من يتحكم فينا وفي مستقبلنا... دماغ أم دماغان؟

من يتحكم فينا  وفي مستقبلنا...  دماغ أم دماغان؟

يُعد‭ ‬الدماغ‭ ‬إبداعاً‭ ‬رائعاً‭ ‬ومدهشاً‭ ‬يجسّد‭ ‬عظمة‭ ‬الخالق‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى،‭ ‬حيث‭ ‬يشمل‭ ‬حوالي‭ ‬مائة‭ ‬مليار‭ ‬خلية‭ ‬عصبية،‭ ‬مكونة‭ ‬شبكة‭ ‬معقدة‭ ‬تضم‭ ‬ما‭ ‬يقرب‭ ‬من‭ ‬كدريليون‭ (‬رقم‭ ‬أمامه‭ ‬15‭ ‬صفراً‭) ‬وصلة‭ ‬عصبية‭ ‬تتحكم‭ ‬في‭ ‬مجمل‭ ‬حياتنا‭ ‬وتصرفاتنا‭ ‬وسلوكياتنا‭. ‬

يُقسم‭ ‬دماغ‭ ‬الإنسان‭ ‬إلى‭ ‬قسمين‭: ‬أيمن‭ ‬وأيسر،‭ ‬وكان‭ ‬يُظن،‭ ‬إلى‭ ‬عهد‭ ‬قريب،‭ ‬أن‭ ‬هذين‭ ‬القسمين‭ ‬منفصلان‭ ‬عن‭ ‬بعضهما‭ ‬وغير‭ ‬متساويين‭. ‬

وطبقاً‭ ‬لهذه‭ ‬النظرية،‭ ‬فإن‭ ‬القسم‭ ‬الأيسر‭ ‬من‭ ‬المخ‭ ‬هو‭ ‬القسم‭ ‬الأساسي‭ ‬الذي‭ ‬يجعلنا‭ ‬نحن‭ ‬بني‭ ‬البشر‭ ‬بشراً،‭ ‬أما‭ ‬القسم‭ ‬الأيمن‭ ‬فاعتبره‭ ‬العلماء‭ ‬والمتخصصون‭ ‬قسماً‭ ‬ثانوياً،‭ ‬لهذا‭ ‬السبب‭ ‬ذكر‭ ‬المتخصصون‭ ‬من‭ ‬أصحاب‭ ‬تلك‭ ‬النظريات‭ ‬أن‭ ‬القسم‭ ‬الأيسر‭ ‬من‭ ‬الدماغ‭ ‬يتسم‭ ‬بأنه‭ ‬قسم‭ ‬عاقل‭ ‬رشيد،‭ ‬يعمل‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬التحليلي‭ ‬والمنطقي،‭ ‬أما‭ ‬القسم‭ ‬الأيمن‭ ‬فيوصف‭ ‬بأنه‭ ‬قسم‭ ‬صامت‭. ‬

منذ‭ ‬عهد‭ ‬الطبيب‭ ‬اليوناني‭ ‬الشهير‭ ‬أبقراط‭ ‬اعتقد‭ ‬الأطباء‭ ‬أن‭ ‬القسم‭ ‬الأيسر‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يوجد‭ ‬في‭ ‬جهة‭ ‬القلب،‭ ‬وبالتالي‭ ‬فهو‭ ‬القسم‭ ‬الضروري‭ ‬والأهم،‭ ‬وبدأ‭ ‬الأطباء‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬يحاولون‭ ‬برهنة‭ ‬صحة‭ ‬هذه‭ ‬الادعاءات،‭ ‬وفي‭ ‬ستينيات‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬اكتشف‭ ‬طبيب‭ ‬الأعصاب‭ ‬الشهير‭ ‬بول‭ ‬بروكا‭ ‬أن‭ ‬منطقة‭ ‬معينة‭ ‬من‭ ‬القسم‭ ‬الأيسر‭ ‬للمخ‭ ‬تتحكم‭ ‬في‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬استخدام‭ ‬اللغة‭.‬

لقد‭ ‬ظل‭ ‬هذا‭ ‬الرأي‭ ‬مسيطراً‭ ‬لفترة‭ ‬من‭ ‬الزمن‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬قام‭ ‬أحد‭ ‬العلماء،‭ ‬من‭ ‬معهد‭ ‬كاليفورنيا‭ ‬للتكنولوجيا،‭ ‬وهو‭ ‬روجر‭ ‬دبليو‭ ‬سبيري،‭ ‬بإعادة‭ ‬مفاهيمنا‭ ‬وتصوراتنا‭ ‬عن‭ ‬المخ،‭ ‬حيث‭ ‬قام‭ ‬في‭ ‬خمسينيات‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬بدراسة‭ ‬المرضى‭ ‬الذين‭ ‬يعانون‭ ‬نوبات‭ ‬صرعية،‭ ‬فقام‭ ‬باستئصال‭ ‬المقرن‭ ‬الأعظم‭ ‬الذي‭ ‬يشمل‭ ‬حوالي‭ ‬300‭ ‬مليون‭ ‬خلية‭ ‬عصبية،‭ ‬ووظيفته‭ ‬الربط‭ ‬بين‭ ‬نصفي‭ ‬كرتي‭ ‬المخ،‭ ‬فتبين‭ ‬لسبيري‭ ‬نتيجة‭ ‬لذلك‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الرأي‭ ‬القائل‭ ‬باعتبار‭ ‬القسم‭ ‬الأيمن‭ ‬متخلفاً‭ ‬وغير‭ ‬مدرك‭ ‬وغير‭ ‬واع‭ ‬ليس‭ ‬صحيحاً،‭ ‬لكنه‭ ‬وجد‭ ‬أن‭ ‬النصف‭ ‬الأيمن‭ ‬هو‭ ‬القسم‭ ‬الأهم‭ ‬لأداء‭ ‬أنواع‭ ‬معينة‭ ‬من‭ ‬المهام‭ ‬العقلية،‭ ‬حيث‭ ‬اتضح‭ ‬أن‭ ‬القسم‭ ‬الأيسر‭ ‬يفكر‭ ‬بشكل‭ ‬فيه‭ ‬تتابع‭ ‬وبشكل‭ ‬تحليلي‭ ‬واختص‭ ‬بالتعامل‭ ‬مع‭ ‬اللغة،‭ ‬أما‭ ‬القسم‭ ‬الأيمن‭ ‬فيفكر‭ ‬بشكل‭ ‬كلي‭ ‬وشمولي،‭ ‬ويتعرف‭ ‬على‭ ‬الأنماط‭ ‬والمشاعر‭ ‬والتعبيرات‭ ‬غير‭ ‬اللفظية‭. ‬

