القصيدة السردية في شعر المطروشي

القصيدة السردية في شعر المطروشي

احتفت مجموعة «لديّ ما أنسى» للشاعر حسن المطروشي بقصيدة السرد التي تماهي، عبر مكابدة جمالية واعية، بين تقنيات الشعر (الصور الشعرية والإيقاع) وعناصر السرد (الشخصيات، الأحداث، الحوار الخارجي والداخلي، الزمكان)، وهو احتفاء ينمّ عن رغبة المتخيل الشعري في خلق نصّ مغاير يفتح نافذة أوسع للبوح من خلال ارتداء الأنا الشاعرة على مساحة النص جلباب الأنا الساردة التي تختبئ خلف الشخصيات لتفشّي تفاصيل المسكوت عنه الشعري بأسلوب مدهش بعيدًا عن المألوف الشعري.

تفنّن المتخيل الشعري عبر قصائد المجموعة الخمس والعشرين في تكثيف البُعد القصصي في سياق شعري مدهش، حيث ظهرت مهارة المتخيل الشعري في توظيف إيقاع القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة في خدمة السياق القصصي، إذ تناصف هذان النمطان من القصيدة المتون الشعرية للمجموعة الشعرية، لاحظ على سبيل المثال قصيدة «الغائب» التي تمفصلت في مشهدين شعريين، وتأمل كيف وظّف المتخيّل الشعري شخصية سيدنا يوسف عليه السلام، بوصفها قناعًا شعريًّا لمكابدات الذات المبدعة المنفصلة عن واقعها:
 
... وما كان أصْغَرَ إخْوَتِهِ
كَيْ يُدَلِّلَهُ الأَبُ،
ما كان أَجْمَلَهُمْ
كَيْ تُشَبِّهَهُ أُمُّهُ بالْغَزالْ
وما افْتَقَدوهُ مِنَ البيتِ

من الواضح أن تكرار أداة النفي «ما» ثلاث مرات أضاءت أصابع الشاعر وهي تنحت ملامح جديدة ليوسف معاصر (وما كان أصْغَرَ إخْوَتِهِ + ما كان أَجْمَلَهُمْ + وما افْتَقَدوهُ مِنَ البيتِ)، معتمدةً على نفي ركائز قصصية متمركزة في الذاكرة الجمعية لشخصية يوسف وملامحه الخارجية (أجملهم) وصلته النفسية العميقة بأبيه يعقوب، فضلًا عن أن خاتمة القصيدة عطفت النص باتجاه جديد، حين أوجدت سببًا آخر لفجيعة الغياب، تأمّل الآتي:

مِنْ يومِها لَمْ يَعُدْ - مُنْذُ مَرَّتْ عليه القصيدةُ هاربةً، وأشارتْ إليه: تَعالْ!

فضاء مغاير
تفتح الخاتمة بوابة المسكوت عنه التي تؤمن بالنص الإبداعي الملتزم وضرورة التحامه بالمجتمع وصيرورته جزءًا منه، وتدين - عبر تكرار أداة النفي ثلاث مرات - غياب التأثير الاجتماعي للمبدع المرموز له بيوسف الذي فقد جماله داخل النص على (الأب + الأم)، بل بدا منبوذًا اجتماعيًّا (وما افْتَقَدوهُ مِنَ البيتِ)، كما يدين صيرورة صلة المبدع بنصّه الإبداعي التي أشبه ما تكون بهلوسة خارج مدار المكان والزمان والشخصيات والأحداث (مُنْذُ مَرَّتْ عليه القصيدةُ هاربةً، وأشارتْ إليه: تَعالْ!).
وقد يصوغ الشاعر المطروشي، في سياق آخر من شخصية يوسف، قناعًا شعريًّا لفضاء قصصي مغاير، تأمل مثلًا قصيدة «مَهْد» التي تمفصلت إلى ثلاثة مشاهد شعرية استهلت بحوار خارجي بين الشخصيات المتحركة على مسرح النص:

تُحَبِّبُه أُمُّهُ لأبيهِ:
- أمَا بَلَغَ السعْيَ شِبْلُكَ؟
أَرْسِلْهُ يرْتَعْ ويَلْعَبْ.
- سيأكلُهُ الذئبُ والطرُقاتُ،
وإني لَيَحْزُنُني
أنْ يعودَ قميصُ حماقاتِه مِزْقَتَيْنِ،
هو ابْني الجميلُ
وأَخشى عليه 
مِنَ الطيرِ والنسوةِ العابراتْ

يُعِدَّانِ مَهْدَ الفتى 
بينما هو في مَرْكِبٍ مِنْ ضياءٍ فُراتْ
وخَيْلانِ ينحَدِرانِ به في الأقاصي،
بَعيدًا عن الشمسِ
يغفو
بعيدًا عن الطائراتْ!

