صناعةُ المَرَح في أورلاندو

صناعةُ المَرَح في  أورلاندو

كانت الطائرة تحلق بنا فوق سماء أورلاندو بعد رحلة شاقة طويلة ومرهقة، فبعد عشرين عامًا من مغادرتي الولايات المتحدة الأمريكية، عدت إليها سائحًا من بوابة هذه المدينة، وما بين الأمس واليوم، تغيرالحجر والبشر، منها ما تلاشى وأصبح ذكريات من الماضي، وأُخر استُجدت لم تكن تخطر على البال، وتلك هي طبيعة الأشياء. وفور رؤية المدينة من علٍ تداعى لديّ كثير من الذكريات حول حياتي الأولى بالولايات المتحدة، عندما كنت طالبًا في جامعة ألاباما، وكذلك ذكرياتي حول الفترة التي زادت على عقدين من الزمان بين خروجي منها وعودتي إليها.
أورلاندو مدينة سياحية من الطراز الأول، تقع في ولاية فلوريدا الأمريكية، وهي مقصد رئيس للسياحة والترفيه سواء المحلية أو العالمية، بل إنها تشكل العمود الفقري لصناعة السياحة في الولايات المتحدة، ومعظم المسافرين إلى أمريكا بغرض السياحة يضعونها على رأس القائمة لما تحتويه من مقومات سياحية مناسبة لجميع الأذواق والأعمار، كما أنها تلقب بالمدينة الجميلة.
خرجت منها شابًا وعدت إليها كهلاً متجاوزًا الخمسين، خرجت منها مع أسرة من فردين، وعدت إليها بصحبة أبناء يتعلمون في مراحل تعليمية مختلفة، خرجت منها بطموح وآمال لا حدود لها، وعدت إليها بإنجازات متواضعة محدودة، خرجت منها في عصر ما قبل العولمة، وعدت إليها في عصر ما بعدها، خرجت منها إلى عالم عربي مستقر هادئ نسبيًا، وعدت إليها من عالم عربي يئن من جراحات متعددة.

 

نزلت من مطار أورلاندو مع عائلتي لنواجه طقسًا حارًا، ممزوجًا برطوبة عالية تشع على المدينة التي تعج بالحيوية والنشاط، فهم  يطلقون عليها ولاية الشمس المشرقة.
لا تتميز أورلاندو بطبيعة خلابة أو أجواء معتدلة، وليست لها إطلالة مباشرة على البحر، في ولاية تشتهر بشواطئها المتعددة، لكنها تظل الوجهة السياحية الأولى في أمريكا، فهي أرض الـ «والت ديزني» مخترع أشهر شخصية كرتونية في العالم، (ميكي ماوس). فبعد نحو عقدين من الفراق، بدت أورلاندو أكثر أناقة ونضارة ونظافة ورومانسية وجاذبية.
سكنت مع أسرتي في فندق بمنطقة ديزني سبرنغ الواقعة على بحيرة بوينا فيستا، التي تحتوي على منتزه يحمل اسم المنطقة، ويعج بالسياح كونه يحتوي على متاجر ومقاهٍ ومطاعم ودور عرض للسينما ومسرح للسيرك وعروض غنائية وترفيهية.
وفي اعتقادي أن تأجير سيارة يعد ضرورة من ضرورات السياحة في أمريكا، فخدمة سيارات الأجرة غير متوافرة في أورلاندو على مدار الساعة، كما في باريس ولندن ومدن أخرى، لكن بإمكانك الاعتماد على خدمة تاكسي «أوبر»، وهي ابتكار تجاري أمريكي يستخدم تقنيات عصر العولمة، ومن الممكن أيضًا الاعتماد على خدمة الحافلات التي توفرها بعض الفنادق لتوصيل النزلاء إلى الوجهات السياحية المعروفة في أورلاندو.
وبالرغم من الزحام المروري في أورلاندو، فإن قيادة السيارة فيها متعة ما بعدها متعة، فشوارعها منسقة وانسيابية وإنارتها جيدة، وبعضها تمت تسميته على أماكن المرح المتجمعة في هذه المدينة، والتي تؤدي إليها، فيوجد شارع يسمى ماجيك كنجدم، وشارع آخر يدعى إبكوت، وثالث يسمى عالَم البحار، فالمدينة عبارة عن مجمَّع لصناعة المرح، ففيها ديزني وولد، التي تتكون من مملكة السحر واستديوهات هوليوود، والإبكوت سنتر ومملكة الحيوانات، ويوجد في أورلاندو كذلك الاستديوهات العالمية التي تعرض إرث «هوليوود» في صناعة الأفلام، وكذلك المنتزه البحري المعروف بعالَم البحار.