لقد‭ ‬أحدثت‭ ‬دراسات‭ ‬سبيري‭ ‬انقلاباً‭ ‬جذرياً‭ ‬في‭ ‬مفهومنا‭ ‬وتصورنا‭ ‬عن‭ ‬عمل‭ ‬نصفي‭ ‬كرتي‭ ‬المخ،‭ ‬وبعد‭ ‬وفاته‭ ‬عام‭ ‬1994م‭ ‬اعتبر‭ ‬الرجل‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬العلماء‭ ‬الذين‭ ‬قلبوا‭ ‬المفاهيم‭ ‬المغلوطة‭ ‬حول‭ ‬عمل‭ ‬الدماغ‭.‬

لقد‭ ‬عدّ‭ ‬العلماء‭ ‬والمتخصصون‭ ‬الأشياء‭ ‬التي‭ ‬يعقلها‭ ‬ويفهمها‭ ‬القسم‭ ‬الأيمن‭ ‬من‭ ‬الدماغ،‭ ‬المتمثلة‭ ‬في‭ ‬تفسير‭ ‬المحتوى‭ ‬الشعوري‭ ‬والإجابات‭ ‬بصورة‭ ‬حدسية‭ ‬وإدراك‭ ‬الأمور‭ ‬بكلياتها،‭ ‬وهي‭ ‬بطبيعة‭ ‬الحال‭ ‬أشياء‭ ‬جميلة،‭ ‬طبقاً‭ ‬جانبياً‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬الطبق‭ ‬الرئيس‭ ‬أو‭ ‬الذكاء‭ ‬الحقيقي‭.‬

 

وظائف‭ ‬قسمي‭ ‬المخ

من‭ ‬الواجب‭ ‬إذن‭ ‬أن‭ ‬ندرك‭ ‬حقيقة‭ ‬كون‭ ‬قسمي‭ ‬المخ‭ ‬لا‭ ‬يعملان‭ ‬كمفتاحي‭ ‬تشغيل‭ ‬وإطفاء‭ ‬بحيث‭ ‬يتم‭ ‬إطفاء‭ ‬أحدهما‭ ‬وتشغيل‭ ‬الآخر‭. ‬وتم‭ ‬بعد‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ثلاثة‭ ‬عقود‭ ‬من‭ ‬البحث‭ ‬والتقصي‭ ‬والدراسة‭ ‬لقسمي‭ ‬المخ‭ ‬التوصل‭ ‬إلى‭ ‬النتائج‭ ‬التالية‭:‬

‭- ‬يتحكم‭ ‬القسم‭ ‬الأيسر‭ ‬من‭ ‬الدماغ‭ ‬في‭ ‬الجانب‭ ‬الأيمن‭ ‬من‭ ‬الجسم،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬يتحكم‭ ‬القسم‭ ‬الأيمن‭ ‬من‭ ‬المخ‭ ‬في‭ ‬الجانب‭ ‬الأيسر‭ ‬من‭ ‬الجسم،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يؤكده‭ ‬أن‭ ‬إصابة‭ ‬البشر‭ ‬بالسكتات‭ ‬الدماغية‭ ‬في‭ ‬القسم‭ ‬الأيمن‭ ‬من‭ ‬المخ‭ ‬تجعل‭ ‬من‭ ‬الصعب‭ ‬على‭ ‬المصاب‭ ‬تحريك‭ ‬جانبه‭ ‬الأيسر،‭ ‬والعكس‭ ‬صحيح‭. ‬

وثَبتَ‭ ‬أن‭ ‬90‭ ‬في‭ ‬المائة‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬تقريباً‭ ‬يستخدمون‭ ‬يدهم‭ ‬اليمنى،‭ ‬وهذا‭ ‬يعني‭ ‬بكل‭ ‬بساطة‭ ‬أن‭ ‬90‭ ‬في‭ ‬المائة‭ ‬منهم‭ ‬يتحكم‭ ‬بهم‭ ‬الجانب‭ ‬الأيسر‭ ‬من‭ ‬المخ‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬الحركات‭ ‬المهمة‭ ‬كالكتابة‭ ‬وتناول‭ ‬الطعام‭ ‬واستخدام‭ ‬فأرة‭ ‬الحاسب‭.‬

‭- ‬يُعالج‭ ‬القسم‭ ‬الأيمن‭ ‬من‭ ‬الدماغ‭ ‬المعلومات‭ ‬بطريقة‭ ‬تتبعية،‭ ‬ويعالج‭ ‬المعلومات‭ ‬معاً‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬واحد‭.‬

‭- ‬يعتبر‭ ‬القسم‭ ‬الأيسر‭ ‬من‭ ‬المخ‭ ‬بارعاً‭ ‬في‭ ‬تمييز‭ ‬الأحداث‭ ‬المتسلسلة‭ ‬والأحداث‭ ‬التي‭ ‬تقع‭ ‬عناصرها‭ ‬الواحد‭ ‬تلو‭ ‬الآخر،‭ ‬وفي‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬تتابع‭ ‬السلوك‭ ‬والوظائف‭ ‬المتسلسلة‭ ‬التي‭ ‬يؤديها‭ ‬نصف‭ ‬المخ‭ ‬الأيسر،‭ ‬وكذلك‭ ‬يقوم‭ ‬أيضاً‭ ‬بدور‭ ‬في‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬السلوكيات‭ ‬المتسلسلة،‭ ‬وتتمثل‭ ‬الوظائف‭ ‬المتسلسلة‭ ‬التي‭ ‬يؤديها‭ ‬القسم‭ ‬الأيسر‭ ‬من‭ ‬المخ‭ ‬في‭ ‬الأنشطة‭ ‬اللفظية‭ ‬والتحدث‭ ‬وفهم‭ ‬كلام‭ ‬الآخرين‭ ‬والقراءة‭ ‬والكتابة،‭ ‬وعلى‭ ‬العكس‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬يعمل‭ ‬القسم‭ ‬الأيمن‭ ‬من‭ ‬الدماغ‭ ‬بطريقة‭ ‬كلية‭ ‬تتمثل‭ ‬في‭ ‬قدرته‭ ‬على‭ ‬رؤية‭ ‬الأشياء‭ ‬مجتمعة‭ ‬معاً،‭ ‬لهذا‭ ‬يعتبر‭ ‬هذا‭ ‬القسم‭ ‬من‭ ‬المخ‭ ‬متخصصاً‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الخصوص‭ ‬في‭ ‬التعرف‭ ‬على‭ ‬الوجوه‭ ‬وتفسير‭ ‬تعبيراتها‭.‬

‭- ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬الصورة‭ ‬بألف‭ ‬كلمة،‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬المثل،‭ ‬فيمكننا‭ ‬عند‭ ‬ذلك‭ ‬رصد‭ ‬الفرق‭ ‬في‭ ‬طريقة‭ ‬العمل‭ ‬بين‭ ‬نصفي‭ ‬المخ،‭ ‬الطريقة‭ ‬التتبعية‭ ‬مقابل‭ ‬الطريقة‭ ‬الكلية،‭ ‬على‭ ‬اعتبار‭ ‬أن‭ ‬النصف‭ ‬الأيمن‭ ‬هو‭ ‬المسؤول‭ ‬عن‭ ‬إدراك‭ ‬الصورة،‭ ‬والأيسر‭ ‬مسؤول‭ ‬عن‭ ‬إدراك‭ ‬الألف‭ ‬كلمة‭.‬

‭- ‬يختص‭ ‬القسم‭ ‬الأيسر‭ ‬من‭ ‬الدماغ‭ ‬بالنص،‭ ‬أما‭ ‬القسم‭ ‬الأيمن‭ ‬فمسؤول‭ ‬عن‭ ‬السياق‭. ‬لنفترض‭ ‬أن‭ ‬لديك‭ ‬دعوة‭ ‬للعشاء‭ ‬وطلبت‭ ‬منك‭ ‬زوجتك‭ ‬شراء‭ ‬بعض‭ ‬المستلزمات‭ ‬الخاصة‭ ‬بالدعوة،‭ ‬وعندما‭ ‬عدت‭ ‬إلى‭ ‬المنزل‭ ‬اكتشفت‭ ‬زوجتك‭ ‬أنك‭ ‬نسيت‭ ‬بعض‭ ‬الأغراض‭ ‬اللازمة،‭ ‬وأنت‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬التعب‭ ‬والإرهاق‭ ‬من‭ ‬العمل،‭ ‬فتخبرك‭ ‬بأنها‭ ‬ستذهب‭ ‬إلى‭ ‬السوق‭ ‬بنفسها‭ ‬لتشتري‭ ‬تلك‭ ‬الأغراض‭ ‬المنسية،‭ ‬وهي‭ ‬ترمقك‭ ‬بنظرات‭ ‬فيها‭ ‬غضب‭ ‬وعتب‭.‬

إن‭ ‬كل‭ ‬إنسان‭ ‬واع‭ ‬ومدرك‭ ‬ويتمتع‭ ‬بعقل‭ ‬سليم‭ ‬وراجح‭ ‬سيفهم‭ ‬أمرين،‭ ‬هما‭: ‬أنها‭ ‬ذاهبة‭ ‬إلى‭ ‬السوق،‭ ‬أو‭ ‬أنها‭ ‬غاضبة‭ ‬ومستاءة‭ ‬من‭ ‬زوجها‭.‬

لذلك‭ ‬يدرك‭ ‬النصف‭ ‬الأيسر‭ ‬أنها‭ ‬ذاهبة‭ ‬إلى‭ ‬السوق،‭ ‬والقسم‭ ‬الأيمن‭ ‬يدرك‭ ‬أنها‭ ‬غاضبة‭ ‬ومستاءة‭. ‬والأشخاص‭ ‬الذين‭ ‬يعانون‭ ‬إصابات‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬قسمي‭ ‬المخ‭ ‬لا‭ ‬يمكنهم‭ ‬التوصل‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬الاستنتاج‭ ‬المزدوج،‭ ‬فمن‭ ‬لديه‭ ‬تلف‭ ‬في‭ ‬القسم‭ ‬الأيمن‭ ‬من‭ ‬المخ‭ ‬وبالتالي‭ ‬لا‭ ‬يعمل‭ ‬النصف‭ ‬الأيسر،‭ ‬فسيسمع‭ ‬هذه‭ ‬الجملة‭ ‬ويفهم‭ ‬أن‭ ‬الزوجة‭ ‬ذاهبة‭ ‬إلى‭ ‬السوق،‭ ‬لكنه‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬يظل‭ ‬عاجزاً‭ ‬عن‭ ‬فهم‭ ‬ما‭ ‬تشعر‭ ‬به‭ ‬الزوجة‭ ‬من‭ ‬ضيق‭ ‬وغضب‭.‬