 من الواضح أن الحوار بين الأم والأب يستدعي بقوة شخصية يوسف عبر (سيأكلُهُ الذئبُ + وإني لَيَحْزُنُني أنْ يعودَ قميصُ حماقاتِه مِزْقَتَيْنِ + ابْني الجميلُ)، لنكون أمام أربع شخصيات؛ فثمة الذات الساردة التي بقيت خارج النص ترقب التفاصيل القصصية، وتنقلها لأفق التلقي بدقة وثمّة شخصية الأب والأم، وثمة شخصية يوسف الغائب جسديًّا منذ السطر الأول، إلا أنه حاضر في وعي النص ووعي الأبوين وفي حركة الأحداث الملتبسة الملفعة بالغموض والمخاتلة الدلالية، وتحديدًا في المفصل الثاني من القصيدة المستهل بـ «يُعِدَّانِ مَهْدَ الفتى»، لينفتح باب التأويل على مصراعيه.

اتجاهان متخالفان
هي مخاتلة تتمظهر في حركة التأويل في اتجاهين متخالفين متآلفين في الوقت نفسه، متكئة إلى الأداة «بينما»، التي تؤكد تزامن الأحداث وترادفها، إذ قد يكون «المهد» إشارة البدء وإيذانًا بحياة جديدة واعدة ليوسف الذي انعكست صورته على مرايا النص منغمرًا في وهج الإبداع (هو في مَرْكِبٍ مِنْ ضياءٍ فُراتْ) وخياله المجنَّح (وخَيْلانِ ينحَدِرانِ به في الأقاصي)، وربما يكون المتخيل الشعري قد نزع عن المهد دلالته المألوفة ليكون رديف القبر والتنبؤ باللاعودة (بَعيدًا عن الشمسِ/ يغفو/ بعيدًا عن الطائراتْ!) لتبقى (القصيدة /القصة) مفتوحة على أسئلة شتى تتناسل في أفق التلقي احتمالات وتوقعات. 
وقد تضيء المتخيل الشعري في صياغته القصصية عنصر المكان فقط، لاحظ مثلاً قصيدة «السرير»، وتأمل كيف تحوّل هذا المكان الأليف (السرير) إلى أمكنة افتراضية عبر شذرات القصيدة الشعرية، ففيها يضيء السرير ملامح الثقافة الأبوية وشراسة طقوسها التي تنزع عن الأنثى إنسانيتها لتغدو جسدًا مستلبًا.
من الواضح أن الشذرة الشعرية نسجت عبر وعي الأنا الساردة متنًا قصصيًّا مكتملاً مرتكزًا إلى المكان (سرير التقاليد) يعكس تناقضات قيمية تضج بها ممارسات تلك الثقافة، فثمة الشخصيات التي تحركت على مسرح النص: جماعة الفحول المنتجين للثقافة الأبوية (الزوج الجديد + جياد القبيلة) وجماعة الإناث الحارسات الأمينات لبوابة الثقافة الأبوية (خادمة في الخفاء) في مقابل الأنثى المستلبة والمستهلكة للثقافة الأبوية (القتيلة)، أضف إلى ذلك الشخصيات المستهلكة لتلك الثقافة المتكورة في (كي يقال...!) وثمة الأحداث الدامية التي بقيت في النص الغاطس المسكوت عنه، والتي أكّدها (سريرُ التقاليدِ:/ زوجٌ جديدٌ يُتِمُّ فتوحاتِه)، وثمة حركة البحث عن مصداقية عفة الجسد الأنثوي (تُفَتِّشُ عن نُقْطَةٍ مِنْ دماءِ القتيلةْ)، وثمّة حدث (النصر لجياد القبيلة)، وهي أحداث تغتال إنسانية الأنثى وثمة الأزمنة المعادية (الفجر) وثمة الحوارات الخارجية والداخلية المحمومة التي فجّرها حدث (العرس / فتوحات الزوج الجديد + (كي يقال...!) وقد كرّستها تقنية الخرم الطباعي وعلامة التعجب، فضلاً عن صوت الأنثى (الخادمة) وهي (تعلن للفجر) مصداقية طهارة الجسد الأنثوي من الدنس.

