة البر واللين - في الشارع، وفي المترو، وفي مكاتب الجامعة، وراح يقرأ دلالاتها، ويستبطن مرجعيّاتها قدر ما يستطيع دارس مقبل على عالم مفارق لعالمه السابق كل المفارقة، يقول:
«أسعدتني كثيرًا بشاشة ظاهرة في وجوه الناس، ونظرات رضا، وبشائر نعمة هذّبت أخلاقهم، هدوء شديد، فلا صخب ولا ضجر ولا تدافُع... ولا تقطيب ولا عبوس، تنظر إلى وجه أحد الرجال وقد علته نضرة النعيم، حتى تكاد تمسك في وجنتيه صحّة فتية، فلا ترى خلفه في البيت أفواهًا جائعة ولا بطونًا ملتهبة، ولا ترى من خلفه امرأة قاسية منغّصة، ولا ديونًا ينوء بحملها البعير، ولا ترى مرضًا قد فرى كبده، ولا ترثي لحاله وقد غلبه الهمّ وامتقع لونه...، أما فتيات الجامعة فكنّ ملائكة كذلك، لكن أكبر سنًّا، وقد بدت عليهن ملامح النضج. لهنّ سحر وخفّة روح كما تقول صباح - ضحكن أو لم يضحكن - «بتروح لبعيد»، اهتمام شديد بالملابس وحُسن المظهر، مع بساطة ظاهرة، كأنهن لنقائهن وجمال سمتهن أرواح شفافة بلا أجساد... أو هكذا رأيتهن!». 
يستند السارد في رصد هذه اللمحة الإيجابية المفعمة بالإشراق، إلى فحص معالم الوجوه، وقد بدت عليها آثار الرفاهة ورغد العيش، بل عرف فيها «نضرة النعيم»، كما يستند في إثبات الصفات المستحسنة لهم إلى أسلوب النفي (فلا صخب ولا ضجر ولا تدافُع... ولا تقطيب ولا عبوس،... ولا ترى...)، أو باستحضار نقائضها التي ما تنفكّ ترافق السارد في كل خطواته.

دعم ذاتي
على الرغم من علوّ نبرة الإعجاب والاستحسان، فإن «التماسك النفسي» كان رائد هذه الخطوات، بمعنى القدرة على استيعاب البون الضخم بين عالمين أحدهما ماض قريب، والآخر حاضر معيش، فلم يسلب توازنه شعور الانبهار أو الذهول، ومضى في رصد اللمحة بدعم ذاتي حالم، شديد الحميمية «رأيت سارة، ابنتي بينهم تمرح وتلعب»، ودعم ثقافي فنّي وافر الخصوصية والحنين، فيندمج في أغنية المطربة العربية صباح «أمّورتي الحلوة.. لها خفة روح لما بتضحك بتروح لبعيد»!، وكأن الروح ما زالت تعيش في مرابع الوطن البعيد، وأن الإعجاب بالآخر - مهما بلغ من درجات - ليس مدعاة لذوبان الذات أو انسحاقها فيه.
وينبعث تقدير الأساتذة والعلماء من العرب والغربيين لدى السارد من شعور طاغ، وواعٍ بإجلال العظيم وتوقيره، والحرص طوال الوقت على إبقاء جذوة هذه العاطفة متقدة في نفسه، ولعله في هذا الشعور يلتقي و«كارلايل» على صعيد رحيب، يقول الكاتب الأسكتلندي: «إن تاريخ ما مهّده المرء من المسالك، وما ذلّلـه من الأمور هو تاريخ العظماء الذين عملوا في ذلك؛ لأنهم كانوا القادة والقدوة التي احتذاها الناس».
ويأتي الفصل الثاني والعشرون من «أيامي في برلين» مثالًا دالًّا لما نروم في هذه السبيل، فقد اختص بالحديث عن الأستاذين دوايت رينولدس، أستاذ الأدب العربي الكلاسيكي بجامعة كاليفورنيا - سانت باربرا، وأنجليكا نويفرت، أستاذة الدراسات العربية والقرآنية بمعهد الدراسات السامية والعربية في برلين، والمشرفة على بحث المؤلف.