ومن‭ ‬لديه‭ ‬تلف‭ ‬في‭ ‬نصف‭ ‬كرة‭ ‬المخ‭ ‬الأيسر،‭ ‬ولا‭ ‬يعمل‭ ‬إلا‭ ‬نصف‭ ‬كرة‭ ‬المخ‭ ‬الأيمن،‭ ‬فسيدرك‭ ‬هذا‭ ‬الضيق،‭ ‬ولكنه‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬يعلم‭ ‬إلى‭ ‬أين‭ ‬تنوي‭ ‬الذهاب‭.‬

‭- ‬يُعد‭ ‬القسم‭ ‬الأيسر‭ ‬من‭ ‬المخ‭ ‬مسؤولاً‭ ‬عن‭ ‬اختيار‭ ‬الكلمات‭ ‬والعبارات‭ ‬التي‭ ‬تقال،‭ ‬بينما‭ ‬يركز‭ ‬القسم‭ ‬الأيمن‭ ‬على‭ ‬طريقة‭ ‬قولها،‭ ‬أي‭ ‬على‭ ‬الإشارات‭ ‬غير‭ ‬اللفظية‭ ‬الشعورية،‭ ‬التي‭ ‬تظهرها‭ ‬غالباً‭ ‬نظرات‭ ‬وتعبيرات‭ ‬الوجه‭ ‬ونغمات‭ ‬الصوت‭.‬

لقد‭ ‬برهنت‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الدراسات‭ ‬أن‭ ‬المخ‭ ‬الأيمن‭ ‬هو‭ ‬المسؤول‭ ‬عن‭ ‬قدرتنا‭ ‬على‭ ‬فهم‭ ‬الصور‭ ‬والتعبيرات‭ ‬المجازية،‭ ‬فعلى‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬لو‭ ‬أنك‭ ‬سمعت‭ ‬مقولة‭ ‬‮«‬إن‭ ‬شخصاً‭ ‬ما‭ ‬له‭ ‬قلب‭ ‬يسع‭ ‬العالم‮»‬،‭ ‬فسيقوم‭ ‬القسم‭ ‬الأيسر‭ ‬من‭ ‬المخ‭ ‬لديك‭ ‬على‭ ‬الفور‭ ‬بتحديد‭ ‬هذا‭ ‬الشخص‭ ‬وما‭ ‬هو‭ ‬القلب‭ ‬وتقييم‭ ‬ضخامة‭ ‬العالم،‭ ‬لكن‭ ‬يتضح‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬التقييم‭ ‬الحرفي‭ ‬للمقولة‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬منطقياً،‭ ‬فكيف‭ ‬يمكن‭ ‬لقلب‭ ‬صغير‭ ‬أن‭ ‬يسع‭ ‬العالم؟‭!‬

هنا‭ ‬يتدخل‭ ‬القسم‭ ‬الأيمن‭ ‬من‭ ‬الدماغ‭ ‬ليقدم‭ ‬المساعدة‭ ‬لحل‭ ‬هذه‭ ‬المعضلة،‭ ‬فيشرح‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬الإنسان‭ ‬لا‭ ‬يعاني‭ ‬مرضاً‭ ‬غريباً‭ ‬في‭ ‬القلب‭ ‬يجعله‭ ‬يتضخم‭ ‬بهذه‭ ‬الدرجة،‭ ‬وإنما‭ ‬هو‭ ‬شخص‭ ‬كريم‭ ‬عطوف‭. ‬

‭- ‬يقوم‭ ‬القسم‭ ‬الأيسر‭ ‬من‭ ‬المخ‭ ‬بتحليل‭ ‬التفاصيل،‭ ‬أما‭ ‬القسم‭ ‬الأيمن‭ ‬فيقوم‭ ‬بمهمة‭ ‬تركيب‭ ‬وتكوين‭ ‬الصورة‭ ‬العامة،‭ ‬فهو‭ ‬قسم‭ ‬بارع‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الخصوص‭ ‬في‭ ‬تجميع‭ ‬العناصر‭ ‬لرؤية‭ ‬الأشياء‭ ‬معاً‭ ‬ككل‭. ‬

‭- ‬لقد‭ ‬تبين‭ ‬أن‭ ‬النصف‭ ‬الأيمن‭ ‬من‭ ‬المخ‭ ‬صامت‭ ‬متخصص‭ ‬في‭ ‬الإدراك‭ ‬الجشطلتي،‭ ‬وذلك‭ ‬لتعامله‭ ‬مع‭ ‬مدخلات‭ ‬المعلومات‭ ‬بطريقة‭ ‬التجميع‭ ‬بصفة‭ ‬رئيسة،‭ ‬أما‭ ‬القسم‭ ‬الأيسر‭ ‬فيظهر‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬قسم‭ ‬ناطق‭ ‬وراشد‭ ‬يعمل‭ ‬بطريقة‭ ‬أكثر‭ ‬منطقية‭ ‬وتحليلية‭ ‬تشبه‭ ‬أسلوب‭ ‬عمل‭ ‬الحاسب‭. ‬كما‭ ‬يركز‭ ‬الجانب‭ ‬الأيسر‭ ‬على‭ ‬الفئات‭ ‬وفهم‭ ‬التفاصيل،‭ ‬والأيمن‭ ‬على‭ ‬الروابط‭ ‬والعلاقات‭. ‬