فضاء كابوسي
من الواضح أن المتخيل الشعري نجح في أن يصوغ من السياق القصصي فضاء كابوسيًّا يضعه في الخانة التي يودّ الشاعر حسن المطروشي أن يدينه ويضعه في خانة النسيان، وهي بذلك ترتبط دلاليًّا بعنوان المجموعة (لديّ ما أنسى).
وقد ينسج المتخيّل الشعري قصة شعرية ترتكز إلى تقنية تعدد الأصوات، لاحظ مثلاً قصيدة «انْفِصام» التي ترد من خلال وعي الأنا الساردة التي ترقب الحدث لترسم ملامح الشخصية الرئيسة، وتأمل استهلالته التي كثّفت الحركة الدائرية للزمن منذ المفردة الأولى: 

كَعادَتِهِ
يَتَلَبَّسُ غَيْبوبَةً كالشتاءِ 
ويهذي:
هنا غادَرَتْني السَّرِيَّةُ
لا سجائرَ
لا بندقيةَ
لا امرأةٌ
أو بُراقْ

لا يؤشر الفعل المضارع (يهذي) إلى الحوار الخارجي للشخصية الرئيسية فحسب، بل هو أيضًا يعبّر عن عمق الصراع النفسي الذي تمور به وتفاقمه حد انفصامها عن الواقع وعن الوعي، لاسيما أن المتخيل الشعري يحشد المفردات التي تنضح تفاصيل قصصية مأهولة بأحداث وشخصيات، فثمة حدث الحرب والدفاع عن الحق المستباح (بندقية)، وثمة الزمن المعطوب المكتظ بالأحاديث المملة والضجر (سجائر) وثمة الجسد الغضّ والذاكرة المخضّلة بالعشق (امرأة)، وثمة المعجزة المرتقبة والمستحيلة (بُراق)، إلا أنها ترد في إطار منفي، لتعكس عمق الفجوة التي تفصل الشخصية عن راهنها المرير، ولتربط التلقي بالعنوان المخاتل للقصيدة (انفصام)، ويصل الانفصام الدلالي إلى ذروته، مع ظهور أصوات جديدة لشخصيات تنفصم نفسيًّا عن الشخصية الرئيسة، وتكثف أبعادًا تأويلية مختلفة لتخطف المتن الشعري باتجاه جديد، تأمل التالي:

يقولُ «المُطَوَّعُ»: مَسُّ مِنَ الجِنِّ،
قال الطبيبُ: انْفِصامٌ
يُصيبُ خُصومَ الوُلاةِ،
وقال الرعاةُ: دُوَارٌ حَميدٌ
لِكَثْرَةِ ما راقَبَ العابراتِ

حركة انفصام
من الملاحظ أن المتن يحمل على مسرحه أربع شخصيات (الأنا الساردة) التي ترقب الحدث وتنقله للقارئ الذي بقي خارج النص والشخصيات الثانوية التي تحرّكت في هامش المتن القصصي لتكثّف حركة الانفصام متآلفة متخالفة عن الشخصية الرئيسة، فثمة (المطوع المتخم بهلوساته الغيبية) و(الطبيب المكتظ بنظرياته العلمية ووعيه التام بانقلاب الموازين) و(الرعاة الرامزين للالتحام بالفطرة والبراءة)، إلا أن خاتمة المقطع الشعري توقد لحظة التنوير التي تؤكد هذا «الانفصام»، حيث يرد:
 