التسويق العاطفي
تبدو تكلفة الإقامة للسائح في مدينة أورلاندو مناسبة نوعًا ما، قياسًا إلى مدن مثل نيويورك أو لوس أنجلس أو باريس أو لندن، وهذا شيء يميزها، نتيجة كثرة الفنادق والمنتجعات فيها، لكن تكاليف زيارة أماكن المرح في أورلاندو مرتفعة، وعندما تحسب ميزانية السفر إلى أورلاندو، عليك أن تضع ميزانية لزيارة هذه الأماكن، مع ميزانية أخرى لتذاكر السفر والإقامة والتسوُّق. 
ولعله من الممكن تقليل كلفة تذاكر أماكن المرح إذا اشتريتها بشكل مسبق من مواقع الإنترنت، وربما تكون أرخص إذا استجبت للعروض التسويقية الموجودة بشكل دائم بالمراكز التجارية وفي بعض الفنادق، فكثير من المنتجعات والفنادق التي لها فروع متعددة في العالم تعرض تذاكر مخفضة على أماكن المرح لمن يزور مراكزهم في المدينة كي تعرض عليهم عرضًا تسويقيًّا مدروسًا ومغريًا لشراء أيام محددة في السنة لمنتجع في أورلاندو أو بأي فروع له في العالم، مستغلين المهارات التسويقية العالية لموظفين مدربين على تسويق مثل هذه العقارات، فهم يقنعونك بقيمة المنافع العائدة من هذه العروض العقارية بطريقة درامية، مقابل مبلغ يجعلونك تشعر بأنه معقول ومقبول، مع عرض تسهيلات في تقسيط هذا المبلغ إلى فترات زمنية متفرقة. 
وإذا كان الهدف من تلك الزيارة الحصول على تذاكر مخفضة التكاليف لبعض مراكز المرح في أورلاندو، فعليك مقاومة هذا العرض بشتى الأعذار الممكنة، إذ عليك أن تبيّن للمُسَوِّق المحترف مهاراتك الشخصية في مقاومة مثل هذه العروض، خاصة أنهم يشترطون مصاحبة الزوجة، ليضعوا عليك ضغطًا عاطفيًّا تسويقيًّا تصعب مقاومته.
كما يجب أن تضيف إلى ميزانية الرحلة تكلفة رسوم مواقف السيارة داخل أماكن الترفيه، ودولارات إضافية إذا مررت بنقطة دفع الرسوم على الطرق السريعة في أورلاندو، فمن يستخدم بعض الطرق الخاصة بولاية فلوريدا عليه أن يدفع ضريبة صيانتها في بعض المداخل والمخارج، فالديمقراطية الغربية تعني المشاركة، ليس فقط في التصويت، ولكن أيضًا في تمويل الخزانة العامة للدولة أو الولاية أو المدينة، فتوجد ضريبة للدخل، وضريبة القيمة المضافة للمبيعات التي تختلف من ولاية إلى أخرى وضريبة الضمان الاجتماعي، وضريبة العائد على رأس المال للشركات. 
وضريبة المبيعات أو ضريبة القيمة المضافة في فلوريدا تقارب 6 في المئة على المشتريات من المتاجر والمطاعم والخدمات المباعة، وهي منخفضة نسبيًا قياسًا إلى نسبة هذه الضريبة في بعض المدن الأمريكية الرئيسة. 
وتشير شوارع أورلاندو إلى غنى المدينة وثرائها من حيث الإنارة الساطعة والرصف الجيد والتخضير المتناسق على جوانبها. 
والذي يتنقَّل بين المدن الأمريكية، وحتى داخل الولاية الواحدة، يجد فروقًا شاسعة في البنية التحتية لهذه المدن، خاصة في رصف الشوارع والإنارة الليلية، فالمدن كالأفراد في أمريكا تتفاوت بشكل ملحوظ من حيث الثراء من خلال عائداتها الضريبية.
قبل نحو عقدين، كنت أعتمد على خريطة أورلاندو الورقية لتحديد وجهاتي السياحية، واليوم غالبية الناس يعتمدون على الملّاح الإلكتروني أو تطبيق خرائط جوجل، وقد لاحظت أن اعتمادي على خرائط جوجل قلّل من قدراتي على التركيز وتذكّر مسارات الطرق داخل المدينة، كما كنت أفعل سابقًا، وهذا تأثير من تأثيرات العولمة التي جعلتنا نعتمد كثيرًا على الذكاء الاصطناعي على حساب تنشيط خلايا المخ الخاصة بهذه العمليات، كما هي الحال في استخدام التليفون الجوال الذي قلّل مهارات الحفظ والتذكُّر لدى الكثيرين. 