‭- ‬إن‭ ‬التباين‭ ‬والاختلاف‭ ‬في‭ ‬عمل‭ ‬نصفي‭ ‬المخ‭ ‬يقدم‭ ‬لوحة‭ ‬قوية‭ ‬للأسلوب‭ ‬الذي‭ ‬يتبعه‭ ‬الفرد‭ ‬في‭ ‬حياته‭ ‬المهنية،‭ ‬فبعض‭ ‬الأفراد‭ ‬يشعرون‭ ‬بارتياح‭ ‬أكثر‭ ‬للتفكير‭ ‬الخطي‭ ‬والتتبعي،‭ ‬وبعضهم‭ ‬الآخر‭ ‬يظهر‭ ‬ارتياحاً‭ ‬أكبر‭ ‬للتفكير‭ ‬الشامل‭ ‬والحدسي‭ ‬وغير‭ ‬الخطي،‭ ‬وهؤلاء‭ ‬يميلون‭ ‬لأن‭ ‬يصبحوا‭ ‬مخترعين‭ ‬ومبدعين‭ ‬وفنانين،‭ ‬وللعمل‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬تقديم‭ ‬النصح‭ ‬والإرشاد‭. ‬ويمكن‭ ‬أن‭ ‬نطلق‭ ‬على‭ ‬الأسلوب‭ ‬الأول‭ ‬اسم‭ ‬التفكير‭ ‬الموجه‭ ‬بالقسم‭ ‬الأيسر‭ ‬تتبعي،‭ ‬حرفي،‭ ‬عملي،‭ ‬نصي‭ ‬وتحليلي،‭ ‬ويمثل‭ ‬هذا‭ ‬الأسلوب‭ ‬ممثلو‭ ‬البرمجيات،‭ ‬حيث‭ ‬قامت‭ ‬الشركات‭ ‬العملاقة‭ ‬والعابرة‭ ‬للقارات‭ ‬بمكافأته‭ ‬ودعمه،‭ ‬وشددت‭ ‬عليه‭ ‬التربية‭ ‬والمدرسة‭ ‬الحديثة‭.‬

أما‭ ‬الأسلوب‭ ‬الثاني‭ ‬فيسمى‭ ‬التفكير‭ ‬الموجه‭ ‬بالجانب‭ ‬الأيمن‭ ‬من‭ ‬المخ،‭ ‬وهو‭ ‬طريقة‭ ‬في‭ ‬التفكير‭ ‬وموقف‭ ‬في‭ ‬الحياة،‭ ‬حدسي‭ ‬وتصويري‭ ‬وجمالي‭ ‬وسياقي‭ ‬وتجميعي‭. ‬وهذا‭ ‬الأسلوب‭ ‬قلل‭ ‬عصر‭ ‬المعلومات‭ ‬من‭ ‬التشديد‭ ‬عليه،‭ ‬ومثله‭ ‬المبدعون‭ ‬ومقدمو‭ ‬الرعاية،‭ ‬ولم‭ ‬تعطه‭ ‬الشركات‭ ‬حقه‭ ‬وأهملته‭ ‬التربية‭ ‬المدرسية‭ ‬الحديثة‭.‬

 

عصر‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحداثة‭ ‬والوفرة

إننا‭ ‬نعيش‭ ‬عصر‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحداثة،‭ ‬عصر‭ ‬الوفرة،‭ ‬والعاملون‭ ‬بالمعرفة‭ ‬كما‭ ‬يسميها‭ ‬دراكر‭ ‬هم‭ ‬الذين‭ ‬يتقاضون‭ ‬أجراً‭ ‬نظير‭ ‬تطبيق‭ ‬ما‭ ‬يتعلمونه‭ ‬في‭ ‬المدرسة،‭ ‬وليس‭ ‬لقاء‭ ‬قوتهم‭ ‬البدنية‭ ‬أو‭ ‬مهاراتهم‭ ‬اليدوية‭. ‬

إن‭ ‬مختلف‭ ‬الاختبارات‭ ‬التي‭ ‬تقيس‭ ‬القدرات‭ ‬هي‭ ‬بطبيعة‭ ‬الحال‭ ‬تقيس‭ ‬بصورة‭ ‬أساسية‭ ‬التفكير‭ ‬الموجه‭ ‬بالجانب‭ ‬الأيسر‭ ‬من‭ ‬المخ،‭ ‬فهي‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬المنطق‭ ‬والتحليل‭ ‬وتكافئ‭ ‬المفحوصين‭ ‬على‭ ‬تركيز‭ ‬انتباههم‭ ‬على‭ ‬إجابة‭ ‬واحدة‭ ‬مثل‭ ‬الكمبيوتر‭. ‬

إننا‭ ‬نعيش‭ ‬عصر‭ ‬الوفرة‭ ‬بكل‭ ‬تجلياته،‭ ‬فمعظم‭ ‬الناس‭ ‬يملكون‭ ‬سيارات‭ ‬اليوم،‭ ‬حيث‭ ‬أتاح‭ ‬هذا‭ ‬العصر‭ ‬التركيز‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬على‭ ‬الجانب‭ ‬الأيسر‭ ‬من‭ ‬الدماغ،‭ ‬بل‭ ‬تعداه‭ ‬إلى‭ ‬الجانب‭ ‬الأيمن،‭ ‬فلم‭ ‬يعد‭ ‬كافياً‭ ‬طرح‭ ‬منتج‭ ‬عملي‭ ‬وسعره‭ ‬معقول،‭ ‬بل‭ ‬أصبح‭ ‬يترتب‭ ‬أيضاً‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬جذاباً‭ ‬وفريداً‭ ‬ومتميزاً،‭ ‬وأن‭ ‬يحقق‭ ‬ما‭ ‬يسمى‭ ‬‮«‬الضرورة‭ ‬الجمالية‮»‬،‭ ‬فقد‭ ‬أصبحنا‭ ‬نهتم‭ ‬بشراء‭ ‬حتى‭ ‬سلة‭ ‬قمامة‭ ‬من‭ ‬تصميم‭ ‬مصمم‭ ‬معروف‭ ‬ومشهور‭. ‬