فَكَذَّبَهُمْ كُلَّهُمْ
واستفاقْ 

تؤكّد عودة الشخصية الأساسية إلى الوعي الذي غاب عنه في بداية القصيدة من خلال الفعل «يهذي»، وهي عودة تكرس طبيعة الصراع النفسي الحاد الذي انتهى بتقبّل مرارة اللحظة الراهنة، وهي عودة تربط الخاتمة باستهلالة القصيدة التي بدأت بـ (كعادته) لتكريس طبيعة هذا الصراع النفسي الحاد واستمراريته. 
وقد يصوغ المتخيل الشعري قصة عجائبية غرائبية تستدعي مناخات حكائية فلكلورية، لاحظ مثلاً قصيدة «الفَرْخ»، وتأمل كيف استدعى المتخيل الشعري فضاءات ألف ليلة وليلة وإيحاءات المصباح السحري:

ماذا تُخَبِّئُ عُلْبتي هذي البديعةُ
مِثْل قُمْقُمِ ساحرٍ؟
ماذا سيَحْدُثُ لو أُجَرِّبُ فَتْحَها؟
سَمَّيْتُ بالدَّيَّانِ
ثُمَّ جَذَبْتُها،
لكنني ما إنْ نَكَشْتُ غِطاءَها
حتى تَدَفَّقَ في يدي بَرْقٌ عظيمٌ

تؤكد التساؤلات الحائرة (ماذا سيَحْدُثُ لو أُجَرِّبُ فَتْحَها؟) الرغبة في ارتياد المحظور في إطار الجرأة والتردد في الوقت نفسه، لكنّ الرغبة في التجريب هي التي تتغلب على التردد حين تقرر الشخصية الرئيسة واعية خوض تجربة فتح العلبة المسحورة (سَمَّيْتُ بالدَّيَّانِ/ ثُمَّ جَذَبْتُها)، لاحظ كيف انتقلت كاميرا النص إلى إضاءة تأثير هذا الحدث العجائبي (فتح العلبة المسحورة) على الأمكنة الحميمة للأنا الساردة: 

واسْتَشاطَتْ في زوايا البيتِ ريحٌ
مِثْل أهوالِ القيامةِ
هَزَّت الجدرانَ،
واصْطَكَّتْ نوافذُ غُرْفَتي،
مُتَرَدِّدًا فَزِعًا قَذَفْتُ بِعُلْبَتي نحو السماءِ كَطَلْقَةٍ،
حتى إذا كادت تَغيبُ
هناك في دوامةِ الأفلاكِ والنورِ العميقِ

اتجاه غرائبي
تشف تلك الأجواء العجائبية عن طقوس المبدع في بحثه الجريء عن المدهش في كتابة النص الإبداعي وصياغته، ويتكثف هذا التأويل حين ينعطف السرد الشعري باتجاه غرائبي آخر، حين تظهر شخصيات عجائبية تكثّف البعد الحكائي للقصة، تأمل الآتي:

أصابها نَسْرٌ عظيمٌ في الأعالي،
باضَ فيها بيضةً تَزِنُ الجبالَ،
ورَدِّها بجناحِه،
كَمُذَنَّبٍ سَقَطَتْ،
تَدَحْرَجَ كلُّ ما تحويه في أحشائها،
ورأيْتُ فَرْخًا شَقَّ تلك البيضةَ الصماءَ

 تشف ملامح (النسر الوليد – الفرخ – العنونة) عن تقارب بين عالمه المجنح الغرائبي وبين عالم القصيدة الوليدة التي هي الابنة الشرعية للأخيلة المجنحة (نَسْرٌ عظيمٌ في الأعالي) وحاضنتها العوالم المسحورة (العلبة المغلقة) التي توقّد وهجها جرأة الذات المبدعة في فك مفاتيحها التي تثير الدهشة، وقد أكّد هذا التأويل، الحوار الخارجي للشخصية الرئيسة، الذي يقترب من المناجاة، تأمل الآتي: 

قُلْتُ: الفرخُ مسكينٌ ويُشْبِهُني،
وكم أخشى عليه
- كَبَعْضِ أبنائي -
سَتَخْطَفُه قراصنةُ البروقِ
وهذه الطرقاتُ