امبرطورية والت ديزني 
من وجهة نظري الخاصة، عليك أن تبدأ بزيارة منتزه ماجيك كنجدم، المملوك لشركة ديزني وورلد، ومَعلَمها الاستثنائي، قلعة سندريلا، والذي يحتل المركز الأول لمدة تزيد على 12 سنة كأكثر مركز ترفيهي زيارة في العالم، بمتوسط 20 مليون زائر سنويًّا. 
ولا يحتاج فضل مؤسس هذه الشركة على مدينة أورلاندو إلى برهان، لأنه جعلها أشهر مدينة للمرح في العالم، وقد تم افتتاح منتزه مملكة السحر عام 1971، وهو عبارة عن مجمّع ترفيهي يثير الخيال الفني الذي تثيره أفلام الرسوم المتحركة، ويعد جزءًا من امبرطورية والت ديزني، مؤسس شركة ديزني لاند، ومخترع شخصية ميكي ماوس، ومخرج أفلام الرسوم المتحركة.
ويُعد والت ديزني الشخصية المحورية لتاريخ سينما الرسوم المتحركة للأطفال، وبفضل مساهماته المهمة في صناعة هذا النوع من الترفيه خلال القرن العشرين، استطاعت هذه الأفلام أن تجذب إليها جمهورًا كبيرًا مع انطلاقة التلفزيون في بداية خمسينيات القرن الماضي. 
وتصل العائدات السنوية لشركة ديزني وورلد إلى عشرات المليارات من الدولارات، وتتكون من شركات إنتاج سينمائية وتلفزيونية وفنادق ومنتجعات ومراكز ترفيه، ومنتجات استهلاكية من ملابس وأدوات مدرسية وألعاب أطفال تباع في محلات ديزني المنتشرة في أسواق مختلفة من أنحاء العالم. وانطلق أول مركز ترفيهي لـ «ديزني لاند» في مدينة أنهايم بولاية كاليفورنيا، ولم تتسع هذه المدينة الصغيرة كثيرًا لأحلام والت ديزني، فعمل على توسيع رقعة مملكة أحلامه في أورلاندو، بانطلاق منتزهات ديزني وورلد، التي تتكون من ماجيك كنغدم، وإبكوت سنتر، واستديوهات هوليوود، ومملكة الحيوانات.

