من السموم دواء لمرضك
يتجه العلماء الآن إلى استخلاص السموم التي تفرزها الزواحف القاتلة بعدما باتت الأمل الجديد في علاج أمراض استعصى على البشرية علاجها حتى الآن. وهذه السموم خليط متجانس من البروتينات وشبيهة البروتينات (البيبتيدات) والأحماض الأمينية والهرمونات والأجسام المضادة ومكونات أخرى، فتُحدث تداخلاً وتعارضاً في وظائف التمثيل الغذائي للكائنات الحية الأخرى. لذا يعتبر إفراز السموم هو خط الدفاع لدى بعض الزواحف لمواجهة خطر أعدائها.
الأعراض والعلامات المصاحبة لعضات الزواحف
أعراض وعلامات موضعية تكون أكثر وضوحاً في الأفاعي مثل Crotalidae and Viperidae، وتظهر في صورة آلام شديدة مكان العضة مع ورم شديد واحمرار وكدمة ونزيف موضعي، وقد تظهر أنزفة كثيرة من الفتحات الطبيعية للجسم أو تحت الجلد والأغشية المخاطية نتيجة لزيادة زمن النزيف وبطء التجلط والصفائح الدموية مع أنيميا وامتقاع في لون الجلد والتهاب في الأوعية الليمفاوية وتضخم في الغدد الليمفاوية، وقد يصل الأمر في الحالات الشديدة إلى تهتك شديد للأنسجة، وتبدو على المصاب مظاهر الإنهاك الشديد والإعياء وبرودة الأطراف وسرعة النبض مع انخفاض ملحوظ في ضغط الدم، وقد تستغرق الوفاة بضع ساعات إلى يوم حسب موضع العضة، وفي حالة أفعى الكوبرا تكون الأعراض عتامة في النظر وازدواج في الرؤية مع بطء في التنفس وزرقة الجلد وهبوط في ضغط الدم واضطراب في ضربات القلب وتنميل وشلل للعضلات.
وتختلف شدة العضة من عضة بسيطة إلى عضة كبيرة جداً، كما تختلف خطورتها حسب مكانها وعددها وعمقها وكمية ونوع السم وحجم وجنس الثعبان وعمر وحجم الضحية ومدى حساسية الضحية للسم.
الترياق المضاد للسموم
من هنا لمعت فكرة عمل ترياق مضاد لهذه السموم بحقنها في جسم كائن حي آخر لتكوين أجسام مضادة لهذه السموم. فهناك أكثر من 150 ألف كائن حي على وجه التقريب لديه القدرة على إفراز السموم مثل الأفاعي والحيات والعقارب...إلخ.
ويشير د.زلاتان تاكاس مؤسس مشروع بنك السموم العالمي في جامعة هارفارد الأمريكية إلى أن السموم تعد أفضل مصدر طبيعي لإنتاج العقاقير التي تعالج الأمراض التي أعيت البشرية في حلها حتى الآن، فمثلاً بعض السموم التي تهاجم الجهاز العصبي وتسبب استرخاء ثم التخدير والتعطيل للإحساس والأعصاب فتسترخي العضلات وتُحدث شللاً مؤقتاً، يمكن استخراج المسكنات للألم المزمن منها.
وأيضا السموم التي تسبب النزيف الحاد المستمر فيتسبب في سـرعة الوفاة للضحية، يمكن أن تُستخدم لعلاج الجلطات في القلب والأوعية الدموية. والمذهل في هذه السموم أنها معقدة التركيب للغاية، لذا وجب فصل مكوناتها ودراسة تأثيرها، كل على حدة، حتى تتحقق الفوائد العلاجية المأمولة في علاج الأمراض الصعبة، مثل أمراض القلب والأوعية الدموية الشهيرة، كالجلطات الدموية والسكتات الدماغية الخطيرة.
ولك أن تتخيل أن هناك أكثر من عشرين عقاراً مشتقا من هذه السموم يباع في الأسواق، وقد أثبتت فاعليتها في العلاج.