وهو حوار يكشف عن طبيعة الصلة بين المبدع بإبداعه (الفرخُ مسكينٌ ويُشْبِهُني)، وتضيء خاتمة (القصيدة – القصة) التي ستشهد النهاية المأساوية لـ (النسر الوليد – الفرخ = النص الإبداعي):
الفَرْخُ طارَ
وريشُهُ في كُلِّ ناحيةٍ،
وكانت في الشوارعِ تَضْحكُ الفتياتُ!
نهاية تراجيدية
من الواضح أن النهاية التراجيدية لـ «النسر الوليد» تضيء عبثية الجهد الإبداعي وطقوسه التي تجشّم فيها المبدع مغامرة ارتياد المحظور الفكري وضياعه في أمكنة تكتظ بشخصيات منفصلة عن عمق القصيدة وصياغتها المضنية.
وقد يطوّع المتخيل الشعري العروض الخليلي للقصيدة العمودية، ليصوغ أفقًا سيريًّا يتكثف فيه الصراع النفسي داخل الشخصية الرئيسة التي يتسيّد صوتها مساحة النص، تأمل - مثلاً - قصيدة «سقوف الليل» التي مزجت عنونتها بين الزمان (الليل) والمكان (سقوف)، في إطار استعارة تجسيمية جسمت الزمن الموحش زنزانة مغلقة، وتحسس نبرات الحوار الخارجي الذي يتحول في بعض مستوياته إلى مناجاة راعفة:

ماذا يدلُّ عليَّ الآنَ يا قلقُ؟
كِلا دليلَيَّ أعمى: الطيرُ والأفقُ؟

يكشف البيت الشعري بشطريه المتسائلين عن حتمية الضياع النفسي الذي وجدت الأنا الساردة ذاتها محشورة في خضمه، كما يكثّف الشطر الثاني تحديدًا طبيعة الوجهة الخاسرة في أمكنة مبهمة، لينقلك البيت الثاني إلى حركة الزمن البليدة واليائسة حد السكون: 

نَسيتُ أني هُنا مِنْ هكذا سَنَةٍ
يغيبُ بعضي فَأَلْقاني ونَفْتَرِقُ

يكرس الشطر الأول اندغام الزمن التقويمي بالزمن النفسي للنص، وهو اندغام يشكّل موتًا نفسيًّا للذات الساردة، كما يعكس الشطر الثاني عمق الصراع النفسي لتلك الذات المغتربة عمّا حولها، والتي تعيش اختصامًا مع كينونتها، وهو صراع يتفاقم ليصل إلى ذروته، تأمل الآتي:

وأنني هاربٌ مني ومِنْ طُرُقي
 ومِنْ دمائي يَمرُّ الليلُ والطُّرُقُ 
كناسكٍ خَرَّ مِنْ فردوسِ حِكْمَتِه
 يفيضُ ناسوتُه شكًّا ويحترقُ

حيرة عميقة
من الواضح أن المتخيل الشعري يصوغ صورة تشبيهية تمثيلية تنتظم البيتين معًا، حيث يجعل من البيت الثاني (المشبّه به) ومن البيت الأول (المشبّه)، وهو نمط تشبيهي يقرن صورة لا يعلمها التلقي بصورة يعلمها، فأنت إزاء هذا النمط من التشبيه تفهم عمق الحيرة التي تتلبس الأنا المغتربة المحبطة وفداحة الهوّة التي تفصلها عن ذاتها وعن عالمها المحيط بأمكنته وناسه وعن راهنها المعيش، إلا أن المتخيل الشعري ينعطف في خاتمته باتجاه جديد ليتكشف موقف النص من تلك الذات المحبطة والكسولة حد العجز:

فَكَمْ تثاءبَ طفلٌ صامتٌ بدمي
سيفْلقونَ سقوفَ الليلِ لو نطقوا!

تفتح الأداة (لو) نافذة عن المسكوت عنه الذي يدين تلك الذات الخاملة العاجزة عن إيقاظ الطفولة (كم طفل) القادرة على إحالة وحشة المكان إلى بهاء ناصع، والتي آثرت ندب (الطير والأفق) ورشّ مرارة الضياع على جرح الخيبة. 
وقد ينسج المتخيل الشعري قصة كاملة يستدعي فيها فضاءات متخمة بالألم والمرارة، تأمل - مثلاً - قصيدة «فَقْد» التي تتحرك من رثاء الآخر «الفقيد» إلى رثاء الذات، ولاحظ كيف ركزت الاستهلالة على الحركة الدائرية للزمن اللذيذ الذي احتفى بهما معًا، ولاحظ كيف وظّف المتخيل الشعري ديناميكية الفعل المضارع لتوكيد استمرارية الحضور:

كلَّ يومٍ أجالِسُهُ
آخرَ الليلِ،
نوصِدُ بابَ النهارِ
على خبرٍ عاطلِ،
نلتقي مثلما يلتقي المَدُّ والجَزْرُ
في الحكمةِ الناقصةْ
 يكثف المتخيل الشعري حركة الزمن التقويمي للفضاء القصصي وعبر (الليل + النهار + المد والجزر)، فضلاً عن الزمن النفسي المتمظهر في الأفعال المضارعة (نوصد + نلتقي) التي أكّدت ديمومة هذه الصلة وحيويتها المهيمنة على اللحظة الماثلة، فضلاً عن تماهي الأنا الساردة المفجوعة بالغياب بالذات الغائبة.
يكثّف المشهد الشعري الثاني عنصر الحوار الخارجي الذي جمع بين الشخصيتين الأساسيتين موظّفًا الإيقاع الداخلي لمساندة تفعيلة المتقارب (فعولن) التي انتظمت القصيدة، تأمل الآتي:

مِنْ زجاجِ حكاياتنا:
تَعْبُرُ البنتُ كالسَّهْمِ
تعبر حارَتُنا بعصافيرِها
يعبرُ الجنرالُ
وتعبر كشْميرُ في مِعْطفِ الفرْوِ
تعبر لندنُ مأهولةً برعاةِ الجِمالِ
وتعبر باريسُ مشغولةً بالعطورِ
وتلميعِ سيقانِها
وطلاءِ أظافرِها
يعبر الشُّرَطيُّ
بصفارةٍ مُتَقَرِّحةٍ بالزكامِ
ويعبر لوركا وطاغورُ والمتنبي
يبيعون فوق الرصيفِ طماطمَ فاسدةً

عمق ثقافي
يضيء زجاج الحكايا وجه الأنا المفجوعة بالغياب ووجه الذات الغائبة المندغمتين في ضمير الجماعة (حكاياتنا) وحركة الزمن اللذيذ الذي ضمهما معًا كما يضيء تفاصيل اليومي المعيش لكليهما، فثمة الأمكنة الحميمة المكتظة بالألفة (حارتنا بعصافيرها) + الأمكنة الملبّدة بالتشويق (لندنُ مأهولةً برعاةِ الجِمالِ) والغواية والترف (كشْميرُ في مِعْطفِ الفرْوِ + باريسُ مشغولةً بالعطورِ/ وتلميعِ سيقانِها/ وطلاءِ أظافرِها).
وثمة الملامح الداخلية للشخصيتين، ويتضح ذلك من خلال سبر العمق الثقافي لهما (لوركا وطاغورُ والمتنبي) وسخريتهما من عبثيّة الكلمة في زمن انقلاب الموازين (يبيعون فوق الرصيفِ طماطمَ فاسدةً) ووعيهما بمحنة الإنسان البسيط (لَغَطٍ باعَةُ السَّمَكِ الجافِّ + عاملةُ المَقْصفِ المدرسيِّ)، وجزعهما من التفاصيل المكرورة للفجيعة الجماعية المشتركة (صوت الإذاعات)، فضلاً عن ولعهما الجسدي بالأنوثة الغضة التي شكّلت استهلالة المشهد (البنتُ)، ويختم بها في إطار صورة إيروتيكية باذخة التكثيف (تطولُ رماحُ الحكايةِ/ تعلو.../ وتعلو.../ إلى سُرَّةِ الراقصةْ)، أضف إلى ذلك، فإن تكرار فعل العبور بصيغته المضارعة (تعبر + يعبر) خمس عشرة مرة يعكس عمق الصراع النفسي للأنا الساردة التي رفضت الاعتراف بحدث (الفقد)، وتنخطف عجلة زمن السرد الشعري باتجاه الزمن الماضي، لتكريس الملامح الداخلية للشخصية الغائبة وللأنا الساردة على حد سواء:
 
في ليالي المُعَسْكرِ
كنْتُ أنامُ على ظِلِّهِ
مِثْل كَلْبٍ كسولٍ مِنَ الهندِ
أُغْمِضُ عينًا على قارَّتَيْنِ
وأَفْتَحُ أُخْراهُما
غيْرَ مُكْتَرِثٍ بشخيرِ السياساتِ حَوْلي
وأَرْقُبُ في خيبةٍ
عَرَباتِ السجونِ 
تُجَرْجِرُ أحلامَنا الناكِصَةْ

