البيت مملكة النعيم أو الجحيم الأرضي
لم أفهم معنى البيت إلا بعد رحيل والدي، فقد صار جحيماً أعيش فيه، ضاقت جوانبه الرحبة، وتقلصت أرجاؤه، وضعفت رفوف مكتباته، وضغط سقفه على عقلي وقلبي، لذا قمت بتكوين بيت يتناسق مع أفكار والدي، حيث الهدوء والراحة، وكثير من الشمس وبعض الموسيقى، ومكتبة متناسقة تستطيع أن تستقبلك وترحب بك وتطمئنك في هذه الحياة.
فلم يكن البيت بالاتساع أو الضيق، أو بالغنى والفقر، بل البيت أساسه من يعيشون فيه، وبالتالي يصبح جنة أرضية أو جحيماً أبدياً.
البيت مملكة صغيرة يبنيها الأب ويسيطر عليها فترة زمنية قصيرة قبل الانقلاب عليه تحت سيطرة وسلطة الأم، وهكذا تصير البيوت، لديها ملك معلن وملك يحكم ويقود، يوجه ويُطعم ويتفنن في تغير مزاج البيت حسب رغباته، لكن يظل الأب هو الحاكم الفعلي في المراسلات وإيصالات النور، ودفع الإيجارات أو العوائد، وفي النداء أيضاً: بيت عائلة فلان، أو قد يصير البيت مجموعة بيوت متجاورة لعائلة كبيرة واحدة.
ذلك هو البيت ذو الأربعة جدران الذي نعيش فيه، اتسع وأصبح قصراً أو ضاق وأصبح عشّاً أو شقة أو جُحراً أو كوخاً أو قبراً عندما يستقر بنا القرار. فقد يصبح البيت غرفة واحدة يعيش فيها كثير من الأفراد، ومع ذلك تشعر بالدفء والطمأنينة وراحة البال.
البيت هو المأوى والراحة التي نذهب إليها بعد عناء العمل طوال اليوم، كبر هذا البيت واتسع أو ضاق، فكثير من البيوت كبيرة الحجم ولكن تضيق بالمشكلات والكراهية والعداء، سواء برجل غاضب أو زوجة «نكدية»، فيصبح البيت جحيماً لا يطاق، فلا نجد إلا الشارع الذي يصبح بيتاً، خاصة لكثير من الأدباء والشعراء، وقد اشتهر البعض بألا بيوت لهم، بل الشارع بيتهم، يطرق بابك في أي وقت ويتكوم في أي مكان يجده لينام، وكان الملحن بليغ حمدي هكذا، والشاعر أمل دنقل أيضاً، وقد انتزع لقب شاعر الصعلكة الشاعر عبدالحميد الديب لفقره وتسكعه الدائم في الشوارع.
والبيت في المطلق اسم من أسماء الكعبة المشرفة في مكة المكرمة، ومن أسمائه البيت الحرام، وأهل البيت: عائلة النبيّ محمد [ وذرّيته، وبَيْتُ اللَّهِ الْمَسْجِدُ والكَنِيسَةُ، وبيت المقْدس حرم القدس الشَّريف وهو المسجد الأقصى، وبيت لحم مدينة عظيمة في فلسطين وهي مسقط رأس المسيح «عيسى بن مريم»، تضم عديداً من الكنائس، أهمها كنيسة المهد، التي بُنيت فوق كهف أو مغارة يعتقد أنها الإسطبل الذي ولد فيه المسيح. بينما «بيت من لحم» مجموعة قصصية للفذ يوسف إدريس، تدور أحداثها عن حجرة ضيقة يعيش فيها أربع نساء: أرملة وبناتها الثلاث ورجل كفيف، وبيت العزة بيت في السماء الدنيا أنزل فيه القرآن الكريم من اللوح المحفوظ جملة واحدة وذلك في ليلة القدر.
بيت الحكمة
ويذكر أن في كل سماء بيتاً حيال الكعبة، فالذي في السماء السابعة يقال له البيت المعمور، والذي في السماء الدنيا يقال له بيت العزة، والبيت المعمور أيضاً هو البيت المأهول بالعبّاد والمصلِّين والطَّائفين، بينما «بيت العز» أغنية شهيرة للمطربة فايزة أحمد من كلمات مرسي جميل عزيز وألحان محمد الموجي.
وبيت الحكمة أو خزائن الحكمة أول دار علمية أقيمت في الحضارة الإسلامية، وأُسِّسَ بيت الحكمة في عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد، واتخذ من بغداد مقراً له، وقد نشأ أولاً كمكتبة ثم أصبح مركزاً للترجمة، فمركزاً للبحث العلمي والتأليف، وكان لبيت الحكمة أثر عظيم في تطور الحضارة الإسلامية، والآن صار بيت الحكمة نقابة الأطباء في مصر.
أما بيت السلطان أو الحاكم، فهو البيت الذي يتولى منه شؤون الحكم، وبيت العدالة المحاكم، وهي أكثر البيوت ازدحاماً وكراهية وضجيجاً لكثرة المشكلات بين الناس، وبيت الحب القلب، وبيت الفكر العقل، وبيت الداء المعدة، وبيت الأدب المرحاض، وبيت النـار المكان الذي تشتعل فيه النيران كالأفران، وتكره الصلاة فيه، وهو أيضاً المخزن الذي يطلق الرصاص في البندقية أو المدفع، وفي الطعام حيث اللحوم التي لم نعد نراها في بيوتنا، يقف بيت اللوح أي الزند، وهو الكتف، للدلالة على عمار البيت ويسر حاله.