الحلم الأمريكي
حقق والت ديزني، في عُرف الولايات المتحدة، ما يُعرف بالحلم الأمريكي، وهو مصطلح يفهمه كثيرًا من عاش في أمريكا وتشرَّب من ثقافتها، فهي أرض الفرص للعصاميين الجادين لتحقيق الإبداع أو الابتكار، ومن ثم الارتقاء في السّلم الاجتماعي من خلال تحقيق الثروة والشهرة، والأهم من هذا كله القيمة الاقتصادية التي تحققها مشاريعهم من خلال خلق الفرص الوظيفية للشباب القادمين إلى سوق العمل، وكذلك جلب كثير من الفرص الاستثمارية للمستثمرين داخل أمريكا أو خارجها. 
ومن الشخصيات الأمريكية المشهورة التي أصبحت مثلاً يحتذى في تحقيق الحلم الأمريكي، هنري فورد مؤسس شركة فورد للسيارات وتوماس أديسون العالم والمخترع المعروف، ومن المعاصرين من رواد صناعة عصر العولمة، بيل غيتس مؤسس شركة مايكروسوفت، وستيف جوبز مؤسس شركة أبل، ومارك زوكربرغ مؤسس تطبيق فيسبوك، وأيضًا لاري بيج، وسيرجي برين، مخترعا محرك غوغل ومؤسسا شركته العملاقة.  
وقد صرح والت ديزني في إحدى المرات بأنه منذ أن جاءته فكرة عالم ديزني ظل يحلم بها باستمرار، حتى تحققت.
قبل دخولنا منتزه مملكة السحر في ذلك اليوم الحار المزدحم، كان علينا المرور على الجهات الأمنية للتفتيش، فالعالم اليوم أقل أمنًا عما كان عليه قبل عشرين سنة، وبعد دخولنا المنتزه، كان علينا الانتظار لدخول القطار الذي يوصِّلنا إلى مركز الأنشطة الترفيهية، فإضافة إلى مركز الترفيه، تشتمل مملكة السحر على منتجعات وفنادق محاطة ببحيرة صناعية، وفي داخل المنتزه كانت الطوابير لدخول العروض الترفيهية طويلة في ذلك اليوم المزدحم، وعملت إدارة المنتزه ما يسمى بالمرور السريع، حيث تسمح لكل تذكرة بالدخول في طابور المرور السريع إلى خمسة عروض، بدلاً من الانتظار في الطابور الطويل.
دخلنا بعض العروض، وأذكر منها عرضًا حيًّا للحكايات السحرية عن بيلي، وذلك بالتفاعل مع الجمهور الحاضر، وقد تطوع أحد أبنائي بالمشاركة في هذا العرض، وحضرنا عرض السمكة خارج الماء، ويحكي قصة حورية بحر محظوظة وجدت حبها الحقيقي خارج الماء، وركبنا قارب الغابة، الذي يمر حول كائنات حيوانية ريبوتية آسيوية وإفريقية. 
مثل هذه العروض توقظ الطفل المحبوس في أعماق روحك، والذي تغافلت عنه بسبب مشاغل الحياة ومتطلباتها، والتي تكاد لا تنتهي. 
وفي مساء ذلك اليوم، بدأ الناس يتجمعون حول قلعة سندريلا لمشاهدة العرض الختامي اليومي المصحوب بالليزر والألعاب النارية والأفلام الكرتونية بشخصياتها التي يتسيدها ميكي ماوس، وموسيقى ديزني للأفلام الكرتونية، وكان العرض جميلاً، لكنه أقل إثارة بالنسبة إليّ عما كان عليه قبل 20 عامًا، بالرغم من أن الأطفال من حولنا كانوا سعداء ومتفاعلين، فلم تعد هناك أسرار لمثل هذه التكنولوجيا في عصر العولمة، فالعرض السينمائي الوثائقي التي عرض على أبراج الكويت عام 2012 بمناسبة مرور 50 عامًا على صدور دستور دولة الكويت، لا يقل عنه من حيث التقنيــــة والجـــمال، وأتــــذكـــر تمامًا الفيلم القصير الثلاثي الأبعاد للمطرب الأمريكي الراحل مايكل جاكسون، الذي شاهدته لأول مرة في أورلاندو عــــام 1994، والــــذي كـــان باهرًا في حينه، ولكن مثل هذه الأفلام أصبحت تشاهد في كثير من أصقاع العالم، مثل المركز العلمي في دولة الكويت، فقد سهَّلت العولمة انتقال مثل هذه التكنولوجيا إلى بقاع كثيرة من العالم. 