تناظر دلالي
من الواضح أن المتخيل الشعري وعبر الفعل «كنت» يكثّف الزمن الماضي وتوظيف تقنية الخطف خلفًا ليضيء تفاصيل ضج بها الزمن المنفرط، ويكرّس طبيعة العلاقة التي ربطتهما معًا من خلال التناظر الدلالي الذي تكوّرت عبره الأنا الساردة في الضمير الغائب (تحت ظله)، وانغمرت بكنف الذات الغائبة، بل إن الأنا الساردة تحرّك كاميرا النص لتضيء رحلة عمر كاملة استوعبت مواجع مشتركة وزمنًا مثقلاً بالخيبة يقابله زمن مبهج مترَع بالجرأة وتخطّي السائد الثقافي.

توازٍ إيقاعي
خالقًا بذلك توازيًا إيقاعيًّا بين موسيقى النص الحاضر وتفعيلة بحر المتقارب (فعولن) التي انتظمت قصيدة المطروشي وبين إيقاعية النص الغائب على تفعيلات بحر الطويل لشدّ أوصال صوت الأنا الساردة المشتتة، وهي ترقب دخول الفقيد غياهب اللاعودة. 
ويضيء المشهد الأخير التحوّل النفسي للشخصية الرئيسية حين تتقبل حدث (الفقد) باستسلام مرير، تأمل كيف ضخّ المونولوج الراعف المثقل باللوعة فضاء القصيدة:
 
أتَحَسَّسُ مقْعدَه فارغًا
داخلَ القلبِ،
صحْتُ: َلِمَنْ سوف تتركني 
حينما وَهَنَ العظمُ مني؟
كأنْ لَمْ تَقُدْني إلى فَلَواتِ القصيدةِ،
ما سِرْتَ بي حافيًا للجنونِ
وبعْثَرْتَني في عيونِ الجميلاتِ،
أوْحَيْتَ لي بالتشَرُّدِ في شجرِ المارِقينَ

ولا يكتفي المتخيل الشعري بذلك، بل يمنح التلقي سانحة الإصغاء إلى صوت الشخصية الغائبة التي يتم إغلاق القصيدة على نبراتها، ليكون الصوت الوحيد المستقر في ذاكرة التلقي، تأمل الآتي:

وقلتَ ليَ:
اهْبطْ لَهُمْ يا حَسَنْ
يا نبيَّ الغزلْ!

وقد يتفنن المتخيل الشعري برسم الشخصية وتكثيف أحداث كابوسية متنامية تجلي ذروة الصراع النفسي للشخصيات المتحركة على مساحة القصيدة، لاحظ - مثلًا - قصيدة (أُلْفَةٌ مَجازِيَّة) التي تجعلك منذ العنونة أمام أفق مخاتل مشاكس، لأنك ستجد أن المتخيل الشعري يستدعي الأخوة المجازية بين قابيل وهابيل، في إطار تقنية القناع التي تضعهما في سياقات مغايرة مانحة قابيل السلطة المطلقة على مسرح النص الحاضر، وفي الوقت نفسه تسلب هابيل قدرته على الدفاع عن نفسه، ليبقى حبيس النص الغائب والبنية المسكوت عنها، تأمل كيف فصل المتخيل الشعري - عبر مونولوج قابيل - ومنذ الاستهلالة شخصية هابيل طباعيًّا عمّا يحيط به، ليموضعه في الضمير المنفصل (هو)، وفي سيل ضمائر الغياب التي تشير إليه ليبقيه أسير الغياب:
هُوَ! 
كيف أنْكِرهُ؟ 
له سِمَةٌ مُبارَكَةٌ على الكَتِفَيْنِ
مِنْ أَثَرِ السجونِ،
اثْنَيْنِ نُصْبِحُ لو تَذَكَّرَني: 
النقيضَ وشِبْهَهُ

