كوابح
هناك أشياء كثيرة لا تعلِّمها المدارس كما نتعلمها من مدرسة الحياة التي تبقى فصولها مفتوحة حتى يحين موعد الرحيل الحتمي للإنسان، من بين تلك الأشياء اللافتة، التنوع اللافت في الحديث المستخدم خلال اليوم الواحد وكمّ المفردات المتباينة التي تتدفق على اللسان نفسه، لكن وفقًا للظروف والمواقف وما تراه العين وتسمعه الأذن.
يولد الإنسان من دون أيّ كوابح تمنعه من فعل أو قول أي شيء وعلى مرأى ومسمع الجميع، لا يخشى والديه ولا يهتز أمام أي مسؤول، يكبر قليلاً فيلتفت للتنبيهات ويقلّد أقرانه الذين يحصلون على الحلوى مقابل اتّباعهم سلوكًا معيّنًا رسمه أحد الوالدين، وشيئًا فشيئًا يكبر الصغير ويقتحم مجالس الكبار منشغلاً بشكل ظاهري باللهو واللعب وفي الحقيقة هو راصد ومترصد للكلمات الخارجة عن المنهج المنزلي.
ويمكن اعتبار ساحتي المدرسة و«الحارة» فضاءات الاحتكاك الحقيقي مع العالم خارج فضاء المنزل المعقّم، فضاءات تجري الحوارات فيها بشكل تفاعلي، بعكس التلفزيون الذي يُرسل ولا يستقبل.
هنا يتلقّى الإنسان أولى الصدمات مع كلمات وتعبيرات غير مفهومة، ولأنه لا يزال صغيرًا يتوق لمعرفة كل شيء، فإنه ينقل لعالمه الأقرب كل الأسئلة المحرجة وربما يتعرض للتوبيخ إذا ما كرر دون فهم ما سمعه من كلمات العالم غير «المشفَّرة».
في هذه المرحلة الحرجة تتعدد التوجيهات من كل الكبار، وربما تتناقض في عقل الصغير عندما يجد الكبار يرددون كل الممنوعات في خلواتهم، حتى يصل إلى الحل الذي وصل إليه كثيرون وهو «لكل مقام مقال»، وتتمثل في وضع الكوابح على لسانه ليس على الكلمات فقط، ولكن على الأسلوب الذي يعتبر هو الأصعب لمن يريد اكتساب احترام كلّ من حوله، في المنزل حوار وفي العمل حوار وفي الشارع حوار وفي السوق حوار، وفي كل مقام ومقرّ حوار مختلف يصدر من الإنسان نفسه، ويجري على اللسان نفسه، والسبب هو قوة الكوابح التي تلزم من يملكون الردود الصاعقة الصمت إن كانوا في حضرة من يقدِّرونهم كالوالدين أو حتى الصغار، لأن اهتزاز الصورة أخطر من التعرّض للإهانة.
من هنا تبرز ميزة الأصدقاء المقربين، هؤلاء يستعيد الإنسان معهم طفولته في قول وفعل ما يريده دون أن يحسب حسابًا لما قد يحصل، يبوح بكل ما يشعر به وينطق بأي كلمة تتخلق في باطن عقله، يقول آراءه بحالتها الخام، ويُعرب عن مخاوفه وآماله وحتى سخافاته، ولا يجد من يرده.
في الختام، تختلف الكوابح اللسانية باختلاف الثقافات السائدة، وقد يبدو استعمال لغة حوار واحدة شيئًا مريحًا جدًّا، لكنه في الحقيقة يتعارض مع طبيعة البشر المختلفة في المنزل الواحد، وأيضًا وجود عشرات المقالات موزَّعة على عشرات المقامات دليل ملموس على مجتمع متناقض يرفض الإقرار بحقيقة ما فيه من حوارات سريّة ومعلومة في الآن نفسه، في اعتقادي: الاعتدال هو الحل .