إن‭ ‬الاستجابة‭ ‬فقط‭ ‬للمتطلبات‭ ‬العقلية‭ ‬والمنطقية‭ ‬والعملية‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬كافية‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬الوفرة،‭ ‬صحيح‭ ‬أن‭ ‬المهندسين‭ ‬يطورون‭ ‬منتجات‭ ‬تؤدي‭ ‬وظيفتها‭ ‬بكل‭ ‬نجاح،‭ ‬وإن‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تلك‭ ‬المنتجات‭ ‬جذابة‭ ‬للعين،‭ ‬فلن‭ ‬يشتريها‭ ‬إلا‭ ‬القلة‭ ‬من‭ ‬الناس‭.‬

لقد‭ ‬حرر‭ ‬عصر‭ ‬الوفرة‭ ‬مئات‭ ‬الملايين‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬من‭ ‬الصراع‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬البقاء،‭ ‬حيث‭ ‬أصبح‭ ‬بمقدورهم‭ ‬في‭ ‬وقتنا‭ ‬الراهن‭ ‬إثبات‭ ‬ذواتهم،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬الماضي‭ ‬حكراً‭ ‬على‭ ‬فئة‭ ‬من‭ ‬الناس‭.‬

وأصبح‭ ‬مبرمجو‭ ‬دول‭ ‬مثل‭ ‬الفلبين‭ ‬والصين‭ ‬يسببون‭ ‬الخوف‭ ‬والهلع‭ ‬لمبرمجي‭ ‬أمريكا‭ ‬الشمالية‭ ‬وأوربا‭ ‬وغيرهم‭ ‬من‭ ‬أصحاب‭ ‬المهن‭ ‬المعتمدة‭ ‬على‭ ‬قدرات‭ ‬الجانب‭ ‬الأيسر‭ ‬من‭ ‬الدماغ‭.‬

إن‭ ‬رواتب‭ ‬أصحاب‭ ‬الوظائف‭ ‬المكتبية‭ ‬في‭ ‬أمريكا‭ ‬بلغت‭ ‬70000‭ ‬دولار‭ ‬سنوياً،‭ ‬والآن‭ ‬تُؤدى‭ ‬تلك‭ ‬الأعمال‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬موظفين‭ ‬هنود‭ ‬برواتب‭ ‬زهيدة‭ ‬بالكفاءة‭ ‬والسرعة‭ ‬نفسيهما‭ ‬في‭ ‬راتب‭ ‬يُعادل‭ ‬ما‭ ‬يأخذه‭ ‬نادل‭ ‬مطعم‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭.‬

وتبين‭ ‬أن‭ ‬الجامعات‭ ‬الهندية‭ ‬تُخرّج‭ ‬سنوياً‭ ‬350000‭ ‬مهندس،‭ ‬وهذا‭ ‬أحد‭ ‬الأسباب‭ ‬التي‭ ‬تجعل‭ ‬نصف‭ ‬الشركات‭ ‬التي‭ ‬تتصدر‭ ‬قائمة‭ ‬‮«‬فورتشن‭ ‬500‮»‬‭ ‬تقوم‭ ‬بتصدير‭ ‬وظائف‭ ‬البرمجة‭ ‬للهند،‭ ‬وقد‭ ‬نجد‭ ‬محاسبين‭ ‬قانونيين‭ ‬يُعدون‭ ‬الإقرارات‭ ‬الضريبية‭ ‬الأمريكية‭ ‬ومحامين‭ ‬يعدون‭ ‬أبحاثاً‭ ‬قانونية‭ ‬لقضايا‭ ‬أمريكية‭ ‬واختصاصيي‭ ‬أشعة‭ ‬يقرأون‭ ‬صور‭ ‬الأشعة‭ ‬المقطعية‭ ‬لمستشفيات‭ ‬أمريكية‭. ‬

إن‭ ‬أجر‭ ‬مصمم‭ ‬الشرائح‭ ‬الإلكترونية‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭ ‬حوالي‭ ‬7000‭ ‬دولار‭ ‬شهرياً،‭ ‬أما‭ ‬في‭ ‬الهند‭ ‬فيتقاضى‭ ‬حوالي‭ ‬1000‭ ‬دولار،‭ ‬ومهندس‭ ‬الطيران‭ ‬في‭ ‬أمريكا‭ ‬6000‭ ‬دولار،‭ ‬وفي‭ ‬روسيا‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬650‭ ‬دولاراً،‭ ‬والمحامي‭ ‬في‭ ‬أمريكا‭ ‬يتقاضى‭ ‬5000‭ ‬دولار‭ ‬مقابل‭ ‬300‭ ‬دولار‭ ‬في‭ ‬الفلبين‭. ‬

إذاً،‭ ‬هناك‭ ‬قوى‭ ‬عدة‭ ‬تجعل‭ ‬الفكر‭ ‬الموجه‭ ‬بالجانب‭ ‬الأيسر‭ ‬من‭ ‬المخ‭ ‬هي‭ ‬الراجحة‭.‬

لقد‭ ‬أفرطت‭ ‬الوفرة‭ ‬في‭ ‬إشباع‭ ‬الاحتياجات‭ ‬المادية‭ ‬للملايين‭ ‬من‭ ‬الناس،‭ ‬وفي‭ ‬غضون‭ ‬ذلك‭ ‬عززت‭ ‬أهمية‭ ‬الجمال‭ ‬والعاطفة‭ ‬وأسرعت‭ ‬في‭ ‬بحث‭ ‬الأشخاص‭ ‬عن‭ ‬الغاية‭ ‬والمعنى‭.‬