يفضح تساؤل قابيل المتيقن (كيف أنكره؟)، بعمق، الصلةَ التي تربطهما فهما (النقيض وشبهه)، في إشارة واضحة إلى (هابيل /الإنسانية) و(قابيل / الوحشية)، إلا أنهما يتحدران من أب واحد، زد على ذلك أن صوت قابيل رسم ملمحًا خارجيًّا لهابيل (له سِمَةٌ مُبارَكَةٌ على الكَتِفَيْنِ/ مِنْ أَثَرِ السجونِ)، ويمعن المونولوج في تقصي تفاصيل التراجيديا الإنسانية التي شهدتها الأمكنة العدائية والأزمنة المتخاذلة التي تضج بشخصيات مهمّشة، تأمل الآتي:
 أنا لَسْتُ أنْكِرُ أنني عَلَّقْتُهُ يومًا
كَجَرْوِ الكلْبِ
أو قَلَمِ الرصاصِ،
وسِرْتُ مُندفِعًا تجاهَ البحرِ،
ثُمَّ رَمَيَتْهُ
للحوتِ والظلماتِ 
في اللُّجَجِ السحيقةْ

مناجاة حائرة
هنا تخفت نبرات الحوار الخارجي، ليتحوّل إلى مناجاة حائرة تعرّي شخصية قابيل منزوعة الإنسانية، والتي مارست أقصى البشاعة على هابيل المسلوب القدرة على الدفاع عن نفسه (عَلَّقْتُهُ يومًا / كَجَرْوِ الكلْبِ)، لإدانته، وفي إطار أحداث عنيفة وأمكنة عدائية بليدة لم تنجح مفردة «الحوت» بدلالتها المستقرة بالذاكرة الجمعية، بوصفه قرين يونس، إلى أن تسحبها إلى أفق مغاير، فبقيت متخمة بالموت وبشاعة العدم. 
وتنعطف القاطرات الدلالية للنص عبر أداة الاستدراك (لكن)، لتضيء وجه هابيل المثقل بالهمّ الجماعي وتضيء في الوقت نفسه حقائب النص وهي تهرب دور الأدب الملتزم في تكريس الأمان للآخر بمن فيهم قابيل:

لكنني أَلْفَيْتُهُ 
كالفأرِ
مُنْتَظِرًا أمامَ البابِ
صُحْتُ: أَعُدْتَ ثانيةً إليَّ؟
أجابَني: مِفْتاحُ دارِكَ
يا أُخَيَّ،
نَسيتَهُ في جَيْبِ تلك الجُثَّةِ السمْراء

يشكل جواب هابيل (مِفْتاحُ دارِكَ/ يا أُخَيَّ،) بؤرة النص المربكة الملتبسة لأفق التأويل، لأنه قد يفضي إلى استيقاظ ضمير قابيل الذي عادت إليه الحياة، فطفق يطارده بما جنته يداه، وقد يفضي إلى حوار عبثيّ بين قابيل المتحجر وهابيل لتكريس دور المثقف الذي هو قرين الأمان (البيت) وغيابه يعني غياب الأمان والسكينة، لأنه يرى ما لا يراه الآخرون.
وبعد، فقد شكّلت القصة الشعرية في مجموعة (لديّ ما أنسى) للشاعر المطروشي ظاهرة مهيمنة، إذ نجح المتخيل الشعري في المواشجة بين الشعري، حيث التكثيف الدلالي والإيقاعي بشقيه - القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة - مع القصصي لشحن القصيدة بدلالات منحته القدرة على ارتياد فراديس مدهشة بعيدة عن رتابة المألوف، حيث برع المتخيل الشعري في صياغة قصة شعرية كاملة تارة، وتارة أخرى في التركيز على أحد العناصر القصصية - الحوار الخارجي أو المونولوج أو الشخصية أو المكان أو الزمان - لتكثيف تنامي البنية القصصية في القصيدة. 
ومما يضاف هنا أن المتخيل الشعري برع في أن يوظّف تقنية القناع الشعري مستلًّا إياه من عمق الذاكرة الجمعية الشعرية والأسطورية والفلكلورية والثقافية والعقائدية، لخلق سياقات قصصية تتحرك بين الحكائي الواقعي أو الترميزي، أضف إلى ذلك أن المتخيّل الشعري تحرّك في أفق الأغراض الشعرية التقليدية لتحديثها، فتجد الرثاء والهجاء والغزل، إلا أنه ألبسها بمكابدة جمالية واعية إهاب اللحظة الماثلة، فتنفست تفاصيل الراهن المعيش بأسلوب باذخ الدلالة .