قصة الأدوية الترياقية
لوحظ أن مزارعي الموز يُلدغون بالثعابين والأفاعي والحيات فيتعرضون لانخفاض حاد في ضغط الدم، ما دفع الباحثين لدراسة سموم هذه الكائنات ومنها حية تدعى Bothrops Jararaca، يُستخرج من سمها عقار يسمى كابيتوبريل يعالج ارتفاع ضغط الدم ويوسع الأوعية الدموية، ويعتبر أول عقار لعلاج ارتفاع ضغط الدم المأخوذ من السموم الترياقية.
ويوجد عقار يدعى إبتفاتبدايد مُستخرج من سم أفعى تدعى الأفعى القرمزية ذات الجرس، الموجودة في جنوب شرق أمريكا. وسم هذه الأفعى يمنع تجلط الدم من خلال منع التصاق الصفائح الدموية فيتسبب في نزيف حاد يؤدي للوفاة.
هذا العقار يُستخدم حالياً في علاج الجلطات والأزمات القلبية والسكتات الدماغية المفاجئة. وحديثا تم استخلاص عقار جديد اسمه التيروفيبان له المفعول نفسه من سم أفعى تدعى الأفعى ذات الأنياب المسيفة، قادر على علاج الجلطات القلبية والسكتات الدماغية.
ومع توالي الأبحاث واستخدام تكنولوجيا الحمض النووي المدمج والبيولوجيا الجزيئية والهندسة الوراثية والمعلوماتية الحيوية، تم تصنيع الدواء الجديد المسمى السيندريثيد من إحدى البيبتدات المأخوذة من أفعى تسمى الأفعى الخضراء الشرقية بعد دمجه مع إحدى البيبتيدات المأخوذة من الأوعية الدموية للإنسان. بل وصل الأمر إلى إنتاج مادة مسكنة مثل المورفين مستخلصة من سم أفعى المامبا السوداء، ولكن دون الأعراض الجانبية الخطيرة مثل الإدمان والأعراض الانسحابية للمخدر من الجسم.
الأدوية الترياقية المدمجة
لا عجب من انطلاق صيحة الأدوية المدمجة لتحقيق فكرة دمج عديد من السموم الترياقية من أكثر من مصدر باستخدام تكنولوجيا السموم المصممة، فنحصل على مركب لدواء متكامل طبيعي، له خصائص بيولوجية متكاملة فريدة واعدة في علاج الأمراض المستعصية. ويمكن من خلال الأدوية المدمجة تصنيع عديد من الأدوية المستحدثة بل وإنشاء بنك عـالمي لتخزين هذه السموم كمصدر لهذه الأدوية الحديثة، حيث لايزال أكثر من عشرين مليون نوع من السموم الترياقية لم يكتشفها الإنسان بعد. ومنها يمكن أن تكون علاجات مبشرة في أمراض مستعصية كالسرطان، الإيدز، الأمراض المزمنة، داء السكري، ضغط الدم المرتفع، والجلطات والسكتات الدماغية والألم المزمن.
الأمصال الترياقية
تُستخدم الأمصال الترياقية لعلاج الإنسان ضد لدغات الثعابين وعضات الأفاعي ولسعات العقارب. وقد أعلنت منظمة الصحة العالمية في عام 2015 أن عدد المصابين بلدغات الثعابين بلغ على مستوى العالم أكثر من 2.5 مليون مصاب، يموت منهم حوالي 100 ألف إنسان سنوياً، وتتركز الإصابات في منطقة جنوب شرق آسيا ومنطقة صحاري الشرق الأوسط ومنطقة جنوب الصحراء الكبرى، فمثلا في منطقة الصحاري الكبرى الإفريقية وحدها يموت 13 ألف حالة سنوياً بسبب هذه الزواحف، وتصنع الأمصال المضادة لسموم هذه الزواحف بمعامل فاكسيرا حالياً (هيئة المصل واللقاح سابقاً) في مصر لتغطى احتياجات المنطقة العربية والشرق الأوسط وإفريقيا منذ عام 1897.