تمهيد مفصّل
وفي الطريق الصاعد إليهما، كان هنالك تمهيد مفصّل عن حلقات البحث الأسبوعية بالمعهد، وطبيعتها، وأبرز موضوعات النقاش فيها، ويمكن لقارئ هذا الفصل أن يجتني جملة من الأمور، منها:
1 - سطوع البعد الإنسانيّ في علاقة الأستاذ الغربي بطلابه، فإضافة إلى الرصانة العلمية التي يتمتع بها البروفيسور رينولدس، وتبحّره في الأدب القديم، وبراعته «منقطعة النظير» في درس كتاب «الأغاني»، وكأنه أبو الفرج الأصفهاني نفسه، إضافة إلى ذلك كله، فقد تميّز بسلوك إنساني، ترك أثرًا بالغًا في نفس السارد، وأسرت لبّه سمات الرجل الشخصية: الجدية، والهيبة، وكرم النفس وسخاء اليد، وحُسن الكلام.
وها هو يمنح السارد/ متولي شهادتين - لا واحدة - واحدة برلينية، وأخرى كاليفورنية، تفيدان بحضوره لمحاضراته، مع أن اسمه لم يكن مقيّدًا فيها، ولا ينتهي الحدث دون رسالة قيمية، يثابر السارد كل المثابرة، على وجودها في سروده، وهي هنا موجّهة إلى الأساتذة في بر مصر، يقول: «أتعلمون متى طلبت منه هذه الشهادة؟! لقد طلبتها ونحن معًا في أحد المطاعم القريبة من الجامعة! لقد دعانا الأستاذ - نحن الطلاب - جميعًا على الغداء! بعد المحاضرة الأخيرة.
كم كان شعورًا طيبًا منه. صحيح أن عددنا لم يتجاوز العشرة، لكنها كانت لفتة طيبة، أودّ أن أنقلها إلى بعض الأساتذة الذين يعيشون في أبراجهم العاجية. وتزداد الهوة بينهم وبين طلابهم، وينسحق العلم تحت أقدام الكبر والصلف!».
2 - اتساع مفهوم الغرب بوصفه فكرة حضارية، تقوم على التنوع الثقافي، والاختلاف الأيديولوجي، وتنتصر لمنهج التعلّم الدائم، وتسعى إلى استقطاب الكفاءات، بصرف النظر عن جنسياتهم وأجناسهم، ومواطنهم الأصلية، وهو ما حدث بالضبط حين استقدم المعهد البرليني أستاذًا أمريكيًا من جامعة كاليفورنيا هو الأستاذ رينولدس؛ لإلقاء عدد من المحاضرات، وتدريس بعض الكورسات لطلاب الماجستير باللغة الإنجليزية، ولم يجد الألمان أية غضاضة في هذا الاستقدام، على الرغم من تقدّمهم العلمي وسبقهم؛ رغبة منهم في «ضخ دماء جديدة»، وهو ما حدث أيضًا، حين أعلن معهد الدراسات العربية في برلين عن وظيفة شاغرة لدرجة الأستاذية، فتقدم لها خمسة من أساتذة العربية من ألمانيا وأمريكا والنرويج.

قيمة الأستاذ
3 - يتصل بالأمر الأخير، احتفاء الألمان الكبير بقيمة الأستاذ، وتعظيم شأنه، حتى عُدّ خطاب الأستاذ أو توقيعه بمنزلة الخطاب الرسمي الذي لا يحتاج معه صاحبه إلى خاتم رسمي أو غير ذلك. ولا أدل على هذه المكانة، مما شهده السارد نفسه في المؤتمر التكريمي للأستاذة نويفرت، بمناسبة بلوغها سن السبعين، فقد أسهمت في رعايته 6 جهات علمية ألمانية، وشارك فيه عدد كبير من الأساتذة من جامعات ألمانية وعالمية.
وفي أبعاد موازية من الصورة، دينية وفكرية واجتماعية، يبدو للآخر الغربي وجه مغاير، تطغى فيه المادية على الروحانية، وفيه تذهب المادية بالإنسان الأوربي إلى مدى سحيق، فيتخلّى من أجل النزعة المادية عن السمو الروحيّ، وعن تعاليم العقائد، وتمثّل ذلك - أظهر ما تمثّل - فيما أورده السارد من حديث حرق الموتى عند الألمان. يدلُّ على هذا الجانب المروّع، حوار السارد مع الشيخ البرليني، إثر موت صديق ألماني للأخير:
«لمّا سألته عن دفن صاحبه، أذهلتني إجابته، قال: إنهم أحرقوه صباحًا! أحرقوه! قال: نعم، أحرقوه... إنه نظام معمول به هنا! سألته: ألا دينيّ هو مثلك؟ فقال لا، بل مسيحي! قلت له إنني سمعت عن عقيدة حرق الموتى في بعض ديانات الهند غير السماوية، أما في المسيحية فلا، فكم من مسيحيين في مصر يموتون فيدفنون ولا يُحرقون! فقال: إن الحرق أسرع وأيسر، والأهم أنّه أرخص ثمنًا! أرخص؟ قال: نعم! الدفن يكلفك الكثير، فكم ستدفع في شراء مقبرة أو استئجارها، وكم تدفع في سيارة نقل الموتى، وكم يتكلف التابوت الذي توضع فيه الجثة! وهناك أفران عدة في المدينة لحرق الموتى! لا تستغرق الجثة كثيرًا حتى تكون حفنة من رماد أسود! تعبأ في زجاجة وتوضع في شق جدار...» (ص91).