آمال وأحلام
كانت المحطة الثانية في جولاتنا لأماكن المرح المملوكة لعالم ديزني لاند، استديوهات هوليوود، التي افتتحت عام 1989، والتي احتلت المركز الخامس في عام 2015 كأكثر المنتزهات الترفيهية زيارة في قارة أمريكا الشمالية، والمركز الثامن على مستوى العالم، والتي تحتوي على عروض ترفيهية تخص بعض الأفلام المشهورة التي أنتجتها شركة ديزني، مثل فيلم حرب النجوم، وفيلم إنديانا جونز، وعرض حي عن الفيلم الكرتوني Muppet، وكذلك الألعاب الترفيهية الخاصة بالشباب، مثل السفينة الدوّارة، وقد تنوعت العروض في هذا المنتزه مع انشغال الابناء بألعاب القطار السريع أو قطار الموت الموجودة في جميع منتزهات المرح في المديلة  بأشكال مختلفة، لينتهي ذلك اليوم بمهرجان الألعاب النارية المصحوب بالموسيقى التصويرية لأفلام ديزني المشهورة مع عروض الليزر بالألوان الزاهية.
ويعتبر الإبكوت سنتر ثاني وجهة ترفيهية في أورلاندو، بعد منتزه ماجيك كنغدم.
وقد زار هذا المنتــزه ما يقــــارب من 12 مليونًا و800 ألف زائر عام 2017، مما يجعله سابع منتزه على مستوى العالم من حيث عدد الزوار، وشعار المنتزه هو «الآمال والأحلام الجميلة المتداولة جيلاً بعد جيل».

تواصل الأجيال
يمكنك أن تبدأ جولتك الترفيهية داخل هذا المنتزه بالمرور إلى عرض سفينة فضاء الأرض التي تنقلك بجولة زمنية داخل الكرة البيضاوية، وهي تقع على مدخل الإبكوت سنتر، عن تاريخ التواصل بين البشرية منذ العصر الحجري وحتى عصر الكمبيوتر، من خلال مركبة متحركة تسبح من خلالها إلى نماذج مصنّعة لأشكال وأشخاص تمثّل حضارة المصريين القدماء وحضارة فلاسفة الإغريق، مرورًا بالعصور الوسطى، وصعودًا إلى عصر النهضة وحتى العصور الحديثة. 
ومن الأشياء الجميلة في هذا المنتزه التثقيف البيئي الذي يصحبك من خلال جولة بمركبة تشاهد من خلالها المزروعات التي ستنتج الفواكه والخضراوات لعالم الغد، بمواصفات بيئية لصحة الأرض والإنسان في قسم يُعرف بالأرض. ومن الممكن أن تزور متحف الابتكارات، وأيضًا العرض الخاص بجولة في مدن العالم من خلال صعودك لكرسي على مدرج كهربائي يرتفع بك وينخفض، فتمرّ من خلاله على شاشة سينمائية مقعّرة كبيرة تطير من خلالها إلى مدن مثل باريس ولندن ومدراس في الهند ونيويورك وغابات إفريقيا في كينيا، مع وجود التأثيرات التي تشعر بها من رياح وأمطار ونسيم الغابات، والتي تسمى بالبُعد الرابع.
والجزء الثاني من الإبكوت سنتر هو الأجمل من وجهة نظري، فهو عبارة عن أسواق لبضائع تراثية لإحدى عشرة دولة تمثّل قارات العالم الخمس، مبنية على طراز حديث وفاخر، ويعكس الثقافة المعمارية التراثية لكل دولة، فتجد مجسمات لبرج إيفل وساعة بج بن وتمثال الحرية، وتجد الباعة في كل سوق من جنسية البلد نفسه.