وبدأت‭ ‬الشركات‭ ‬تخصص‭ ‬10‭ ‬في‭ ‬المائة‭ ‬من‭ ‬دخلها‭ ‬للإنفاق‭ ‬على‭ ‬التصميم،‭ ‬ما‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬ارتفاع‭ ‬المبيعات‭ ‬وازدياد‭ ‬أرباح‭ ‬الشركات‭ ‬من‭ ‬ثلاث‭ ‬إلى‭ ‬أربع‭ ‬مرات‭. ‬

تقول‭ ‬مديرة‭ ‬تصميم‭ ‬في‭ ‬شركة‭ ‬جنرال‭ ‬موتورز‭ ‬‮«‬لفترة‭ ‬طويلة‭ ‬ترجع‭ ‬إلى‭ ‬ستينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬كان‭ ‬مدير‭ ‬التسويق‭ ‬الأكثر‭ ‬تركيزاً‭ ‬على‭ ‬العلوم‭ ‬والهندسة‭ ‬وجمع‭ ‬البيانات‭ ‬وفحص‭ ‬الأرقام،‭ ‬لكنهم‭ ‬لم‭ ‬يعطوا‭ ‬أهمية‭ ‬للقسم‭ ‬الأيمن‭ ‬من‭ ‬الدماغ‮»‬‭. ‬

إننا‭ ‬نعيش‭ ‬عصر‭ ‬الإبداع‭ ‬حيث‭ ‬الكلمة‭ ‬الفصل‭ ‬فيه‭ ‬للمبدعين،‭ ‬فإذا‭ ‬كانت‭ ‬الصورة‭ ‬تساوي‭ ‬ألف‭ ‬كلمة،‭ ‬فالصورة‭ ‬البلاغية‭ ‬تساوي‭ ‬ألف‭ ‬صورة‭.‬

‭ ‬لقد‭ ‬انتقلنا‭ ‬من‭ ‬اقتصادات‭ ‬تُبنى‭ ‬على‭ ‬ظهور‭ ‬الرجال‭ ‬إلى‭ ‬اقتصاد‭ ‬يُبنى‭ ‬على‭ ‬فكر‭ ‬الجانب‭ ‬الأيسر‭ ‬من‭ ‬المخ،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬انتقلنا‭ ‬الآن‭ ‬إلى‭ ‬اقتصاد‭ ‬ومجتمع‭ ‬جديدين‭ ‬ناشئين‭ ‬يعتمدان‭ ‬أكثر‭ ‬فأكثر‭ ‬على‭ ‬فكر‭ ‬الجانب‭ ‬الأيمن‭ ‬من‭ ‬المخ‭. ‬ومع‭ ‬تطور‭ ‬أمريكا‭ ‬الشمالية‭ ‬وأوربا‭ ‬وأستراليا‭ ‬واليابان،‭ ‬فإن‭ ‬الفكر‭ ‬الموجه‭ ‬بالجانب‭ ‬الأيمن‭ ‬من‭ ‬المخ‭ ‬آخذ‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬تكافؤ‭ ‬اجتماعي‭ ‬واقتصادي‭ ‬وتفوق‭ ‬في‭ ‬حالات‭ ‬كثيرة،‭ ‬حيث‭ ‬أصبح‭ ‬هو‭ ‬الأفضل‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الحادي‭ ‬والعشرين‭ ‬والأساس‭ ‬للإنجاز‭ ‬والإشباع‭ ‬والرضا‭ ‬عن‭ ‬الذات‭. ‬

إن‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬الحديثة‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬كافية،‭ ‬فسوف‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬تكملة‭ ‬قدراتنا‭ ‬التكنولوجية‭ ‬المتقدمة‭ ‬والمتطورة‭ ‬بقدرات‭ ‬تعتمد‭ ‬على‭ ‬الفكر‭ ‬السامي‭ ‬واللمسة‭ ‬السامية‭.‬

الفكر‭ ‬السامي‭ ‬High Concept‭ ‬هو‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬خلق‭ ‬المجال‭ ‬الفني‭ ‬والعاطفي‭ ‬واكتشاف‭ ‬الأنماط‭ ‬والفرص‭ ‬والصياغة‭ ‬القصصية‭ ‬المقنعة‭ ‬وتجميع‭ ‬الأفكار‭ ‬غير‭ ‬المترابطة‭ ‬في‭ ‬الظاهر‭ ‬ومزجها‭ ‬في‭ ‬ابتكار‭ ‬جديد‭.‬

أما‭ ‬اللمسة‭ ‬السامية‭ ‬High Touch‭ ‬فتشمل‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬التعاطف‭ ‬مع‭ ‬الآخرين‭ ‬وإدراك‭ ‬دقائق‭ ‬التفاعل‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬واكتشاف‭ ‬مصادر‭ ‬البهجة‭ ‬في‭ ‬الذات‭ ‬وإثارتها‭ ‬في‭ ‬الآخرين‭ ‬وتجاوز‭ ‬الأمور‭ ‬العادية‭ ‬سعياً‭ ‬وراء‭ ‬الغاية‭ ‬والمعنى‭. ‬