معامل فاكسيرا... المصل واللقاح
تعتبر أقدم المعامل المتخصصة في إنتاج الطعوم واللقاحات في مصر والعالم العربي وإفريقيا والشرق الأوسط، فقد تم إنشاؤها عام 1881م، وبدأت في إنتاج الأمصال واللقاحات عام 1897م، وفي عام 1939 أنشئ معمل فؤاد الأول للمصل واللقاح على مساحة 6 أفدنة في منطقة العجوزة بالجيزة، ثم أنشئت مزرعة الحيوانات المعملية على مساحة 24 فداناً بمنطقة حلوان على أطراف مدينة القاهرة لتساعد في إنتاج حيوانات لتقييم فاعلية الأمصال واللقاحات، وبلغت تكاليفها حينئذ 430 ألف جنيه مصري، وفي عام 1948 أنشئ معمل فاروق الأول للمصل واللقاح في حي العجوزة، وقدرت تكاليفه آنذاك بحوالي 277 ألف جنيه مصري، وقد أضيفت مساحته إلى معمل فؤاد الأول وأصبح اسمه معمل المصل واللقاح المصري بمساحة حوالي 21 فداناً.
وفي عام 1972 أنشئ بنك الدم لاستخلاص البلازما ومشتقات الدم استعداداً لحرب أكتوبر 1973، وقد وفرت هيئة المصل واللقاح المصرية كل الاحتياجات من الدم ومشتقاته والبلازما والمحاليل العلاجية للمستشفيات المدنية والعسكرية في أثناء الحرب، وفي عام 2003 تم تحويل هيئة المصل واللقاح إلى شركة قابضة لإنتاج الطعوم واللقاحات والصناعات البيوتكنولوجية، وتم تغيير اسمها إلى فاكسيرا (وهي كلمة تحمل نصفها المصل والنصف الآخر اللقاح باللغة الإنجليزية)، لتكون رائدة بحق في مجال التصنيع الطبي الحيوي في مصر والعالم العربي والإفريقي والشرق أوسطي.
عملية تصنيع الأمصال الترياقية
تعتبر سموم الزواحف بمنزلة سلاح ذي حدين، فهي قادرة على قتلنا، وأيضاً يُستخرج منها الدواء الفعال لعلاجنا من الأمراض المستعصية مثل السكري وأمراض القلب والأوعية الدموية وانتهاء بالسمنة.
ولتبسيط عملية التصنيع لهذه الأمصال تبدأ بحقن الخيول بهذه السموم ثم تُسحب البلازما من دماء الخيول وتعرف هذه العملية باسم «الفصد».
وتلك البلازما المحملة بالأجسام المضادة تُفصل وتُنقى لعمل أمصال مضادة للدغات العقارب والحيات والثعابين ثم يتم إعطاء الخيول محاليل تغذية لضمان استعادة نشاطها وقدرتها على الحياة مرة أخرى. ثم تجرب الأجسام المضادة النقية على حيوانات المختبرات المعملية لاختبار الأمصال قبيل التصنيع للتأكد من فاعليتها قبل الاستخدام، وتسمى عملية استخلاص السموم من الزواحف القاتلة بعملية الحلب.
وينتج الحصان الواحد من 12 إلى 250 نوعاً من الأمصال حسب نوعية السم وكميته، ويستخلص من بلازما الحصان الواحد حوالي 48 ليتراً سنوياً ليتم استخلاص الأجسام المضادة للمصل الترياق.
وفي النهاية أود أن أنوه إلى أن النتائج المتميزة والواعدة في تصنيع الأدوية المكونة من سموم الأفاعي والحيات والعقارب لم تعد ضرباً من الخيال، بل أصبحت حقيقة واقعة، لذا نأمل تغيير نظرة الإنسان لهذه المخلوقات العجيبة، فلقد أثبت العلماء أن بقاء هذه الكائنات مرتبط ببقائنا، والحقيقة التي لا يمكن الجدال فيها بعد ثورة البيوتكنولوجيا والأبحاث الطبية المتقدمة والهندسة الوراثية، أنه يمكن تحويل السم إلى دواء مفيد فعال لعلاجك وإنقاذ حياتك من الموت■