فرقة شعبية
ركزت أنا وزوجتي على الأسواق التي اشترينا منها بضائع في زيارتنا الماضية قبل سنوات، فذهبت أولاً جهة السوق البريطاني، واستمتعنا قليلاً بالموسيقى الفلكلورية الأيرلندية، التي كانت تعزفها فرقة شعبية أمام السوق، وبحثت داخل السوق الإنجليزي عن عطر كلاسيكي اشتريته وقتها، لكنه انكسر بعد أن خرجت من المتجر، ثم ذهبنا في جولة تفقدية للأسواق الأخرى حتى وصلنا إلى السوق المغربي، ووجدنا أمامه استعراضًا حيًّا للموسيقى العربية الشبابية الحديثة، وكان المنظر يشبه ما وجدناه قبل نحو عقدين، وإن كان يغلب عليه الطابع الشعبي الفلكلوري آنذاك، كما لفت نظري وجود راقصة شرقية ضمن ذلك العرض، الذي ذكرني بالعشاء الذي تناولته مع زوجتي قبل سنوات داخل المطعم الموجود ضمن السوق المغربي، والذي كان من ضمن فقراته ظهور راقصة شرقية تتمايل على أنغام موسيقى عربية.
كما يوجد في السوق المغربي المصمم على البناء المغربي التراثي الشرفات الخشبية والأقواس والأعمدة المزخرفة بالنقشات المغربية، التي تحتوي على مجسمات لبعض المناظر التاريخية في مدينة فاس المغربية، مثل باب بوجلود، الذي يعتبر أحد أهم بوابات السور المحيط بفاس القديمة، وسقاية النجارين التي تعود إلى القرن الثامن عشر، وتطل على ساحة النجارين بمدينة فاس. تجولنا في السوق المغربي الذي يحتوي على محال لبيع النحاسيات والسجاد والأقمشة والحلويات العربية.
بعد ذلك انتقلنا إلى السوق الياباني المبني على الطراز الياباني التراثي، والذي كانت بضائعه معروضة بشكل جميل متناسق من توابل ومكسرات يابانية وأغذية مجففة وأنسجة وملابس نسائية.
ولم يكن مفاجئًا أن يستحــــوذ هــــذا السوق على معظم مشترياتنا، وخاصة تلك التي اشتريناها في زيارتنا البعيدة، وقد يعــــود ذلك إلى الطريقة الجميلة في عرض البضائع وأسعارها المناسبة، والترحاب المبالَغ فيه من البائعات اليابانيات. 
واللافت للنظر في السوق الياباني وجود ركن مميز لاستزراع اللؤلؤ، وهي الصناعة التي اكتشفها الياباني ميكيموتو كويتشي، والتي قضت على حرفة الغوص على اللؤلؤ في منطقة الخليج العربي في بداية عقد الثلاثينيات من القرن الماضي.
فمن خلال حوض كبير مملـــوء بالمحار، تعرض البائعات طريقــــة استــــزراع اللؤلؤ ومـــــن ثــم بيعه على المتسوقين على شكل حُلي نسائية. 
وقد أثار ذلك بعض التساؤلات في نفــــسي حــــول سبب اعتزاز اليابانيين بهــــذه الصــــناعة، بالرغم من التقدم الصناعي والتقني والتعليمي الباهر بعد هزيمتها فــــي الحــــرب العالمية الثانية، وهو ما جعلها قوة اقتصادية رئيسة في العالم.
واختتمنا يومنا في «الإبكوت سنتـــر» بمشـــاهدة العرض النهائي الموسيقي لأغنية تعبّر عن وحدة العالم مصحوبة بالألعاب النارية وألعاب الليزر، والتي تتمركز حول مجسم للكرة الأرضية داخل البحيرة الكبيرة الموجودة في المنتزه.