توازن 
ربما لا ينفصل هذا التصور الغريب، عما يرويه السارد من مواقف حرص الألمان الشديد في الإنفاق، وفي التقتير - أحيانًا - إلى درجة تثير الاستغراب والضيق، لكنهم في الوقت نفسه، يسرفون سرفًا ظاهرًا في شرب الخمور، ويقبلون على التدخين بشراهة.
وينضم إلى الأبعاد المغايرة التي تجنح نحو السلبية، في محاولة من السارد في تآخيه مع حسّ الباحث، إلى صنع لون من التوازن بين الأبعاد المختلفة، حديثه عن طبيعة الأسرة، وتفكك العلاقات الاجتماعية، وضياع الأنساب، ثم انتشار الشذوذ، وزواج المثليين، وكذلك ما رصده في حلقات البحث بمعهد الدراسات في برلين من اهتمام الباحثين الغربيين الواضح بكل «ما يعرّي مجتمعنا ويكشف سوأته! إنهم يولون اهتمامًا كبيرًا إلى ما يفضح فقرنا، وظلمنا، وجهلنا، وأمّيتنا، وفسادنا الأخلاقي، ومشكلاتنا الجنسية، وأدواءنا الاجتماعية، وأمراضنا النفسية...» (ص115، 179).
مهما يكن من أمر موافقة وجهاتهم للواقع، فما زال الغرب فيما يبدو، يواصل - بشكل أو بآخر - تنميط الشرق في صورة غرائبية، يطفو على سطحها التخلف، والجهل والسحر، والفقر، والولع بالجنس، وهو ما يدعونا في المقابل إلى مقاربة السؤال: وهل سَلِمت سرود السارد الشرقي/ محمد متولي - بدورها - من تنميط الآخر الغربي؟

بعيدًا عن النمطية
في القدر المختار من السرود التي نتعرّض لها، يمكن الاطمئنان إلى أن سرود الآخر في «أيامي في برلين»، قد سلمت - إلى حدّ كبير - من التنميط، ومن الوقوع في فخ الصورة النمطية Mode image، فقدّمت الغرب الأوربي كما هو، لا كما يريد السارد أو المسرود له، فلم يطلق العنان للانبهار الذاهل، ولم يخضع للاستلاب، كما لم يستنهض النقمة المطلقة على الآخر، أو الرفض الباخس له، وإنما كان بين ذلك قوامًا، فتعددت أبعاد الصورة وتباينت، جراء تعدّد الأصل ذاته، وتباين تجلياته.
في الوقت نفسه، لم تكن الذاتية - مشكاة السرود ومنبعها - حائلاً دون غلبة الموضوعية والإنصاف، وهذا بخلاف الصورة النمطية المستقرة في كتابات الأوربيين عن الشرق في فترة من الفترات، وفي أدب رحلاتهم على وجه الخصوص، وهي الصورة التي تحطّ من الشرق وقيمه، وتعود جذورها إلى مرحلة مبكرة من تاريخ الغرب، فهذا مونتسكيو (ت. 1755م) يتبع خطى أرسطو، فيعاود وضع «عبقرية الحرية» لأوربا في كفة مناقضة مع «روح العبودية» في الشرق، واستمرت روايات الرحّالة الأوربيين المغامرين في ترسيخ الصورة المشوهة والسلبية عن الشرق الأوسط تحديدًا. 
ولا يبعد عن الحقيقة، أن كثيرًا من دعاوى الصراع الحضاريّ، والصدام بين شرقنا المنهك، والغرب المتحفز تنامت في ركاب هذا التنميط المقصود لصورة الشرق العربي، وهو ما يضع أيدينا - من جانب آخر - على خطورة صورة شعب في أدب شعب آخر .