ولأهمية البيت فقد احتل كثيراً من الأمثال، فيقال «من كان بيته من زجاج، فلا يقذف الناس بالحجارة»، لأنهم لو بادلوه حجراً بحجر لانهدم البيت كله، ويُضرب هذا المثل للذي يتكلم عن عيوب الناس، وهو كله عيوب. وقد أخذ منه الدكتور بطرس غالي الأمين العام للأمم المتحدة السابق، عنوان كتابه «خمس سنوات في بيت من زجاج»، الذي يحكي فيه فترة عمله بها، بينما البيت الزّجاجيّ هو بناء من زُجاج تُزرع فيه النَّباتات الرقيقة والثمينة وسريعة العطب.
الجار قبل الدار
ولأهمية البيوت وثقافتها، يقال: اشتر الجار قبل الدار، أي قبل أن يشتري الإنسان بيتاً، يجب أن يبحث أولاً على من سيكون جاره فيه. أو اسأل عن الجار قبل الدار، وكذلك يقال «نار زوجي ولا جنة والدي»، ويقال هذا المثل عن الزوجة، لأنها لو تركت بيت الزوجية، فلن تستقر في بيت أبيها (مهما وجدت فيه من راحة)، حتى أنها ترى أن بيت زوجها أفضل على الرغم مما يكون فيه من متاعب.
وكثير من البيوت أخذت شهرتها من لونها ليصبح واحداً من أكثر المباني رمزية في العالم، كـ «البيت الأبيض» المقر الرسمي لأقوى رجل في العالم وهو رئيس الولايات المتحدة، وقام بتصميمه المهندس المعماري جيمس هوبان على نمط العمارة الكلاسيكية عام 1782 في مدينة واشنطن، وهو أكثر بيت تأتي سيرته في النشرات الإخبارية، وأشرف على بنائه الرئيس جورج واشنطن، لكنه لم يعش فيه، والبيت الوردي أو «كاسا روسادا» بالإسبانية وتعني «بيت الحكومة» في مدينة بوينس أيرس، وهو المقر الرسمي ومكتب الرئاسة الأرجنتينية.
وعلى الرغم من أن البيت يقابله المنزل، أو الدار، فإننا نحب كلمة البيت، لما لها من راحة نفسية نشعر بها ونطلقها عندما تضيق الأمور بنا، أو عندما نحاول اللجوء إليه للحماية والأمن، ومع ذلك يظل لفظ الدار له دلالات أخرى كبيت، مثل «دار ابن لقمان» في مدينة المنصورة بمصر، أشهر دار ارتبط بها التاريخ الإسلامي، وهي الدار التي شهدت أسر الملك لويس التاسع ملك فرنسا، وهي تنسب لصاحبها القاضي المصري إبراهيم بن لقمان.
والبيت العامر أي الممتلئ بالبشر والروح والحب والبهجة برغم فقر أصحابه، والبيت الفقير بيت الكافر، والبيت المسكون أي توجد فيه روح شريرة أو جان، وتحدث فيه أحداث غريبة تثير الخوف والفزع، وأكثر البيوت ازدحاماً بيوت النحل وتسمى الخلية، يقابلها بيوت النمل، التي تسمى جحراً أو القرية، وأوهن البيوت بيت العنكبوت، ويسمى الشباك، وقد استأثر الشعر بالبيت دون الرواية والقصة، بينما بَيْتُ القصيد: الأمر المهم وخلاصة الموضوع، وهو أهم أبيات القصيدة أيضاً.
وبيت المال هو بيت مال المسلمين أو بيت مال الله، وهو المكان الذي تُحفظ فيه الأموال العامة للدولة الإسلامية من المنقولات، وموارده: الخراج، والزكاة، والجزية، والفيء، والغنيمة، والمكوس، ونحوها، إلى أن تُصرف في وجوهها. والآن بيوت المال هي البنوك التي تتصرف في مصيرنا من استحقاقات وحوالات وتسلم مرتباتنا وأيضاً في الحجز على البيت أو منقولاته عند عدم القدرة على السداد.
ولا نستطيع أن نُطلق على بيوتنا بيوت النهار برغم ما بها من لهو وسمر وحب، التي نعيش فيها في مقابل بيوت الليل، وهي بيوت اللهو والسمر، التي تمتلئ بعدد لا يٌحصى من الفتيات ويأتي إليها راغبو المتعة.
والإنسان منذ نشأته يبحث عن مأواه، فهو مطلب أساس لحياته كطعامه وشرابه وكسائه، والبيت لديه تطور من مغارة أو كهف أو جحر إلى شقق وفيلات ومنازل. لكن يظل أساس البيت وقواعده الرجل ومياهه الجارية وبسمته المرأة، وزينته وبركته ووناسته الأطفال الذين يتقافزون في أرجائه ويحطمون محتوياته.
وفلسفة أن البيت للسكن والنوم فقط فلسفة خاطئة، ويجب فهم ذلك قبل إنشائه، وأتذكر هنا عدم فهم فلسفة تكوين البيت عندما قام المهندس الراحل حسن فتحي ببناء بيوت للفلاحين في قرية القرنة بالأقصر بجنوب مصر، فقد بنى البيوت بعيداً عن حظائر الحيوانات فهجرها الفلاحون ولم يعش فيها أحد، فلا يستطيع الفلاح في مصر أن ينام وحيواناته بعيدة عنه.
ويظل أقوى مثل شعبي تم تنفيذه على أمر الواقع هو «البيت بيت أبونا والغرب يطردونا»، وآثاره واضحة في المشكلة الفلسطينية، التي تثبت وتؤكد أن البيت قد يكون جحيماً أرضياً نسعى لاسترداده مهما طال العمر ليصير هو جنتنا الأرضية التي نحيا فيها وبها■