عشق للبحر
تشتهر أورلاندو كذلك بأسواقها الكثيرة، وخاصة تلك التي تُعرف بأسواق البضائع المخصومة، وكذلك بالمجمعات التجارية (المولات)، وقد لاحظت اختفاء المكتبات من هذه المتاجر، فقبل عقدين كانت مثل هذه المجمعات تحتوي، على الأقل، على محل لبيع الكتب، واختفى كذلك من الشوارع الأمريكية أحد الرموز التي كانت تميّزها، وهي الصناديق التي تبيع الصحف اليومية، والتي كانت تعتبر من أهم قنوات توزيع الصحف في أمريكا. فالتأثير الثقافي للعولمة كان واضحًا وجليًا في أمريكا، فالتليفونات الذكية والكتاب الإلكتروني أثّرا تأثيرًا واضحًا على مبيعات الكتب والصحف الورقية. 
كان عالم البحار مسك الختام لرحلات المرح في أورلاندو، خاصة أن إجازتنا شارفت على النهاية، ومنتزه عالم البحار، الذي يعد منتزهًا مائيًّا للحيوانات البحرية الثديية، يوجد فقط بأمريكا في مدينتين أخريين بخلاف أورلاندو، فيوجد في مدينة سانتياغو بولاية كاليفورنيا، ومدينة سان أنطونيو بولاية تكساس. أي أن هذا المنتزه يوجد فقط في أمريكا «Only in America»، وهذا مصطلح دارج في الثقافة الأمريكية، وهو يشير إلى التميز والتفوق العلمي والتكنولوجي الأمريكي على العالم، وكذلك التميز في مجال الاندماج الثقافي الذي يحظى به المجتمع الأمريكي نتيجة تمازج الثقافات المختلفة القادمة من جميع أصقاع العالم.
فالمجتمع الأمريكي يعد مجتمع هجرات، وسكان أمريكا الأصليون، قبائل الهنود الحمر، باتوا أقليات يعيش بعض من أفرادها في أماكن منعزلة، والولايات المتحدة فيها كل أنواع الطبيعة تقريبًا، إلا أن الناس غالبًا يفضلون البحر، وهنالك قول مأثور للرئيس الأمريكي الخامس والثلاثين، جون كيندي: «لماذا نحن جميعًا نعشق البحر؟ ربما لأننا أتينا منه».
وتسعى دولة الإمارات العربية المتحدة إلى إقامة منتزه عالم البحار بالتعاقد مع الشركة المالكة للمشروع بجزيرة ياس في إمارة أبوظبي، ومتوقع أن يتم افتتاحه في عام 2022.

مسرح الدلافين
وصلنا إلى المنتزه بعد الظهر متأخرين، وحتى نستمتع بيومنا ونستغل الوقت، توجهنا إلى العروض الرئيسة التي زرناها قبل عقدين، فبدأنا بعرض الدلافين عند مسرح الدلافين الذي تغيّرت ديكوراته بعض الشيء عما كان عليه قبل ذلك، فإضافة إلى استعراض الدلافين بحركاتها الرشيقة التي جذبت حماس الجمهور مع فريق التدريب المشارك، كانت هنالك مشاركة لنوع من الطيور الجارحة. 
تركنا عرض الدلافين الحماسي متجهين إلى استاد عرض أسد البحر، وكان العرض نفسه الذي شاهدناه من قبل، فقد كان عرضًا فكاهيًا يشارك فيه أسود البحر في أنشطة تعليمية مع بعض المدربين، وكذلك أنشطة صحية يُطعم فيها المدربون أسود البحر الأسماك الصغيرة من حين إلى آخر، حتى يستطيعون التحكم في سلوكها، كي تؤدي الحركات المطلوبة منها في العرض. 
بعد هذا العرض، اتجهنا مع معظم الموجودين في المنتزه إلى استاد شامو، وشامو هو الاسم الذي يطلق على حوت الأوركا المشهور بخطورته.
وقد امتلأ الاستاد إلى آخره بالجمهور، ومع ظهور المدرب الذي حيّا الجمهور، مطالبًا بتصفيق حاد قبل ظهور الحيتان، التي ظهرت بأشكالها الجميلة في المسبح وهي تغوص وتقفز من الماء بحركات متناسقة رشيقة على أنغام الموسيقى، وكانت خلفية المسبح عبارة عن شاشة سينمائية كبيرة تُظهر عرض الحيتان داخل المسبح، وكانت الفقرة فيها نوع من الكوميديا، عندما خرج أحد الحيتان خارج المسبح واستلقى على حافته بجانب الجمهور!