إن‭ ‬مفهوم‭ ‬الفكر‭ ‬السامي‭ ‬واللمسة‭ ‬السامية‭ ‬آخذ‭ ‬في‭ ‬الظهور‭ ‬والنمو‭ ‬في‭ ‬اقتصادات‭ ‬العالم‭ ‬ومجتمعاته‭. ‬لقد‭ ‬كان‭ ‬الدخول‭ ‬إلى‭ ‬كليات‭ ‬الطب‭ ‬يتوقف‭ ‬على‭ ‬الطلاب‭ ‬الحاصلين‭ ‬على‭ ‬أعلى‭ ‬المعدلات‭ ‬والدرجات‭ ‬لفترة‭ ‬طويلة‭ ‬من‭ ‬الزمن،‭ ‬وكانوا‭ ‬يتمتعون‭ ‬بفكر‭ ‬تحليلي‭ ‬راقٍ،‭ ‬أما‭ ‬الآن‭ ‬فإن‭ ‬المناهج‭ ‬في‭ ‬كليات‭ ‬الطب‭ ‬الأمريكية‭ ‬تشهد‭ ‬تغيراً،‭ ‬ففي‭ ‬كلية‭ ‬الطب‭ ‬بجامعة‭ ‬كولومبيا‭ ‬بدأ‭ ‬تدريب‭ ‬الطلاب‭ ‬على‭ ‬الطب‭ ‬القصصي،‭ ‬فرغم‭ ‬قوة‭ ‬التشخيص‭ ‬بالكمبيوتر،‭ ‬فإن‭ ‬جانباً‭ ‬مهماً‭ ‬من‭ ‬عملية‭ ‬التشخيص‭ ‬يكون‭ ‬متضمناً‭ ‬في‭ ‬قصة‭ ‬المريض‭ ‬وفي‭ ‬سرد‭ ‬حكايته‭ ‬مع‭ ‬المرض،‭ ‬وبدأت‭ ‬بعض‭ ‬كليات‭ ‬الطب‭ ‬تدرس‭ ‬مواد‭ ‬في‭ ‬الدين‭ ‬والأخلاق‭ ‬والتمثيل‭ ‬بهدف‭ ‬إكساب‭ ‬الطلاب‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬التعاطف‭ ‬مع‭ ‬مرضاهم،‭ ‬لدرجة‭ ‬أن‭ ‬كلية‭ ‬الطب‭ ‬في‭ ‬جيفرسون‭ ‬بفلاديلفيا‭ ‬قامت‭ ‬بتطوير‭ ‬مقياساً‭ ‬لفعالية‭ ‬الطبيب‭ ‬اسمه‭ ‬مؤشر‭ ‬التعاطف‭.‬

لذلك‭ ‬يُعد‭ ‬الدخول‭ ‬إلى‭ ‬كليات‭ ‬الطب‭ ‬والتجارة‭ ‬أسهل‭ ‬من‭ ‬الدخول‭ ‬إلى‭ ‬أقسام‭ ‬الدراسات‭ ‬العليا‭ ‬في‭ ‬الفنون،‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬يقبل‭ ‬فيها‭ ‬سوى‭ ‬3‭ ‬في‭ ‬المائة‭ ‬من‭ ‬المتقدمين‭. ‬

إن‭ ‬شركة‭ ‬جنرال‭ ‬موتورز‭ ‬العملاقة‭ ‬وظفت‭ ‬رجلاً‭ (‬روبرت‭ ‬لوتز‭) ‬للمساعدة‭ ‬في‭ ‬تحسين‭ ‬أحوال‭ ‬الشركة،‭ ‬وكان‭ ‬هذا‭ ‬الرجل‭ ‬عاشقاً‭ ‬للفن،‭ ‬وعندما‭ ‬سُئل‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬صحيفة‭ ‬نيويورك‭ ‬تايمز‭ ‬عن‭ ‬أسلوب‭ ‬عمله‭ ‬قال‭: ‬‮«‬سنركز‭ ‬عملنا‭ ‬على‭ ‬فكر‭ ‬الجانب‭ ‬الأيمن‭ ‬من‭ ‬الدماغ‭. ‬إنني‭ ‬أرى‭ ‬أننا‭ ‬نعمل‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الفن،‭ ‬فالسيارات‭ ‬فن‭ ‬وتسلية‭ ‬وتماثيل‭ ‬متحركة‮»‬‭. ‬

ووجدت‭ ‬الأبحاث‭ ‬التي‭ ‬قام‭ ‬بها‭ ‬جولمان‭ ‬وشركة‭ ‬هاي‭ ‬جروب‭ ‬أن‭ ‬أنجح‭ ‬القادة‭ ‬في‭ ‬المؤسسات‭ ‬والشركات‭ ‬هم‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬من‭ ‬الظرفاء‭ ‬والمرحين،‭ ‬فهؤلاء‭ ‬كانوا‭ ‬يُضحِكون‭ ‬مرؤوسيهم‭ ‬ثلاث‭ ‬مرات‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬كان‭ ‬يفعله‭ ‬نظراؤهم‭ ‬الجادون،‭ ‬وروح‭ ‬الدعابة‭ ‬تعتمد‭ ‬بشكل‭ ‬كبير‭ ‬على‭ ‬الجانب‭ ‬الأيمن‭ ‬من‭ ‬الدماغ‭. ‬

لقد‭ ‬أكد‭ ‬الباحثون‭ ‬في‭ ‬الأعوام‭ ‬القليلة‭ ‬الماضية‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬يتحكم‭ ‬بسلوكياتنا‭ ‬وتصرفاتنا‭ ‬وتعاملاتنا‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬قدرات‭ ‬جديدة‭ ‬تتمثل‭ ‬في‭ ‬الفكر‭ ‬السامي،‭ ‬واللمسة‭ ‬السامية،‭ ‬وقد‭ ‬أطلق‭ ‬عليها‭ ‬اسم‭ ‬الحواس‭ ‬الست،‭ ‬وهي‭ ‬التصميم،‭ ‬والقصة،‭ ‬والسمفونية،‭ ‬والتعاطف‭ ‬والاهتمام‭ ‬بالآخرين،‭ ‬واللعب‭ ‬وفوائده‭ ‬الصحية‭ ‬والمهنية،‭ ‬والضحك‭ ‬والسعادة‭ ‬والألعاب‭ ‬والفكاهة■