إجراءات احترازية
ومن الحركات الكوميــــدية الأخرى، إثارة الجمهـــور للحـــوت بحركات يدوية طلبها المدربون، فقامت الحيتان في المسبح بتحريك ذيولها في الماء، الأمر الذي تسبب في رشّ كميـــة هائلــــة من الماء على الجمهــــور فــــي الصفوف الأمامية!
ومما شد انتباهي خلال ذلك العرض التواصل الحذر بين المدربين والحيتان، فلم يكن التواصل بشكل مباشر، كما كان يحصل قبل سنوات، وعند تصفّح «غوغل» بخصوص هذا الموضوع عرفت أن أحد الحيتان قتل في 24 فبراير 2010 إحدى المدربات بعد الانتهاء من العرض، وعلى إثر ذلك اتخذ المدربون إجراءات احترازية عند التعامل مع حيتان الأوركا المعروفة بشراستها.
بعد الانتهاء من عرض الحيتان، شارف يوم عالم البحار على الانتهاء، وكنا في انتظار حفل الختام الذي نتذكره جيدًا من زيارتنا السابقة، حين عزفت من خلاله السيمفونيات المشهورة لموزارت، وكذلك موسيقى كلاسيكية مصاحبة بالألعاب النارية بطريقة ساحرة، لكن تم إخبارنا من خلال خدمة الاستعلامات في المنتزه بأن هذا اليوم لا يتضمن في برنامجه الحفل الختامي، وعند الاتجاه إلى بوابة الخروج لاحظت مبنى مرسومًا عليه ثلوج وحيوان البطريق ومكتوب عـليه بالإنجــلـــيـــــزية «ANTARCTICA»، فاقترحت على العائلة دخول المبنى، فشاهدنا عرضًا حيًّا للبطاريق في بيئة ثلجية قطبية رهيبة، وكان جميلاً أن نعيش هذه الأجواء الشتوية في ذلك اليوم الحار الرطب، حيث كانت البطاريق القطبية تسبح وتتفاعل أمامنا في مشهد عجيب، وكان التواصل بيننا وبينها مباشرًا، لأنها كانت على بُعد أمتار قليلة، ولم يتمالك الزوار - ونحن كذلك - مخالفة تعليمات المشرفين بعدم التصوير.
لقد شاهدت البطاريق في أماكن عديدة بدول مختلفة، لكن بيئة البطاريق في منتزه عالم البحار هي الأجمل.
وعند خروجنا من بوابة عالم البحار سقطت أمطار غزيرة نتيجة تحوّل إعصار نيت، الذي هبّ على ولاية ألاباما المجاورة لولاية فلوريدا إلى عاصفة استوائية بأمطار غزيرة بللت ملابسنا وأتلفت عددًا من الهواتف الذكية التي كانت بحوزة بعض الأبناء، فكان ختامًا فكاهيًا لرحلتنا إلى أورلاندو ■

 

 منظر لجانب من أورلاندو في المساء، وتظهر بعض الفعاليات في بعض المتنزهات

 

السوق اليابانية أحد الأسواق القديمة

 

السوق المغربي في الإبكوت سنتر

 

 عرض الدلافين في عالم البحار وهي تتجاوب مع تعليمات المدربين

 

 السوق الصيني في الإبكوت سنتر

 

تجمهر للناس في وسط متنزه استديوهات هوليوود

 

 في انتظار الحفل الختامي بالإبكوت سنتر